الإهداء
الفصل الأول: تمثل الوافد
أولا: أنواع التأليف
ثانيا: المترجمون
ثالثا: الكندي
رابعا: الرازي والخازن والسجستاني والقوهي
خامسا: الفارابي، والعامري، وابن سهل
سادسا: ابن سينا
سابعا: ابن الهيثم، وعلي بن رضوان
ثامنا: ابن باجه وابن رشد
الفصل الثاني: تمثل الوافد قبل تنظير الموروث
أولا: المترجمون: ثابت بن قرة، ويحيى بن عدي
ثانيا: الرازي، وابن الجزار، والبلدي، والعامري، وابن هندو
ثالثا: مسكويه
رابعا: ابن سينا، والبيروني، وابن الهيثم
خامسا: ابن بختيشوع، وابن رضوان، والخيام
سادسا: الطغرائي، واللوكري، وابن باجه
سابعا: ابن زهر وابن رشد والعرضي
الفصل الثالث: تمثل الوافد مع تنظير الموروث
أولا: يحيى بن عدي، والعامري، ومسكويه، وابن سينا
ثانيا: ابن باجه
ثالثا: المجوسي، وابن البيطار، والطوسي، والفارسي، وابن الألعاني
رابعا: داود الأنطاكي، والقليوبي، والمنذري
الإهداء
الفصل الأول: تمثل الوافد
أولا: أنواع التأليف
ثانيا: المترجمون
ثالثا: الكندي
رابعا: الرازي والخازن والسجستاني والقوهي
خامسا: الفارابي، والعامري، وابن سهل
سادسا: ابن سينا
سابعا: ابن الهيثم، وعلي بن رضوان
ثامنا: ابن باجه وابن رشد
الفصل الثاني: تمثل الوافد قبل تنظير الموروث
أولا: المترجمون: ثابت بن قرة، ويحيى بن عدي
ثانيا: الرازي، وابن الجزار، والبلدي، والعامري، وابن هندو
ثالثا: مسكويه
رابعا: ابن سينا، والبيروني، وابن الهيثم
خامسا: ابن بختيشوع، وابن رضوان، والخيام
سادسا: الطغرائي، واللوكري، وابن باجه
سابعا: ابن زهر وابن رشد والعرضي
الفصل الثالث: تمثل الوافد مع تنظير الموروث
أولا: يحيى بن عدي، والعامري، ومسكويه، وابن سينا
ثانيا: ابن باجه
ثالثا: المجوسي، وابن البيطار، والطوسي، والفارسي، وابن الألعاني
رابعا: داود الأنطاكي، والقليوبي، والمنذري
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (2) التأليف
من النقل إلى الإبداع (المجلد الثاني التحول): (2) التأليف
تمثل الوافد - تمثل الوافد قبل تنظير الموروث - تمثل الوافد بعد تنظير الموروث
تأليف
حسن حنفي
الإهداء
إلى حكماء الأمة من جيلنا،
قضاء على التغريب في عصر.
حسن حنفي
الفصل الأول: تمثل الوافد
أولا: أنواع التأليف
يمثل التأليف مرحلة أعلى من العرض؛ فهو أكمل قسمة من حيث البنية العقلية، وأعمق تحليلا من حيث الغوص في المعاني، وأكثر برهنة وأدلة من حيث طرق الاستدلال، وتوجيه المادة نحو نظرية أعم تخرج من نطاق الخصوصية اليونانية ثم تطبيقها على المادة العربية وانطلاقا منها كخاص آخر أشبه بالعام، أكثر قدرة على احتواء الخاص الأول.
وللتأليف عدة أنواع يبدو فيها التحول من النقل إلى الإبداع طبقا لنسبة الوافد والموروث والقدرة على تجاوزهما معا إلى الإبداع الخالص عندما يعتمد النص على بنيته الداخلية اعتمادا على تحليل العقل الخالص دون مصادر خارجية من الوافد أو الموروث، وطبقا لمراحل التأليف المنطقية التي يتحد فيها التاريخ بالبنية يمكن التمييز بين ست منها، ثلاثة في التأليف، ثم يتحول التأليف إلى ثلاث أخرى في التراكم: (1)
تمثل الوافد، عندما يعتمد النص على الوافد وحده من أجل تمثله بعد ترجمته والتعليق عليه وشرحه وتلخيصه وجمعه وعرضه، وحتى يتحول إلى ثقافة داخلية ولا يبقى وافدا خارجيا. (2)
تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، عندما يعتمد النص أولا على المصدر الخارجي ثم يبدأ الموروث في الظهور متفاعلا مع الوافد على استحياء. (3)
تمثل الوافد مع تنظير الموروث، عندما يتعادل المصدران الداخلي والخارجي كما ويتفاعلان كيفا استعدادا لخلق نص جديد يتجاوز الوافد والموروث. وهو ليس تعادلا حسابيا، بل رياضي تقريبي، وحرف العطف «الواو» أو «مع» يفيدان نفس المعنى. ويظهر التراكم بتغير المعادلة والتحول من أولوية الوافد إلى أولوية الموروث. (4)
تنظير الموروث قبل تمثل الوافد، عندما يبدأ التحول بأولوية المصدر الداخلي على المصدر الخارجي بعد أن تم تمثل الوافد على نحو شبه كلي، وسيادة الموروث عليه بعد أن بدأ التراكم الفلسفي في الظهور وبداية الوعي التاريخي الفلسفي. (5)
تنظير الموروث عندما يختفي الوافد كلية ويتحول النص إلى تنظير للمصدر الداخلي، ويشتد التراكم الفلسفي الداخلي، ويفكر الوعي التاريخي على نفسه ومساره منتقلا من التاريخ إلى البنية. (6)
الإبداع الخالص عندما يختفي الوافد والموروث كلية، ويعتمد النص على ذاته على بنية الموضوع المتحدة مع بنية العقل؛ فلم يعد الإبداع في حاجة إلى نقل خارجي أو داخلي.
