L'Égypte au début du XIXème siècle 1801-1811 (Première Partie)
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
وقد بدأ هذا المسعى - كما سبقت الإشارة إليه في موضعه - منذ أن عقد صلح «أميان»، ومنذ تبين أنه إنما كان هدنة مسلحة، ثم لم تمض شهور على عقده حتى اتضح أنه صار متحطما؛ فقد جلا الإنجليز عن مصر بعد عقد الصلح، ولكنهم بقوا في مالطة ولم يسلموها إلى فرسان القديس يوحنا، وتمسك الفرنسيون بفتوحهم في إيطاليا. وبذل الإنجليز والروس قصارى جهدهم لإحراز التفوق السياسي في تركيا، وسعت فرنسا من جانبها على يد سفيرها «برون» لإحباط محاولات خصومها وتعزيز نفوذها في القسطنطينية، وعندما أعلنت الحرب في مايو 1803، اعتمد الإنجليز على نشر تقرير «سباستياني » المعروف في إقناع الباب العالي بأن بونابرت يريد غزو مصر في كسب الباب العالي إلى جانبهم، وعبثا حاول الفرنسيون إقناع الوزراء العثمانيين بأن خصومهم إنما احتفظوا بمالطة حتى يتخذوا منها مركزا لإرسال قواتهم إلى «الليفانت» وإثارة الاضطرابات في مصر تمهيدا لاحتلالها؛ لأن تركيا التي خشيت من مشروعات بونابرت التي عزاها إليه أعداؤه وجدت في حماية إنجلترة وروسيا لها منقذا من هذا الخطر الذي يتهددها، لا سيما وقد كانت روسيا إثر معاهدة تحالفها مع تركيا (في 25 ديسمبر 1798) قد فتحت بالاشتراك معها جزر الأيونيان التي كان الفرنسيون قد غزوها قبل ذلك، وأقرت لهم معاهدة كامبو فرميو منذ أكتوبر من العام السابق امتلاكها لها، فصار للروسيا الآن حماية «جمهورية الجزر السبع» هذه، وقوي نفوذها في القسطنطينية حتى صارت سفنها الحربية ونقالاتها تمر بحرية في البوغازات، وطلب الباب العالي تجديد محالفته معها ثم مع إنجلترة (أي محالفة 5 يناير سنة 1799) قبل انتهاء أجلهما، وكانت هاتان المحالفتان دفاعيتين هجوميتين، وعبثا حاول «برون» إثارة مخاوف الأتراك من مرور سفن الروس من البسفور؛ فقد حرص المبعوث الروسي «ديتالنسكي» والقائم بالأعمال الإنجليزي «ستراتون» على تهدئة روع الباب العالي دائما، وعبثا حاول «برون» إقناع الباب العالي بأن توقيع معاهدة الصلح بين فرنسا وتركيا في باريس في 25 يونيو 1802 - بعد أسابيع قليلة من انضمام السلطان سليم الثالث في 13 مايو إلى معاهدة «أميان» - قد ألغى آثار معاهدتي التحالف مع روسيا وإنجلترة، حيث أعيد السلام الآن بين تركيا وفرنسا، بمقتضى صلح باريس، وأقر الباب العالي قبوله (المادة الرابعة) كل ما جاء في صلح أميان خاصا بتركيا، وحفظت مادة سرية في هذا الصلح الحق للباب العالي في تجنب ما قد يقوم من حروب في المستقبل بين فرنسا وأعدائها؛ فقد تصدى «ديتالنسكي» «وستراتون» لدحض هذه الأقوال، واستمرا يشيعان الخوف في قلوب الوزراء العثمانيين وهددا بتخلي دولتيهما عن حمايتهم إذا استجابت تركيا لمطالب فرنسا. ولم يفلح «برون» في حمل الأتراك على الاعتراف بلقب نابليون إمبراطورا على الفرنسيين، واضطر «برون» إلى مغادرة القسطنطينية في 12 ديسمبر 1804 تاركا تصريف الأمور في يد «باراندييه»
الذي زودته حكومة باريس بتعليمات طلبت منه الوقوف موقفا سلبيا من نشاط أخصامه؛ حيث إن الواجب يقتضي الباب العالي أن يبت في أمر الانحياز إلى جانب فرنسا بناء على ما يهديه إليه تفكيره هو فحسب.
