الطبقة الثانية: من كان قسطه من جميع هذه القوى أو من أكثرها متوسطا أو غير بعيد من التوسط.
الطبقة الثالثة: من كانت أقساطه مما حصل له من هذه القوى مع قلتها غير عامة في جميعها.
فالطبقة الأولى هم الذين يقوون على تصور كليات المقولات ومقاصدها ومعانيها بالقوة قبل حصولها بالفعل. فيتأتى لهم بذلك تمكن القوافي وحسن صور القصائد وجودة بناء بعضها على بعض.
والطبقة الثانية تتصور كثيرا من ذلك وإن لم تبلغ في ذلك مبلغ الطبقة الأولى، فيتأتى لها بذلك كثير مما تأتى للأولى.
والطبقة الثالثة لا تتصور إلا القليل من ذلك كأوائل القصائد وصدورها وما يكون من مقاصد الشعر بمحل عناية من أنفسها، فقد يتفق لهذه الطبقة أيضًا أن تبني الكلام والقوافي بناء حسنا.
٢- والمرتبة الثانية: من له أدنى تخيل في المعاني وبعض دربة في إيراد عباراتها متزنة، وإن لم يكن له في القوى الباقية إلا ما يعتد به، فنظم هذا منحط عن نظم من استكمل ما نقصه ومرتفع عن كلام من لا تخيل له في المعاني ولا دربة بالتأليف.
٣- إضاءة: والمرتبة الثالثة وهم الذين لا ينتسبون إلى هذه الصناعة بغير الدعوى: فمنهم طائفة لا تنتقص ولكن تتلصص ولا تتخيل بل تتحيل بالإغارة على المعاني من تقدمها وإبرازها في عبارات أخر، والنمط الثاني لا يتخيل ولا يتحل ولكن يغير ويغير، والنمط الثالث وهم شر العالم نفوسا وأسقطهم همما وهم النقلة للألفاظ والمعاني على صورها في الموضع المنزل منه من غير أن يغيروا في ذلك ما يعتد به.
ب- معرف دال على طرق المعرفة بكيفيات مآخذ الشعراء في نظم الكلام وإنشاء مبانيه وما يقدمونه بين يدي ذلك من تصور أغراض القصائد والمقاصد اللائقة بتلك الأغراض وتصور المعاني المنتسبة إلى تلك المقاصد والمنتمية إليها وتصور العبارات اللائقة بجميع ذلك وإعمال الحيل في تقفيتها ووزنها والإعلام بما يتسببون به إلى إدراك البغية في جميع ذلك.
يجب للشاعر إذا أراد نظم شعر - وكان الزمان له منفسحا والحال مساعدة - أن يأخذ نفسه بوصية أبي تمام الطائي لأبي عبادة البحتري في ذلك ويأتم به. فإنها تضمنت جملا مفيدة بما يحتاج إلى معرفته والعمل بحسبه صاحب هذه الصناعة.
قال أبو عبادة الوليد بن عبيد البحتري: (كنت في حداثتي أروم الشعر. وكنت أرجع فيه إلى طبع. ولم أكن أقف على تسهيل مأخذه ووجوه اقتضابه حتى قصدت أبا تمام وانقطعت فيه إليه واتكلت في تعريفه عليه. فكان أول ما قال لي: (يا أبا عبادة تخير الأوقات وأنت قليل الهموم صفر من الغموم، واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر، وذلك أن النفس قد أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم. فإن أردت النسيب فاجعل اللفظ رقيقا والمعنى رشيقا وأكثر فيه من بنات الصبابة وتوجع الكآبة وقلق الأشواق ولوعة الفراق. وإذا أخذت في مدح سيد ذي أياد فأشهر مناقبه وأظهر مناسبه وأبن معالمه وشرف مقامه وتقاص المعاني واحذر المجهول منها وإياك أن تشين شعرك بالألفاظ الزرية، وكن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام. وإذا عارضك الضجر فأرح نفسك ولا تعمل إلا وأنت فارغ القلب واجعل شهوتك لقول الشعر الذريعة إلى حسن نظمه فإن الشهوة نعم المعين. وجملة الحال أن تعتبر شعرك بما سلف من شعر الماضين. فما استحسنه العلماء فاقصده وما تركوه فاجتنبه ترشد إن شاء الله) .
فقد تضمنت هذه الوصية جملا مما يحتاج إليه في هذا الباب.
١- إضاءة: وأنا أصل وصية أبي تمام بما يكون تفصيلا لبعض ما أجمل فيها، وتكميلا لما نقص منها. فأقول: إن الناظم إذا اعتمد ما أمره به أبو تمام من اختيار الوقت المساعد وإجمام الخاطر والتعرض للبواعث على قول الشعر والميل مع الخاطر كيف مال فحقيق عليه إذا قصد الروية أن يحضر مقصده في خياله وذهنه والمعاني التي هي عمدة له بالنسبة إلى غرضه ومقصده ويتخيلها تتبعا بالفكر في عبارات بدد، ثم يلحظ ما وقع في جميع تلك العبارات أو أكثرها طرفا أم مهيئا لأن يصير طرفا من الكلم المتماثلة المقاطع الصالحة لن تقع في بناء قافية واحدة. ثم يضع الوزن والروي بحسبها لتكون قوافيه متمكنة تابعة للمعاني لا متبوعة لها.
1 / 64