ولا يوجد حد فاصل بين هذه الأنواع الستة، إنما هي أنواع متصلة. نسبة الوافد إلى الموروث هي التي تميز بينها في مسار التحول من النقل إلى الإبداع.
ويمكن تحليل كل نص على حدة لبيان مكوناته، الوافد والموروث وآليات الإبداع أسوة بالعرض، وهو ما يبقي على النص وحدته كعمل فلسفي فني، عيبه التكرار خاصة في آليات الإبداع؛ لذلك ربما كان من الأفضل ضم الوافد كله معا في مجموعة النصوص التي تمثل الوافد لمعرفة وضع أرسطو أو أفلاطون أو سقراط في هذا النوع الأدبي وليس نصا نصا. وقد يفرض الواقع الطريقتين معا؛ فعرض الوافد يكون نصا نصا.
وبالرغم من أن نصوص تمثل الوافد نوع أدبي واحد، إلا أنها تمثل تتاليا في الزمان وتتابعا في التاريخ، ابتداء من مؤلفات المترجمين حتى ابن رشد وابن النفيس؛ فالبنية لا تضحي بالتاريخ، والتاريخ لا يضحي بالبنية. لقد استمر تمثل الوافد من البداية إلى النهاية، ولم يتوقف منذ المترجمين الأوائل في القرن الثالث حتى ابن النفيس في القرن السابع، مع أن المنطق والتاريخ يقتضيان أن تمثل الوافد ما هو إلا خطوة مبدئية ومرحلة أولى تنتهي إلى الإبداع الخالص. والواقع أن تمثل الوافد هو مصدر دائم يصب في الوعي التاريخي، هو البداية الضرورية لكل إبداع لاحق؛ فلا إبداع بلا نقل، ولا استمرار في الإبداع دون الاستمرار في النقل.
ولا يعني تمثل الوافد مجرد القبول، بل يعني أيضا الرفض والنقد والمراجعة؛ فهو تمثل فعال جدلي، بداية التفاعل بين الآخر والأنا؛ فالأنا لها وجود ثقافي، وإن لم يتخارج بعد في مواجهة آخر له حضور ثقافي فعلي.
وبالرغم من أن طريقة عرض تمثل الوافد عن طريق أسماء الحكماء ليست بالطريقة المثلى لأنها تشخيص للفكر، إلا أنه لا يوجد أفضل منها في رؤية التتابع التاريخي داخل البنية المتصلة. ولا يعني اسم العلم شخصه، بل تأليفه أو نصوصه. وقد حذف حتى لا يتكرر أمام كل علم. ولما كانت الأعلام تعرض ثقافة ولا تضعها، فإن الحضارة هي المقصود من وراء توالي الأعلام.
وبالرغم من أن العادة هي عدم ذكر النصوص إلا ما ندر منها في الهامش تفاديا لعيوب «من العقيدة إلى الثورة»، وأكثر نصوصه العارضة والدالة على موقف، إلا أن بعض النصوص الدالة في التأليف قد تم ذكرها في الهامش لإبراز الموقف والإقلال من شأن هوامش الأرقام الصورية الصامتة.
ولا يعتمد تمثل الوافد على إسقاط الموروث كلية؛ فالموروث هو الوعاء الشعوري أو اللاشعوري الذي يتم فيه صب الوافد كما هو الحال في رسالة الفارابي «معاني العقل»، أربعة من أرسطو، وواحد من المتكلمين، وواحد في الثقافة الشعبية. وفي كل الأنواع الأدبية يظل الموروث حاضرا بطريقة مباشرة، مثل المراحل من الثانية حتى الخامسة، أو بطريقة غير مباشرة، مثل النوع الأول «تمثل الوافد»، والنوع السادس «الإبداع الخالص».
وقد قام بتمثل الوافد تاريخيا حنين بن إسحاق (264ه)، والكندي (252ه)، والرازي (313ه)، والخازن (ه)، والسجستاني (331ه)، والفارابي (339ه)، والعامري (381ه)، وابن سينا (428ه)، وابن الهيثم (430ه)، وابن باجه (533ه)، وابن رشد (595ه)، ولكن من حيث الأهمية والكم يأتي الفارابي أولا؛ فهو بحق المعلم الثاني، ثم الكندي؛ فهو بحق فيلسوف العرب، ثم ابن سينا؛ فهو بحق الشيخ الرئيس، ثم حنين بن إسحاق رئيس مدرسة الحكمة، وابن الهيثم بطليموس الثاني، وابن باجه دفين فاس، ثم الرازي كبير الأطباء، وابن رشد الشارح الأعظم.
