L'Égypte au début du XIXème siècle 1801-1811 (Première Partie)

Muhammad Fuad Shukri d. 1392 AH
138

L'Égypte au début du XIXème siècle 1801-1811 (Première Partie)

مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)

Genres

ولم يثن دفاع دمنهور المجيد الألفي عن عزمه، فاستمر على حصارها، ولكن تحرك الأرنئود والعثمانلي بالرحمانية للزحف على دمنهور وتخليصها لم يلبث أن جعل الألفي ينقل مقره من باب الاحتياط إلى حوش عيسى، ولو أن ما قام به جند الرحمانية من هجمات على قواته كان نصيبه الفشل لإخفاقهم في قطع السد الذي أقامه الألفي على الترعة لتحويل المياه إلى بحيرة إدكو، فبقيت قواته مرابطة حول دمنهور تضيق الحصار عليها، ولكن «دروفتي» الذي نقل هذه الأخبار - في رسالته إلى حكومته من الإسكندرية في 20 سبتمبر قال كذلك: إن القبطان باشا سواء بسبب أوامر معينة قد وصلته من الباب العالي أو لأنه رأى استحالة تنفيذ الخطة التي كلف بها، قد دخل في مفاوضات مع محمد علي، ومن المنتظر أن يصل غدا إلى الإسكندرية ابن محمد علي إبراهيم محملا بالهدايا للقبطان باشا، وكل شيء هادئ بالصعيد، والقاهرة على حالها ولو أن مرضا وبائيا منتشر بها.

وكان هذا الشطر الثاني من الأخبار التي بعث بها «دروفتي» على جانب عظيم من الأهمية؛ ذلك أنها تدل على أن القبطان باشا قد أخفق في مهمته التي أوفد من أجلها إلى مصر وهي تنحية محمد علي من الولاية، وإرجاع سلطة البكوات القديمة إليهم، وتأسيس مشيخة الألفي، ولقد أخفق صالح باشا في مهمته لأسباب كثيرة، منها أنه لم يكن الرجل الذي يصلح لتنفيذ المهمة التي عهد بها إليه، وأن موسى باشا المعين للولاية لم يكن هو الآخر ذلك الرجل الذي يستطيع انتزاع الباشوية من يد محمد، كما أنه عجز بالرغم من وقاره واتزانه عن التأثير على القبطان باشا وعلى الألفي، وأن الألفي وهو أكبر المنتفعين من الاتفاق الذي أبرمه كتخداه من رجال الباب العالي لم يشأ أن يتحمل وحده دفع السبعمائة والخمسين ألف قرش التي تعهد بها محمد كتخداه بكفالة سليمان أغا صالح أو الوكيل نسبة إلى سيده صالح بك الوكيل، وأن الانقسام الذي فرق صفوف البكوات وكان مبعثه الحسد والغيرة والمنافسة القوية بينهم جميعا قد حال دون تلبية بكوات الصعيد لنداءات القبطان باشا أو الاستماع لرجوات سليمان أغا الملحة، فرفضوا المساهمة في دفع المبلغ المطلوب، ورفضوا - كعادتهم - أن يضحوا بشيء من أموالهم التي سلبوها واغتصبوها من أهل البلاد، حتى ولو كان في ذلك استرجاعهم لسيطرتهم المفقودة، وأن الألفي لم ينتفع من انتصاره في النجيلة، وانهمك في حصار دمنهور، ولم ينصرف عن حصارها مع ما ظهر من استماتة أهلها في الدفاع عنها، كأنما قد توقف تقرير مصيره على إخضاع هذه المدينة، فلم يبذل أي جهد لإقناع بكوات الصعيد بصدق نواياه وأنه يسعى لصالح المماليك جميعا، أو يسعى لاستلال سخيمة البرديسي منافسه العنيد، وأضاع ثلاثة شهور أثناء حصار دمنهور ينتظر النجدة التي وعد بكوات الصعيد بإرسالها إليه، بينما كان من الواضح أن نصرا حاسما يظفر به على جيش محمد علي إذا تعذر إخضاع دمنهور بكل سرعة من شأنه تقرير مصيره، وأن محمد علي انتفع من استطالة الحصار الذي شل يد الألفي وأخمد نشاطه في ميادين أخرى، فعرف كيف يستميل رجال الديوان العثماني في القسطنطينية وكذلك القبطان باشا إلى تأييد قضيته، وأن «مسيت» وقد عجز كل العجز عن استنهاض همة صالح باشا للقيام بأية عمليات عسكرية، بينما بذل «دروفتي» قصارى جهده لإحباط مساعيه من ناحيته، وتأييد قضية محمد علي للقضاء على الألفي الأداة الطيعة للإنجليز في نظره والرجل الذي سوف يعمل على تمكين نفوذ هؤلاء إذا دانت له السلطة من ناحية أخرى.

