توحيد العوام وهو القول بلا إله إلا الله، وتوحيد الخواص وهو لا إله إلا هو، و"هو" - كما قلنا - هو كل ما يشار إليه. وتوحيد الخواص عنده "أتم وأخص وأشمل وأحق وأدق وأدخل بصاحبه في الفردانية المحضة والوحدانية الصرفة. ومنتهى معراج الخلائق مملكة الفردانية".
ولم نجد في كتب الغزالى الأخرى - فيما نذكر - مثل هذا التصريح بالوحدة الوجودية؛ وكل ما قاله في الإحياء "ليس في الوجود إلا الله وآثاره والكون كله من آثاره" وفي ذلك اعتراف منه بوجود الكون إلى جانب وجود الله، وفيه إغلاق للباب في وجه وحدة الوجود. فهل نرى في "المشكاة" تحولًا في موقف الغزالى من الحقيقة الوجودية، وميلًا واضحًا نحو نزعة الصوفية القائلين بوحدة الوجود؟ إننا إذا أخذنا بمثال ضوء القمر والمرايا التى ينعكس عليها ضوؤه، قد نسلم له بأن الأنوار المنعكسة على المرايا لا وجود ولا حقيقة لها في ذاتها، مع أنها موجودة ونراها رؤيا العين، وإنما هى في الحقيقة انعكاسات للنور الأول الذى هو نور القمر. ولكن ما قوله في المرايا نفسها، وأي شىء يقابلها في تمثيله؟ هل يفكر الغزالى في شىء أشبه بالهيولى الأولى التى قال بها الفلاسفة لكى تنعكس عليها الأنوار الإلهية؟ ولكن الغزالى ينكر كل الإنكار وجود مادة قديمة للعالم ويقرر أن العالم مخلوق حادث من عدم.
والظاهر لى أن الغزالى باستعماله هذا التمثيل (تمثيل ضوء القمر والأنوار المنعكسة منه) يعقّد مشكلة صدور العالم عن الله ولا يحلها على أساس عقلى، فهل أسعفته التجربة الصوفية في حلها؟ إنه يذكر العارفين الذين لا يرون في الوجود إلا الواحد الحق لأنهم يشعرون في حال وجدهم أو فنائهم بوحدة شاملة لا يشهدون فيها إلا الله، ولا يكون في تجربتهم متسع لذكر غير الله ولا لذكر أنفسهم؛ ولذلك يصيح بعضهم بقوله "أنا الحق" كما فعل الحلاج، ويصيح الآخر بقوله "سبحانى ما أعظم شانى! ". ولكن هذه "وحدة شهود" لا وحدة وجود. والشعور بوحدة الشهود حال عارضة سرعان ما تزول عند ما يرد الصوفي إلى سلطان العقل ويعرف "أن
1 / 15