وفي بداية عام 1805 أخذت تتجمع الأسباب في سرعة؛ «لهداية» الباب العالي إلى ما فيه رعاية صالحه ولم يجد مناصا لرعايتها من انحياز إلى وجهة النظر الفرنسية؛ ذلك أن الروس ما لبثوا أن طلبوا أن يأتي تجديد محالفتهم مع تركيا متلائما مع الظروف القائمة، بإضافة مواد سرية إلى المعاهدة، بعد أن فرغوا في مشقة وعناء من الاتفاق مع الأتراك على موادها العلنية (15 أبريل 1805)، وعندما شرع «ديتالنسكي» يتفاوض في المواد السرية، وصل إلى القسطنطينية المواطن «جوبير»
Jaubert
يحمل رسالة من نابليون إلى سليم الثالث (بتاريخ 30 يناير 1805) يحذره من روسيا، ويستنهض همته للاعتراف بلقبه الإمبراطوري، فيقول: «هل زال حكمك وانقطع وأنت سليل العثمانيين الأمجاد، وإمبراطور إحدى كبريات إمبراطوريات العالم؟ وكيف أجزت لنفسك الرضا بتلقي الأوامر من روسيا؟ وتأبى لي ما رضيته أنا لك، فهل عميت بصيرتك في هذه المسألة (أي الاعتراف بنابليون) عن إدراك ما فيه صالحك ونفعك؟» ثم يستطرد مشيرا إلى خطر الروسيا على الدولة، ومحذرا سليما الثالث من خيانة وزرائه فيقول: «وإذا كان لدى روسيا خمسة عشر ألف رجل في «كورفو» (من جزر الأيونيان) فهل تعتقد أن وجودهم هناك موجه ضدي؟ وقد صار وقوف سفنها المسلحة أمام القسطنطينية وحضورها إليك عادة سارية، فهل عميت حتى صرت لا تدرك أن روسيا سوف تقدم بأي عذر من الأعذار على غزو العاصمة؟ وايم الحق إن بيتك لا يلبث أن يفنى ويجر عليه الزمان أذيال النسيان؛ فالريس أفندي يخونك، ورئيس الديوان قد باع نفسه لروسيا، وأفقدك موت القبطان باشا أخلص أصدقائك، لقد حذرتك مرتين ، وها أنا ذا أحذرك للمرة الثالثة، فاطرد أعضاء ديوانك، واطرد الريس أفندي، وأما أنا فقد أردت أن أكون صديقا لك، فإذا كنت لا تزال مصرا أو صح عزمك على رفض ما أطلبه مما كان لفرنسا في كل الأزمان، وهو القدح المعلى في القسطنطينية، فسوف أناصبك العداء، ولم يعرف عني بتاتا أني كنت عدوا مستضعفا. إن ديوانك لم يتخذ أية وسيلة لتقرير النظام في مصر والشام، ويترك مكة والمدينة تضيعان من يدك، ويهين أصدقاءك ويحدب على أعدائك ... فقم يا سليم من سباتك واستيقظ، وادع لوزارتك أصدقاءك واطرد الخونة، وثق في محبيك؛ فإنك إذا ما ترددت في الاختيار بين فرنسا وروسيا فسوف تفقد بلادك، ويضيع الإسلام ويزول بيتك! ...»
تلك كانت الرسالة التي أصر «جوبير» على تسليمها إلى السلطان يدا بيد، ولم يظفر ببغيته إلا بعد أن هدد بترك القسطنطينية، فقابله في 2 مايو 1805، ونمق سليم كتابا لنابليون حمله «جوبير» إلى باريس، وقامت قائمة الممثلين: الروسي والإنجليزي في القسطنطينية، وهدد «ديتالنسكي» الباب العالي، وحذره من عواقب تغيير سياسته، فأحجم عن الاعتراف بلقب الإمبراطور، واستؤنفت المفاوضات حول المواد السرية، ومدارها انضمام تركيا إلى محالفة أوروبية ضد فرنسا، وقاومت تركيا كثيرا في قبول هذه المحالفة التي تفقدها حيدتها وتزج بها في الحرب، وزاد من حنق الريس أفندي أن السفير الإنجليزي الجديد «شارلس أربثنوت» جاء إلى القسطنطينية دون أن تكون لديه تعليمات من حكومته بشأن تجديد المحالفة مع الأتراك، أو تسوية مسألة التعريفة الجمركية وإنهاء الخلاف الدائر حولها بين تركيا وإنجلترة. وفي يوليو لم ير الباب العالي مناصا من قبول هذا القسم من المواد السرية التي أصرت عليها روسيا، والتي تستهدف اشتراك تركيا معها ضد فرنسا ووضع موارد الأولى تحت تصرف حليفتها، وخضوع عمليات قتال الأتراك لإرشاد القيصر نفسه، ثم لم يلبث أن اتضح للأتراك ما كانت تنطوي عليه مطالب الروس من أخطار عندما أرادوا أن تتضمن سائر المواد السرية حق إرسال روسيا قوة عسكرية كبيرة إلى الولايات الدانوبية العثمانية: مالدافيا وولاشيا (البغدان والأفلاق) ووضع حامية في «بارجا»
