Min Shuquq Zalam

Nahid Hindi d. 1450 AH
63

Min Shuquq Zalam

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Genres

إيه، كأني اضطجعت في موقد، أحسست وأنا أغفو فيه بالبرد يتسلل خارجا من عظامي يصحب معه تعب السنين العشر. وقتئذ أدركت أني كنت واقفا مجردا من أي دثار في عراء تلفحني فيه رياح باردة طيلة عقد كامل.

في كيس من الخيش كان يصل إلينا الخبز أحيانا، وبعد أن يتم توزيع الخبز من الممكن أحيانا الاحتفاظ به بعيدا عن عيون الأمن . لم يكونوا في حقيقة الأمر يهتمون له؛ لأنه لا فائدة منه، لكن كانت لهم سياسة ثابتة باسترداد كل شيء يدخل إلينا ليسلبوا منا الشعور بتجدد الحياة. كانوا حريصين على أن نعيش مع الأشياء القديمة المستهلكة المندثرة ليشعرونا أننا صفحة من ماض انطوى ونوشك على الانقراض معه ولا يوجد أي أمل بتجدد الحياة أبدا.

كيس الخيش هذا صار سببا من أسباب الدفء مع وجود بعض خياطين مهرة قاسمونا العيش في الزنازين. كانوا يفصلونه ليكون على شكل كنزة أو معطف قصير ومن ثم يبطن بقطعة من الكانة ويصبح قطعة رائعة مميزة تحفظ حرارة الجسم. لحسن الحظ حظيت بواحدة منها من خيش أسمر؛ الأكمام والياقة مزينة بالكانة فصارت كنزة ملونة. حين ألبسها والآخرون عليهم ثياب لا تقيهم من شيء أبدو بينهم كأني أرتدي بدلة سموكن وأتمشى في سوق شعبي؛ رجل أربعيني صنع هو الآخر واحدة له على شكل معطف طويل يتجاوز ركبتيه بجيوب واسعة. وحين يمشي في الممر مسرعا كعادته في المشي ويضع يديه في جيوب المعطف العميقة كان يبعث الضحك فينا، كأنه عائد من صفقة عقدها للتو في مقهى المصبغة حيث يجلس كبار التجار قديما في بغداد.

وبرغم وجود صنعة ماهرين، لم يتمكن أحد من صنع ملابس داخلية؛ لأن النسيج القطني المناسب لصنعها استعصى عليهم، ولم تفد كل خبرتهم ولا نفعت مهارتهم في إيجاد بديل لها، لذا كانت الأغلبية الساحقة من السجناء لا يرتدونها إلا من احتفظ بواحدة منها من أيام خوال انقضت وأنى العودة إليها. كان غياب الملابس الداخلية سببا مهما في عدم الإحساس بالدفء؛ لأن الثياب كانت على الدوم فضفاضة ولم تكن يوما على المقاس. الهواء البارد يجد فيها ملعبا كبيرا وساحة رحبة يلهو فيها ويمرح، يقرص العظام ويوخز العضلات الضامرة ويجعد الجلود المتيبسة.

11

أين ذهبت قوتي وعضلاتي، عبارة كان يرددها سجين شغوف بممارسة رياضة الألعاب القتالية، وهو يقوم بحركات رياضية صباحا وفي بعض الأحيان مساء وسط حشد مزدحم من أجساد مستلقية في الممر الضيق. كنت أسمعه وأراه كما الآخرون ونسخر جميعا مما يقوم به؛ لأنه واحد من مجموعة لم تدرك بعد أن الماضي قد انقضى ولم تبق منه سوى عبر وذكريات.

مجموعة تظل تعيش الحاضر بعقلية أحداث مضت وتواصل رفض حقيقة راسخة منذ الأزل. إن العالم يتغير ولا يوجد نهر يستحم فيه مرتين. عقلية تمسكت بأشياء بلاها الزمن وهي تعطيها الخلود، معتقداتهم تشبه حلم مصري قديم بعودة مومياء ملك محنطة مع كنوزه ليعاود الجلوس على عرش تنازعه الورثة والأعداء من بعده ولم يفضل منه شيء. ملك أفضل ما فيه أنه قد يصلح لأن يكون قطعة أثرية يتفرج عليها فضوليون في متحف للأشياء العريقة.

هذا وآخرون مثله كانوا يترنحون من صدمات الواقع الذي يعيشونه، وهو يرطم أحلاما بعثرها الزمان في أدارج عاصفته الهوجاء التي ابتلعتنا إلى هذا النزل المظلم في العالم السفلي. وكلما كانت الأيام تواصل سيرها، كان توازنهم يختل أكثر وأكثر كما هو عنادهم في مواصلة البقاء خارج الواقع. تصلب لم يجد عقلهم معه من حل لهذه المعضلة المزمنة بالألم، إلا بأن يعلن استراحته وتقاعده عن العمل ويتركهم لفوضى من خيالات تسرح بهم وأفكار مبعثرة تشظي أفعالهم بلا عقد جامع.

بعضهم بلغ به الحال أن يؤذي نفسه وآخر يقوم بأفعال غريبة مضحكة، فيما آخرون يتكورون على أنفسهم يحيطونها بهالة كبيرة من كآبة سوداء لا يخترقها شيء، ويسير رويدا رويدا لكن حثيثا نحو جنون تام سوف يضم إلى حضيرته آخرين. لم ألم أحدا منهم؛ لأن ما جرى لبعضهم كان أفضل حل يجده ليتخلص من وقع ذكريات متعبة تسحقه بألمها الفظيع.

منذ بواكير دخولي السجن عرفت أنه علي أن أتعلم ألا أتذكر وأن أفرغ ذهني من الماضي، الشاعر التركي التقدمي والإنسان الرائع ناظم حكمت كان أثيرا عندي، وكنت متعلقا بقصيدة له اسمها «إلى مرشحي السجون» بما فيها من نصائح غالية ومعان نفيسة مثل الدرر الكامنة في أعماق البحار الواسعة، يوصي فيها المرشحين للسجون مثلي حين تبدأ رحلتنا، ألا نفكر بالنساء ولا بالأشياء الرقيقة، وأن نفكر بالصخور ومثلها من الأشياء القاسية حتى لا يصيبنا وهن ولا يعترينا ضعف. أوصدت كل الأبواب على ذكرياتي وبنيت بينها وبين العالم الخارجي حاجزا لا تقوى على اختراقه.

Page inconnue