ترى إذن أن لا بد لفهم التاريخ العربي من فهم التواريخ التي التقت به، والعجيب في أمر حضارة هذه الأمة العربية أن تناسب أجزائها، وانتظام عناصرها في نسق محبوك مسبوك يرجع إلى وضوح الملامح، وبروز التقاسيم، فلا يصعب على الناظر تبين كل جزء وكل تفصيل. كتب أحد الأقدمين في صفة أهل الأندلس كتابة تطلعنا على تلك الخاصية من خصائص الحضارة العربية قال: (وقد روى كلامه الأستاذ محمد كرد علي في كتابه: الإسلام والحضارة العربية) «أهل الأندلس عرب في الأنساب، والعزة والأنفة، وعلو الهمم، وفصاحة الألسن، وطيب النفوس، وإباء الضيم، وقلة احتمال الذل، والسماحة بما في أيديهم، والنزاهة عن الخضوع وإتيان الدنية، وهنديون في إفراط عنايتهم بالعلوم، وحبهم فيها، وضبطهم لها ورواياتهم، وبغداديون في ثقافتهم، وظرفهم، ورقة أخلاقهم، ونباهتهم، وذكائهم، وحسن نظرهم، وجودة قرائحهم، ولطافة أذهانهم، وحدة أفكارهم، ونفوذ خواطرهم، يونانيون في استنباتهم للمياه، ومعاناتهم لضروب الغراسات، واختيارهم لأجناس الفواكه، وهم أصبر الناس على مطاولة التعب في تجويد الأعمال وتحسين الصنائع، وأحذق الناس بالفروسية، وأبصرهم بالطعن والضرب.»
وإذا سألنا: لم صفت عقول الفاتحين ذلك الصفاء الذي مكنها من تلقي ما تلقت من مختلف الثقافات على ذلك النحو الرائع الذي لم ير له التاريخ فيما نعرف نظيرا؟ وإذا سألنا: لم حافظوا على التراث الإنساني تلك المحافظة الباهرة؟ أجبنا بأن ذلك يرجع أولا لما فرضه عليهم دينهم نصا وروحا، لما رسمته أوامره ونواهيه، شريعة وأحكاما ومثلا، كما أنه يرجع ثانيا إلى ظروف الفتوح، وإلى ظروف الاستيطان في الأقاليم، فكانوا حقا أمة وسطا.
ومن الصور المشرفة في التاريخ العربي توسط مقوماته بين طرفي الإفراط والتفريط، فارتقاء الحسيات يقابله ارتقاء مماثل للمعنويات، والعناية بالزراعة وما يتصل بها من الغراسات، والتفنن في الاستنبات، والبراعة في جر المياه وصرفها، لا تقل عن العناية بالصناعات، والزراعة والصناعة شأنهما لا يقل عن شأن التجارة وما يتصل بها من تنظيم وطرائق إنهاء الحقوق والادخار والائتمان، والألفاظ المتصلة بهذا والتي دخلت اللغات الأجنبية تدل على ما كان للعرب من أصالة في هذه الشئون.
وإذا ما انتقلت من هذا إلى الحياة العقلية، ترى أن ما صرف من العناية في الأبحاث النظرية وازنه الانتباه إلى التطبيقات العملية، مثل ذلك يقال عن الحياة الروحية، فلا إسراف عموما في رعاية ما يوجبه حق الجماعة، وما يقتضيه حق الفرد.
هذا وإذا كان التاريخ العربي ملتقى التواريخ، فإن الحرية العربية حياة الأمة العربية اتصفت هي أيضا بصفة أساسية، هي التنوع في إطار الوحدة، وإلى هذه الصفة ترجع قوتها في الماضي، وهذه الصفة هي التي تفسر كيف أنه كلما ازداد عرب اليوم تقاربا، كلما كانت خصائصهم الإقليمية سببا من أسباب التكامل، وعاملا من عوامل تبادل المنافع.