البقاء في الولاية

أما القبطان صالح باشا فقد كان رجلا عرف بالبخل وحب المال واكتنازه وجمعه بأية وسيلة سواء بطريق الرشوة أو بطريق الهدايا والعطايا، عرف فيه هذه الخصلة محمد علي كما عرفها الألفي، فأغدق عليه كلاهما الهدايا، ورشاه محمد علي بقدر كبير من المال، وبذ الألفي في استخدام هذا السلاح عندما تعذر على الأخير مجاراة خصمه أو المباراة معه في هذا السبيل بسبب موارده المحدودة حينما كان عليه أن يدفع مرتبات أتباعه وجنده وعربانه إلى جانب الاستعداد لدفع ما صار يسميه نصيبه من المبلغ الذي تعهد كتخداه بدفعه ثم كان من أثر انغراس هذه الخصلة في طبع القبطان باشا أنه جعل ديدنه المطالبة بالسبعمائة والخمسين ألف قرش عدا ونقدا بتمامها دون أن تنقص بارة واحدة، فتنوسيت في طيات ذلك سائر تعليمات الباب العالي، وأهمها طرد محمد علي من الولاية، الغرض الرئيسي الذي أوفد من أجله، فاستحالت سياسة الدولة في يديه إلى مجرد مساومة على الولاية، وأضحت هذه كما قال محمد علي نفسه سلعة في سوق الدلالة، ومما يدل على نهمه وجشعه أنه في الوقت الذي تم فيه اتفاقه مع محمد علي وبقاء هذا الأخير في الولاية استمر يلح على الألفي في طلب المال والهدايا، كما أراد أن يدفع له أهل دمنهور مبلغا من المال، وانتهى الأمر به بأن صار يطلب كذلك إتاوة من أهل الإسكندرية، قدرها مائة وخمسون كيسا، وهم الذين - كما ذكر «مسيت» في رسالته إلى «أربثنوت» في أول أكتوبر 1806 - لم تفرض عليهم أية إتاوات منذ أن أخلى الفرنسيون مصر وجلوا عنها، أضف إلى ذلك أنه كان رجلا من شيمته التطير والتشاؤم، يعتقد في السحر والشعوذة، حدث وهو بعرض البحر قبل وصوله إلى الإسكندرية أن هاج البحر هياجا شديدا، فاستبد به الخوف، وخشي أن يكون ذلك فألا نحسا لمهمته فأمضى اليوم في العبادة، وأمر بإقامة الصلاة في سائر السفن، وأعتق عددا من العبيد وذلك حتى تهدأ العاصفة ويزول غضب السماء عنه، وما إن علم عند وصوله إلى الإسكندرية أن فلكيا يدعى علي بك العباسي - سوف يأتي ذكره ثانية - موجود بها حتى استدعاه وأعطاه طلسما كان يحمله معه لفحصه والاستعانة به على التنبؤ بما سوف يحدث له في مصر، وهل ينجح في مهمته أو يفشل، واضطر علي بك العباسي إلى قراءة طالع القبطان بالصورة التي ترضيه، وكان لهذا التطير أثره كذلك على مسلكه فجعله يتشاءم من طول امتناع دمنهور على الألفي، ويعدل عن بذل أي نشاط إيجابي أو القيام بأية عمليات عسكرية، وأغضبه أن البرديسي لم يوفد إليه رسولا من قبله، ولو أن إبراهيم بك كان قد بادر بإرسال كخياه الذي وصل إلى الإسكندرية في 9 يوليو محملا بالهدايا له، كما جعله استقرار محمد علي الظاهر في القاهرة متشائما من الدخول في نضال سافر معه، فلما تبين له تمسك محمد علي بالولاية عمد إلى الدسيسة، فقال «دروفتي» في رسالته إلى «تاليران» في 29 يوليو: إنه أرسل أحد كبار ضباطه إلى معسكر الألفي، وآخر إلى البرديسي، وظهر ل «دروفتي» ما حمله على الاعتقاد بأن القبطان يبغي من نشاطه هذا اغتيال محمد علي فقال: ويبدو أنه وقد فشلت القوة (والأصح التهديد والوعيد؛ لأن إجراءات عنيفة لم تتخذ ضد محمد علي) صار الالتجاء الآن إلى الكيد والدسيسة، وسوف لا يكون موضع اندهاش إذا عرفنا يوما أن محمد علي قد مات مقتولا أو مسموما، وكان من أساليب القبطان باشا تحريض القاهريين على الثورة بعد هزيمة النجيلة - على نحو ما سبق ذكره - ولكن فشل الألفي أمام دمنهور وطول امتناعها عليه وما صادفه من صعوبات مع محمد علي ومع البكوات أثناء مفاوضاته معهم من أجل دفع المبلغ المطلوب، كل ذلك ما لبث أن جدد تشاؤمه، وزاد من تطيره، حتى فقد الثقة في نجاح مهمته، وصار يضيق ذرعا باستطالة إقامته بالإسكندرية، وبدأ يشعر بأنه بات شبه سجين بها فبدأ يتحول عن مناصرة الألفي، ثم انتهى به الأمر بالتسليم ببقاء محمد علي في ولايته.

