ثم استبدل «محمد باشا» ب «مصطفى باشا» الملقب ب «البستانجي» وكان أبي النفس على نوع ما، إلا أن كاتبه «أحمد أفندي» كان عابثا غشوما. وكانت أزمة الأمور في يده، فاستبد بها، فكره المصريون الحياة من أجله.
واتفق في أيامه تقصير النيل، فازدادت الأثقال بغلاء الحبوب. ولم يكن الباشا يتعرض للأحكام مطلقا. فكثرت السرقات حتى لم ينج حي من أحياء القاهرة من النهب، واضطر الناس إلى مهاجرة بيوتهم.
وكان رئيس الضابطة إذا جيء إليه ببعض اللصوص، لا تغيب عليهم الشمس في السجن، ومثل ذلك كان يفعل الكشاف (حكام الأقاليم)، فتواترت التشكيات إلى الباشا، فاضطر إلى عزل رئيس الضابطة وتولية «كنعان بك» مكانه، فاهتم هذا بالقبض على اللصوص، فسجن عددا كبيرا منهم.
وفي شوال سنة 1051، ثارت الجهادية وتمرد الجاويشيون على رئيسهم الأمير «علي»؛ لأنه لا يفرق الأعطيات إلا على كتبته، فلم ير الباشا بدا من عزله وتولية «عابدين بك» في مكانه.
فلما رأى الجيش ما كان من فوز الفئة الثائرة ثاروا جميعا، وادعوا أن مخازن الحبوب فارغة، وطلبوا معاشاتهم المتأخرة منذ سنة، فعين «محمد أفندي» قاضي العسكر لتحري دعواهم، فتفقد مخازن الحبوب، فوجدها حقيقة فارغة، وعلم أن ما كان فيها باعه وأخفى ثمنه. فاضطر الباشا مراعاة لطلب الجمهور، أن يتخلى عن كاتبه مع شدة حبه له، فاستنجد الجاويشية، فأنجدوه وأعادوه إلى منصبه، فازداد تمردا، وبالغ في الانتقام. ثم استقال «مصطفى باشا» وتولى الوزير «مقصود باشا». وكان واليا على ديار بكر قديما.
فلما استلم مقاليد الأحكام بمصر، بحث عن تصرفات سلفه، فاطلع على أعماله، فقبض على كاتبه والكخيا، وجلدهما، وأجبرهما على إرجاع مائتي كيس من النقود إلى الخزينة.
أما «مصطفى باشا» فأرسل إلى الآستانة، وهناك أخذ منه مائتا كيس سلمت للخزينة الشاهانية وأصبح من صحبة الوزراء السبعة العظام. (9-1) الوباء
وفي أيام «مقصود باشا»، قاست مصر أمر العذاب من وباء وفد عليها. وكان أصعب مراسا من الوباء الذي وفد في أيام علي باشا وجعفر باشا لأنه كان عاما لم ينج من إصابته الشيوخ ولا الشبان، وقد أصاب من الشيوخ واحدا في الثمانية.
ظهر هذا الوباء أولا في بولاق أوائل شعبان سنة 1052ه، بعد شهرين ظهر في القاهرة، وما زال على معظمه من أول ذي القعدة من تلك السنة إلى غاية صفر سنة 1053، ثم أخذ بالتناقص شيئا فشيئا ولم ينقض حتى الشهر الثاني. ولم يكن يسمع إلا بالوفيات المتتابعة في كل ساعة. وكانت الجثث تنقل بالعشرات دفعة واحدة، فيمر في الشارع الواحد أحيانا ثلاثون أو أربعون جنازة.
وقد روى «ابن أبي السرور» - وهو من المعاصرين - أن جملة من صلي عليهم من المتوفين في الجوامع الخمسة الرئيسية في القاهرة في أثناء ثلاثة أشهر 2960، وصاروا في آخر الأمر يدفنون موتاهم بلا صلاة، وعدد هؤلاء لا يقل عن عدد الذين صلي عليهم.
Page inconnue