1
ثانيا: المترجمون
(1) حنين بن إسحاق
المترجمون نقلة وشراح ومؤلفون في نفس الوقت، تدخل أعمالهم في الترجمة والتعليق والشرح والتلخيص والعرض والتأليف، وإن كانت الترجمة هي الغالبة. ولما كانوا في بداية الحركة الفلسفية وأول من اتصلوا بالوافد عن طريق النقل، غلب على مؤلفاتهم تمثل الوافد. ولأنهم كانوا من النصارى، فقد قل تنظير الموروث أو غاب كليا؛ نظرا لأنه لم يكن رئيسيا في ثقافتهم بالرغم من أنهم كانوا على صلة بالحكماء، مثل يحيى بن عدي والفارابي.
ولا تدخل هذه المؤلفات ضمن تاريخ الأدب العربي المسيحي، بل ضمن تاريخ الفكر الإسلامي؛ لأنها لا تمثل تيارا مستقلا داخل الحضارة الإسلامية، بل تشارك في نفس التحليل العقلي المثالي للأخلاق أسوة باليونان، كما هو الحال في «تهذيب الأخلاق» ليحيى بن عدي؛ فاليونان هم القاسم المشترك بين الحكماء والمترجمين ، وهي جزء من العمليات الحضارية ومراحل التحول من النقل إلى الإبداع في الحضارة الإسلامية، من الترجمة والتعليق إلى الشروح والتلخيص والعرض والتأليف، إلى الإبداع الخالص أسوة بنصوص حكماء الإسلام؛ فالعمليات الحضارية لا تفرق بين مؤلفين مسلمين ومسيحيين ويهود ومجوس. كما لا تدخل هذه المؤلفات ضمن تاريخ العلم العام، في المرحلة العربية الإسلامية بعد الشرق القديم، ثم اليونان مع العصر الوسيط المسيحي تمهيدا لتاريخ العلم العربي؛ فلكل حضارة تاريخها الخاص وتحقيبها للتاريخ العام بناء على مركزيتها؛ فالعلم العربي الإسلامي ليس في العصر الوسيط، بل في المرحلة الأولى للحضارة الإسلامية التي أرخ لها ابن خلدون قبل أن تأتي في المرحلة الثانية بعد ابن خلدون وحتى الآن، في عصر الشروح والملخصات، وحتى فجر النهضة العربية الحديثة.
ولا تدخل هذه المؤلفات كجزء من تاريخ العلم العربي في مصادره الأولى؛ لأنها جزء من بنية ثقافية حضارية إسلامية مع باقي العلوم، وإبداعها في تراثها وعصرها، وليس بالقياس إلى العلم الغربي الحديث. هي جزء من علوم الحكمة؛ فالعلوم الطبيعية والرياضية جزء من الطبيعيات، وليست علوما مستقلة عن نسق العلوم العام الذي بدأ في «إحصاء العلوم». (أ) ولحنين بن إسحاق (264ه) «في حفظ الأسنان واللثة واستصلاحها»، وهو صاحب التفرقة بين أنواع تأليفه بين الثمار والتفسير والجوامع قبل ابن رشد، وهو تأليف علمي دقيق خال من الإنشاء، يظهر الوافد فيه على استحياء؛ أبقراط، ثم جالينوس، طبيبان في ذهن طبيب، والإحالة إلى قدماء الأطباء وحكماء الأطباء؛ ففي موضوع القيء جميع الأطباء خلا أبقراط يأمرون من يحتاج إلى القيء في الشهر مرتين، وهو أمر أن يكون في الشهر مرة. ويعتمد حنين على وصف جالينوس للسنين.
1
ولا يقتصر الوافد عند حنين على الوافد اليوناني، بل يشمل أيضا الوافد الهندي؛ إذ يتحدث عن الساذج هندي؛ فقد كان التراث الهندي سابقا على التراث اليوناني في شبه الجزيرة العربية عبر التجارة.
2
ومن مؤلفات المترجمين النصارى تظهر البنية الإسلامية أيضا من المؤلف أو الناسخ باعتبارها بيئة حضارية عامة للمسلمين والنصارى على حد سواء. تظهر البسملة والحمدلة والصلاة على الرسول وآله، والاعتماد على المشيئة الإلهية، مع بعض الصفات الأصلية الفلسفية، مثل «واهب العقل والحياة».
3 (ب) وفي «المسائل الطبية» له أيضا، المضموم إليها مسائل حبيش بن الحسن على مذهب أبقراط في الطب؛ فالتأليف عمل جماعي، يتصدر جالينوس وباغلوس الفيلسوف وأندروماخوس في فقرات متتالية، وكأن الوافد قد تم حصاره بالتأليف متحولا إلى تراكم في إبداع خالص.
4
ويذكر كلهم في تاريخ الأدوية المفردة والمركبة لعلاج سم الأفاعي. فكان المبدع الأول باغلوس الفيلسوف، ثم أندروماخوس المتمم والمكمل له، ثم جالينوس المصحح له والمظهر لحسناته وفضائله، ثم جاء حنين بن إسحاق المؤلف نفسه متحدثا عن نفسه كآخر جزء من التاريخ، انتزع من جالينوس قولا مجملا، وجعله مثل البذر لطالب الغلة من كتاب الترياق. اكتملت الحقيقة عند جالينوس ثم اجتهد في بيانها حنين، كما اكتملت الديانات السابقة في الإسلام ولم يبق بعده إلا الاجتهاد في التشريع.
