إشارة
العارفون - بعد العروج إلى سماء الحقيقة - اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق. لكن منهم من كان له هذه الحال عرفانًا علميًا، ومنهم من صار له ذلك حالًا ذوقيًا. وانتفت عنهم الكثرة بالكلية واستغرقوا بالفردانية المحضة واستوفيت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع لا لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم أيضًا. فلم يكن عندهم إلا الله، فسكروا سكرًا دفع دونه سلطان عقولهم، فقال أحدهم "أنا الحق" وقال الآخر "سبحانى ما أعظم شانى! " وقال آخر "ما في الجبة إلا الله". وكلام العشاق في حال السكر يُطوَى ولا يحكى. فلما خف عنهم سكرهم وردوا إلى سلطان العقل الذى هو ميزان الله في أرضه، عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل شبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه "أنا من أهوى ومن أهوى أنا" (و٨ـ ب) ولا يبعد أن يفاجىء الإنسان مرآة فينظر فيها ولم ير المرآة قط، فيظن أن الصورة التى رآها هى صورة المرآة متحدة بها، ويرى الخمر في الزجاج فيظن أن الخمر لون الزجاج. وإذا صار ذلك عنده مألوفًا ورسخ فيه قدمه استغفر وقال:
رق الزجاج وراقت الخمر ... فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنما قدح ولا خمر
وفرق بين أن يقول: الخمر قدح، وبين أن يقول: كأنه قدح. وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحالة "فناء"، بل "فناء
1 / 57