مات الملك الظاهر سنة 676ه. وخلفه على الملك ولداه بركة خان ثم سلامش، ولم يكونا أهلا للرئاسة، فتغلب عليهما وحتى كان على سلامش، اسمه سيف الدين قلاوون الألفي، فخلع سلامش وتسلم زمام الأحكام، فبويع ولقب بالملك المنصور.
وكانت مدة حكمه بضع عشرة سنة من 678-698ه. وكان حسن الشكل، ربع القامة، قليل الكلام بالعربية. وكان شجاعا بطلا مقداما في الحرب، مغرما بشراء المماليك حتى قيل إنه تكامل عنده 12000 مملوك أكثرهم من الشراكسة. وحارب الصليبيين وغيرهم. وخلف آثارا بنائية لا يزال بعضها قائما إلى اليوم، منها المارستان المنصوري، وجامع قلاوون في شارع النحاسين بمصر.
وبلغ من عنايته بالمماليك أنه غير ملابسهم، وألبسهم المخمل الأحمر والأخضر والسمور والفرو، وكان استكثاره من المماليك الشراكسة، سببا في خروج السلطة من نسله كما أصاب الملك الصالح باستكثاره من المماليك الأتراك، فتوالى على الملك بعده بعض أولاده وبعض مماليكه الأتراك. ولم يثبت الملك طويلا إلا لابنه الناصر بن قلاوون من سنة 709-741ه، فخلف آثارا كثيرة، وحارب حروبا جمة. ومن جملة آثاره مجراة الماء، والسقايات السبع على حدود مصر القديمة في القاهرة.
وتكاثرت مماليك الملك الناصر المذكور في أواخر أيامه، وانتقل الحكم بعده إلى أبنائه الواحد بعد الآخر، وهم ثمانية، من سنة 741-762ه. ومنهم السلطان حسن صاحب الجامع المعروف باسمه في مصر. وانتقل بعدهم إلى جماعة من أهلهم حكموا 22 سنة أخرى، حتى انتقل سنة 784ه إلى دولة المماليك الشراكسة أو «دولة المماليك الثانية». (1-4) دولة المماليك الثانية، أو الشراكسة
والمماليك الشراكسة هم مماليك السلطان قلاوون المتقدم ذكره. وهم جنس من أهل آسيا يخالف الأتراك، أصلهم من جهات سيبريا ونواحي بحيرة «بيقال». وهاجروا في القرن السادس للميلاد إلى غربي بحر قزوين يحملون من بلادهم للاتجار بهم في أنحاء العالم، فاقتنى منهم سلطان المماليك البحرية الأخير عددا وافرا فضلا عن المماليك البحرية اقتداء بأسلافه. وكانوا يستخدمونهم في صالح الدولة فارتقوا فيها تبعا لما خصتهم به الطبيعة من الجمال والذكاء حتى صارت إليهم حماية الحصون والقلاع فجعلوا سكناهم في الأبراج فلقبوا «بالبرجية» وما زالوا يزدادون عددا وقوة ومنعة حتى تاقت نفوسهم إلى تسلق كرسي الملك يجعلونه إرثا في نسلهم.
فتمكنوا من ذلك على يد مملوك منهم اسمه حازم برقوق، وهو ابن مرتد شركسي اسمه أنس. تدرج في مصالح الدولة من أدناها إلى أعلاها بحزمه ودهائه حتى تمكن من تسلق كرسي الملك سنة 783ه، وما زال حاكما نافذ الكلمة إلى سنة 801ه.
وفي أيامه حمل «تيمورلنك» القائد التتري على العالم الإسلامي حتى هدد حدود سوريا فحمل عليه برقوق في صفد وأوقفه عند حده. (1-5) أول علائق العثمانيين بمصر
وفي أثناء ذلك أفضت سلطنة آل عثمان إلى السلطان بايازيد في آسيا الصغرى، وقد طمع بمصر فجاء تيمورلنك لينازعه عليها وعلى مصر، فبعث كل منهما وفدا إلى القاهرة. فطلب وفد بايازيد إلى برقوق أن يعاهده على السلم، وإلى الخليفة العباسي المقيم في القاهرة أن يقر بايازيد رسميا على سلطنة الأناضول، فأجابهم إلى ما طلبوه.
أما وفد تيمورلنك فاتخذوا خطة أخرى لأنهم استعملوا الخشونة والفظاظة في أقوالهم ومطالبهم، فطلبوا منه أن يسلم لهم قرا يوسف، وأحمد بن أويس اللذين قد التجآ إليه. فطيب برقوق خاطرهم وأخذهم بالملاينة فازدادوا فجورا، فأمر بقتلهم، فشق ذلك على تيمورلنك، فساق جيشه وقدم للانتقام فمر بالرها وقتل من فيها، ثم جاء حلب فأنكى فيها، ثم توقف عن مسيره لغرض في نفسه يسهل عليه افتتاح مصر. فلم يغفل برقوق عن ذلك، فأكثر من الجند والسلاح، وتأهب للدفاع أو الهجوم لكنه لم يكد يتم هذه التأهبات حتى أدركته الوفاة.
والسلطان برقوق أعظم سلاطين دولة المماليك الشراكسة أو الثانية، وله آثار منها جامع لا يزال يعرف باسمه وكان له ولع خاص باقتناء الأسلحة، ونظم الجند، وعين رتبه، وجعل مناصب الدولة إلى تسعة من كبار الموظفين أكبرهم أتابك العساكر، فرأس نوبة الأمراء، فأمير السلاح، فأمير المجلس، فأمير الياخور، فالدوادار، فرأس النوبة الثاني ، فحاجب الحجاب، وهو أول من عقد مع العثمانيين صلحا أو عهدا، كما رأيت.
Page inconnue