١- إضاءة: فمما يرجع إلى المعنى من ذلك: أن يكون المعنى في نفسه دقيقا لطيفا يحتاج على تأمل وفهم، ومنها أن يكون المعنى قد أخل ببعض أجزائه ولم تستوف أقسامه، ومن ذلك أن يكون المعنى مرتبا على معنى آخر لا يمكن فهمه وتصوره إلا به، ومنه أن يكون المعنى منحرفا بالكلام وغرضه عن مقصده الواضح معدولا إليه عما هو أحق بالمحل منه.
٢- تنوير: فأما الوجه الأول وهو أن يكون المعنى في نفسه دقيقا لطيفا يحتاج إلى تأمل وتفهم فيجب في ما كان بهذه الصفة أن يجهد في تسهيل العبارة المؤدية عن المعنى وبسطها حتى يقابل خفاؤه بوضوحها وغموضه ببيانها حتى تبلغ الغاية المستطاعة في ذلك. فإذا اجتهد الشاعر في توفية العبارة حقها من البيان وقصد بها الإيضاح غاية ما يستطيع فقد أزال عن نفسه اللوم في ذلك ونفى عنها التقصير، ووجب عذره في خفاء المعنى إذ لا يمكن أن يصيره في نفسه جليا.
٣- إضاءة: ويجب أيضًا على الشاعر فيما لم يمكنه أن يبين عنه حق الإبانة أن يقرن ذلك المعنى بما يناسبه ويقرب منه من المعاني الجلية ليكون في ذلك دليل على ما انبهم من ذلك المعنى، إذ قد يستدل على المعنى بما يجاوره من المعاني وينبه بعضها على بعض.
٤- تنوير: وأما الوجه الثاني وهو الإخلال ببعض أركان المعنى وترك الاستيفاء لها فهذا يقع للشاعر بأن يذهل عن بعض أركان المعنى أو يجهله، أو بأن يتركه من غير ذهول منه لكن لاضطرار الشعر له بانضمامه على القافية أو لان الوزن غير مساعد له. فإذا طرأ في هذا المعنى غموض من الوجه فهو مما يرجع إلى العبارة. ويخلص من ذلك تسريح عنان الكلام يسيرا. فإن ضاق المجال عن استيفاء أجزاء المعنى في بيت واحد فليكن ذلك في بيت وبعض بيت آخر أو في بيتين، فقد يمكنه استقصاء ما أراده بهذه الطريقة. فإن تعذر عليه الاستقصاء بالجملة فليسقط ذلك المعنى، فإن نقصه نقص في حقه. ولا يزال ذو المعرفة بتصاريف الكلام والدربة بتأليف النظام يضع اللفظة موضع اللفظة ويبدل صيغة مكان صيغة حتى يتأتى له مراده وينال من كمال المعنى بغيته.
٥- إضاءة: وأما الوجه الثالث وهو أن يكون المعنى مرتبا على معنى آخر لا يمكن فهمه إلا به فقد يكون المعنى المبني عليه داخل الكلام وخارجه. ويجب أن يقصد - فيما يبني المعنى عليه مما هو خارج الكلام- الشهرة وأن يحسن الدلالة على ذلك من العبارة وأل يحال بين المعنى وما يبنى عليه مما هو موجود في الكلام بما هو أجنبي عنهما، وأن يحسن مساق الكلام في ذلك حتى يعلم أن أحدهما بسبب من الآخر.
٦- تنوير: وأما الوجه الرابع: وهو أن يكون المعنى متحرفا بغرض الكلام عن مقصده الواضح معدولا إليه عما هو أحق بالمحل منه حتى يوهم المعنى أن المقصود به ضد ما يدل عليه اللفظ المعبر به عنه. وأكثر الناس يجعلون هذا النوع من الكلام مقلوبا. وبعض الناس يتأول ما ورد من ذلك تأويلا فيه سلامة من القلب، ويرى أن ذلك وإن بعد التأويل أولى من حم الكلام على القلب، إذ العبارة إنما تدل على المعنى بوضع مخصوص وترتيب مخصوص، فإن بدل ذلك الوضع والترتيب زالت تلك الدلالة. وهذا موضع يجب أن يوقف به عند السماع وإلا يقاس عليه لأنه إن كان الكلام مقلوبا، وكانت العبارة مقصودا بها غير ما تدل عليه بوضعها، وسوغ هذا عند حامل الكلام على هذا المذهب أن المقصد من الكلام واضح، وإن كانت العبارة غير دالة عليه، فقد ذهب بالكلام مذهب فاسد وكان ذلك خطأ في العبارة. وفي سعة الكلام مندوحة عن المذاهب الفاسدة. وإن كان الكلام غير مقلوب، ولكنه قصد به معنى آخر غير المعنى الذي يريد به من يجعل الكلام مقلوبا، فذلك أيضًا قبيح لأنه وضع المعنى البعيد الذي لم يؤلف موضع المعنى القريب المألوف، فلا يجب أيضًا سلوك هذا المذهب. فكلا التأويلين في هذا الباب خارج بالكلام عن المهيع الذي يكون للمعنى فيه موقع من النفس ومكانة مكينة من الفهم. فالواجب في فصيح الكلام أن يكون خاليا منه.
1 / 57