5
ويظهر اسم «اليونانيون» وصفة «اليونانية»، وفي كلتا الحالتين الإشارة إلى اللغة. ويسمي اليونانيون حمى الدق أفطيفيوس، وكل حيوان ينهش في لغة اليونانيين تيريون، وكل دواء ترياق. ويسمي اليونانيون الحمى بأربعة أسماء طبقا لاختلاف درجات الحرارة، وتسمى باليونانية طبقا لكثرة مادتها أو شدة حرارتها، ويذكر اسم عفونة المرة الصفراء وعفونة البلغم باليونانية.
6
ولا يظهر من الموروث أعلام أو موضوعات باستثناء بعض الأسماء الجغرافية التي تعبر عن بيئة محلية، مؤسسا بذلك علم الطب الجغرافي أو علم الجغرافيا الطبية، مثل حدوث البياض عن برد بلاد الصقالبة، والسواد عند سخونة بلاد السودان.
7
ويغلب عليه الطب العقلي الفلسفي، وتغلب على نصائحه البداهة، وهو طب خالص خال من المعارك الطبية أو المدارس الفلسفية، سهل بسيط وواضح، يكاد يخلو من الأعلام، ويعتمد التأليف على فهم القسمة، وهي أولى مراحل التعريف، وهو أقرب إلى الثقافة الطبية. ولما كان الطب ثقافة القدماء أتت معجزات المسيح طبية، كما أتت معجزات العرب أدبية نظرا لثقاتهم الأدبية، ومعجزات اليهود مادية نظرا لطبيعتهم المادية.
وكثير من أسماء الأمراض والأدوية ما زال معربا دون أن يفقد النص أسلوبه العربي الأدبي، على خلاف معاصرينا من الشوام والمغاربة في نقلهم من التراث الغربي، بل يصل الأمر إلى التشبيهات، مثل «النبض رسول لا يكذب».
8
ويخلو من البسملات والحمدلات. (ج) و«كتاب العشر مقالات في العين» منسوب له أيضا، وهو أقدم كتاب في طب العيون ألف على الطريقة العلمية.
9
يتصدر أسماء الأعلام جالينوس، ثم أرباسيوس، ثم بولس الأجنيطي، ثم حنين نفسه، ونيلس، ثم أبقراط، وقراطيس، وقابيطون، وأندراس، وفيلوكسانوس (صاحب كتاب).
10
وقد ألف حنين هذا الكتاب على رأي أبقراط وجالينوس كما هو وارد في العنوان دون ادعاء الإبداع؛ فهو تأليف في الوافد المنقول دون إضافة أو إنقاص أو نقد أو تطوير.
11
الكتاب «مؤلف على ما بينه وشرحه جالينوس الحكيم بأوضح ما قدر عليه من القول وأوجزه». يعني تمثل الوافد؛ إذن الفهم، ثم إعادة العرض بوضوح وإيجاز، وهو نوع من الطب العقلي الذي يعتمد على البداهة وحدها، من مدرسة القياس، وليس من مدرسة التجربة في الطب. ويكمل النص في آخر المقالة السادسة مما نقله الرازي في «الحاوي». ويظهر الجانب النفسي «الروح النفساني» في وظيفة العين.
12
ويذكر القدماء إحالة إلى التراث الطبي القديم واستئنافا وتجاوزا له.
13
يذكر السريان والعرب وحبيش في إطار ترجمة الوافد. والكتاب مزود بالرسوم التوضيحية.
14
ولكن الأكثر ترددا هو صفة اليونانية، ثم اسم «اليونانيون»، ثم القدماء. وتعني الصفة اللغة، ذكر اسم المرض أو الداء معربا قبل الترجمة أو بعدها.
15
وأحيانا تذكر بعض الأسماء المعربة دون ذكر صفة اليونانية؛ لأنها واضحة أنها كذلك. والأسماء المترجمة تكشف قدرة فائقة على نحت المصطلحات. ويظهر الواقع المحلي؛ فأسماء الأدوية مثل الصمغ العربي والعرب والعربية والسرياني والسريانيون والتمر الهندي.
16
وتدل عبارات الربط على أن التمثل رغبة في الإيضاح؛ «وهذا ما أردنا إيضاحه»، «وهذا ما أردنا تفسيره».
17
وكما يبدأ النص بالبسملة ينتهي بسؤال الله أن يحفظ السائل وينفعه، وينفع الناس بالكتاب على يده دهرا طويلا وسنين كثيرة، ولا يطلب مكافأة إلا حسن الدعاء، ويتخلل النص اللجوء إلى المشيئة الإلهية في تعبير «إن شاء الله». (د) وفي «كتاب المولودين» لحنين أيضا يتصدر أبقراط؛ فهو الوحيد الذي كتب في الموضوع قبل حنين، واسمه «في المولودين لثمانية أشهر».
18
ويزيد حنين على ما سبقه إليه أبقراط ويعلل تعليلاته.
19
ولم يشتهر الكتاب لعدم المعرفة بلغة أبقراط ولا بالغرض من كتابه. وكرر الكتاب العنوان من جديد. يصرح فيه حنين أنه مجرد شارح لمعاني أبقراط في كتابه المذكور. وفي الخاتمة تحت مسائل أبقراط في «المولودين لثمانية أشهر»؛ مما يصعب معه التمييز بين التأليف والعرض ووضع المسألة بطريقة السؤال والجواب، وهو أسلوب تعليمي. ويسمي نفسه خادم أمير المؤمنين في عنوان الكتاب؛ مما يدل على توظيف العلماء عند السلاطين وخضوعهم لهم. ويتكرر العنوان في مسائل ألفها للسيد أمير المؤمنين أطال الله بقاء خادمه حنين بن إسحاق المتطبب،
20
ويبدأ بالبسملة والاستعانة بالله وسؤاله التوفيق، ولا ينتهي بالإيمانيات.
