Derrière les jumelles : Images satiriques de notre vie sociale
من وراء المنظار: صور انتقادية فكهة من حياتنا الاجتماعية
Genres
وتمشي إلى مكتب المدير في أناة وخشوع، وتقول له في صوت مختنق متهدج ... إنها تعتذر إذ لا تستطيع البقاء، فما يزيد على أن يقول لها في سماجة: «على كيفك يا ستي ... الناس لسه منتظرين كلهم أهم ... وأنا أعمل إيه؟»
وانصرفت المسكينة فما بلغت الباب حتى انهمرت دموعها، فمسحت عينيها بمنديلها، وما في الحجرة ممن ينتظرون الإذن إلا من تحرك قلبه شفقة عليها ورثاء لها!
ولا أريد أن أذكر للقارئ متى جاء دوري أنا «المؤلف الفاضل»، أحد حملة القلم المتواضعين الذي ما جئت أرجو في شيء، والذي يعرفني منذ سنوات هذا الكبير الذي لا تخلو من أمثاله وأمثال مديره أكثر الدواوين!
أيام في القرية
لن أجد إذا أردت التعبير عن مبلغ حبي لقريتي كلاما أجمل ولا أصدق من كلام أستاذنا صحاب «الرسالة»، جزاه الله أحسن الجزاء عما يسدي من صنيع، بقلمه «ورسالته» إلى الفن الرفيع، ولست أزيد عليه سوى أني أعيش في القرية أبدا إذا جئتها كواحد من فلاحيها؛ فأنا أخالط هؤلاء الفلاحين، وأتكلم بلهجتهم، وأؤدي ما أريد من المعاني بألفاظهم، وأضرب في الحديث مثالهم، وأنهج في سوق الكلام نهجهم، لا أتكلف ولا أتعسف؛ إذ لا حاجة بي إلى ذلك، وأنا قروي قبل كل شيء، ومثلي إذا عدت إلى قريتي كمثل النبات، تنقله إلى بيئته، فيبدو لك من خصائصه ما لا يبدو إلا في هذه البيئة ...
هبطت القرية وبيني وبين العيد يومان، وتركت منظاري لينظر من ورائه صاحب «الرسالة»، فيستعيذ بالله آخر الأمر منه، ويسألني في ختام حديثه البارع الممتع: أيرسله إلي أم يجربه على عين الأستاذ المبارك؟ وما درى أن لي في القرية «منظارا» غير ذلك المنظار الذي لا ينفذ فيها إلى مثل ما ينفذ إليه في المدينة، ونسي أن للمبارك عينا لا تحب المنظار؛ لأنها تنفذ وهي عارية إلى كل شيء ولو كان بينها وبينه أكثف ستار!
درت بمنظاري هذا فوقع من حياة «القرية» ومجاليها على ما لو طاوعت قلمي في سرده، لضاق عنه عشرة أمثال هذا المجال، وحسبي أن أقصر الكلام على ما كان أعمق أثرا في نفسي بين ما شاهدت ...
شاعت الخضرة في الحقول، ورف في مزارعه بين بطاح البرسيم نوار الفول، واهتزت الأرض أخيرا وزخرت بالحياة، بعد أن فعلت بها دودة البرسيم أياما طويلة ما لا يفعل الجراد، فالتهمت جموعها الخفيفة العنيدة، البراعم الطرية الوليدة، وتركت الناس حيارى لا يجدون لما أصابهم من علة، إلا أنه غضب من الله ... وأبهجت نفسي مظاهر الحياة والبشر في النبات الرفيف والشمس الصاحية، بيد أني - وا أسفاه - رأيت إلى جانبها مظاهر الموت والعبوس في الغدران الناضبة والأشجار العارية، ثم في تلك البهائم العجاف الهزيلة التي تلتهم البرسيم في نهم، ولا تنال منه إلا بقدر.
وجاء العيد فكان من أجمل معانيه وقعا في نفسي تحية أهل القرية جميعا بعضهم بعضا، وتصافحهم إذا ما التقوا لا فرق بين غني وفقير، ولا بين كبير وصغير، ثم تزاور الناس منذ خروجهم من صلاة العيد إلى متوع النهار جريا على أصول لن تعرف في المدن إلا بين من تربطهم صلة من قرابة أو من صداقة، وكثيرا ما يقوم فيها مقام الشخص ما يدفع إلى الخادم أو في صندوق البريد من بطاقة ...
وارتاحت نفسي لحظة لهذا المعنى؛ غير أني ما لبثت أن كدرني خاطر طاف بنفسي؛ وهو أن عيد هؤلاء القرويين كطبيعة حقولهم، فهذا البشر الذي يبدو على وجوههم يكاد يشف عما وراءه من هم جلبته عليهم الأزمة التي حلت بهم من هلاك الزرع، وبيع القطن بثمن بخس، ولن تغرب شمس هذا اليوم حتى يعودوا إلى ما كانوا فيه من عناء ونكد.
Page inconnue