وأما الملوك أو السلاطين الأعاجم، فلما ضخمت دولتهم في أواخر العصر العباسي، ورأوا انحطاط الخلافة وتقهقرها تمنوا الاستغناء عنها، ولكنهم لم يروا سبيلا إلى ذلك، إلا أن يستبدلوها بخلافة أخرى. على أن بعضهم طمع بالنفوذ الديني عن طريق الانتساب إلى الخليفة بالمصاهرة.
وأول من فعل ذلك، عضد الدولة «بن بويه» المتوفى سنة 372ه، فإنه حمل الطائع بالله الخليفة العباسي في أيامه أن يتزوج بابنته، وغرضه من ذلك أن تلد له ابنته ولدا ذكرا فيجعله ولي عهده؛ فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب، ولم يوفق إلى مراده.
ولما أفضت السلطة إلى السلاجقة، تقدموا في هذا الطريق خطوة أخرى، فعمدوا إلى التقرب بالمصاهرة أيضا. ولكن على أن يتزوج السلطان «طغرلبك السلجوقي» ابنة الخليفة، وهو يومئذ القائم بأمر الله فخطبها إليه، ووسط قاضي الري في ذلك، فانزعج الخليفة لهذا الطلب أيما انزعاج؛ إذ لم يسبق أن يتزوج بنات الخلفاء إلا أكفاءهم بالنسب، وكانت يد السلطان قوية والخليفة لا شيء في يده، فأخذ الخليفة في استعطافه ليعفيه من الإجابة على طلبه، فأبى السلطان إلا أن يجاب.
وحدثت أمور يطول شرحها خيف منها على الدولة فاضطر الخليفة إلى القبول، فعقد له عليها سنة 454ه. وهذا ما لم يجر مثله قبله، لأن آل بويه لم يطمعوا بذلك ولا تجاسروا على طلبه مع مخالفتهم للخليفة في المذهب؛ إذ يكفي الخليفة تنازلا أن يتزوج بنات الملوك، لا أن يزوجهم بناته، ولم ينل هذا الشرف أحد قبل طغرلبك. ومع ذلك فإنه لما دخل إلى عروسه في السنة التالية، قبل الأرض بين يديها وهي جالسة على سرير ملبس بالذهب، فلم تكشف الخمار عن وجهها ولا قامت له وظل أياما يحضر على هذا الصورة وينصرف. على أنه لم يوفق لإتمام ما أراده لأنه توفي في تلك السنة.
أما المبايعة بالخلافة لغير العرب فلم تنلها دولة إسلامية قبل العثمانيين، وذلك أن الخليفة العباسي كان عند الفتح العثماني لمصر، الإمام محمد المتوكل على الله الثالث، وقد تقدم ذكره مرارا، وهو الخليفة الثامن عشر من الدولة العباسية بمصر، فلما تم فتح مصر للسلطان سليم، علم أن الأمر لا يستتب له، إلا إذا أضاف السلطة الدينية إلى السلطة الزمنية، فاغتنم فوزه وطلب إلى المتوكل على الله، أن يبايعه فبايعه بالخلافة الإسلامية وسلمه الآثار النبوية، وهي: العلم والسيف والبردة. وسلم إليه أيضا مفاتيح الحرمين، فصار خليفة وسلطانا، وتوارث ذلك السلاطين بعده، ولا يزالون على ذلك إلى الآن.
أما الخليفة العباسي، فإنه نقل إلى الآستانة وخصص له راتب لنفقاته. وقبل وفاة السلطان سليم عاد المتوكل إلى مصر وعاش فيها منفردا إلى أن توفاه الله سنة 945ه، وهو آخر الخلفاء العباسيين وفد دولتهم الدينية، نيفا وثمانية قرون. (1-3) نظام الحكومة المصرية في الدولة العثمانية
قد رأيت من إجراءات العثمانيين بمصر عند الفتح أنهم لم ينظروا إليها نظرهم إلى بلد سيقيمون فيه وإنما أرادوا إخضاعه وإذلاله واستغلاله. فلما رجع السلطان سليم إلى عاصمته القسطنطينية، فكر في أمر مصر فارتأى أن يضع لها نظاما يأمن معه تمردها عليه، لبعدها عن مركز الخلافة، وصعوبة المواصلات في ذلك العصر.
وكان قد ولى عليها واليا برتبة باشا يرجع إليه الحل والعقد وأول من نال هذا المنصب أمر أهله من كبار رجال قنسو الغوري اسمه خاير بك «أو خير بك» قد تقدم ذكره، وحارب معه في حلب ثم خانه وسلم البلد إلى العثمانيين. فلما فتح الله على هؤلاء مصر، ولاه السلطان سليم ولايتها، وسماه باشا.
على أنه تذكر أن هذا الرجل خان سلطانه من قبل فخاف أن يفعل ذلك معه، إذا بعد عنه ويستقل بمصر، فأعمل فكرته فيما يكفيه مئونة هذا الخطر، فاهتدى إلى طريقة تضمن له ذلك؛ وهي أن يجعل في مصر ثلاث إدارات أو قوات، كل منها تراقب أعمال الآخرين فلا يخشى اتحادها وتمردها.
فالقوة الأولى : «الباشا» وأهم واجباته إبلاغ الأوامر السلطانية لرجال الحكومة وللشعب، ومراقبة تنفيذها.
Page inconnue