Derrière les jumelles : Images satiriques de notre vie sociale
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Genres
قدمت صاحب السلطان الحقيقي إلى قرائي في المرة السالفة، أو بالأحرى قدمتهم إليه! فهو من يقدم إليه الناس جميعا ولا يقدم قط إلى أحد، ومن كان يماري في ذلك فليشهد مجلسا من مجالسه، ثم لينظر هل يقدم هو مهما كان من خطره إلى صاحب السلطان أم يقدم صاحب السلطان إليه.
حرصت بعد المرة الأولى على رؤيته حرصا أنساني كل متعة، وحقر في نفسي كل فرجة، فأعددت منظاري وظللت أنتظر بصبر فارغ وشوق نازع، حتى حانت الفرصة فدعاني إلى داره رجل من أطراف القرية رأيت وجهه يقطر السرور، وهو يفضي إلي بما نال من شرف ضيافته الشيخ في تلك الليلة.
وتفضل الرجل فدعا شابا من ذوي قرباي كان معي، فقبل كما قبلت واشترط مثلما اشترطت ألا نمكث حتى العشاء، فما كان كلانا يتطلع إلا إلى رؤية الشيخ، وكان رفيقي الشاب قد تشوق إلى رؤيته بعد ما سمعه عنه، وكان وقد ظفر بالأمس القريب بإحدى الإجازات العليا تمتلئ رأسه بفلسفة الفلاسفة، ولعله كان يرغب أن يعد لنفسه منظارا مثل منظاري، أو لعله كان يريد أن يطبق على الشيخ ما في رأسه من فلسفة، فقد حدثني أنه يعلم من أمر هؤلاء الأشياخ أنهم جد أذكياء، وأنهم يسيرون على قواعد «سيكولوجية» دقيقة تغيب عن الأغفال من العامة.
وكان صاحبي ونحن في الطريق إلى تلك الدار التي احتوت الشيخ وحاشيته، يحدثني ضاحكا أنه كف يده في الصباح بعد أن هم بالتصدق على مسكين بنصف ريال، وأنه يخشى أن يظهر الشيخ كرامته، فيفضح بخله في المجلس.
وبلغنا الدرا فإذا حشد من أنماط الناس من رجال ونساء قرب الباب، وإذا الشارع أمامها مكنوس مرشوش، وإذا وفود المدعوين يدخلون الدار قبلنا؛ وإذا الدخان يتصاعد من النوافذ، ولما كنا في وسط الدار لم يفت منظاري ذلك النشاط الذي ملأها، فهؤلاء النسوة مشتغلات كل منهن بعمل يتصل بإعداد الطعام، وفتيان الدار يدخلون ويخرجون من المنظرة التي جلس فيها الشيخ، وفي أيديهم «صينيات» القهوة والقرفة والشاي، ووجوههم جميعا متهللة مستبشرة.
ودخلنا المنظرة فهب من فيها جميعا وقوفا لتحيتنا إلا الشيخ؛ ولأهل الريف أريحية جميلة في اللقاء والترحيب، ورفع الشيخ عينيه وهو متكئ على وسادتين في صدر القاعة، وما إن رآنا من عنصر المطربشين حتى سرت في وجهه غمة أسرع فأخفاها، وتكلف البشاشة، وسرنا نحوه فتظاهر أنه يهم بالوقوف فأقسمت عليه ألا يفعل، ومد إلينا يده وهو جالس فسلمنا، وما كان أعظم دهشة هؤلاء الوقوف من الرجال حينما رأونا لا نقبل يد الشيخ! وما كان أعظم أسفي أن أكدر عليهم صفوهم بهذا الذي فعلت وصاحبي! ولكن ما الحيلة ولأن أبكيهم جميعا أسهل عندي من أن ألثم تلك اليد الكريمة؟
وأرادوا أن يفسحوا لنا مكانا في صدر الحجرة، ولكن الشيخ حريص على أن يظل دراويشه إلى جانبه، وأنقذت أنا الموقف فأشرت عليهم بإحضار كرسيين لنا قرب الباب؛ لنستريح في جلستنا في ملابسنا الإفرنجية، وقبل أن نجلس سألت الشيخ ألا يؤاخذنا إن جلسنا ونحن أعلى منه ، فطيبت بذلك خاطر صاحب الدار وضيفانه، ثم قلت: إن بركة الشيخ لتمسنا ونحن بعيدان، فشرفني بنظرة مستريبة، ثم ردها سريعا وفي وجهه الراحة والضيق معا، فهو مرتاح إلى هذا التكريم الذي يصدقه مني الجلوس وإن لم يصدقه هو، ثم هو ضائق بخبثي وبحضوري وصاحبي في تلك الساعة.
واتجهت الأنظار إلى الشيخ وكان صاحبي من الدهشة كأنه ذهل عن نفسه؛ وساد السكوت لحظة فما يتكلم أحد حتى يتكلم الشيخ، وكنت قبل دخولنا الحجرة تبينت صوته وهو يتحدث عن المال وأنه عرض زائل، وعن الجود والبخل، وفطنت إلى أنه كان في سيرة أحد البخلاء، ولم يفطن صاحبي إلى شيء لدهشته؛ ولأنه لا يعرف صوت الشيخ، وغمغم الشيخ ثم عاد إلى ما كان فيه من حديث، ولحديث البخل عنده قيمته فقال: «هيه ... سبحان من يرث الأرض ومن عليها ... هو حد منا رايح يأخذ حاجة معاه ... إيه نصف ريال ولا نصف جنيه ولا حاجة فارغة زي دي، ياما فلوس بتورح في المسخرة.»
وتشعب الحديث، وأديرت علينا أقداح القرفة أكثر من مرة ونحن لما نسمع من الأيمان لا نستطيع لها ردا، ثم سمعت صاحب الدار يسأل عن شخص اسمه عمر ورأيت الشيخ ينهض واقفا ثم يجلس بعد بضعة ثوان؛ ولكنه لا يلبث حتى ينهض مرة ثانية، فعجبت وخفت أن يكون ذلك منه نذيرا بحريق جديد، وما جلس للمرة الثانية حتى صاح صاحب الدار بمن يدعى عمر كرة أخرى فهب الشيخ واقفا من فوره، وعلمت أنه لن يطيق أن يسمع اسما من أسماء الخلفاء الراشدين وهو جالس، وتتبعته أنظر مبلغ ما في هذا الذي ألقي إلي من صحة فاتسق لي القياس كل مرة.
وكان ذلك قد ألهاني لحظة عن صاحبي الذي سرت الدهشة في وجهه لذكر نصف الريال، والذي أخذ إجلاله للشيخ وإيمانه به يتغلب شيئا فشيئا على مظاهر النكران والجحود في وجهه وخوافي العلم والفلسفة في نفسه ورأسه!
Page inconnue