وأما موسى باشا، فقد حضر إلى الإسكندرية وهو عاقد العزم على الاعتماد كلية على القبطان باشا في تسلمه منصبه، فجاء خاوي الوفاض ولا جند معه، زاره «دروفتي» ولقى منه ترحيبا كبيرا، فخرج من مقابلته وهو يقول في رسالته من الإسكندرية في 24 يوليو: إن مسلكه وكلامه يدلان على أنه رجل سياسة أكثر مما يمكن أن يوصف بهذا مواطنوه عموما، عقد عدة اجتماعات مع القبطان باشا، يقولون: إنه قد اشتكى في الأخير منها من بعض الوسائل التي اتخذت لتنفيذ الخطة المكلف بها القبطان باشا، ولكن هذا ما لبث أن ألقى تبعة ذلك على محمد كتخدا الألفي، الذي قال عنه: إنه تغالى كثيرا في وصف قوات سيده ودرجة الاعتماد على مؤازرة الحزب الذي يمكن إيجاده من بين السكان لتعزيز قضيته.

وعندما جاء جواب محمد علي الأول منذرا بأن زحزحته من الولاية دونها مصاعب جسيمة، لم ير موسى باشا بالاشتراك مع القبطان مناصا من إرسال الططر في طلب النجدة من القسطنطينية، ولقد خيل إليه عندما لم يستمع القبطان لآرائه أن في وسعه الاعتماد على الألفي في تكوين جيش يمكنه من الولاية وإغراء الجند على ترك جيش محمد علي، فقال «مسيت» في رسالته من الإسكندرية في 31 يوليو وهو يتحدث عن موسى باشا: إن هذا الأخير قد وصل إلى الإسكندرية من أيام قليلة مضت ولا مال ولا جند معه ومعتمدا الاعتماد كله على القبطان باشا، ويجد موسى باشا أن مركزه في شدة الحروجة ولا رجاء فيه، ولما كان يعتقد تماما أنه لن يلقى مساعدة من القبطان باشا، فقد صار يبغي أن يوفر له الألفي الوسائل التي تمكنه من جمع جيش يرجو بواسطته وبالاتحاد مع المماليك أن يطرد من مصر منافسه محمد علي باستخدام القوة ضده، ومع ذلك فلا ينتظر أن يوافق الألفي الذي أنفق إلى الآن مالا كثيرا على تحمل نفقات أخرى في مسألة صارت اليوم غير أكيدة، ويرجو موسى باشا كذلك أن يستطيع التأثير على قسم عظيم من جند محمد علي ليفروا من صفوف جيشه بسبب أن هؤلاء كانوا في الماضي في خدمته وتحت أوامره.

على أنه لما كان موسى باشا لا دانق واحد عنده، فلا وسيلة لديه لإغراء هؤلاء على ترك جيش محمد علي، وهكذا قضى موسى باشا الوقت يعلل النفس بالأماني الباطلة تارة، ويقبل الرشوة من محمد علي تارة أخرى شأنه في ذلك شأن سائر عملاء الباب العالي والقبطان باشا نفسه، ومع أن هذا الأخير كان ذا شخصية تافهة فقد تركه موسى باشا برغم صفات السياسة التي لاحظها فيه «دروفتي» يسيطر على توجيه الأمور، واكتفى هو بالإصغاء إلى نصائح «دروفتي» الذي حاول إقناعه بعدم وجود ارتباط بين مصلحته ومصلحة الألفي، ثم صار يبدي ميولا واضحة نحو فرنسا، لما كان ظاهرا من القبطان باشا أنه صاحب ميول إنجليزية، ولعل استكانة موسى باشا هذه وقبوله لنصح «دروفتي» له - ولم يكن في وسعه للأسباب التي ذكرناها إلا أن يفعل ذلك - هي التي جعلت الوكيل الفرنسي يحكم عليه أنه رجل سياسة يفوق في هذه الناحية أكثر مواطنيه عموما؛ وعلى ذلك فقد سارت الأمور منذ وصول القبطان باشا إلى الإسكندرية دون أن يظهر ذكر لاسم موسى باشا ودون أن تكون له يد فيها.

