وفي سنة 1042ه استقال «خليل باشا» من ولاية مصر، فخرج منها، والناس يثنون عليه ثناء جميلا، لأنه كان عادلا، حليما. فلم يكن يصدر أحكامه إلا بعد التروي بما يقول الخصمان.
ومما يحكى عنه أنه جيء إليه يوما بثلاثة لصوص، قبض عليهم متلبسين بالجناية، فأمر أن يحاكموا، فقال أحد رجال الديوان: «إن هذه الحادثة لا تحتاج إلى محاكمة لثبوت الجناية، فيجب إصدار الحكم بالإعدام.» فلم يكن جواب الباشا إلا الأمر بهدم بيت ذلك الناصح، فاستغرب الرجل ذلك، وسأل عن السبب الموجب له، فأجابه الباشا قائلا: «كيف يحق لك الاعتراض علي إذا أمرت بهدم بيتك المبني من حطام الدنيا، ولا يحق لذلك الباني العظيم معارضتنا إذا هدمنا بنايته بغير وجه شرعي.» ثم أبطل الأمر بالهدم وأطلق اللصوص. قال «ابن أبي المسرور» راوي هذه الحكاية، إن اللصوص قلوا بعد تلك الحادثة احتراما للباشا.
وبعد استقالة «خليل باشا» من مصر، عين على الروملي، وتولى مصر الوزير «أحمد باشا» الملقب «بالكورجي» وكان قبلا أمير ياخور.
وفي صفر سنة 1043ه، وردت له الأوامر الشاهانية، أن يبعث ألفين من عساكر مصر إلى سوريا؛ مددا للحملة العثمانية على دروز لبنان مع خمسة آلاف قنطار من البقسماط وأربعة آلاف قنطار من البارود. ثم جاءت أوامر أخرى بطلب ألفي رجل آخرين وثلاثة آلاف قنطار من البارود لمحاربة الفرس. فرأى «أحمد باشا» أن مصر لا تقوم بهذه الطلبات، فاعتذر إلى السلطان، فبعث إليه 12 ألف قنطار من النحاس ليسكبها نقودا على أن يبعث عوضا عنها إلى الآستانة ثلاثمائة ألف زر محبوب. (8-4) أصل النقود في المصرية
للنقود في مصر تاريخ لا بأس من ذكره. كانت المعاملة بمصر عند الفتح الإسلامي بالدرهم، وهو وزن درهم من الفضة والدينار، وهو مثقال من الذهب. وكان الدينار يبدل بعشر دراهم.
تكاثرت الفضة فصار الدينار يساوي 12 درهما في أيام بني أمية و15 درهما من أوائل بني العباس. ثم زادت قيمته إلى 20 درهما أو 25 أو 30 باختلاف الأحوال.
فلما كانت الحروب الصليبية، واختلط الإفرنج بالمسلمين، دخل البلاد الإسلامية كثير من النقود الإفرنجية، وحدثت نقود ذهبية جديدة كالبندقي والمجر والبنتو وزر محبوب (وهو الدينار) والجنيه العثماني والإفرنجي والمصري وغيرها، وكلها من الذهب.
أما النقود الفضية، فأبدلت دراهمها بالأنصاف وهي البارات، وكانت المبيعات الصغرى تقدر بأنصاف والكبرى بالبندقي أو الزر محبوب أو غيرها من النقود الذهبية، وسنعود إلى وصف نقود مصر في آخر العصر العثماني. «فأحمد باشا» أخذ في سكب النحاس، وأعد لذلك عمالا ومعامل. ثم رأى بعد حين أن جميع هذه الإجراءات ذاهبة عبثا لأن الفعلة ملوا العمل، ومات أكثرهم من الحر والجهد، فجمع إليه ذوي شوراه من الأمراء والقضاة، واستشارهم. وكان من رأيه أن يدفع مطاليب السلطان من ماله الخاص، ثم يجعل النحاس سبائك صغيرة تباع في بلاد السودان بين تكردر وبلاد الزنج، فارتأى القضاة رأيا آخر، وهو أن يجبر الأهالي على استلام هذا النحاس ودفع المبالغ المطلوبة، وأن يفرق النحاس عليهم بمقادير متناسبة لما يدفعونه فوافق الجميع على ذلك وأخذوا في تنفيذه في 16 ذي الحجة سنة 1043، وتمموه في آخر شعبان من السنة التالية.
فكان ذلك ثقلا كبيرا على كاهل المصريين إذ لم ينج من هذه الضريبة غني ولا فقير، فقلت النقود، وغلت الحبوب وسائر المأكولات غلاء فاحشا، وزاد في الطنبور نغمة أن النيل في السنة التالية لم يكن وفاؤه حسنا، لكن الناس استنبتوا الأرض غلة متوسطة. (8-5) مظالم وتعديات
وبعد يسير دعي أحمد باشا إلى الآستانة فسار ولم يدفع الأموال التي جمعت لخزينته، فرفع المصريون شكواهم بشأن ذلك. فلما وصل الآستانة، حكم عليه بالإعدام. وتولى مكانه الوزير «حسين باشا»، فجاء مصر في عصابة من الدروز التقطهم من كل ناد، وكانوا من قاطعي السبل، فساموا المصريين أنواع العذاب نهبا وقتلا، فاضطربت الأحوال، وأقفلت الحوانيت، ووقفت حركة الأعمال، وهذا أصل استهجان المصريين لكلمة درزي على ما يظن.
Page inconnue