Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Genres
كانت ساعة غريبة بكل ما فيها؛ حصل كل هذا في ساعة تغيير الوقت الصيفي إلى شتوي، كنت أسمع ذلك من صوت تلفاز قريب. ما كان له أن يحصل في زمن حقيقي، لا بد أن يقع في نقطة خارج الزمن حيث اللاشيء، وكأن التاريخ يقول: إنك لا تصلحين أن يكون لك مكان في خط الزمن، أنت لحظة تائهة لا تنتمي لتاريخ الإنسان ولا يحق لها أن تتكرر من جديد ولا يجوز.
9
الآن بدأت مرحلة انتظار النهاية، ولا يدرى متى تأتي الساعة بغتة، تملكني رعب هائل من النهاية المتوقعة. إبان الأيام الأولى لاعتقالي، استيقظت يوما على رؤيا أشكو فيها لإحدى شقيقاتي وهي تودعني بحزن وقد حكم علي بالسجن المؤبد عشرين عاما. الآن يبدو أن الرؤيا أصبحت حقيقة واقعة، بل إن الأمور عادت توحي بأكثر من تلك الرؤيا التي استرجعتها في تلك اللحظة، كانت هاجسا فأصبحت نقشا محفورا في الذاكرة لا تنفك عنها ولا أستطيع التخلص من ذكراها. المؤشرات جميعا تتجه نحو نهاية واحدة، الإعدام شنقا، وعزز ذلك الشعور المتعاظم حادث صغير حصل في أحد الأيام عند بداية حلول فصل الشتاء. ففي أحد الأيام اقتادونا إلى مخزن في البناية نفسها ليعطونا قطعة شتوية (بلوز)، بعد أن تهرأت جميع ملابسنا تقريبا، وهي ثياب صيفية - بالأصل كنا نرتديها ساعة اعتقالنا - شديدة القيظ، ولم تعد الآن قادرة على مقاومة برد الشتاء، حتى إن البعض كان يرتدي ملابس نوم واقتيد من حجرة نومه بها. لم يكن رجال الأمن يسمحون لأحد أثناء الاعتقال بارتداء أي قطعة إضافية أو تغيير ما يرتديه، يأخذون من يريدونه بما هو عليه وبأي زي كان عليه ولا يراعون أي وضع هو فيه.
أحد المعتقلين ممن كان معنا في الزنزانة كان نائما مثل عادة العوائل العراقية آنذاك في موسم الصيف على سطح الدار، وداهم رجال الأمن الدار ليلا وصعدوا إلى السطح يصوبون أسلحتهم إليه وهو في فراشه سحبوه منه بملابس نوم خفيفة جدا أقرب ما تكون لملابس داخلية، وهكذا كان حال المعتقلين الآخرين وهم يرتدون ثياب راحة وما شابه ذلك. المهم أثناء تسلمنا لتلك البلوزات قال ضابط أسمر قبيح متجهم الوجه عابس الهيئة ذو خلق سيئ فوق العادة (ح. ب.): «أعطهم بلوزات سودا حتى يعرفوا إلى أين هم ذاهبون.»
الأمر صار واضحا جدا وما علينا إذن الآن إلا أن نتسلى بما تبقى لنا من أيام في هذه الدنيا، وبات حالنا مثل نبتة تذوي في نسيان تام. هنا علي أن أعترف بأن شعورا جارفا من اليأس تملكني في هذه المرحلة وأصبحت عبثيا في تفكيري وأحاسيسي الداخلية، رحت أتساءل عن جدوى العقل في مدفن كهذا الذي نحن فيه. كنت ألوم نفسي بشدة متناهية، أحس بالعار يلبسني ويشي بكل سوءاتي، ولا يفتأ سؤال يقرعني ليل نهار: لماذا لم أقاوم وأرفض الاعتراف حتى مع حصول الخيانة؟ ماذا كان سيحصل لو قاومت؟ هل كنت سأموت تحت التعذيب؟ كما مات زميلي الطالب في كلية الهندسة الكهربائية الذي شاركنا المعتقل إلا أني لم أره فيه. وسمعت عن موته تحت التعذيب من آخرين.