ومنذ أن بدأ القبطان صالح باشا يعمل لتنفيذ مهمته انحصر جهده وتفكيره في الحصول على المبلغ المطلوب من المماليك، فأوفد عقب وصوله إلى الإسكندرية سليمان أغا صالح أو الوكيل ومحمد كتخدا الألفي وشاكر أغا سلحدار القبطان باشا لمقابلة الألفي كي يخبروه بما تم الاتفاق عليه في القسطنطينية وحضور القبطان لتنصيبه في المشيخة وتمكين المماليك من السلطة، ومطالبته بدفع مبلغ السبعمائة والخمسين ألف قرش أو الألف والخمسمائة كيس فامتلأ الألفي فرحا وسرورا، ولكنه رفض أن يتحمل هو وحده ودون سائر البكوات دفع المبلغ بدعوى أنه لم يكن المنتفع وحده بالترتيب الذي وضع، وأن هناك ثلاثة بيوت أو فرق للماليك؛ جماعة إبراهيم بك، والمرادية برئاسة عثمان البرديسي، والألفية برئاسة الألفي نفسه، وأشار بأن يدفع بكوات الصعيد الذين يؤلفون فرقتين من هذه الفرق الثلاث ألف كيس بواقع خمسمائة كيس لكل منهما، حتى إذا حصل شاكر أغا هذا المبلغ منهم وهو ثلثا المطلوب، دفع الألفي خمسمائة كيس وهي الثلث الباقي، فبدا أن هناك صعوبات يجب تذليلها وأن مهمة القبطان - كما تصورها - لم تكن بتلك السهولة التي رسمها في ذهنه - ولو أنه كان يبدو من ناحية أخرى أن إبراهيم والبرديسي سوف لا يمتنعان عن دفع حصتهما من المبلغ - لأنه كان يترتب على نجاح الاتفاق ترك الباب العالي حكومة مصر الفعلية في أيدي المماليك وتمكنهم من استرجاع القاهرة وكل المواقع الهامة التي يحتلها الأرنئود، فقرر القبطان باشا إرسال سليمان أغا إلى بكوات الصعيد، ولم يفقد أمله في نجاح مسعى رسوله لديهم، وتنفيذ المهمة التي جاء من أجلها؛ لأنه سوف يتعذر على محمد علي حينئذ أن يتصدى لمقاومة أوامر الباب العالي، والقبطان باشا وقوات الألفي المتحدة مع بكوات الصعيد.

