من لنا بمن يخبرنا عن مخترع الكتابة الصورية لنشيد له تذكارا، أو مخترع الإبرة لننصب له تمثالا، بل لو عرفنا مكتشف النار؛ أي أول من ولد النار بالفرك، لحق له علينا الإكرام الجزيل. إن ذلك وأمثاله من أعمال الإنسان قبل زمن التاريخ لا يدخل في علم التاريخ ولا إلى معرفته سبيل إلا بالتخمين.
أما زمن التاريخ فهو الذي عرفنا أممه وقبائله ودوله وبعض حوادثه، إما من الكتب التي وصلت إلينا أو من النقوش التي قرأناها في الآثار أو من أحوال أخرى. وهو لا يتجاوز في مدته ستة آلاف سنة، نصفها الأول ناقص، وأكثره مبني على الحدس والتخمين، والنصف الآخر محشو في أوائله بالمبالغات أو الخرافات، ولكن أكثره ثابت لرجوعه إلى النصوص التاريخية بعد شيوع الكتابة. (1) ما معنى لفظ تاريخ؟
وقبل التقدم إلى ذكر أقسام التاريخ؛ نتكلم عن أصل هذا اللفظ في العربية. وقد اختلفت الأقوال فيه؛ فذهب جماعة إلى أنه فارسي، وقال آخرون إنه يوناني. وتكلفوا في تخريجه تكلفا نحن في غنى عنه لأن اللفظ عربي، وفي القاموس «أرخ الكتاب يأرخه أرخا: وقته»؛ أي عرف وقته. ثم تفرع المعنى فصاروا يدلون بها عن علم التاريخ أي ذكر الوقائع والحوادث. ولعل سبب الشك في كون هذا اللفظ عربيا أن العرب أخذوا التاريخ عن الفرس. وقيل لهم إن اسمه عند الفرس «ماه روز» فعربوها «مؤرخ» ثم اشتقوا منها مصدرا «تاريخ» وهو تكلف لا حاجة بنا إليه؛ فدفعا لكل شك في كون هذا اللفظ عربيا نأتي بأشباهه من أخوات اللغة العربية.
فهو في العبرانية «يرخ» ومعناه: القمر ، ومثلها «يرحا» في السريانية لنفس هذا المعنى ونحو ذلك في الكلدانية والأشورية. وهي أيضا تدل عندهم على الشهر؛ لأن حسابهم كان قمريا. وكذلك الشهر والقمر في العربية بمعنى واحد، ولا عبرة في إبدال الخاء «حاء» بين العربية وأخواتها، فإنه عادي فيها. ومن بقايا دلالة «يرح» أو «أرخ» على القمر في العربية، قول العرب «راح» أي ذهب أو جاء في العشي؛ أي في نور القمر. والمعنى راجع إلى العشي بدون تقييد بالذهاب أو المجيء، مثل قولهم أصبح وأمسى. ثم غلبت فيها الدلالة على الذهاب في العشي ثم صارت تدل على مطلق الذهاب. وقد يكون اللفظ الواحد معناه القمر في إحدى هذه اللغات، والشهر في اللغة الأخرى، فإن «سهر» في السريانية معناها قمر في العربية وهو «الشهر» بإبدال السين شينا. وقد بقي في معناها الأصلي في العربية «الساهور» وهو القمر أو غلافه. والخلاصة أن لفظ التاريخ عربي الأصل والاشتقاق. (2) أقسام التاريخ العام
اختلف المؤرخون في تقسيم زمن التاريخ وتبويبه. والأكثر يرون قسمته إلى ثلاثة أقسام؛ الأول: التاريخ القديم ويبدأ بأقدم الأزمان، وينتهي عند سقوط رومية سنة 476 للميلاد. والقسم الثاني: القرون الوسطى أو المظلمة، وهي تمتد من هذا التاريخ إلى اكتشاف أميركا سنة 1492 مسيحية. والثالث: التاريخ الحديث، من اكتشاف أميركا ولا يزال.
ذلك هو تقسيم التاريخ العام عند كتاب الإفرنج، وهو في اعتبارنا تقسيم ناقص، مبني على الأحوال التي توالت في أوربا وأميركا، ولا يدخل فيها من تاريخ الشرق إلا الدول القديمة في مصر وبابل وفينيقية وغيرها من التمدن القديم. ولم يراعوا فيه الانقلابات السياسية العظيمة التي توالت في الشرق بعد ذهاب تلك الدول، وكان لها تأثير كبير في تاريخ العمران في سائر أنحاء العالم المتمدن.
أما أقسام التاريخ العام بالنظر إلى الشرق وأممه ودوله، فإنه في نظرنا يقسم إلى قسمين كبيرين، أو هما شطران؛ شرقي وغربي، نعبر عنهما بتاريخ الشرق، وتاريخ الغرب. ونقصد بالشرق آسيا على الإجمال ومعها وادي النيل وما يليه من البلاد التي تمدنت قديما في أفريقيا، ونعني بالغرب أوربا وأميركا وما يلحقهما.
ولكل من هذين الشطرين ثلاثة أطوار أو أعصر تتشابه في التقسيم ولكنها تختلف في الزمن، لكل منها عصر قديم وعصر متوسط وعصر حديث، لكن الشرق متقدم فيها على الغرب وسابق منه في عوامل المدنية.
فتاريخ الشرق القديم يمتد من أقدم الأزمنة إلى فتح الإسكندر المكدوني بلاد فارس سنة 331 قبل الميلاد.
وتاريخه الأوسط أو قرونه الوسطى أو المظلمة تمتد من فتح الإسكندر إلى ظهور الإسلام سنة 622 للميلاد أو السنة الأولى للهجرة.
Page inconnue