207

L'Égypte au début du XIXème siècle 1801-1811 (Première Partie)

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Genres

ثم خرج الباشا بنفسه في 30 مايو وحصن أبواب المدينة بالعساكر، وأيقن الناس بوقوع الحرب بين الفريقين، وأرسل الباشا إلى ياسين بك يقول له إن تستمر وتطرد عنك هذه اللموم وتكون من كبار العسكر، وإلا تذهب إلى بلادك، وإلا فأنا واصل إليك ومحاربك، فخاف ياسين، وكفى هذا التهديد لأن تنحل عزائم جيوشه، وتفرق الكثير منهم، وتحرك ياسين بمن بقي معه في ثلاثة طوابير، ولما كان الوقت ليلا ولا يعرف جنده الجهة التي يقصدها، فقد اشتبهت عليهم الطرق في ظلام الليل، فسار هو بفريق منهم إلى ناحية الجبل عن طريق حلق الجرة، وسارت جماعة أخرى إلى ناحية بركة الحاج بينما ذهب الطابور الثالث على طريق القليوبية وفيهم أبوه، فأتاح تشتت قواته على هذه الصورة الفرصة لمحمد علي لمطاردة الجماعة الذاهبة إلى بركة الحاج، ولكن هؤلاء ما إن علموا بانفرادهم عن أميرهم حتى رجعوا متفرقين في النواحي، ولم يزل ياسين سائرا حتى نزل بمن معه في التبين واستقر بها، ولجأ أبوه إلى الشواربي شيخ قليوب، فأخذ له هذا أمانا وأحضره إلى الباشا يوم 31 مايو، فأكرمه وألبسه فروة، وأمره أن يلحق بابنه، وفي أول يونيو جهز الباشا حملة ضم إليها «شديد» شيخ الحويطات للحوق بياسين بك ومحاربته، وأما ياسين فإنه لم يلبث أن ارتحل بوطاقه بمجرد أن علم باقتراب هذه الحملة منه، فذهب إلى ناحية صول والبرنبل بعد أن عاث فسادا كبيرا في جهة التبين ينهب قرى الناحية بأسرها، مثل التبين وحلوان وطرا والمعصرة والبساتين، وفعل رجاله بأهلها أفاعيلهم الشنيعة من السلب والنهب وأخذ النساء ونهب الأجران والغلال والأتبان والمواشي وأخذ الكلف الشاقة، ومن عجز عن شيء من مطلوباتهم أحرقوه بالنار، وفي 4 يونيو عادت الحملة إلى القاهرة، وأنبأت بارتحال ياسين من تلك الناحية - كما أسلفنا - إلى صول والبرنبل، وكتب «سانت مارسيل » إلى «سباستياني» من القاهرة في أول يوليو تعليقا على حادث ياسين: «إن هذا الأخير وهو من الرؤساء الأرنئود قد هدد بالانضمام مع ألف وخمسمائة رجل إلى المماليك، واصطلح معه الباشا، وقبل ياسين بك الصلح للوصول إلى أغراضه، فحضر وعسكر في بولاق، ثم صار وهو بها يتآمر ليجذب إليه قسما من جند الباشا، وانضم إليه بعض الرؤساء الأرنئود، ولكن محمد علي لم يلبث أن أنهى هذه الحركة، بأن حشد جنده للسير ضد ياسين بك الذي هرب في طريق الصعيد.»

