فلما انساج العرب في الأرض للفتح أو المهاجرة، ذهبت قبائل منهم إلى أواسط أفريقيا، فضلا عن شواطئها، فاكتسب الزنوج منهم أخلاق الأمم المتمدنة، وأسلموا. ثم انتظموا في الجندية، وتألفت منهم فرق حاربت تحت رايات الخلفاء في بلاط الخلفاء، حتى صاروا من أهل الحل والعقد.
وتولى بعضهم الحكومة، ثم تجندوا لأنفسهم، ونهضوا كما تنهض الأمم الراقية، فألفوا جيشا حاربوا به الدولة العباسية عدة سنين، حتى أقلقوا راحتها. وفتحوا المدن، وكادوا يؤسسون دولة إسلامية كبرى.
على أنهم أنشائوا دولا صغرى في أواسط أفريقيا وغربيها، ونبغ منهم الحكام والقواد، وأشهرهم: كافور الإخشيدي صاحب مصر. وظهر غير واحد من الشعراء ونظموا القصائد الحسنة، ونبغ منهم جماعة من القراء والفقهاء، وتدخل أخبارهم في تاريخ الإسلام.
وقس على ذلك أخبار أمم الشمال: كالكرج والأرمن والأكراد والخزر والصقالبة وغيرهم.
ناهيك بالعرب أنفسهم وتاريخهم قبل الإسلام وبعده، لولا الإسلام لذهبت أخبارهم وأخبار الأمم الإسلامية الأخرى. وأكثر ما يعرفه المتمدنون في هذه الأمم، أخذوا تاريخ الإسلام. (8)
أرخ المسلمون فترة من الدهر، لم يعرف تاريخها لولاهم؛ لأن حوادث ظهور الإسلام وما تلاه من أخبار الفتح وما عقب ذلك من إنشاء التمدن ونشر لواء العلم ونقل الفلسفة وغيرها من علوم القدماء، وما اقتضاه ذلك من التغيير والتبديل، قلما عرف عنه الإفرنج شيئا لولا تاريخ الإسلام. (9)
إن مدة هذا التاريخ أطول من مدد سائر التواريخ؛ لأن الإسلام يشمل دولا شتى إسلامية، إذا انقضت دولة قامت أخرى. ونحن في القرن الرابع عشر من تاريخ الهجرة. وقد توالى في الإسلام مئات من الدول من أمم مختلفة في آسيا وأفريقيا وأوربا. ولا يزال من هذه الدول كثير حتى الآن في هذه القارات. منها الدول الكبرى كالدولة العثمانية والفارسية والدول الصغرى في الهند وجزيرة العرب وأفريقيا.
ولا نعرف أمة طال سلطانها في الأرض مثل هذه المدة. ولا يزال عمر الإسلام طويلا، بل هو في نهضة إصلاحية تساعده على طول بقائه. فهو لذلك يحتوي على تاريخ أطول من سائر التواريخ. (10)
يمتاز تاريخ الإسلام عن سواه أنه يشتمل على تاريخ السياسة والدين والعلم والشريعة. وهذا قلما يجتمع في التواريخ الأخرى.
وتاريخ الفقه الإسلامي لا يدانيه تاريخ فقه لأمة من أمم الأرض بما يدخل فيه من إعمال الفكر واستنباط العقل. وقس عليه تاريخ العلم؛ لأن المسلمين أتوا في نهضتهم العلمية في العصر العباسي بما لم يأته غيرهم في نهضة، فقد اشتغلوا بعلوم اليونان والفرس والهنود والسريان وغيرهم ونقلوها إلى لسانهم وذكروا أخبارها وأحوالها، فضلا عما في اختلاف أجناس المؤرخين من جوامع الفوائد، فإن بينهم العربي والفارسي والتركي والرومي والمصري والسرياني والهندي وغيرهم. ولكل امة مزية، فاجتمعت هذه المزايا في تاريخ الإسلام. (11)
Page inconnue