وبعد؛ فما لب الأمة العربية، ما خلاصة تاريخها، ما جماع عقلها أو روحها؟ إن أردنا إجابة في كلمة واحدة قلنا: اللغة العربية، والعربية بصفة أساسية شأنها شأن التاريخ العربي، أنزل بها كتاب الله، وبنى الأوائل علومها على القواعد وبالأساليب التي أقاموا عليها وبها سائر المرافق والأدوات والرسائل، وقد نقل المرحوم الأستاذ/محمد كرد علي في كتابه الإسلام والحضارة العربية رأيا في العربية لعالم اللغات السامية «رنان» يصح الاستماع إليه، ولم يكن رنان هذا ممن يحبون العرب، قال: «من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره، انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ بدء، فبدت فجأة على غاية الكمال، سلسلة أية سلاسة، غنية أي غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا أدنى تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة مستحكمة، ولا أدري هل وقع مثل ذلك للغة من لغات الأرض قبل أن تدخل في أطوار أو أدوار مختلفة؟» وقال: أيضا: «ما عهدت قط فتوحا أعظم من الفتوح العربية، ولا أشد سرعة منها، فإن العربية - ولا جدال - قد عمت أجزاء كبرى من العالم، ولم ينازعها الشرف في كونها لغة عامة، أو لسان فكر ديني أو سياسي أسمى من اختلاف العناصر، إلا لغتان: اللاتينية واليونانية، وأين مجال هاتين اللغتين في السعة من الأقطار التي عم انتشار اللغة العربية فيها؟ وأضيف واليونانية واللاتينية ميتتان والعربية حية، لغة أحياء.»
وكلما أطال الإنسان التفكر كلما آمن بأن لغة العرب كانت أعظم ما خلق العرب، لماضيهم ولحاضرهم ولمستقبلهم.
العرب بين الأمم
ما مقام العرب بين الأمم ... ما أقدميتهم؟ ما أصالتهم؟ وماذا قدموا لأجيال الإنسانية؟ وبماذا ولماذا استحقوا أن يوصفوا بالأمة الوسط؟ والكلام عن مقام العرب بين الأمم يستدعي الحديث عن تطور المحيط العالمي، الذي أحاط بهم وبغيرهم، كما أنه يستدعي بيان مقام الجزيرة العربية مهد العروبة - في تاريخ الأمة الكبرى - أمة العرب في المشارق والمغارب.
وأقوم المسالك ألا نوغل في القدم إلى ما هو أبعد عن تمايز الألسنة، وعن اختصاص الشعوب شعبا شعبا بحصص من الأرض، فلنترك إذن ما سبق المسطور من البيان، ولنترك أمر ما كان وما لم يكن بين الساميات والحاميات إلى من يحسنونه من العلماء، وإلى من يحبون أن يخوضوا فيه دون أن يكونوا من أهله، ولنبدأ حيث تحضر الإنسان في أرض النيل وأرض الرافدين وما بينهما؛ حيث قامت الدول العامة الأولى، المصرية، البابلية، إلخ. - وهنا كان أحد أصلي الحضارة قاطبة - أي هذا الأصل المصري السوري العراقي، وكان الآخر الأصل الهندي الصيني، وفي ذلك الأصل المصري السوري العراقي مبدأ تواريخ الأمم، بما في ذلك مبدأ تاريخ العرب - ويصعب نعته بنعت واحد فإذا نعت بالشرقي - الوسيط أو الأدنى أو ما إلى ذلك، كان معنى ذلك أنه فرع على أصل يقع غربيا، وهذا لا يجوز، فهو الأصل وأوربا الفرع، كما أنه لا يجوز نسبته إلى آسيا أو إفريقيا أو إليهما معا، كما لا يجوز ربطه بالبحر المتوسط وحده، أو بالنيل وحده، وجمع هذه المعالم الجغرافية في جملة يعقد الوصف - فإذا شئنا نعتا جامعا مشتقا قلنا: إنه ملتقى الحضارات أو مهد الوحدانية.
Page inconnue