ولم يكن في مقدور محمد علي وقتئذ بسبب تمرد ياسين بك أن يغادر القاهرة أو أن يبدأ زحفه المنتظر على الإسكندرية، وأما السبب الآخر الذي عطل هذا الزحف فكان عدم اطمئنان محمد علي إلى موقف المماليك الذين ظلوا يماطلون في تنفيذ الاتفاق الذي تم بينه وبينهم بأسيوط، والذي وجب على البكوات بمقتضاه أن ينزلوا من الصعيد لإبرام الصلح النهائي مع الباشا، وقد اهتم محمد علي بضرورة أن يقبل هؤلاء الصلح معه قبل أن يدخل في أية عمليات عسكرية جديدة ضد الإنجليز، وأن يطمئن - على الأقل - إلى أنهم سوف يقفون موقف الحياد عند استئنافها، مثلما فعلوا أثناء المعارك السابقة، وكان الصلح مع البكوات أو إلزامهم بالحياد وجعلهم يقفون موقف النظارة والمتفرجين فحسب فلا يشتركون في النضال القائم من المشاكل العويصة التي تطلبت كل حكمة ومهارة وصبر وأناة من محمد علي لحلها، فقد كان ولا شك عدم انضمام المماليك إلى الإنجليز من أهم الأسباب - كما رأينا - التي جعلت هزيمتهم في الحماد محققة، ولا معدى لذلك عن إقناعهم بالحياد على الأقل إذا شاء الباشا النجاح في عملياته المقبلة، إذا اضطر إلى استئناف القتال ضد الإنجليز، ثم كان من بواعث قلقه ومخاوفه من ناحيتهم تباطؤهم في النزول من الصعيد من جهة، ثم سياستهم الملتوية التي جعلتهم يمنونه ويمنون أعداءه الإنجليز في آن واحد برغبتهم الصادقة في الاتفاق معه ثم بعزمهم الصحيح على الاتحاد مع الآخرين من جهة أخرى، ومع أن حسين بك الزنطاوي صديق الفرنسيين القديم قد كتب إلى «دروفتي» يؤكد له عزم البكوات على التزام خطة الحياد، فقد كان تعليق القنصل الفرنسي على ذلك - كما ذكر «سباستياني» في 7 مايو - أن البكوات برغم ما يقولونه فإنهم حسبما يعتقد «دروفتي» دائما إنما يبغون تدبير أمرهم بصورة تكفل لهم الحصول على بعض الحقوق إذا كسب الإنجليز ظفرا على الأتراك، فالمماليك لا يفكرون في المستقبل، ويعيشون ليومهم دون تدبر حالهم في غدهم، والرجل الوحيد الذي كان ذا آراء سياسية هو عثمان البرديسي وقد توفي هذا.

وكان البكوات وقتئذ قد وصلوا في تقدمهم صوب القاهرة إلى ما تحت بني سويف بأربعة فراسخ، عندما وصلهم خبر رفع الحصار عن رشيد، فأوقفوا تقدمهم على نحو ما مر بنا، واتخذ بيت البرديسي وبيت إبراهيم بك مراكزهما على طول الشاطئ الأيسر للنيل عند قمن العروس، وبيت الألفي برئاسة شاهين بك عند زاوية المصلوب على نفس الشاطئ، ولا يزالون منقسمين على أنفسهم بسبب الخلافات والأحقاد الشخصية والكراهية الشديدة والمنافسة التي فرقت جميعها بين بيتي الألفي والبرديسي، ولم يفد ما مر بالبكوات من تجارب مريرة طوال السنوات الست الماضية منذ عام 1801 في محوها، بل إن وجود المنافسة ذات الغور البعيد بين بيتي الألفي والبرديسي كانت من أهم الأسباب التي جعلت بكوات إبراهيم ومماليكه على وجه الخصوص يمتنعون عن الاتحاد مع الألفي أولا، ثم مع الإنجليز أصدقائه بعد ذلك حتى فوتوا على أنفسهم فرصة استرجاع الحكم إطلاقا، وعندما صار «مسيت» يستحثهم على النزول أملت عليهم سياستهم الملتوية التذرع بحجة الخوف مما قد يلحق بعائلاتهم في القاهرة من أذى على أيدي الأرنئود، إذا هم فعلوا ذلك للاستمرار على جمودهم، وخيل إليهم أنهم إذا تريثوا حتى ينقضي النزاع بين محمد علي والإنجليز صار في وسعهم بانحيازهم إلى المنتصر أن يظفروا منه بتحقيق مآربهم، وفاتهم أن الباشا إذا انتصر لن يسمح لهم بحال مشاركتهم له في الحكم واقتسام السلطة معهم، وأن عودتهم إلى الحكم مرتهنة بشيء واحد فحسب، هو ظفر الإنجليز وانتصارهم، وإخراج محمد علي من الحكم وطرد الأرنئود، ولقد استطاع محمد علي أن يفيد من عمى بصيرتهم الذي منعهم من إنهاء خلافاتهم، والإغضاء عن منافساتهم وتناسي أحقادهم ولو وقتيا من ناحية، والذي جعلهم يتبعون هذه السياسة الملتوية القائمة على مداهنة الفريقين المتناضلين، محمد علي والإنجليز من ناحية أخرى، فعرف الباشا كيف يتدبر أمره معهم في أزمته، والوصول إلى غرضه بإلزامهم الوقوف موقف الحياد فترة أخرى من الزمن.

