الأنوار التى لا تسمى أنوارًا إلا على طريق المجاز. فكأن الغزالى بدأ بقضية اعتبرها بديهية أو مسلمة، وهى أن للعالم أصلاَ مغايرًا له وأن هذا الأصل هو النور الحقيقي أو النور بالذات، ثم اتخذ خطوات تدريجية لا لإثبات وجود ذلك النور بل لتقرير وجوده.
والنور بالمعنى العامى هو ما يُبْصَر بنفسه ويبصر به غيره كنور الشمس والقمر والسراج والنار المشتعلة. ولكن لما كان هذا النور لا يُبصَر ولا يُدرَك إلا إذا وجدت عَيْن تبصره، اعتُبِر الروح الباصر ركنًا في إدراكه وكان أولى بأن يطلق عليه اسم النور من النور الظاهر.
هذه أول خطوة خطاها الغزالى في الترقى في معنى النور وفي تجريده، إذ انتقل من النور الظاهر المحسوس إلى نور آخر غير ظاهر وغير محسوس: وهذا النور الآخر هو النور في عرف الخاصة.
ثم نظر الغزالى في "نور العين" فإذا به موسوم بأنواع كثيرة من النقصان: فهو يبصر غيره ولا يبصر نفسه، وهو لا يبصر من الأشياء إلا ظاهرها، ولا يبصر الأشياء المفرطة في القرب والبعد، ولا يبصر إلا المتناهى؛ ويرى الصغير كبيرًا والكبير صغيرًا، والساكن متحركًا والمتحرك ساكنًا وهكذا.
ولكن في الإنسان "عينًا" ليس فيها شىء من هذه النقائص وهى "العقل" أو الروح أو النفس الإنسانية: لذلك كانت أولى باسم النور من العين الباصرة. هذه هى الخطوة الثانية التى خطاها الغزالى في تجريد النور حيث وصل إلى نور عقلى به يبصر الإنسان نفسه وغيره، ويدرك المتناهى واللامتناهى، والأشياء المفرطة في البعد والقرب، ويدرك ما وراء الحجب، وينفذ إلى بواطن الأمور وأسرارها وحقائقها، والعالم أعلاه وأسفله؛ بل يدرك الخالق جل شأنه ويدرك نسبته إليه.
إلا أن العقل على الرغم من كل هذه الكمالات التى من أجلها استحق اسم النور أكثر مما استحقه نور البصر لا يدرك مدركاته على درجة واحدة؛ فمن الأشياء ما يدركه إدراكًا مباشرًا في جلاء ووضوح، وبعضها مالا يدركه إلا إذا نُبّه إليه من مصدر حَكيم. والقرآن أعظم منبه للعقل لأنه أعظم حكمة.
1 / 12