Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Genres
وأنا أسمعهم وأراهم على هذه الحال أحسب أنهم خلقوا لأجل هذا وحسب؛ قساة غلاظ لحد مرعب، غير أني لاحظت عليهم سلوكا غريبا حين كان يسمح لنا بمراجعة دورة المياه بعد كل وجبة طعام. كان يتناوب علينا حرس مخصصون لهذا العمل، ومن يأتي اليوم لا يأتي بالغد، ولم تكن تتغير مجموعة الحرس وحسب، بل تتغير الأخلاق معها أيضا، يأتي الحرس اليوم بأسلوب جاف غليظ يشبعوننا سبا ومهانة ويثيرون حنقنا وغضبنا، ويحل محلهم في اليوم التالي آخرون على النقيض من أصحابهم متساهلون، ويسردون علينا أحاديث وقصصا وقعت لهم كأنهم يسلوننا ويروحون عنا، يخال المرء بعدها أنهم لا ينتمون لهذا المكان، لولا زيهم العسكري والهراوات التي لا تفارق أياديهم والسلاح المركون دائما إلى جنوبهم. ولولا أني كنت أعرف هذا الحارس الوديع نفسه عندما كنت في الزنزانات الانفرادية، وكيف كان يظهر أنواع الفنون في إلحاق الأذى بالمعتقلين لصدقت أنه جاء بالخطأ لهذه المهنة لو رأيته لمرة واحدة فقط بهذه السماحة. هذان الوجهان المتضادان كان ترتيبا معدا من رؤسائهم لترهيب المعتقلين من جهة واحتواء غيظهم من جهة أخرى، وكانوا لا يعيرون بالا لتخالف صورهم ولا لتباين سلوكهم، فهذا الحمل الوديع نفسه بعد حين يصبح ذئبا مفترسا والعكس بالعكس، ويعرف كل من كان بالمعتقل أنها حرب نفسية معدة بإحكام للتلاعب بالسجناء السياسيين. لا يوجد أي سبيل لتغيير النظرة المستقرة عليهم بالعموم إنهم وحوش بمظاهر آدمية، إلا أن الحق لا بد أن يقال، واحد منهم كان يبدو فعلا أنه قد جاء لهذه الوظيفة لسوء حظه، وعلى الأرجح بفعل نصيحة حمقاء من صديق أو قريب دفعته إلى هذه المهنة الساقطة هربا من الحرب المشتعل أوارها حينها والتي كانت تلتهم أجساد الشباب ما إن يبلغوا السنة الثامنة عشرة من أعمارهم. يقينا إن أمثال هذا الرجل نكد الحظ الذي جاء بالخطأ لهذه المهنة الساقطة ليس مستحيلا تواجده، لكن في الغبراء من ذا الذي يمكنه أن يرى الأشياء الجميلة؟
رغم ذلك الاصطناع إلا أن طبائع الأشخاص وأمزجتهم الشتى وأفكارهم الخاصة كانت تنضح من تصرف كل واحد منهم؛ بعضهم كان يظهر خلاعة ومجونا ولا يكف عن الحديث عنها، وآخر كان يحمل مسبحة طويلة ويبدي تدينا كأنه درويش يقيم في صومعة على قمة جبل. هذا الحارس بالذات كان يختص ببلادة حيوانية وفظاظة مفرطة بشكل متفرد. كانت البداوة والقساوة تشع من محياه لكل من يراه ولو لبرهة واحدة ومن لهجته حتى لو سمعه شخص يتلفظ بضع كلمات لا معنى لها. عيناه زائغتان بالخلقة، قبيح المنظر بلا حاجة لهذا القبح الإضافي وبمرافقة هذه العيون المتشاكسة فيما بينها ازداد قبحا وبشاعة. قوي، قصير، ذو جثة مملوءة، لا يتوقف لسانه عن التسبيح والتهليل بينما كنا نخرج لقضاء حاجتنا. وفي يوم ما ولسبب مفرط في السخافة إلى الحد الذي لم أوفق لاسترجاعه من ذاكرتي رغم محاولاتي الكثيرة اليائسة للعثور عليه انفجر غاضبا مثل برميل بارود. لهذا السبب المفرط في التفاهة والمجتمع مع تلك البلادة، فهم هذا الحارس الغبي شيئا لا يمكن فهمه بهذه الطريقة المعوجة إلا من معتوه مثله فائق الغباوة وانفجر لأجل ذلك غضبه الهستيري على أحد المعتقلين وأشبعه ضربا وشتما بطريقة تشبه فتك وحش ضار منفلت من عقاله. بالمقابل كان صاحبنا المعتقل على عكسه تماما من النوع الفاشل جدا في إقناع أي أحد في أي أمر حتى ولو كان يملك كامل حريته، فكيف به الآن وتقلبه على البلاط ركلات من أقدام وحش أصم.
لم نملك خيارا ساعتئذ لنصرته في هذه المواجهة غير المتكافئة ولو جربنا ذلك تهورا لانقلب الحال بلا ريب إلى مجزرة حقيقية. ومع ذلك لم نقدر على التقوقع بالسكوت فانبرى أحدنا بطريقة رقيقة بعد أن لمس فتورا في ثورة هذا الدرويش الوحش فأقنعه بكلمات مختصرة لكنها كانت متماسكة وبليغة بأن الأمر لا يعدو سوء فهم، وأن هذا المعتقل لم يكن يقصد شيئا سيئا. حينها بدت على الحارس البدوي علامات تراجع وندم انعكست علينا فرحا وبشرى بإنقاذ المعتقل المسكين من عقاب مجاني ظفر به لا يمكن لأي أحد أن يبرره ولا بأي معيار أو مقياس. ولم تكتمل فرحتنا لنواجه معضلة أشد بعد ذلك؛ إذ قال لنا هذا الحارس الأمني الورع: «ادخلوا الزنزانة، لا أقدر على السماح لكم بدخول المرحاض الآن.»