واتبع الباشا في مفاوضاته الجديدة مع البكوات نفس الأساليب التي اتبعها معهم في أسيوط من حيث استخدام المفاوضين الذين عرف مبلغ تأثيرهم عليهم، وبذل الوعود الطيبة لهم ومداراتهم، ثم الاستعاضة بالوكلاء الفرنسيين مع بكوات بيت البرديسي خصوصا، ومنع تزويدهم بشيء مما قد يحتاجون إليه، إلا إذا جاء ذلك عن طريقه هو وبواسطته، وتأمينهم على سلامة أسرهم وهم الذين استبد لهم الخوف على سلامتها، وذلك كي يبرهن لهم على صدق رغبته في مصالحتهم، ويقنعهم بالنزول إلى الجيزة حسب اتفاقهم الأول معه.

وقد تقدم كيف بعث مشايخ الأزهر في أبريل بمراسلة ختم عليها كثير منهم وغيرهم كذلك يستعجلونهم في الحضور واعتذر هؤلاء وقتئذ عن تأخرهم بأنهم لم يتكاملوا وأكثرهم متفرقون بالنواحي، وقد حدث بعد ذلك أن حضر من عندهم مصطفى أفندي كتخدا قاضي العسكر، وهو الذي كان محمد علي استعان بفصاحته أثناء مفاوضات المشايخ مع البكوات في ملوي على إقناعهم بقبول الصلح، فحضر الآن في 7 مايو يقول: إن البكوات محتاجون إلى مراكب لحمل الغلال الميرية والذخيرة، فهيأ الباشا عدة مراكب وأرسلها إليهم، ولما كان الباشا لم يستوثق بعد من رغبة البكوات في المصالحة بالرغم من تكرر استحثاثهم على الحضور، وخشي إن هم تقووا أن ينكثوا بعهدهم معه، فقد شدد في منع المتسببين والباعة الذين يذهبون بالمتاجر والأمتعة التي يبيعونها عليهم، ثم صدر التنبيه على القلقات الذين يسمونهم الضوابط المتقيدين بأبواب المدينة مثل باب النصر وباب الفتوح والبرقية وباب الحديد بمنع النساء من الخروج خوفا من خروج نساء البكوات والمماليك القبالي وذهابهن إلى أزواجهن، كما منع أتباع هؤلاء البكوات من الخروج إليهم بالأمتعة وتعرض المتلبسون منهم لعقوبات صارمة، وكان من عادتهم إخفاء ما يريدون الذهاب به إلى أسيادهم في القبور حتى يرسلوها إليهم في الغفلات وكثر اتهام التربية وحفاري القبور بمعاونة الأتباع في ذلك، حتى إن الوالي أي رئيس الشرطة ذهب إلى جهة القرافة وقبض على أشخاص من التربية المتهمين بهذا وضربهم وهجم على دورهم، فلما لم يجد بها شيئا اجتمع عليه خدام الأضرحة وأهل القرافة وشنعوا عليه، وكادوا يقتلونه فهرب منهم، وشكاه هؤلاء إلى السيد عمر مكرم والمشايخ، وقد لحظ الشيخ الجبرتي في هذه الإجراءات تناقضا عجب منه، وعجز عن التوفيق بين إظهار المصالحة والمسالمة من جانب الباشا الذي بعث بالمراكب إلى البكوات حسب طلبهم، وبين هذه الرقابة الصارمة التي فرضها على أتباعهم ومنعه للمتسببين والباعة من التعامل معهم، ومع ذلك، فإن مسلكه كان خلوا من أي تناقض إذا عرفنا مقدار اهتمام البكوات بسلامة زوجاتهم وأسرهم وأن بقاء أفراد عائلاتهم رهينة أو بالأحرى وديعة في يد الباشا قمين بأن يسهل مفاوضات الصلح معهم، ثم إنه لم يكن من صالح محمد علي أن يتصل بهم القاهريون من الباعة والمتسببين ومن إليهم والبكوات لا يزالون متباطئين في الصلح معه، ولا يستطيع علاوة على ذلك أن يمكنهم من تزويد أنفسهم بكل ما يحتاجون إليه من عتاد أو مؤن أو أسلحة، يقابل ذلك أن محمد علي اتباعا لخطة المداراة التي سلكها معهم، لم يمتنع من إجابة مطالبهم إذا تقدم هؤلاء بها إليه هو نفسه وحدث تزويدهم بما يحتاجونه على يده.

