فيجب أن يتحفظ في الكلام المقصود به البيان نحو وقوع تلك الحروف التي يسبق الوهم إلى أنها مستندة إلى غير الحيز الذي استندت إليه، فإن الذي مستهلك للمعاني وحاجب للأفكار عن حقائق المقصود بالكلام.
١٤- تنوير: ومن ذلل الإخلال بوضع الكلام وإزالة ألفاظه عن مراتبها حتى يصير المتأخر متقدما والمتقدم متأخرا فتتداخل الألفاظ بعضها على بعض فتشكل العبارة ولا يتحقق نظامها قبل التقديم والتأخير ولا يعلم كيف كان. وهذا المذهب رديء جدا في الكلام.
وكان همام بن غالب الفرزدق يكثر من هذا النوع -كأنه كان يقصده - ومنه قوله: (الطويل -ق- المتدارك)
وما مثله في الناس إلا مملكا ... أبو أمه حي أبوه يقاربه
يريد وما مثله فيا لناس حي يقاربه إلا مملكا أبو أمه أبوه، ويعني بالمملك هاشما والممدوح خاله فأبوه أبو أمه، فقد أساء العبارة عما أراد.
١٥- إضاءة: وإذ قد ذكرنا جملة مما يوقع فيا لمعاني إغماضا من جهاتها أنفسها ومن جهات العبارات، وأتبعت ذكر بعض تلك الوجوه بذكر ما يميط بعض القبح الواقع بها في الكلام، فحقيق أن نصرف عنان القول عما نحن بسبيله من القول في هذا المعلم إلى غير ذلك مما يتعلق بالمعاني، إذ قد تبين أن ما قصد به البيان من القول فواجب أن تجتنب فيه تلك الوجوه المذكورة، وما قصد به الكناية أو الإلغاز والتعمية فهي لائقة به وصالحة له، فليوقع منها في كل نوع من الكنايات وفي كل ضرب من ضروب الإلغاز والتعمية ما يليق ويكون فقيه أكثر غناء من غيره.
يب- معرف دال على طرق المعرفة بأنحاء النظر في المعاني من حيث يكون فهمها متوقفا على أمر من صناعة أو غيرها أو تكون غير متوقفة على شيء من ذلك.
إن معاني منها ما يحتاج في فهمه إلى مقدمة من معرفة صناعة أو حفظ قصة. فالتي لا يحتاج في فهمها إلى مقدمة هي المعاني الجمهورية التي يشترك في فهمها الخاص والعام، وعليها مدار معظم المعاني الواقعة في الأغراض المألوفة من الشعر، وهي مستحسنة فيه.
١- إضاءة: والمعاني التي يحتاج في فهمها إلى مقدمة ضربان: ضرب يتوقف فهمه على المعرفة بصناعة ما لكون المعنى من تلك الصناعة أو لكون العبارة الدالة عليه من عبارات أهل تلك الصناعة وضرب يتوقف فهمه على حفظ قصة ما لكون المعنى متعلقا بتلك القصة.
٢- تنوير: فالمعاني التي يتوقف فهمها على المعرفة بصناعة ما لا يحسن إيرادها في الشعر إذا وجد عنها مندوحة، ولا يحسن فيه أيضًا أن تؤخذ ألفاظ قد نقلت إلى علم ما فتجعل العبارة بها صالحة لما تدل عليه في ذلك العلم والمتكلم لا يريد إلا المعنى الذي تدل عليه في أصل اللغة وإنما فقصد الإلغاز عن مراده. فهذا لا يحسن فيا لمقاصد التصريحية.
٣- إضاءة: وأما ما يتوقف فهمه على قصد فلا يخلو أن تكون تلط القصة مشهورة أو غير مشهورة، فإن كانت القصة مشهورة فذلك حسن، وإن لك تكن مشهورة فإن ذلك لا يستحسن.
٤- تنوير: فأما المعاني أو العبارات المتعلقة بصنائع أهلا لمهن فينبغي ألا يستعمل شيء منها لأن استعمالها فيا لشعر أشد قبحا من استعمال الألفاظ الساقطة المبتذلة.
فأما المعاني الخارجة عن صنائع أهل المهن وعما يحتاج في فهمه إلى مقدمة فهي التي يجب أن يكثر من استعمالها، فإن منزلها من المعاني منزلة الألفاظ المستعملة المفهومة التي ليست بعامية ساقطة، ولا متوعرة وحشية. وأما المعاني التي يتوقف فهمها على القصص الشهيرة عند الأدباء ومن جرى مجراهم ممن طالع التواريخ والأخبار فمنزلتها من المعاني منزلة استعمال الألفاظ التي ارتفعت عما يفهمه جميع العامة وكان علمها مقصورا على الخاصة. فأما المعاني التي يتوقف فهمها على المعرفة بعلم أو صناعة فمنزلتها من المعاني منزلة استعمال اللفظ الحوشي الذي لا يفهمه إلا الأقل من خاصة الأدباء، وكذلك الإحالة على ما لم يشتهر من الأخبار.
1 / 60