Min Shuquq Zalam

Nahid Hindi d. 1450 AH
35

Min Shuquq Zalam

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Genres

لم أقف على تبرير واحد أفسر به هذا التحول في الحكم علينا وظل عصيا على الفهم أبدا؛ لأن كل شيء في البلد كان يجري بقرارات مزاجية لفرد واحد وليس من اليسير فهم دواعي صنعها، بل كانت كأنها أحجية ولغز في أكثر الأحيان، ولا يوجد وصف ملائم لها إلا أنها نوبات انفعال وهلع تصيب هذا الفرد المتسلط على كل شيء في البلد هو وجهازه الخاص. هذا التحول في مصيرنا تزامن مع أمر أستطيع جازما القطع بحصوله. سأرويه بأمانة كما وقع ولن أعلق عليه حتى لا أوحي بشيء لا يمكنني نفيه ولا يمكنني أيضا أن أجعله حقيقة فولاذية لا تخرق. ومع هذا لا يمكن أن أغفل حقيقة أخرى وهي أنه قد حفر أخدودا عميقا في لا أملك نفسي عن الانجراف فيه مهما استجمعت كل غرائزي وأيقظت سائر شهواتي وكلما ركنت إلى سبل الفرار منه كنت أعود إليه آيبا وأقع فيه ثانية.

أجواء من جزع وإحباط كانت تسيطر علينا في ترقب المجهول تزامنا مع موعد المحاكمة الملغاة، هواجس كانت تهشم كل صور العالم الخارجي التي بدأت بدورها تتلاشى وتغرق في يم النسيان. تورم رأسي حينها لفرط ما كان يحمل من الوجع في ملاحقة القادم وأصبح فارغا خاويا إلا منها. صارت الزنزانة لجة تبتلع جسدي الذي بدأ يذوي متسارعا يسابق الموت القادم تطرقه فظاعات ذهنية في كل آن.

اصطناع الرزانة والتجلد لم يقو بالمرة على أن يواري القلق ولا الرعب من المصير المتوقع قدومه عاجلا؛ لذا صرت كما الآخرين - على الأرجح - تنهش في كوابيس يقظة موحشة. وإذا تملك أحدا يقين من أن سيفا قادما إليه قريبا سينحر أوداجه فإن حرارة حزه لأهون بكثير من لهب انتظاره. لشدة لوعتي في تلك الأيام تمنيت من صميم قلبي ألا ينزل بأحد وإن كان جلادي نفسه، ما كنت أعيشه من محنة قاسية. إني لأعجز الآن عن بيان ما كابدت من الألم النفسي ومضاضة كل لحظة كانت تمر علي، كنت أكتم هذه المضاضة حبيسة في أحشائي فتبالغ في إيلامي أكثر مما هي موجعة بنفسها ولوحدها. وعلى الأغلب هذا كان يحصل للجميع، لا أدري قد يكون حتى أكثر مما كنت أقاسيه وأكابده. لم نتشارك إبداء الوجع، بل حاولنا مواراته عن بعضنا حتى لا يؤذي أحدنا الآخر أو كنا نخشى أن ننكأ الجرح فيتضاعف الألم علينا.

صورة قاتمة لخروجنا من عنبر بارد في صناديق خشبية يحيط بها حرس قساة يحظرون البكاء ويمنعون العزاء، أمام نواظر أمهات ثكلى تغطيهن جلابيب سود ما أذن لهن من البقاء في هذه الدنيا. هيئة تدفع بقتامتها إلى كل الأشياء اللاتي تحيط بهن وتحيل أيامهن ليالي، وآباء لن يفارقهم عبوس أزلي، ويستعيضون بوجوم مقيم بدلا عن دموع لن يذرفوها علنا، وحين يفعلون فسوف تكون دموع كمد في الخلوات فقط، هربا من ملاحقة شماتة الآخرين ومن عيون رجال الأمن. شقيقات سوف يوصدن كل النوافذ والشبابيك؛ لأن دروب العشاق ستحول مسارها بعيدا عنهن خشية من مصير مشابه لمصير أشقائهن، وفرسان أحلام سوف يستنكفون المرور تحت نوافذهن، فقد صرن منتميات لطبقة الداليت الهندية المنبوذة ولا يجوز للأشراف مصاهرتها. سيخرج أشقاؤنا كل يوم إلى أعمال جديدة، على الأرجح سوف تكون حقيرة بعد أن يطردوا من وظائفهم الحكومية، يتحاشون نظرات الاتهام والريبة من الجيران وتتضاعف قتامة وحلكة الأيام بنهاراتها الدامسة قبل لياليها أمامهم حين يتحاشاهم صديق أو قريب كان يرتاد المقاهي والملاهي معهم. لا يمكن أن أصف جميع الصور الوخيمة؛ لأن حتى مجرد كتابتها الآن يقطعني بشفرات نصلها الحاد، وإني لأرأف بكل أحد أن يتخيلها. المهم أنها مرت علي وليتها لا تعاود المرور على أي إنسان. - هل تعرفون أني سمعت قولا دينيا مأثورا عن النبي محمد أنه قال: «لو قرئت الفاتحة سبعين مرة على ميت ونهض بعدها فلن أعجب لذلك؟» سألنا أحد الذين كان معنا في الزنزانة ممن كان يحفظ من أمور الدين ويمارس طقوسه أكثر من الآخرين، وحثنا على فعلها.