21 (ه) ولا فرق في تأليف المترجمين بين تمثل الوافد والعرض؛ فمقالة حنين بن إسحاق «في الضوء وحقيقته» جمعها من كتب أرسطوطاليس بمجرد إعادة كتابتها وعرضها عرضا نسقيا.
22
تمثل الوافد هنا يعني تجميع موضوع من أماكن متفرقة ثم وضع إطار نظري له. ويذكر أرسطو (مرتين)، وكتاب النفس (مرة واحدة)، ويضم عشر فقرات تبدأ منها بأحد أفعال القول: قال، احتج فقال، فالقول يسبقه الاحتجاج. ونسبة صيغة «احتج فقال» أعلى من صيغة «قال» فحسب؛
23
فالاحتجاج والقول حجة وبرهان، دليل وموقف، أسوة بأسلوب الفقهاء في الرد مسبقا على اعتراضات الخصوم. ويبين دخول المؤلف في فكر أرسطو وحججه وبراهينه ورؤيته من الداخل، وليس نقله من الخارج. وبالرغم من الغياب الكلي للموروث وغياب البسملات إلا أن الحمدلات في النهاية حاضرة.
24 (2) قسطا بن لوقا
ومن الواضح أن أعمال المترجمين تقع في تمثل الوافد؛ فهم أقرب إليه وأبعد عن الموروث، وهم أول من خرج من الترجمة إلى التعليق إلى الشرح والتلخيص والجامع قبل العرض والتأليف والتراكم. مثال ذلك رسالة «الفرق بين النفس والروح» لقسطا بن لوقا، أو ربما لإسحاق بن حنين.
25
فيحال إلى أفلاطون ثم أرسطو ثم ثاوفرسطس، وجالينوس، وأبقراط، وخروستوس؛ فأفلاطون وأرسطو هما فيلسوفا النفس يعبران عن وجهتي النظر؛ استقلال النفس عن البدن عند أفلاطون، وارتباطهما معا عند أرسطو.
26
ويحال إلى محاورة «طيماوس» لأفلاطون. ومن الفرق يذكر الفلاسفة والأطباء اليونانيون تمايزا بينهم وبين غيرهم. فتمثل الوافد لا يقضي على المغايرة بين الأنا والآخر.
والتأليف بناء على سؤال عيسى بن أرخانشاه طبقا لعادة العرب في التأليف وأحكام السؤال والجواب في أصول الفقه.
27
سؤاله عن الفرق بين الروح والنفس وأقوال الأوائل فيه. ولا يخلو النص من تعليق في الهامش من المحقق المؤلف أو القارئ أو الناسخ؛ فالتعليق ليس فقط على الترجمة، بل على التأليف،
28
والجواب في غاية الاختصار والإيجاز؛ فالتأليف ما زال في أوله عند المترجمين.
29
ويبدأ بتحديد ماهية كل من النفس والروح، أوجه التشابه بينهما وأوجه الاختلاف، أوجه الاتحاد بينهما وأوجه التمايز.
والبداية من أعلى، كمحاولة للتعريف النظري الخالص؛ مما يدل على درجة عالية من التحديد وتمثل الوافد. وهو تأليف شارح؛ أي أنه أقرب إلى العرض، وهو أولى مراحل التأليف، والغاية منه تحديد معاني الألفاظ كما هو الحال في الشروح المتأخرة عند المؤلفين.
30
وكالعادة تبدأ الرسالة بالبسملات والاستعانات بالله بالدعوة للسائل.
31 (3) يحيى بن عدي
ويغلب على المقالات الفلسفية ليحيى بن عدي (264ه) التحول من النقل إلى الإبداع في العرض والتأليف والتراكم، تمثل الوافد حتى الإبداع الخالص، تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، ثم تمثل الوافد مع تنظير الموروث، ثم يغيب تنظير الموروث قبل تمثل الوافد وتنظير الموروث. يغلب الطرفان النقيضان، الأول تمثل الوافد، والسادس الإبداع الخالص؛ ثم الطرفان الوسيطان، الثاني تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، والثالث تمثل الوافد مع تنظير الموروث؛ ويغيب الوسطان، الرابع تنظير الموروث قبل تمثل الوافد، والخامس تنظير الموروث. ولا توجد مقالات في العرض الجزئي.
32
وسبب تغليب تمثل الوافد هو القرب من الترجمة، وكان يحيى بن عدي مترجما وفيلسوفا في آن واحد، ناقلا وعارضا. ويغلب على الموضوعات المنطق أكثر من الطبيعيات والإلهيات؛ فهو تلميذ الفارابي. (أ) ففي مقالة «في غير المتناهي» يتصدر أرسطو ومؤلفاته، السماع الطبيعي، ثم قاطيغورياس.
33
يستشهد بأرسطو على القضايا الأولية، مثل أن الجزئيات التي لا تدخل في الكليات لا تكون الكليات حاضرة لها، كما صرح بذلك في قاطيغورياس، كما يشرح قول أرسطو في المقالة الأولى من السماع الطبيعي إن غير المتناهي كم، وفي المقالة الثالثة إن ما لا نهاية له قائم بنفسه لغموض القولين؛ فالتمثل هنا بمعنى الإيضاح.