بهتنا لذلك ولم نفهم، بعد أن ظننا أن كل شيء قد عاد لمجراه، إلا أنه أردف بثقة وبيقين رجل متدين غاية في الورع موضحا قراره الغريب. - لأني بينما كنت غاضبا أضرب صاحبكم، أقسمت يمينا ألا تخرجوا لقضاء حاجتكم اليوم؛ ولذلك لا أستطيع كسر يميني الآن لأن ذلك حرام.
تبادلنا نظرات دهشة وكتمنا قهقهة استغراب، ومن حينها ازدادت سخريتي ممن ينصتون خاشعين لتلاوة بورع بعد نهار طويل حرموا أنفسهم فيه من لذائذ الشراب والطعام ليهبوا بعدها لفعل أشد الموبقات. هذا الأمر تكرر حصوله من أولئك الحرس ورجال الآمن حيث كنا نراهم من كوة الزنزانة يتحلقون على مائدة إفطار رمضاني ثم ينهضون بعدها مسرعين تملؤهم الحماسة لجلد امرئ لا يعرفونه وينزلون به أشد العذاب ولو قيض لهم افتراسه لفعلوا. من يومها سخرت ولم أندم على ذلك أبدا من دين قوم يجيز كل هذه الفواحش والقبائح ولا يجيز كسر يمين على دخول مرحاض.
17
علي الآن أن أرجع قليلا للحديث عن أصحابنا الذين عادوا من المحكمة الملغاة والتكلم عن الظروف الخارقة في غرابتها وندرة حصولها التي عاشوها في المعتقل وهي أقرب للخيال من الواقع، ولا أفهم كيف يمكن لأحد أن يبررها أو يتغاضى عنها وعمن وقف وراءها أو يتهاون مع مرتكبيها. سوف أسرد بعضا من هذه الحكايات العجيبة التي لم أشهدها بنفسي لكنها كانت متواترة، إلى حد أنه يكاد لا يوجد سجين سياسي إلا ومر بها إلا القليل جدا، ونحن لحسن الحظ - أقصد المجموعة التي كانت تعيش معي في الزنزانة - كنا من هذه القلة القليلة.
مديرية الأمن العامة أكبر معتقل سياسي وتضم الشعبة الخامسة الرهيبة المتكفلة بالشأن السياسي أو بالأحرى الشعبة المختصة بتصفية المعارضة السياسية؛ ولذا يحتجز فيها أكبر عدد من السياسيين تمهيدا لمحاكمتهم الصورية في محكمة الثورة. محكمة سأروي في حينه تجربتي معها، وهو على كل حال مع أنه كان مشهدا زمنيا قصيرا جدا لكنه كان ثقيلا للغاية ينوء بعبء حمل، خلاصته تمثل واقع حقبة مظلمة امتدت لثلاثة عقود متوالية. سأترك هذا لوقته، أما الآن فلأقفل عائدا إلى رواية مشهد آخر وإن كنت أنقله لا عن عيان إنما عن سماع من مئات الأشخاص ممن التقيتهم أو عشت معهم، ولفرط ما يروى ويسمع من أغلب المعتقلين السياسيين صار كأنه أغنية شعبية يحفظها جميع الأطفال.
ما إن ولج رفاقنا في الزنزانة قادمين من رحلتهم إلى جلسة المحاكمة الملغاة، وإذا بأبصارنا تشخص مباشرة إلى أقدامهم العارية وسيقانهم المتورمة المنتفخة الغليظة جدا كأنها ساق شجرة معمرة بلا أغصان، لا ورق فيها ولا ثمر. هل رأيتم جذع سنديانة كم هو ضخم؟ كانت كذلك كما لو أنها مخصصة لتحمل عملاقا وليس أجسادا نحيفة شاحبة. كان منظرا يحمل تنافرا مقززا بين قاعدة عريضة متينة وبناء رفيع مثل خيط أوشك على الانقطاع؛ لهذا اختلطت المشاعر بعشوائية عندما صاروا في مرمى أبصارنا وتوزعت بين فرحة برؤيتهم أحياء من جديد، بين تعجب لعودتهم واستفهام عن سببها؛ لأن من يغادر للمحكمة كان لا يعود، وبين مظهر الأرجل العملاقة والخوف من السبب الكامن وراءها. لأن ما نراه الآن في الغالب هو أعراض عقوبة جديدة لم نألفها وستطالنا عن قريب كما وصلت إليهم. منظرهم الغريب أضاف هاجسا جديدا لسلة قلقنا التي تزداد ازدحاما بالهموم والمخاوف. اختلطت الأمور علينا كثيرا وصار الغموض والإبهام سمتها وباتت أرواحنا لا تعرف أين تقف وإلى من تلجأ وتسكن في تلك اللحظات.
منحنا أنفسنا جميعا فرصة لإيقاف ثورة الهلع هذه ولكبح الأسئلة التي أمطرنا بها النزلاء الجدد القدامى، وبعد أن انفرجت الأسارير بمجيء الضابط وهو يحمل بشرى إيقاف الإعدامات، بدأ أصحابنا يقصون علينا الرواية الغريبة بروية وهدوء عن رحلتهم إلى أرض العجائب: «كنا في مديرية الأمن العامة.» (هكذا استهلوا الحديث).
Page inconnue