D'un point de vue philosophique
من زاوية فلسفية
Genres
ومعناها على الدقة هو انتقال الخصائص من حادثة ماضية إلى حادثة حاضرة، ثم توريث هذه الخصائص نفسها إلى حادثة مستقبلة، وبهذا يتكون الرباط الذي يصل حوادث الماضي والحاضر والمستقبل في خط واحد يظل ينمو ويزداد خصوبة على مر الزمن، لأن خصائص الماضي تظل تتراكم بالانتقال والتوريث من حادثة إلى حادثة. ولست أدري بماذا أسمي هذا كله في كلمة عربية واحدة تقابل الكلمة الإنجليزية، وأقترح مؤقتا كلمة «التشرب» فالحاضر يتشرب الماضي ثم يسقيه للمستقبل فيشربه وهلم جرا؛ لهذا ترى الخط السببي ممتدا متصلا في كل كائن، فهذه الشجرة وهذا النهر وأنا وأنت امتداد من حوادث ماضيها يسبب حاضرها، وحاضرها يرسم طريق السير لمستقبلها.
انظر إلى نفسك من داخل، لتنقل ما تراه في خبرتك إلى الطبيعة بأسرها؛ أفلا ترى نفسك نابضة بالشعور نبضا يصل أمسك بيومك، ثم يمد يومك إلى غدك؟ إن من مثل هذه الصلة تكونت فرديتك الواحدة رغم كثرة مقوماتها، وهكذا قل فيما يسميه وايتهد «بنبضات الطبيعة» - وهو اصطلاح آخر عنده - نبضات الطبيعة التي يراها متمثلة في سير الحوادث سيرا يكون مفردات الكائنات من جهة، ثم تجاوبها بعضها مع بعض من جهة أخرى، فنرى الكائن العضوي يستجيب لبيئته كما نراه حساسا يتلقى مؤثرات بيئته، وهي عمليات تدق فتصبح عند الإنسان إدراكا حسيا وإدراكا عقليا، والأساس واحد في الجميع.
وفي الطبيعة ما يملي مثل هذا الرأي؛ «فنبض الطبيعة» باد في انتقال الطاقة من حادثة إلى حادثة، فترى الإلكترون من كل ذرة يشع سيالا يؤثر به على ما جاوره، كما هو باد في انتقال الأثر الحسي على أطراف أعصابنا، خلال الخيوط العصبية، ثم يدور دورته منتقلا من جزء إلى الجزء الذي يجاوزه حتى ينتهي إلى فعل يؤديه الإنسان، ففاعلية الطاقة الطبيعة هي نفسها الانفعال الحي الذي يمارسه الإنسان في خبرة حياته، وفي هذا الانتقال - انتقال الأثر من ذرة إلى ذرة ومن حادثة إلى حادثة - مفتاح نظريته في أن كل شيء كائن عضوي، والطبيعة كلها كائن عضوي ، لا بالمعني البيولوجي لهذه الكلمة، لأن وايتهد لا يبني فلسفته الطبيعية على أساس البيولوجيا، بل إن علم الطبيعة وعلم البيولوجيا معا يتساويان في أنهما يعالجان أشياء لكل شيء منها تاريخ، أعني أن لكل شيء امتدادا في الزمن، تتسلل فيه الحوادث ماضية وحاضرة ومستقبلة، ناقلة خصائصها على الوجه الذي أسلفناه؛ ففي العالم الطبيعي - كما هي الحال في خبرة الإنسان مع نفسه - ترى الموقف الحاضر حصيلة تاريخ ماض وموجها لتاريخ مقبل. وهذا المذهب العضوي عند وايتهد بهذا المعنى الخاص، هو الذي يصبغ فلسفته بلون هيجلي، وهو كذلك الذي يصل فلسفته بمذهب الجشتالت في علم النفس، الذي يجعل الوحدة الإدراكية موقفا بأسره تتفاعل فيه عناصره على نحو ما يحدث فيما يسمى بالمجال في علم الفيزياء. •••
ونختم هذا العرض الموجز لفلسفة وايتهد بركن آخر من أركان فلسفته، هو الذي يطلق عليه كلمة اصطلاحية أخرى من مصطلحاته الكثيرة، ألا وهي كلمة «مجتمع»، ومعناها الخاص عند وايتهد هو أن الحادثات لا تظل مفككة فرادى، بل تتجمع معا في كائنات، كالشجرة أو النهر أو الجبل أو الفرد من أفراد الإنسان والحيوان؛ تتجمع مجموعة الحوادث في تاريخ واحد وفي خط سببي واحد، فيتكون منها كائن واحد؛ فكل شيء في الطبيعة يحتفظ بذاتيته على امتداد فترة من الزمن قصيرة أو طويلة، هو «مجتمع» باصطلاح وايتهد. فهذه المنضدة «مجتمع» أحداث، وكذلك هذا المقعد وهذا القلم وذلك الطائر، كل من هذه الأشياء «مجتمع» لأنه خط تاريخي واحد من أحداث تتوارث الخصائص المعينة حاضرا عن ماض، ومستقبلا عن حاضر، أو قل إن كل شيء منها خيط يحدث بين أجزائه المتتابعة انتقال يسوده احتفاظ النمط كله بذاتية واحدة تميزه؛ وهذا «النظام الاجتماعي» بين حوادث الشيء الواحد - وهنا أيضا استعمل مصطلحا لوايتهد - أي هذا النظام الذي يجعل صلة من نوع معين بين هذه الحادثة وتلك الحادثة من مجموعة الحوادث في الشيء الواحد، هو الذي يخلع على الشيء واحديته ودوام ذاتيته، مما يجيز لنا أن ننظر إلى هذه المنضدة - مثلا - فنقول إنها هي المنضدة نفسها التي رأيناها هنا بالأمس.