ولا يعني تمثل الوافد وغياب تنظير الموروث الانعزال عن العصر وقضاياه، بل هو استجابة إلى شك متفلسفة العصر من قبل الوهم وسوء القياس، والظن بالعدد أنه ذو نهاية من تلقاء أوله، وغير متنهاه من تلقاء آخره. يبين ابن عدي فساد هذا الرأي وبطلان هذا الوهم، وإثبات أنه لا يوجد في العدد معنى غير التناهي أو عدد لا نهاية له. ويعتمد في ذلك على الأوائل في العقل. وقد يكون الدافع على ذلك تفرد الله بصفة اللامتناهي كما أوضح الكندي من قبل. وإذا كانت الرسالة تبدأ بالبسملة من الناسخ فإنها تنتهي بطلب تأييد «الله الهادي إلى الحق، البادئ بالجود على الخلق، ذي الجود والحكمة والحول، ولي العدل، وواهب العقل»، له الحمد والشكر كما هو أهل له. (ب) وفي «تبيين وجود الأمور العامية، والنحو الذي عليه تكون محمولة، والنحو الذي تخرج به من أن تكون محمولة» يتصدر الفيلسوف أرسطو ومؤلفاته، البرهان، ثم السماع الطبيعي، ثم الكون والفساد والنفس.
34
ويؤخذ قول أرسطو حجة لمنكري وجود المعاني والصور الذهنية والنفسية في الخارج؛ لقوله في «البرهان» إن الصور فرع باطل، وإن إثباتها في الخارج ليس اضطرارا؛ ولقوله في «النفس» إن ما يوجد في الخارج هي الأشخاص، وقوله في «الكون والفساد» إن الجسم العام لا وجود له. كل ذلك في إطار نقده لنظرية المثل، وهو سوء تأويل لأقوال أرسطو. صحيح أن أرسطو ينكر وجود المعاني الكلية في الخارج، ولكنه يثبت وجودها وجودا منطقيا، كما صرح في «قاطيغورياس» أن ليس كل الموجودات في موضوع، وصرح في «البرهان» بإمكانية وجود كلمات تضم الأجزاء، وهي الأمور العامة، وبين أيضا أن البرهان لا يكون إلا على الكلي وليس على الجزئي، وأن البرهان على الكلي أفضل من البرهان على الجزئي. وإذا كان العلم لا يكون بما ليس بموجود، فكيف لا يكون للكليات وجود منطقي، وأرسطو فيلسوف مبرز وعاقل؟ من الواضح إذن إثبات أرسطو المعاني كأنواع، والأنواع لها وجود منطقي، وهو ما صرح به أرسطو في «السماع الطبيعي»، كما أن الصورة متصلة بالمادة، والمادة تقبلها؛ فالصورة ليست مجرد وهم؛ ومن ثم يفسد تأويل قول أرسطو بأن المعاني لا توجد إلا في النفس. الموجودات عند أرسطو على درجات بين المادة والصورة، كما صرح بذلك في «السماع الطبيعي». يعني تمثل الوافد إذن تصحيح فهم أقوال أرسطو ضد سوء تأويلها من مختلف الفرق، والعودة إلى نصوص أرسطو المتقابلة في عديد من مؤلفاته المنطقية والطبيعية لإعطاء التأويل الصحيح، وهو ما كرره ابن رشد فيما بعد. وباستثناء البسملة في البداية من المؤلف أو الناسخ لا توجد إيمانيات أو حمدلات أو دعوات وصلوات. (ج) وفي «مقالة في تزييف قول القائلين بتركيب الأجسام من أجزاء لا تتجزأ» لا يذكر من الوافد إلا «السماع الطبيعي»، وهو نقد للمتكلمين مثل نقد ابن رشد؛ فقد تبين فيه أن لكل صورة من الصور الطبيعية مقدارا من العظم لا يوجد في أصغر منه، وهو تلبيس من الخصوم.
35 (د) وفي «مقالة بينه وبين إبراهيم بن عدي الكاتب، ومناقضته في أن الجسم جوهر وعرض» يذكر أرسطو مرة واحدة اعتمادا عليه لإثبات فساد العالم أي فئاته، وهي قضية أولية في العقل لا تحتاج إلى برهان. ومع ذلك فإن الدليل هو أن كل جسم جوهر وعرض سواء في هذه الدنيا أو في غيره. ويكشف ابن عدي عن التصور الديني للعالم، وما هو مستقر به في الديانات من القول بالمعاد والثوب والعقاب. وقد حدث التراكم الفلسفي في هذه الفترة المبكرة؛ فيحيى بن عدي يناقض إبراهيم بن عدي.
36 (ه) وفي «قول فيه تفسير أشياء ذكرها عند ذكره فضل صناعة المنطق» لا يذكر إلا الفيلسوف أرسطو ثم السوفسطائيون.