ولكن سليمان أغا لم يلبث أن فوجئ بمفاجأة سيئة عند مقابلته للبكوات بالصعيد، فقد استمع إبراهيم بك في هدوء لكل ما عرض عليه، ولكنه لكراهيته للإنجليز والأتراك أو لانعدام ثقته فيهم جميعا اشترط قبل أن يدفع شيئا معرفة آمال الألفي ومدى طموحه وأطماعه من فم الألفي نفسه، وأما البرديسي فكان أكثر صراحة في معارضته لاتفاق يقضي بسيادة الألفي على البكوات وسائر المماليك، فتساءل عما يريده منه الألفي وهو الذي صار سيدا لجميع المماليك وصار «أبوا» المماليك إبراهيم بك الكبير وعثمان حسن وهما موضع احترام عظيم من رعايا الألفي الخاضعين الخاشعين، مثلهم في ذلك مثل البرديسي نفسه، ثم أظهر دهشته من أمر واحد فقط هو أن يعمد الباب العالي إلى إبلاغ البكوات مطالبه منهم على يد آخر عبد من عبيده بدلا من أن يبعث بها إليهم على ضابط من ضباطه، ويقصد البرديسي بذلك أنه كان يجدر بالباب أن يبلغ رغبته في تقرير الوضع الجديد الذي يبتغيه إلى البكوات مباشرة بدلا من الاتفاق على حدة مع الألفي، ويدون الشيخ الجبرتي ما دار من أحاديث بين سليمان أغا وبين البرديسي وإبراهيم بك فيذكر أن البرديسي أجاب سليمان أغا بقوله: حيث إن الألفي بلغ من قدره أنه يخاطب الدول والقرانات (أي والعظيمة منها)، ويراسلهم ويتمم أغراضه منهم، ويولي الوزراء ويعزلهم بمراده (إشارة إلى عزل محمد علي وتولية موسى باشا)، ويتعين قبودان باشا في حاجته، فهو يقوم بدفع المبلغ بتمامه؛ لأنه صار الآن هو الكبير ونحن الجميع أتباع له وطوائف خلفه بما فيه والدنا وكبيرنا إبراهيم بك وعثمان بك حسن وخلافه، فقال سليمان أغا: إن الألفي على كل حال واحد منهم وأخوهم، ثم اختلى مع إبراهيم بك، وتكلم معه فكان جوابه: أنا أرضى بدخولي أي بيت كان، وأعيش ما بقي من عمري مع عيالي وأولادي تحت إمارة أي من كان من عشيرتنا أولى من هذا الشتات الذي نحن فيه، ولكن كيف أفعل في الرفيق المخالف (ويقصد بذلك البرديسي)، وهذا الذي يحصل لنا كله لسوء تدبيره ونحسه، وعشت أنا ومراد بك المدة الطويلة بعد موت أستاذنا محمد بك أبي الذهب وأنا أتغاضى عن أفعاله وأفعال أتباعه وأسامحهم في زلاتهم، كل ذلك حذرا وخوفا من وقوع الشر والقتل والعداوة إلى أن مات مراد بك وخلفه هؤلاء الجماعة المجانين، وترأس البرديسي عليهم مع غياب أخيه الألفي، وداخله الغرور، وركن إلى غير أبناء جنسه (يقصد محمد علي والأرنئود) وصادقهم، واغتر بهم، وقطع رحمه، وفعل بالألفي الذي هو خشداشه وأخوه ما فعل ، ولا يستمع لنصح ناصح أولا وآخرا.

ولما كان ذلك هو رأي إبراهيم في البرديسي، فقد استطاع سليمان أغا بعد مفاوضة مع البكوات استطالت أياما أن يتفق مع إبراهيم بك على دفع نصف المصلحة ويقوم الألفي بالنصف الآخر، ولكن البكوات رفضوا أن يدفعوا شيئا قبل أن يرجع سليمان أغا إلى الألفي ويطيب خاطره على ذلك؛ لئلا يقبضه ثم يطالبهم بغيره، فعاد أدراجه، وقابل الألفي مرة أخرى، ولكن هذا أصر هو أيضا على عدم دفع شيء حتى يدفع بكوات الصعيد ثلثي المبلغ أو نصفه الذي سمح به - كما قال - والدنا إبراهيم بك، ثم انبرى يدحض حجج البكوات ودعاواهم أنه يريد السيطرة عليهم، ويدلل على تغاضيه هو عن فعالهم معه ومحاولة البرديسي الفتك به عقب عودته من سفارته في لندن، ويبين أن الأولى ببكوات الصعيد الاتحاد معه لاستخلاص البلاد من قبضة محمد علي والأرنئود، فجاء في كلامه: «أما قولهم: إني أكون أميرا عليهم فهذا لا يتصور، ولا يصح أن أتعاظم على مثل والدي إبراهيم بك وعثمان بك حسن ولا على من هو في طبقتي من خشداشين، على أن هذا لا يعيبهم ولا ينقص مقدارهم بأن يكون المتأمر عليهم واحدا منهم ومن جنسهم، وذلك أمر لا يخطر لي ببال، وأرضى بأدنى من ذلك: ويأخذوا علي عهدا بما أشترطه على نفسي أننا إذا عدنا إلى أوطاننا أن لا أداخلهم في شيء ولا أقارشهم في أمر، وأن يكون كبيرنا والدنا إبراهيم بك على عادته، ويسمحوا ليس بإقامتي بالجيزة، ولا أعارضهم في شيء، وأقنع بإيرادي الذي كان بيدي سابقا (ومن المعروف أن الألفي قبل مجيء الحملة الفرنسية كان ملتزما بإقطاع فرشوط وغيرها من البلاد القبلية ومن البلاد البحرية محلة دمنة ومليج وزوبر وغيرها ومتقلد الكشوفية شرقية بلبيس) فإنه يكفيني.

Page inconnue