يقول وايتهد إن مثل هذا «النظام الاجتماعي» بين أحداث الشيء الواحد، إنما يتحقق إذا تحقق لخط الحوادث هذه الشروط: فأولا: أن تكون البنية الصورية أو الهيكل العلاقي (أو الفورم) الذي نبني عليه حلقة من حلقات السلسلة التاريخية للشيء المعين، هو نفسه «الفورم» الذي تبنى عليه سائر الحلقات، أو بعبارة أخرى أن تدوم للشيء بنية صورية واحدة. ثانيا: أن تكون هذه البنية الصورية المتشابهة في الحلقات كافة مستمدة في كل حالة من الخصائص التي تستمدها من سائر أعضاء الخيط التاريخي بوساطة عملية التشرب التي أسلفنا ذكرها. وثالثا: أن تؤدي الخصائص المنقولة من حلقة إلى حلقة إلى ثبات واتصال في ذاتية الشيء.
فما الذي يجعلك تنظر إلى نهر النيل - مثلا - في أية لحظة من الزمن فتقول: هذا هو نهر النيل، مع أنه سيال دافق من حوادث، وما ينفك يتغير ويتبدل بين الغيض والفيض.
الذي يتيح لك ذلك هو أن تيار الحوادث الذي منه يتألف تاريخ هذا الكائن، فيه تشابه في البنية الصورية عند كل حلقة من حلقات ذلك التاريخ، بحيث تستطيع أن تقتطف أية حلقة منها في لحظة معينة فتقول عنها: إنها نهر النيل؛ وإذن فالعلاقة وثيقة في التشابه الصوري، وفي التفاعل السببي بين الحلقات المتتابعات، مما يجيز لنا أن نقول عنها: إنها كأعضاء المجتمع الواحد، وإن بينها نظاما اجتماعيا شديد الشبه بالنظام الذي يجعل من شتيت الأفراد مجتمعا واحدا ذا طابع مميز؛ وإن هذا القول ليصدق على كل شيء؛ يصدق على الذرة الواحدة صدقه على الفرد من الناس، كل منهما مؤلف من أحداث تجتمع معا على ترتيب خاص وفي بنية صورية معينة. •••
من كل هذا الذي أسلفناه عن فلسفة وايتهد يتبين أنها تقوم على ركيزتين أساسيتين، أخذت إحداهما من المنطق والرياضة الحديثين، وأخذت الأخرى من علم الفيزياء الحديث. فمن المنطق والرياضة الحديثين أخذت طريقة البناء الاستنباطي القائم على مسلمات مفروضة، يمكن أن تتبدل بغيرها لو أردنا نتائج مختلفة؛ فذلك جانب واضح في فلسفة وايتهد حين يجعل مهمة التفكير الفلسفي أن يضع إطارا فكريا ذا علاقات رياضية منطقية، ليفسر به حقائق الكون؛ فإذا وجدنا لكل حقائق الخبرة مواضعها من ذلك الإطار النسقي، قلنا عندئذ إن تفسيرنا للكون قائم على أساس صحيح، وإلا بدلنا بالإطار الفكري المفروض إطارا آخر أصلح منه للتفسير؛ وهذان الشقان: الإطار الرياضي الثابت من جهة، وتيارات الحوادث الدافقة في الطبيعة من جهة أخرى، هو الذي يفسر اجتماع الخاصيتين معا في كل شيء: خاصية الثبات على ذاتية واحدة، ثم خاصية التغير اللحظي في مجرى الحوادث. ومن علم الفيزياء الحديث أخذت فلسفة وايتهد مبدأ التغير في الذرة، الذي تصبح معه كل ذرة خيطا من أحداث متتابعة، فكأنما حقيقتها هي تاريخها، وليست هي بالحقيقة ذات السكون والدوام؛ فأوحت هذه الفيزياء الذرية بالفلسفة التي تحل كل شيء إلى سلاسل من حوادث، ولا ذاتية للشيء الواحد إلا ما يكون بين هذه الحوادث من بنية صورية وعلاقات سببية. هي التي تجعل من أي كائن كائنا عضويا. (3) جورج مور
1
ولد جورج مور سنة 1873م في إحدى ضواحي لندن، لأب طبيب عني أكبر عناية بتربية أولاده، حتى لقد تولي بنفسه تعليمهم في المرحلة الأولى، فإذا ما أتم الولد من أبنائه هذه المرحلة الأولية على يديه، أرسله إلى مدرسة عرفت بمستواها التربوي الرفيع؛ وفي هذه المدرسة لبث جورج مور أعواما عشرة، من سن الثامنة إلى الثامنة عشرة، ظهر فيها استعداده للدراسة الكلاسيكية من يونانية ولاتينية، حتى لقد أوشك أن ينصرف إلى دراستها دون غيرها من مواد إلا قليلا من فرنسية وألمانية ورياضية، وقد فرغ من دراسته الثانوية وهو لا يعرف كثيرا ولا قليلا عن العلوم الطبيعية؛ مما جعله فيما بعد يتمنى لو لم يكن قد أنفق كل الوقت الذي أنفقه في ترجمة مختارات من النثر الإنجليزي إلى اليونانية واللاتينية، ومختارات من هاتين إلى اللغة الإنجليزية، ليجد فراغا من وقته يملؤه بشيء من العلوم الطبيعية التي أغلقت من دونه.
Page inconnue