في إقليم «أبيروس» في مواجهة «كورفو» وسائر جزر الأيونيان ثم انضمام الباب العالي إلى روسيا في توجيه الدعوة إلى إنجلترة حتى ترسل جنودا إلى الإسكندرية، وإجازة استيلائها على ميناء في شبه جزيرة المورة ، وهذا كله عدا مطالبة روسيا بحق التدخل في صالح رعايا الدولة من أصحاب الديانة الأرثوذكسية في أي وقت تشاء، والمقصود بذلك وضع اليونانيين رعايا الدولة العثمانية تحت حماية روسيا، وكانت دعوى هذه في تبرير إصرارها على هذه المطالب المجحفة، والتي عارضها الباب العالي معارضة شديدة، رغبتها في تحرير موارد الدولة من النفوذ الفرنسي، وعبثا حاول السفير الإنجليزي إقناع الأتراك بقبولها أو إقناع زميله الروسي في أول الأمر بتخفيفها، وكان رأي الباب العالي أن إدخال جنود أجنبية إلى الولايات الدانوبية سوف يحفز الولاة في سائر ولايات الدولة إلى الثورة، وقبل «ديتالنسكي» إخراج هذه المسألة من مواد المعاهدة السرية، ونصح لحكومته بالإغضاء عنها وسحبها، ولكنه تمسك من ناحية أخرى بالمادة المتعلقة بتدخل روسيا في شئون اليونانيين أتباع الكنيسة الأرثوذكسية للمحافظة على مصالحهم، أو على الأصح لبسط حمايتها عليهم، فلما رفض الباب العالي ذلك صمم الروس على قطع المفاوضة، ولم يمنع «ديتالنسكي» من إرسال مذكرة تهديدية للباب العالي سوى توسط السفير الإنجليزي (سبتمبر 1805)، ثم سرعان ما جاءت تعليمات الحكومة الروسية إلى مبعوثها لا بالموافقة فحسب على سحب شرط إدخال جنود أجانب في أملاك الدولة العثمانية وغيره من شروط المواد السرية التي يعارضها الباب العالي، بل وتطلب إليه إزالة كل ما قد يعترض إبرام معاهدة التحالف من عقبات فورا ودون أي إمهال لتوقع قيام الحرب قريبا بين روسيا وفرنسا؛ وعلى ذلك، فقد أبرمت معاهدة التحالف بين تركيا وروسيا في 24 سبتمبر 1805 كما وقعت المواد السرية في اليوم نفسه، ولكن دون أن يكون من ضمنها المادتان اللتان عارضتهما تركيا، واللتان بعث السلطان سليم بشأنهما كتابا إلى القيصر، أوضح فيه تناقض مطلبي إدخال الجند الأجانب في ولايات الدولة وبسط حماية روسيا على رعاياها مع قوانين الدولة العثمانية وطبيعة حكومتها.
وكان لهذا النجاح الذي أدركته تركيا أثره على المفاوضة التي جرت بينها من ناحية أخرى وبين إنجلترة لتجديد المحالفة بين الدولتين. وكانت الحكومة الإنجليزية ترى في حالة قبول تركيا لمطلب روسيا الخاص باحتلال الولايتين الدانوبيتين أن تسمح لها هي الأخرى بإرسال حامية لاحتلال الإسكندرية. حقيقة لم تكن هذه الحكومة مستعدة في هذه اللحظة لإرسال جند إلى مصر، ولكن موافقة الباب العالي سلفا على هذا الإجراء سوف يكون لها شأن عظيم إذا حدث في أثناء الحرب أنه صار لا معدى عن اتخاذه، وأما إذا تمسك الباب العالي بمعارضته لمطالب روسيا ولمثل هذا الطلب فخليق بالسفير أن يسلك مسلك الحكمة حينئذ، خاصة وأن حكومته كانت ترى من المستحسن تأجيل احتلال أية أراض تركية سواء جاء هذا الاحتلال من جانب الروس أم الإنجليز، وذلك حتى يحين الوقت الذي يبدو فيه هذا الاحتلال أمرا ضروريا؛ وعلى ذلك، فإن مما يكفيها في الوقت الحاضر أن تحصل من الباب العالي على موافقته على المبدأ فحسب، وكانت الحكومة الإنجليزية قد احتاطت للأمر فأصدرت تعليماتها منذ 29 مارس 1805 إلى قائد قواتها بالبحر الأبيض «السير جيمس كريج»
Craig
تلفت نظره إلى أنه قد يحدث ما يدعو إلى الاعتقاد بأن فرنسا تنتوي غزو مصر، وأن احتلال الإسكندرية يصبح عندئذ أمرا لا ندحة عنه. وفي 25 أكتوبر وصلت «أربثنوت» سلطات تفوضه التوقيع على المعاهدة مع تركيا، ولكن سرعان ما قامت العقبات الكثيرة تحول دون إبرامها.
Page inconnue