تحجرت عيناه على المقص وهو يقول: أنت مجنون بلا شك.
وتوثب كلانا سواء للهجوم أو للدفاع، ومضى يقول: لست بولي أمرها! - ليس من أجل زهرة .. ليس من أجل زهرة فقط. - إذن لماذا؟ - لا حياة لي إلا بقتلك! - ولكنك ستقتل أيضا، أنسيت؟
فاجتاحني شعور المهاجر الذي ودع المدينة بكافة همومها، وثملت به. وإذا به يسألني: كيف عرفت مكاني؟ - سمعتك في البنسيون وأنت تتكلم في التليفون. - وعزمت عند ذاك على قتلي؟ - أجل. - ألم تعزم على ذلك من قبل؟
ذهلت، لم أجب، ولكني لم أتراجع. - إنك في الواقع لا تريد قتلي. - بل أريده، وسأقتلك! - هبك لم ترني ولم تسمعني في تلك اللحظة. - ولكني رأيتك وسمعتك .. وسأقتلك. - ولكن لماذا؟
ذهلت مرة أخرى، ولكن تأكدت نيتي على القتل ورسخت إلى الأبد. وصحت به: لذلك أقتلك، خذ .. خذ. •••
ترامت إلي ضحكة سرحان وهو يحادث طلبة مرزوق. وأكثر من مرة غادر مكانه ثم رجع إليه.
لعنت طلبة مرزوق وقلت إن مجيئه قد أفسد كل شيء. غير أنه قام بعد مضي ساعة أو نحوها فصافح سرحان مودعا وذهب. بقي سرحان وحده فتلهفت على اللحظة التي يمحي فيها العذاب. وواصل الشراب ولكنه لم يتلفت كثيرا نحو مدخل المكان. ووضح في لفتاته التوتر والقلق. أينتظر شخصا آخر؟ هل يجيء الآخر فيضيع الفرصة إلى الأبد؟
ودعاه الجرسون إلى التليفون فمضى مسرعا ملهوفا. غاب بعض الوقت ثم رجع إلى مجلسه واجما متجهما. رجع في الحقيقة متهدما. ماذا حدث؟ لم يجلس، دفع حسابه ثم غادر المكان. راقبته من الزجاج الفاصل بين البهو والداخل فرأيته متجها نحو البار، ربما لمزيد من الشراب. تربصت به حتى فارق مكانه ماضيا نحو الباب الخارجي، فغادرت مجلسي في هدوء وتمهل. ولدى خروجي كان قد عبر الطريق. أحكمت المعطف حولي اتقاء لهواء خفيف ولكن لاسع كالسياط. الطريق خال تماما، وأضواء المصابيح متلفعة بهالات من الضباب، وهسيس النبات على الجانبين يخرق الصمت الشامل. سرت حذرا، أكاد ألاصق الجدران، ولكنه بدا غائبا في أفكاره ذاهلا عما حوله منهمكا بكليته في عالم وحده، حتى إنه نسي المعطف مطروحا على ذراعه. ماذا حصل؟ لقد ظل طيلة الوقت يتحدث ويضحك، فماذا قلبه؟ أما أنا فقد تركزت في فكرة واحدة كأنما هي وجه الخلاص الوحيد لي. وإذا به يميل إلى الطريق الزراعي الموصل للبالما. طريق خال ومظلم، مهجور تماما في تلك الساعة، ماذا يروم منه؟ وأي قضاء يتصرف كأنما ليسلم عنقه بين يدي؟! أسرعت قليلا حتى لا أضله وأنا ألامس سياج الحدائق، وقد غرقنا معا في الظلام. وجعلت أتوثب وأنا أتابع شبحه، ولكنه توقف فجأة فوقفت عن التقدم وأنا أرتعد. سيقع شيء ما. ربما جاء شخص غريب، علي أن أنتظر. وإذا بصوت يند عنه كلمة .. إشارة صوتية. قيء! وتحرك ببطء مسافة قصيرة ثم سقط على الأرض. سكران مخمور. لقد شرب فوق طاقته وها هو يفقد الوعي. وانتظرت وأنا أرهف السمع ولكن لم يقع شيء. اقتربت منه حتى كدت أعثر به. انحنيت فوقه، أردت أن أناديه ولكن صوتي انحبس. لمست جسمه ووجهه فلم يستجب، غرق تماما في غيبوبة الخمر، وسوف يفارق العالم بلا ألم أو خوف، كما يتمنى عامر وجدي العجوز. هززته برفق فلم ينتبه، هززته بشيء من الشدة فلم ينتبه أيضا، حركته بعنف فلم تبدر منه بادرة أمل في إفاقة. انتصبت قامتي في حنق. دسست يدي لأستخرج المقص ولكني لم أجد له أثرا. فتشت عنه في جميع مظانه عبثا. أسهي علي أن آخذه! كنت مضطربا، متأزما، يائسا، ثم جاءت المدام لتستطلع رأيي في سهرة رأس السنة. أجل، لقد غادرت الحجرة دون أن أحقق الغرض الوحيد من رجوعي إليها. تضاعف غضبي على نفسي، تضاعف غضبي على السكران المنعم بغيبوبة لا يستحقها. ركلته في جنبه. ركلته مرة أخرى بقوة أشد. ركلته الثالثة بعنف. وجن جنوني فانهلت عليه بطرف الحذاء في شتى أطرافه حتى أفرخت غضبي وهياجي. تراجعت إلى السياج وأنا أترنح من الإعياء مرددا: «لقد قضيت عليه.» كنت أتنفس بصعوبة وأشعر بتقزز، وسيطر علي إحساس مضن بأنني مجنون يمارس حركات جنونية عنيفة في الظلام، وتذكرت درية. تذكرتها وهي تنظر في أعماق عيني، وهي تضيع في زحمة الطريق.
ورجعت إلى البنسيون مشيا على الأقدام. تخيلت زهرة وهي تغط في نوم مرهق ثقيل خانق.
وتناولت حبة منومة ثم استلقيت على الفراش. •••
Page inconnue