وأما البكوات فقد ظلوا على نفاقهم، فإنه بينما كان شاهين الألفي وإبراهيم بك يتراسلان مع «مسيت» و«فريزر» ويستعجلان الإنجليز للهجوم على القاهرة، فقد ظل هذان وأتباعهما يؤكدان لمحمد علي بقائهما على عهدهما معه وقرب حضورهما إلى الجيزة، فبعث شاهين الألفي بمندوب من قبله إلى القاهرة في 23 مايو هو علي كاشف الكبير الألفي يحمل تحيات شاهين إلى محمد علي، ويعتذر عن تأخر البكوات، ويؤكد له أنهم على صلحهم واتفاقهم الأول وحضورهم إلى ناحية الجيزة، وعند مبارحة علي كاشف القاهرة في اليوم التالي، أوفد الباشا معه سليمان أغا وكيل دار السعادة سابقا، وفي 6 يونيو عاد هذا الأخير وأخبر بقرب قدوم البكوات وأن شاهين بك قد وصل إلى زاوية المصلوب، وإبراهيم بك بجهة قمن العروس وأنهم يستدعون إليهم مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي كوسطاء بينهم وبين الباشا، وكان معنى طلب البكوات لهذين الأخيرين أنهم لا يزالون على مراوغتهم، ومع ذلك، فقد أجابهم محمد علي إلى رغبتهم، وأوفد إليهم في 8 يونيو مصطفى أغا وعلي كاشف الصابونجي، كما أوفد معهما مصطفى أفندي كتخدا قاضي العسكر، ولم تسفر هذه المحاولة عن شيء؛ لأنه سرعان ما جاء الخبر في 24 يونيو بأن إبراهيم بك وصل إلى بني سويف، وأن شاهين بك ذهب إلى الفيوم لاختلاف وقع بينهما، وأن أمين بك وأحمد بك الألفيين ذهبا إلى ناحية الإسكندرية للإنجليز، وكان لهذا الخبر الأخير عن ذهاب أحمد بك وأمين بك إلى الإسكندرية - وهو صحيح كما عرفنا حيث بلغها هذان يوم 12 يونيو أسوأ الأثر على محمد علي.

وكان الباشا منذ أن ظهر تباطؤ البكوات، ولم تثمر جهوده في استحثاثهم على الحضور إلى الجيزة لإبرام الصلح النهائي معه، قد طلب من «دروفتي» أن يتوسط لدى هؤلاء رسميا وبوصفه القنصل الفرنسي في هذه البلاد، حتى يحول دون اتحادهم مع الإنجليز ويقنعهم - على الأقل - بالتزام خطة الحياد إذا تعذر عليه استمالتهم إلى عقد الصلح معه؛ وذلك لأن الباشا الذي كان يعرف حق المعرفة ما هنالك من عداء متأصل بين بيت الألفي وبيت البرديسي يمنع من اتفاق كلمة هاتين الجماعتين واتحادهما، ويعرف مبلغ تأثر بيت البرديسي بالصداقة الفرنسية خصوصا، أراد تقوية الخلاف والانقسام بين هذين البيتين؛ حتى يشل حركة البكوات عموما بتوسيط «دروفتي» لديهم إلى جانب مضيه هو في سياسة المداراة والملاحظة التي يسلكها معهم، ومنذ 21 مايو كتب «دروفتي» إلى «سباستياني» أن الباشا يريده أن يتدخل رسميا للوساطة بينه وبين البكوات، واستطرد يقول: والبكوات، لا سيما من بيت البرديسي يعلقون أهمية كبيرة على هذه الوساطة، ولكن «دروفتي» لم يستطع - على حد قوله - أن يأخذ على عاتقه مسئولية هذه الخطوة والعمل، قبل أن تصله من حكومته تعليمات محددة، تلك التعليمات التي ينتظرها بفارغ الصبر.

