إدراكًا آخر غير إدراك المحجوبين: إذ يدركونه مقدسًا منزهًا عن جميع ما وصفه به المحجوبون، عندما يتجلى لهم الحق بذاته فتحرق سبحات وجهه الأعلى كل ما أدركه بصر الناظرين وبصيرتهم.
وهذه منزلة في التصوف شبيهة بما يسميه ابن عربى "منزلة تنزيه التوحيد"، وهى منزلة يتعالى فيها الحق عن أن يوصف بأية صفة حتى صفة التوحيد، لأن الوصف حتى بالتوحيد تقييد، والتقييد مناف للتنزيه المطلق.
الظاهر أن الفقرات الأخيرة من مشكاة الأنوار قد أثارت شيئًا من الحيرة في فهم نظرية الغزالى في المطاع، بل أثارت الشك في عقيدته: يدل على ذلك أن ابن طفيل يقول في رسالته حى بن يقظان: "وقد توهم بعض المتأخرين من كلامه (أى كلام الغزالى) الواقع في آخر كتاب المشكاة أمرًا عظيمًا أوقعه في مهواة لا مخلص له منها: وهو قوله بعد أن ذكر أصناف المحجوبين بالأنوار ثم انتقاله إلى ذكر الواصلين "إنهم وقفوا على أن هذا الموجود العظيم متصف بصفة تنافي الوحدانية المحضة، فأراد أن يلزمه من ذلك بأنه يعتقد أن الأول الحق سبحانه في ذاته كثرة مّا، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا" والظاهر أن ابن طفيل يقصد ببعض المتأخرين ابن رشد، ويتهمه بالوهم وعدم فهم المقصود من عبارة الغزالى؛ إذ أنه فهم من "الموجود العظيم المتصف بصفة تنافي الوحدانية المحضة" الله ﷾، مع أن الغزالى يقصد به "المطاع" لا الذات الإلهية المنزهة عن كل وصف.
أما ابن رشد نفسه فيتهم الغزالى بأنه أورد في فصل المحجوبين كلامًا يتناقض مع ما قرره في كتبه الأخرى في مسألة حركة الأفلاك وموقف الله منها. يقول:
"ثم جاء في كتابه المعروف بمشكاة الأنوار فذكر فيه مراتب العارفين بالله فقال: إن سائرهم محجوبون إلا الذين اعتقدوا أن الله سبحانه غير محرك
1 / 28