لا أخفي القول، عقلي لم يصدق أبدا ما كان يقوله صاحبنا، ولا كنت أدري من قبل ولا الآن هل فعلا هناك نقل موثوق معتمد بمثل هذا القول عن النبي محمد أم لا؟! رغم ذلك فإني لم أنبس ببنت شفة اعتراضا عليه، ولا حتى جربت إبداء أي نوع من أنواع التلميح للرفض أو التعجب ولو بتقطيب وجه أو رفع حاجب أو نظرة شزراء. بدا ما يقوله غريبا جدا وأقرب إلى الأسطورة المبالغ فيها من أي شيء آخر، لكني لم أنكر عليه قوله ولربما لو قيل لي هذا القول في غير تلك الساعة لكنت تفحصته وقلبته ألف مرة ومرة ومن كل الوجوه كعادتي المألوفة في النظر والتدقيق وما كنت لأصدقه في النهاية. غير أن قوله نزل كقارب نجاة لا مناص من التشبث به والعبور به للنجاة من خطر الغرق المحدق، وحل قوله علي مثل غيث يطمر ببرده لسعة نيران تكتوي بها حشاشتي. جلسنا مجتمعين هادئين بانكسار، كنت أسمع نشيجا خفيا من بعض رفاق الزنزانة ونحن نقرأ سورة الفاتحة لسبعين مرة بإخبات وفي صمت محكم خبت معه الآهات؛ كل الآهات. حين انتهينا تنفست عبق عطر ملأ رئتي بهواء نقي جاء من عالم آخر أشبعني بفيض من شيء أجهله، مثله مثل نسيم ربيعي يهب في ظهيرة يوم تموزي. انزوينا بعدها كل إلى محله في مخدعنا المشترك المزدحم وقد هدأت طباعنا كأننا قفلنا للتو من حلقة ذكر صوفي أنهكنا فيها الرقص عشقا.

هذا الحادث الغريب حصل في عشية اليوم الذي اقتادوا فيه بعضا من رفاقنا إلى المحاكمة الملغاة والتي تغير فيها الحكم بالإعدام إلى حكم آخر. عندما سمعت الضابط يقول: «خفيفة إن شاء الله، السيد الرئيس أمر بإيقاف الإعدامات.»

اندفعت تلك الليلة الصوفية بكل ما فيها إلى كياني ولم تخرج منه أبدا.

16

عدنا إلى الحياة من جديد بعد هذه الحادثة الغريبة أو المصادفة العجيبة وبدأت بعدها أحاول أن أرتب دواخلي لحياة طويلة في السجن، غير أنه صادفتنا أمور كثيرة كانت تثير الغثيان والاشمئوهي ترى لهفتي وإعجابي بها زاز والقرف منها ومن سلوك رجال الأمن والحرس الحافل بالتناقض. فجوة شاسعة جدا بين بريق الشعارات وبهرجة الادعاءات التي يتظاهر بها الحزب الفاشي هو والمروجون له، وبين واقع حاله وهذا ليس حكرا عليه، بل إنه عين ما يفعله جل أصحاب الجمعيات والأحزاب وحال مناصريهم الذين يقاتلون بشراسة لأجل السلطة، ولا يناضلون للفكرة كما يزعمون؛ لذا يستفرغون كل ما في وسعهم ويبذلون أقصى جهدهم لبلوغ مآربهم الخبيثة، فيرى لأجل هذا قادة تلك الجهات يزوون جانبا النظر في أخلاق أتباعهم الرذيلة وأصولهم المنحطة ما بلغوا بهم مآربهم في الجاه والسلطة والزعامة والثراء، بل إنهم يستعملون تلك الزمر من الأوباش والأراذل عن علم ودراية ولا يوفرون جهدا من حثهم وتشجيعهم على ارتكاب كل الموبقات ليرهبوا بهم خصومهم ويختصروا المسالك لأمانيهم الخاطئة. في بعض الأحيان تبلغ تناقضاتهم من السخف حدا يثير الشفقة على أصحابها ويبعث على الضحك ويدعو للسخرية من عفن عقولهم. وهذا كان حال العاملين في هذه الأجهزة القمعية فقد كانوا سيئي الطباع والأخلاق، لا ينطقون إلا سبابا وشتائم كأنهم لم يعرفوا لغة غيرها من ساعة ولادتهم؛ لذا كنت أراهم متعجبا يجيدون ألفاظها بطريقة فريدة لا تخطر على بال أحد ولم أسمع بها من قبل.

كنت أتساءل ونفسي عندما أصغي لهذا السباب المقذع المتبادل بينهم، هل هؤلاء بعد العمل يعودون لبيوت يسكن فيها أطفال وترعاها زوجات فترق قلوبهم لها وتحنوا عليهم، أم أنهم يسكنون صحراء قفر من كل شيء، جردتهم من مشاعر وأخلاق البشر؟ كانوا فاسدين لدرجة فظيعة، وإني لواثق من أنهم كانوا فاسدين بالأصل، قضوا أعمارهم سعيا في البحث عن مهنة يمارسون فيها رذائلهم فبلغوا مرامهم المطلق في هذه الحرفة الفظيعة بقبحها. كانت الدسائس والوشايات والنميمة زادهم اليومي، يتشاتمون على كل شيء، بل ولأجل لا شيء أيضا. من اليسير جدا أن تنشب المهاترات بينهم، ويكفي لحصولها مجرد ريح باردة تمر من فتحة باب موارب لينهمكوا في شجار لا يوفرون لفظا قبيحا إلا واستخرجوه من جعبتهم التي لا تنفد.

Page inconnue