37
وهو دفاع عن المنطق ضد مغالطات السوفسطائيين، وإثبات للمنطق المعياري ضد المنطق البرجماتي. ويعتمد على أرسطو في إخراج النتائج اليقينية من المقدمات اليقينية الكاذبة، والنتائج الكاذبة من المقدمات الكاذبة. وبعد البسملة من المؤلف أو الناسخ تتم الدعوة بطول العمر للسائل، فالمقالة إجابة على سؤال، والدعوة لله ذي الجود والحكمة والحول، ولي العدل، وواهب العقل، والشكر له دائما كما هو أهل له. (و) وفي مقالة «في تبيين أن الشخص اسم مشترك» لا يذكر إلا فرفوريوس، وتعريفه للشخص الذي يطلق على كل واحد ضد المتفلسفين الذين زاغوا عن الحق، واعترفوا أنه يدل على معنى واحد بعينه عام موجود لجميع الأشخاص. تمثل الوافد هنا يعني تصحيح خطأ الفلاسفة؛ فالشخص اسم مشترك يدل على معنيين. ولا يذكر من الموروث إلا المثل العربي زيد وعمرو لضرب المثل على اسم شخص. وينتهي المقال إلى أن اسم الشخص مشترك، وأن المعاني التي يدل عليها متفقة أسماؤها وليست متواطئة، بتوفيق الله وتسديده وحين معونته. وينتهي المقال بالدعوة بالتوفيق والتسديد وحسن العون من الله.
38
فالموضوع وافد، جزء من ثقافة المترجم وإطاره المرجعي، ولكن القالب موروث من مبحث الألفاظ عند الأصوليين في اشتراك الاسم.
39 (ز) وفي «مقالة في الموجودات» يذكر الفيلسوف أرسطو، ثم السماع الطبيعي.
40
يذكر تعريفه في النفس بأنها كمال، وتحديده للطبيعة بأنها مبدأ وحركة وسكون في الشيء بالذات لا بالعرض، وتحديده للهيولى بأنه الموضوع الأول لشيء شيء الذي عنه يتكون الشيء وموجود فيه لا بطريقة العرض، وتحديده للصورة بأنها خلقة لما فيه بنفسه مبدأ الحركة، وهي الصورة الهيولانية. والحركة كمال ما هو بالقوة بما هو كذلك، والزمان مدة تعدها الحركة بالمتقدم والمتأخر. كما بين في السماع الطبيعي أنه ما لم تكن هناك حركة لا يكون هناك زمان، وعرف المكان بأنه السطح الداخل من الجسم المادي للسطح الخارج من الجسم المحوي. وبين في المقالة الرابعة من «السماع الطبيعي» أن الخلاء غير موجود. ولا تزال كلمة «الأسطقسات» معربة؛ فالتعريفات أشبه ببداية المصطلحات، وكلها من أرسطو، ولقبه الحكيم.
أما الموروث فيظهر في البسملة من المؤلف أو الناسخ، وتعريف الباري أولا بأنه جوهر غير ذي جسم، جواد، حكيم، قادر، أزلي، عاقل ذاته، على غاية الحقيقة ، أقدم من كل ما سواه بالذات وبالمرتبة وبالشرف، علة وجود كل موجود غيره، وتكون كل متكون. وينهي المقالة بالحمدلة. (ح) وفي «القول إن كل متصل فإنه ينقسم إلى أشياء تنقسم دائما بغير نهاية» لا يذكر إلا كتاب إقليدس استشهادا به على أن كل خط منقسم قسمين دون التصريح بوجود الجزء الذي لا يتجزأ. والموضوع تجريدي أقرب إلى البراهين الرياضية. وتبدأ المقالة بالبسملة، وتنتهي بعون الله.
41 (ط) وفي «إثبات طبيعة الممكن، ونقض حجج المخالفين لذلك، والتنبيه على فسادها» بالرغم من أنها رسالة موجهة إلى أبي بكر أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن الحسن بن قريش في العنوان، إلا أنها لا تذكر إلا الوافد؛ أرسطو، ثم كتاب باري أرمنياس، ثم الفلاسفة القدماء.
42
وهي الرسالة الوحيدة المقسمة إلى أبواب (وفصول)، وعرض ملخصها سلفا، والموضوع هو حل الخلاف بين الفلاسفة القدماء حول طبيعة الممكن، وحله عن طريق «اقتصاص كلام أرسطو»؛ أي العودة إلى الأصول والتنبيه على مواطن الغلط ضد النافين له، وإيراد البراهين على إثباته، وبيان المستغلق من كلام أرسطو وتوضيحه. فالتمثل يعني إزالة الخلاف بين الشراح اليونان والذهاب من الأنا إلى الآخر، ثم توضيح الأصول ذاتها عند الآخر؛ فهو واجب تجاه الآخر قبل أن يكون واجبا تجاه الأنا. وحجة النفاة مأخوذة من كلام أرسطو من ضرورة صدق أحد النقيضين وكذب الآخر. نشأ الخلاف بين الفلاسفة القدماء ابتداء من كتاب العبارة لأرسطو باري أرمنياس. والخلاف بين القدماء هو: هل الجزئيات في الزمان المستقبل ممكنة أم هي ضرورية كلها؟ وحله باقتصاص كلام أرسطو الفيلسوف في حجة النافين للممكن، ثم إبطالها من غير زيادة أو نقص على «قصته». المعاني الكلية فيها الإيجاب والسلب؛ وبالتالي الصدق والكذب، وليست المعاني الجزئية. ويتم شرح ذلك تفصيلا حسب معانيه بتحليل ألفاظ الزمان مثل «الآن»، وألفاظ الحكم مثل السلب والإيجاب، وبيان مضمون بعض الألفاظ مثل الأمرين، ويعنيان الوجود والعدم. يرد أرسطو على النافين للممكن سلبا ثم يثبته إيجابا. ويشرح ابن عدي غرضه في فصل فصل من العبارة حتى يلم العبارات بقصدها. مواضع الغلط في حجج النافين هو عدم التمييز بين حال وجود الشيء إذا كان موجودا وحال وجوده على الإطلاق.
