ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد بل شبه الاتحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا". ويقول الغزالى إن شعور العارف في حال فنائه عن نفسه وعن الخلق وبقائه بالحق يسمى اتحادًا مجازًا وتوحيدًا على الحقيقة: أى توحيدًا بمعنى أنه لا يشهد في الوجود إلا الله وحده. ولعل مما يرفع عن الغزالى شبهة القول بوحدة الوجود ما يذكره في نهاية هذا الفصل في معنى قولنا "إن الله مع كل شىء كالنور مع الأشياء" حيث يقرر أنه "مع كل شىء" بمعنى أنه قبل كل شىء، وفوق كل شىء ومظهر لكل شىء. فقوله "قبل كل شىء" إقرار بقدم الله تعالى؛ وقوله "فوق كل شىء" معناه تنزيهه تعالى، والتنزيه بمعناه الدينى الحقيقى لا يتفق مطلقًا مع القول بوحدة الوجود.
هذا وقد أثار "فنسنك" موضوع الصلة بين هذا الفصل من المشكاة وتساعات أفلوطين في مقال له نشر سنة ١٩٤١ في Semietische Studien uit de nalatenschap ذهب فيه إلى أن الغزالى استمد مادة هذا الفصل من الفصل الخامس من التساع الرابع، وهو الفصل الذى يعالج فيه أفلوطين موضوع الإبصار. وقد نشر الدكتور عبد الرحمن بدوى في كتابه "أفلوطين عند العرب: ص ١٨٩ - ١٩٢" شذرات من ترجمة عربية قديمة لهذا الفصل منسوبة إلى الشيخ اليونانى (أفلوطين) وقال إن هذا يدل على أن الفصل قد ترجم إلى اللغة العربية وأن في الإمكان اطلاع الغزالى عليه.
ولكن فصل أفلوطين يعالج نظريته في الرؤية البصرية وكيفية انتقال الصورة المرئية إلى العين، ويناقش فكرة الوسيط الذى تنتقل الصورة بواسطته، ولا صلة لهذا كله بمسائل الفصل الأول من المشكاة.
أما الدكتور عبد الرحمن بدوى فيرى أن المصدر الذى يمكن أن يكون الغزالى قد تأثر به هو الفصل الخامس من التساع الخامس لأفلوطين؛ وأن هذا الفصل قد ورد ملخصًا في "رسالة العلم الإلهى" المنسوبة إلى الفارابى وهى في نظره مقتطفات من هذا التساع.
وقد نشر الدكتور بدوى رسالة الفارابى المزعومة في كتابه "أفلوطين عند العرب". وبالرجوع إليها لم أجد ما يدل على انتفاع الغزالى بها في رسالة المشكاة فيما عدا فقرة قصيرة تشير إلى أن فعل الفاعل الأول هو العقل، وأن العقل ضوء سائح من ذلك الجوهر كما يسيح ضوء الشمس على الأشياء من الشمس. على العكس وجدت أن برسالة العلم الإلهى ما يتعارض تعارضًا صريحًا مع آراء الغزالى، لأنها تنزع نزعة واضحة نحو مذهب الفيوضات الذى قال به أفلوطين، والغزالى ينكر نظرية الفيوضات في كتاب "تهافت الفلاسفة" ويصف القائلين بها بالخبل العقلى. وقد بينت كيف يصور الغزالى الصلة بين نور الأنوار (الله) و"المطاع"، ثم بين "المطاع" وسائر الموجودات، وأوضحت أن هذه الأخيرة صلة خلق لا صلة فيض بالمعنى الأفلوطينى. نعم يستعمل الغزالى كلمات النور والانبثاق والفيض ونحوها في تصوير عملية الخلق، ولكن الأنوار التى ترقي في جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول أنوار مستعارة من هذا النور الأول ولا حقيقة لها في ذاتها في حين أن الفيوضات الأفلوطينية موجودات حقيقية لكل منها وجوده الخاص. ولا يقول أفلوطين إنها على الحقيقة هى الواحد الأول.
وأى مبرر يحملنا على القول بأن الغزالى قد تأثر في لغته الفلسفية في المشكاة برسالة "العلم الإلهى" المنسوبة إلى
1 / 16