كان قد سبقني إلى الزنزانات الفردية، وروى لي أحدهم آخر أيامه: أنه رآه أثناء التحقيق وهو على الأرض يرتدي دشداشة، عاجزا تماما عن الحركة شلت ذراعاه وألقي على الأرض بإهمال لتتكشف عورته بعد تهرؤ ما كان يكتسي به وتمزقها جراء التعذيب المتواصل. كان رجال الأمن قد عروه من ملابسه الداخلية كما فعلوا بنا جميعا. يقول الشاهد: إنه رآه ضعيفا منهكا لا يقوى على الكلام إلا بصوت واه خافت ضعيف كأنه همس مبحوح، وطلب منه أن يعدل له وضع دشداشته كي يستر نفسه؛ لأنه عجز عن فعل ذلك.
في صباح يوم عندما كان الحرس يوزعون شوربة الصباح طلبوا منه النهوض لاستلامها لم يرد، صاحوا به عدة مرات ولا يرجع لهم سوى صدى صراخهم. اضطروا لفتح باب الزنزانة الانفرادية، ليجدوه جثة هامدة، سحبوه في بطانية وأخذوه إلى مكان مجهول. لم يعثر أحد على جثته ولا رفاته إلى هذا اليوم، مثله مثل عشرات الآلاف من أمثاله، ولم يكن تغييب جثث القتلى والمعدومين حالة استثنائية، بل إجراء نمطي تقوم به السلطة، أعرف كثيرا ممن مات في السجن أو أعدم ولم تسلم جثته. سألنا عنهم عوائلهم لاحقا عقب خروجنا من السجن أو بعد سقوط النظام الفاشي كانوا يجهلون كل شيء ولا يعرفون مصير أبنائهم المغيبين.
كنت أقرع نفسي لماذا لم تصمد وتقاوم؟ ما الذي دهاك، ومم خفت؟ وماذا ستكون النتيجة، أليس الموت في أسوأ احتمالاتها؟ الآن سوف تموت أيضا، ولكن أي موت؟ الموت محبطا كمن يجلس في ساعة رمل محبوسا في زجاجة يعجزه الخروج من عنقها الضيق ويستمر تساقط ذرات الرمل عليه ليدفن تحته بلا أي مقاومة. كنت سأبلغ مرتعي المظلم نفسه في المقبرة لكن في خلو من هذا الشعور المزري، وربما كنت سوف أرد نهايتي بإحساس من البطولة والتحدي وأترك المرارة في نفوس الجناة وليس كما الحال الآن، فهم الذين انتصروا وأنا الذي أشعر بالخيبة ومرارة الهزيمة. مواقع كان لنا أن نتبادلها لو واصلت الصمود؟ الشجاع يموت مرة والجبان في كل يوم مرة، لا بل ألف مرة.
وعلى عكس طبعي السابق المتفائل المحب للحياة والأشياء الجميلة التي أتابعها من أدب وموسيقى ورياضة، واهتمامي بها يصل حد الهوس أحيانا، وهو طبع لم أتخل عنه حتى اليوم، صرت في تلك الأيام شخصا محبطا يائسا من الحياة وصار العيش فيها بنظري عبثا لا طائل منه، وإن هي إلا جرعات قليلة من هواء أتنفسه وبعدها سوف أتوارى في الغور العميق حيث أرض لا إياب منها ولا رجوع.
مع كل هذا الضعف والمقت الشديد لذاتي حينئذ، غير أني رمقت السماء في ديجور إحدى الليالي من دجنة زنزانة انفرادية تحت الأرض بقلبي؛ إذ لم يكن هناك من سبيل حقيقي لرؤيتها، وأطلقت أمنية مخلصة، أمنية خرجت من قرارة نفسي من أعمق ما فيها: «لا أريد أن أغادر الحياة الآن، سأقنع بأي الحلول إلا هجر هذه الدنيا عبر المقصلة.»
Page inconnue