وحق ل «دروفتي» أن ينتظر بفارغ الصبر وصول هذه التعليمات إليه، عندما اتفقت خطته مع خطة الباشا في وجوب إلزام البكوات بالوقوف موقف الحياد ومنع انضمامهم إلى الإنجليز بكل وسيلة، واعتقد «دروفتي» كما اعتقد الباشا أن تدخله بوصفه ممثلا لفرنسا الدولة التي يعقد البكوات من بيت البرديسي آمالا كبيرة على صداقتها من شأنه أن يجعل هؤلاء الأخيرين يرفضون الاتحاد مع بيت الألفي والتعاون مع الإنجليز، ثم إنه كان يرى ضرورة التدخل ودون إبطاء لانعدام أية ثقة لديه في عدم تآزر البكوات من بيت الألفي مع الإنجليز بالرغم من تأكيداتهم، فقد سبق أن وضح بواعث عدم تصديقه لوعودهم باتخاذ موقف الحياد، وذلك في رسالته إلى السفير الفرنسي بالقسطنطينية في 7 مايو، وهي الرسالة التي سبقت الإشارة إليها، ثم عاد يوضح هذه البواعث في رسالته الأخيرة إليه في 29 مايو، فقد أبلغ «سباستياني» أن حسين بك الزنطاوي بعث إليه بكتاب مع هجان سريع وصله يوم 27 مايو، وضمنه بعض ما جاء في خطاب من القائد الإنجليزي إلى أحد زملاء الزنطاوي، يقول فيه: «لقد كتبت إليك مرارا حتى تأتي وتنضم إلينا، وقد أنفذت جندا إلى رشيد معتقدا أنك سوف تقوم بالدفاع عن مصالحكم؛ أي مصالح البكوات المماليك، ولكنك ارتكبت معي خطأ كبيرا بالتزامك السكون وعدم الحركة حتى إني اضطررت إلى سحب جنودي إلى الإسكندرية، فإذا كنت لا تقدم على الدفاع عن نفسك في بحر عشرة أيام فسوف أعرف وقتئذ موقفي منك»، ولم تحمل رسالة القائد الإنجليزي هذه تاريخا، ولكنه يبدو أنها سطرت بعد واقعة الحماد، ثم استمر «دروفتي» يقول: وقد ذكر حسين بك الزنطاوي في رسالته أن هذا الكتاب قرئ في الديوان، وقد قرر جميع الصناجق الموجودين بالمنيا؛ أي أولئك الذين ينتمون إلى بيتي البرديسي وإبراهيم بك عدم الإصغاء إلى مقترحات الإنجليز، بل على العكس من ذلك قرروا النزول إلى الجيزة لعقد الصلح مع الباشا، ولكن «دروفتي» لم يلبث أن علق على هذه الرغبة الأخيرة بقوله: إن هذه الأقوال لا يوثق فيها كثيرا، وفي رأيه أن عثمان بك حسن وبعض البكوات من بيت البرديسي فحسب هم الذين لا يرتكبون حماقة الانضمام إلى الإنجليز إذا وصلت هؤلاء نجدات قوية.

