العدم المحض. وهذا هو شأن العالم أو كل ما يطلق عليه اسم "ما سوى الله". فهو في ذاته عدم محض، والوجود الحق هو الله تعالى كما أنه هو النور الحق. وليس هذا الكلام ضربًا من المجاز في التعبير في نظر الغزالى، بل هو الحق الصريح؛ كما أنه ليس نتيجة لمقدمات نظرية وضعها العقل، بل هو حقيقة يشاهدها العارفون مشاهدة عيانية عندما يرقون في معراجها الروحي "من حضيض المجاز إلى يفاع الحقيقة" فيدركون ذوقًا معنى قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ لا بمعنى أن كل شىء سوى الله يصير هالكًا في وقت من الأوقات، بل بمعنى أن كل شىء سوى الله هالك أزلًا وأبدًا ولا يتصور إلا كذلك. أما الموجود فهو وجه الحق وحده؛ والله تعالى هو المتفرد بالملك أزلًا وأبدًا، في هذه الدنيا وفي الآخرة. وليس نداء الله في المخلوقات يوم القيامة بقوله ﴿لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار﴾ قاصرًا على يوم القيامة، بل إنه لا يفارق سمع المخلوقات أبدًا في هذه الدنيا.
وهكذا وصل الغزالى في نهاية تفكيره إلى نظرية أشبه ما تكون بنظرية وحدة الوجود؛ ومن العسير صرفها عن هذا المعنى إلا إذا اعتبرت أقواله من قبيل الشطح الصوفي، ولم يؤثر عن الغزالى أنه كان من أصحاب الشطحات. فهو يقرب قربًا عجيبًا من أصحاب وحدة الوجود حينما يقول "إن العالم بأسره مشحون بالأنوار.. ثم ترقي جملتها إلى نور الأنوار ومعدنها ومنبعها الأول؛ وأن ذلك هو الله تعالى وحده لا شريك له، وأن سائر الأنوار مستعارة، وإنما الحقيقى نوره فقط، وأن الكل نوره، بل هو الكل؛ بل لا هوية لغيره إلا بالمجاز.. بل كما أنه لا إله إلا هو، فلا هو إلا هو، لأن "هو" عبارة عما إليه إشارة كيفما كان، ولا إشارة إلا إليه". إنه لا يقول صراحة إن الحق هو الخلق وإنهما وجهان لحقيقة واحدة لا فرق بينهما إلا بالاعتبار كما قال ابن عربى من بعده، ولكنه يقول لا موجود على الحقيقة إلا الله، وإن العالم لا وجود له إلا من حيث انعكاس وجود الحق فيه كانعكاس ضوء القمر على صفحة المرايا المتعددة. وهذه في نظره حقيقة يقرها العقل ويؤيدها الكشف الصوفي. وهو يفرّق في نهاية المطاف بين
1 / 14