لما كانت الموصوفات والأوصاف وجهات انتساب بعضها إلى بعض وجهات تعلق الأغراض بها من ذوي الأغراض لا تحصى كثرة وجب أن تكون المعاني التي هي مركبة من تلك الأوصاف على حسب الأغراض أجدر بأن لا يستطاع إحصاؤها، ولكن يمكن أن ينبه على الطرق التي بها تتطرق الخواطر إليها وتتهدى منها إلى تأليفها.
فأقول: إن الأصل الذي به يتوصل إلى استثارة المعاني واستنباط تركيباتها هو التملؤ من العلم بأوصاف الأشياء وما يتعلق بها من أوصاف غيرها، والتنبه للهيئات التي يكون عليها التآم تلك الأوصاف وموصوفاتها ونسب بعضها إلى بعض أحسن موقعا من النفوس، والتفطن إلى ما يليق بها من ذلك بحسب موضع موضع وغرض غرض.
١- إضاءة: ولاقتباس المعاني واستثارتها طريقان: أحدهما تقتبس منه لمجرد الخيال وبحث الفكر، والثاني تقتبس منه بسبب زائد على الخيال والفكر.
فالأول يكون بالقوة الشاعرة بأنحاء اقتباس المعاني وملاحظة الوجوه التي منها تلتئم، ويحصل لها ذلك بقوة التخيل والملاحظة لنسب بعض الأشياء من بعض ولما يمتاز به بعضها من بعض ويشارك به بعضها بعضا. ولكون خيالات ما في الحس منتظمة في الفكر على حسب ما هي عليه، لا يتباين فيه ما تشابه في الحس ولا يتشابه فيه ما تباين في الحس. فإذا كانت صور الأشياء قد ارتسمت في الخيال على حسب ما وقعت عليه في الوجود وكانت للنفس قوة على معرفة ما تماثل منها وما تناسب وما تخالف وما تضاد، وبالجملة ما انتسب منها إلى الآخر نسبة ذاتية أو عرضية ثابتة أو منتقلة أمكنها أن تركب من انتساب بعضها إلى بعض تركيبات على حد القضايا الواقعة في الوجود التي تقدم بها الحس والمشاهدة، وبالجملة الإدراك من أي طريق كان أو التي لم تقع لكن النفس تتصور وقوعها لكون انتساب بعض أجزاء المعنى المؤلف على هذا الحد إلى بعض مقبولا في العقل ممكنا عنده وجوده، وأن تنشئ على ذلك صورا شتى من ضروب المعاني في ضروب الأغراض.
٢- تنوير: والطريق الثاني الذي اقتباس المعاني منه بسبب زائد على الخيال هو ما استند فيه بحث الفكر إلى كلام جرى في نظم أو نثر أو تاريخ أو حديث أو مثل. فيبحث الخاطر فيما يستند إليه من ذلك على الظفر بما يسوغ له معه إيراد ذلك الكلام أو بعضه بنوع من التصرف والتغيير أو التضمين فيحيل على ذلك أو يضمنه أو يدمج الإشارة إليه أو يورد معناه في عبارة أخرى على جهة قلب أو نقل إلى مكان أحق به من المكان الذي هو فيه، أو ليزيد فيه فائدة فيتممه أو يتمم به أو يحسن العبارة خاصة أو يصير المنثور منظوما أو المنظوم منثورا خاصة. فأما من لا يقصد في ذلك إلا الارتفاق بالمعنى خاصة، من غير تأثير من هذه التأثيرات، فإنه البكي الطبع في هذه الصناعة الحقيق بالإقلاع عنها وإراحة خاطره مما لا يجدي عليه غير المذمة والتعب.
٣- إضاءة: وبحثه في ما استند إليه من تاريخ، على أن يناسب بين بعض مقاصد كلامه ويينه، فيحاكيه به أو يحيل به عليه أو يستشهد في ذلك على الحديث بالقديم، ويتصرف فيه بالجملة نحوا من التصاريف التي قدمنا ذكرها.
٤- تنوير: وبحثه فيما استند إليه من حكمة أو مثل على أن يردف معاني كلامه بها مضمنا لها بالجملة أو مشيرا إليها على جهة استدلال أو تعليل أو نحو ذلك. وقد يتصرف المثل بإبرازه في عبارة جديدة لا تشبه عبارته الأولى. وقد تختصر العبارات عن الأمثال فيورد منها في البيت الواحد المثلان والثلاثة. وقد يتمثل بالمثل على غير ما تمثل به الأول. فربما حسن موقعه من الكلام الثاني أكثر من حسنه في الكلام الأول. فإن كان موقعه في الكلام الأول أحسن عد مورده في الكلام الثاني مسيئا مقصرا. وقد يتصرف في الأمثال والتواريخ والمنظوم والنثور أنحاء من التصرف غير هذه. وإنما ذكرت من ذلك ما تيسر.
ومعرف دال على طرق المعرفة بما توجد المعاني معه حاضرة منتظمة في الذهن على ما يجب أن يكون من بعض عائد إلى بعض، وما به يكون كمال التصرف فيها وفي سائر أركان هذه الصناعة على المذهب المختار.
لما كان الشعر لا يتأتى نظمه على أكمل ما يمكن فيه إلا بحصول ثلاثة أشياء، وهي: المهيئات والأدوات والبواعث، وكانت هذه المهيئات تحصل من جهتين: ١- النشء في بقعة معتدلة الهواء، حسنة الوضع، طيبة المطاعم، أنيقة المناظر، ممتعة من كل ما للأغراض الإنسانية به علقه.
1 / 12