وأزعج «دروفتي» ما أبداه الإنجليز من همة ونشاط في تحصين الإسكندرية، وما بلغه عن جود فرقاطة إنجليزية أمام دمياط لمحاصرتها، ووصول النجدات إليهم من حوالي ثلاثة آلاف رجل، ودعوات الإنجليز المتكررة للبكوات حتى يحضروا من الصعيد للانضمام إليهم، ثم صارت تزعجه كذلك الدعاية التي نشرها هؤلاء في أوساط المماليك عن هزيمة جيوش بونابرت في أوروبا، ومن ذلك أنهم بعثوا إليهم ببعض الصحف الأوروبية التي نشرت أخبار معركة «إيلاو» في بروسيا الشرقية في 8 فبراير سنة 1807، وهي المعركة التي صمد فيها الروس أمام جيش نابليون وقاوموه مقاومة عنيفة، ثم قرروا التقهقر في اليوم الثالث، ولم يجد الإمبراطور من الحكمة مطاردتهم وقنع بإخضاع القلاع البروسية، فكان من أثر دعاية الإنجليز أن نقل جماعة من المماليك من بيت الألفي وعلى رأسهم شاهين بك معسكرهم من حدود الفيوم والاقتراب من البحيرة، وأوفد شاهين وقتئذ أحمد بك وأمين بك الألفيين إلى الإسكندرية مع عدد قليل من أتباعهما، وبذل «دروفتي» قصارى جهده لإبطال أثر هذه الدعاية الضارة، فعمد بمجرد أن وصله من عكا منشور أعده «سباستياني» يذيع فيه انتصار الفرنسيين في معركة إيلاو إلى إذاعته بكل وسيلة في القاهرة، كما بعث به إلى البكوات في الصعيد مع ملاحظاته على ذلك، وكتب «دروفتي» إلى «سباستياني» في 14 يونيو: «أنه لو اعتقد الصناجق أن مصير هذه البلاد مرتبط بما يحدث في أوروبا - وذلك ما ينبغي عليهم أن يعتقدوه - لوجب عليهم أن يمعنوا الفكر طويلا قبل أن يلقوا بأنفسهم في أحضان الحماية الإنجليزية.» وكان في هذه المرة أيضا أن كتب «دروفتي» إلى السفير: أن محمد علي يريد إذا ألحت الظروف، أن أتدخل لدى البكوات، ولكنه لما لم يكن لدى «دروفتي» أية تعليمات بشأن ذلك فقد ألح في طلبها؛ لأنه ليست لديه إلا مجرد آراء أو فكر عامة يسترشد بها في تبرير مسلكه وسط هذا البحر الخضم من الحوادث.

ولما كان محمد علي قد ظل يلح على «دروفتي» في ضرورة توسطه لدى البكوات، ويريد منه الذهاب بنفسه لضمان نجاح مهمته، وخشي «دروفتي» إذا هو تباطأ في القيام بهذا المسعى؛ انتظارا لتعليمات حكومته أن تفلت الفرصة لمنع البكوات من الذهاب إلى الإنجليز، لا سيما بعد وصول مندوبي شاهين الألفي إلى الإسكندرية، فقد قرر الاستجابة إلى رغبة محمد علي وانتدب لهذه المهمة «مانجان» بالاتفاق مع الباشا، وأنبأ «سباستياني» في 24 يونيو بهذه الخطوة التي راح يبرر اتخاذه لها دون انتظار لتعليمات حكومته، بأنه سبق له أن أبلغ السفير في رسالته إليه بتاريخ 14 يونيو بأن اثنين من البكوات من بيت الألفي قد ذهبا إلى الإسكندرية، وقد خلف هذا الحادث أثرا سيئا في القاهرة؛ ولذلك فإنه حتى يحول دون أن يحذو غيرهما من البكوات حذوهما، الأمر الذي يبذل قصارى جهده لمنع حدوثه، أوفد «مانجان» إلى الصعيد بالاتفاق مع الباشا، وقد أطنب «دروفتي» في وصف ذكائه ونشاطه، ثم ذكر أنه قد زوده بالتعليمات اللازمة لتحقيق الغرض من مهمته، وذلك - كما استمر يقول - دون توريط ممثلي الحكومة الفرنسية في هذه البلاد بشيء مع البكوات، وأسهب الوكيل الفرنسي الآخر سانت مارسيل في ذكر الأسباب التي بررت اتخاذ هذه الخطوة، فقال في رسالته إلى «سباستياني» من القاهرة في أول يوليو: «إن الإنجليز بعد هزيمتهم في الحماد، كانت قد نقصت قواتهم إلى ثلاثة آلاف رجل فحسب، وانسحبوا إلى الإسكندرية، ثم كانوا على وشك مغادرتها والإبحار منها، لو أن العدو لم يعطهم الوقت الذي مكن من رد أنفاسهم إليهم، ولم يلبث الحظ أن خدمهم فوصلتهم نجدات من الرجال والمال، وهم يحتلون الآن القطع الذي يفصل البحر عن مريوط، وغرضهم من كسر السد عزل الإسكندرية للدفاع عنها، وسوف يفيدهم فيضان النيل عند حدوثه؛ لأنهم سوف يعبرون الحاجز القطع عندئذ ويهاجمون رشيد برا وعن طريق النهر فقط، ولقد وصل ثلاثة من بكوات بيت الألفي أحمد بك وأمين بك ومصطفى كاشف إلى الإسكندرية للاتفاق على اجتماع القوتين: المماليك والإنجليز معا، وكي يسحبوا من بيت «برجز»

Page inconnue