Min Shuquq Zalam

Nahid Hindi d. 1450 AH
64

Min Shuquq Zalam

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Genres

فيما بعد، حتى عندما أتيحت الفرصة لي للاتصال بهذا العالم الآخر كنت مستمرا على ألا أفكر به وأحسب السجن هو الكون الوحيد المأهول بالبشر، وما خلاه نجم بعيد مأهول يسبح في الفضاءات البعيدة لا تطؤه إلا روايات الخيال العلمي.

في أول الأمر، كانت إذا حامت صور منه حولي في يقظة أو منام، كنت أزجرها بعيدا عني وأنصحها بعدم التكرار، فلست أنا الشخص المعني بها كمن كان ينكر علاقته بتهمة، حتى أحلامي اختفت منها هذه الذكريات وخمدت شعلة التعلق بالماضي والحنين إليه. السجن علمني أن أعيش الواقع وأدع الماضي يتلاشى ويغرق؛ لأنه اختفى من صفحة الزمان ويجدر به أن يغرق في طم النسيان. من يعش فيه فسوف يورم رأسه ويأتي يوم يهشم رأسه بنفسه بطرق الجدران والصخور به ويدع المعاول تهدمه حتى يتخلص من هذا الورم، ولن يقدر على الخلاص منه إلا أن يذهبا سوية إلى اضمحلال وتلاش حيث تسمق منازل الفناء في هوة العدم.

الزنزانة علبة صغيرة، وما خلف جدرانها كون شاسع لا حد لأبعاده، قلت لنفسي ذلك في يوم اقتادنا رجال الأمن فيه إلى باحة واسعة في السجن حيث وقفت سيارة فحص الأشعة السينية للتأكد من حالات الإصابة بمرض السل الرئوي المنتشر بين السجناء مثل نزلات البرد الشتوية.

كان طقسا ربيعيا مشمسا راح بصري يبحر بسحره في السماء الواسعة بمنظر غريب لم تألفه عيناي منذ سنوات. «يا للهول، أحقا هذا العالم واسع جدا لهذا الحد؟ أوكل هذا الوسع وترامي الأطراف لم يقنع الناس ليتقاسموه ويعيشوا فيه بسلام؟ أحقا لا يكفي كل هذا الرحب والسعة ليعيش كل واحد منا في زاوية فيه يفعل ما يشاء فعله دون أن يزعج الآخرين؟»

أي تبلد بهيمي هذا الذي يغزو النفوس لتجعلها ترتكب كل هذه الفظائع، وأي شيطان فيها هذا الذي يظهر بعدها بمظهر الرصانة والوقار يبرر آثام فعلها، بل ويصنفها في خانة وصايا الرب العشرة . إنها آفة نفسية عميقة أو تشوه وراثي وخلل في الخلقة تدفع المرء لصنع كل هذه الجرائم الرهيبة ويظهر صاحبها بعدها بلا مبالاة، بل ويفخر بها ويوهم نفسه وغيره بأنه أحسن صنعا. لا يمكن أن يكون من يفعل كل هذا سوي الخلقة أبدا. لو كان كذلك فأي كوابيس تقض مضجعه الآن، وتجعله يتقلب في فراشه أرقا سهدا في كل ليلة؟ لكنه ليس كذلك. إنه حين ينهض من سريره مطلع كل نهار يعاود جرائمه كأنها قوته اليومي، كفافه الذي يعيش به وينبذ ضحاياه في قعر جب عميق مظلم أو تحت ثرى في صحراء لا أحد يعرف موقعها، تسأل ولا مجيب ما الدافع وما هو المغزى لإحداث كل هذا الألم بها.

هل صناعة الألم ترياق بمقدوره أن يشفي صدرا أوغر في كراهية كل ما يمت لنوع الإنسان من صلة، بل لكل ما في الحياة من جمال؟ كلا، إنه لن يفعل ذلك ولن يقوى كل الغل والبغض للإنسان أن يطفئ جمال الإنسان الرائع. ليس من شيء في هذا الوجود أجمل من الإنسان، سجد الكون كله له وخضعت له حتى الملائكة عنوان الجمال ومن يأبى سيبقى طريدا ملعونا شيطانا ترجمه بكل حجر ومدر حشود الحب الساعية إلى كعبة الكمال.

الحياة لن تتوقف، فما صنع الخريف بأوراق الشجر وظنونه الخاسرة بأنه قد بلغ عتبة النصر حين يحيلها جرداء من الورق، إلا آمال خائبة وأماني عاطلة. حين يأتي الربيع سوف تزداد قوة وترتفع أكثر ويواصل علوها ارتفاعا معانقا السحب والسماء تزين أغصانها بأوراق أشد خضرة تدخل الفرح والحبور في قلب من يرنو ببصره نحوها، وتظل العابر والمقيم بأفيائها وتمنح الجميع بلا تمييز ثمرا يانعا يجري فيهم الحياة. هكذا هي دماء الشهداء وآلام المعذبين مثل عذابات سنديانة عصية تحطم كل فئوس الأشقياء التي تريد النيل من بقائها السرمدي.

يا ألله! ما أجمل الإنسان حين يكون إنسانا.

عجز الطغاة رغم كل هذه العذابات والآلام وبما امتلكوا من ماكنة القمع الهائلة أن يجعلوا من السجن مقبرة للأحرار ، كما كانوا يحلمون ويمنون أنفسهم. لم يقدروا على فعل ذلك، السجن صار مصنعا يخرج منه ثوار جدد ومدرسة لأشياء كثيرة لم يستطع الظفر بها جمع غفير من الناس، وإن ظن بنفسه أنه يعيش حرا خارج القضبان.

بمجرد أن تم التخلص من الخونة الوشاة، انشغل الجميع بعملية تثقيف واسعة، تصدى لها سجناء يملكون الوعي والفهم والتفكير الصحيح وسعة الأفق، بغض النظر عن الدرجات العلمية التي بالأصل لا تتوفر عند أغلب السجناء حيث حرموا من إتمام تعليمهم جراء اعتقالهم. صارت لهؤلاء السجناء مكانة اجتماعية لهذه السمات التي يتحلون بها خصوصا أن هذه المؤهلات كانت تنعكس على سلوكهم الشخصي وحركتهم.

Page inconnue