ويبدو التصور الديني في حجة نفي الممكن، وهو سبق العلم الإلهي، وهو علم ضروري خال من الممكنات، وهو ليس سببا عنصريا (ماديا) أو صوريا أو فاعلا أو كماليا (غائيا) أو أدويا (من أداة) أو مثاليا، وهو تحديد للموضوع عن طريق السلب لأنواع العلل الأرسطية أن تكون نافية للممكن. وعلم الله المسبق هي حجة المتكلمين لإثبات القدر ونفي الاستطاعة وخلق الأفعال. يحيل ابن عدي إلى رسالته في ماهية العلم؛ مما يدل على تكامل مشروعه الفكري. وتضرب الأمثلة بزيد وعمرو لبيان الفرق بين الماهية والوجود طبقا للأسلوب العربي. ويوصف الباري بجل اسمه، وتعالى عما يقوله الضالون. ويتم عرض الرسالة بتأييد الله ذي الجود والحكمة، ولي العدل وواهب العقل، وهي صفات الحكماء ونعوتهم لله. ويتم البحث بمعونة الله وحسن توفيقه بالتوكل على الله.
ثالثا: الكندي
(1) الرسائل الفلسفية والطبيعة (أ) نظرا لأن الكندي (252ه) أول الفلاسفة، ويمثل تحولا من الترجمة إلى التأليف، ومن الكلام إلى الفلسفة، ظهر «تمثل الوافد» لديه بوضوح. وأهم ما يميز تأليف الكندي، مثل «رسالة إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى»، انفتاحه على الوافد إلى أقصى حد؛ مما ساعده على تمثله، ونقده إلى أقصى حد؛ مما ساعد على تجاوزه، الانفتاح على الآخر والاستقلال عنه، تقريظ القدماء وتطويرهم، والتأكيد على أهمية الأوائل وتصحيح أقوالهم، ضرورة البداية بالسلف وضرورة استمرار الخلف، الجمع بين القديم والجديد، أو بلغة العصر بين الأصالة والمعاصرة. أهم ما يميز الكندي إذن هو الوعي التاريخي العام بتطور الحضارات، وإكمال اللاحق منها السابق. وكما لا تستطيع حضارة واحدة أن تصل إلى كل شيء، كذلك لا يستطيع فرد واحد أن يعرف كل شيء. ومن هنا أتت ضرورة التكامل والتراكم والتعاون بين الحضارات؛ فكل حضارة لها المبرزون والعاديون. ونظرا لعدم استطاعة إنسان واحد بعمره القصير وجهده المحدود الوصول إلى الحقيقة، لزم تضافر الجهود، وتراكم الأعمار، ومساهمة الأجيال، وتعاون الأمم، وتكامل الحضارات. هناك شركة بين الحضارات وألفة بين الشعوب. وتتحقق هذه الوحدة الحضارية من خلال العمل . تتعاون الأمم حضاريا فيما بينها، ويساهم كل منها بدوره في صياغة حضارة إنسانية شاملة واحدة. يحدث التراكم الحضاري من أجل التقدم البشري. البشرية كلها مشروع بحث عن الحق والكشف عنه، ومساهمة كل أمة في هذا المشروع دون مركزية لإحداها، أو عنصرية لقوم، أو إجحاف لحق الأمم الأخرى، بل الاعتراف بدور الأمم السابقة وفضلها بالدفاع عنها. كل أمة تكمل الأمم السابقة، ما نقص عندها. هناك تكامل بين الأمم، وليس الهدم أو الإنكار المتبادل. مهمة المحدثين إكمال ما ترك القدماء ناقصا في نظرة كلية شاملة؛ فالأجزاء فيه تتجه نحو التكامل، والكل يضم الأجزاء فيه.
1
الخلاف بين الحضارات في اللسان، وليس في الفكر، أو في البحث عن الحق وطلبه، أو الوصول إليه؛ لذلك لزم شكر القدماء والاعتراف بفضلهم؛ إذ لا يمكن ذم من كانوا أحد أسباب المنافع الكبرى والصغرى، حتى وإن قصروا عن الحق فإنهم شركاء فيه بما أفادوه من ثمار فكرهم التي استفاد منها البشر جميعا. لم يستأثر شعب بالحق كله، بل ساهم في معرفته الجميع؛ فالشكر لهم جميعا للصغير والكبير لمن ساهم بالقليل وبالكثير؛ فلولا القدماء لما كان المحدثون، والحق فوق الأمم والشعوب، ولا يضير الحق أن يعلن من الأمم البعيدة والأجناس القاصية، وكأن الكندي يعبر عن آية
وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا .
2
بداية الوعي بالتاريخ هو البداية بالقدماء وإكمالهم، والتحول من النقل إلى الإبداع.
3
ولم يذكر الكندي أرسطو في «رسالة إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى»، وهي عمدة رسائله الفلسفية، إلا مرة واحدة استشهادا به على فكرة الكندي الخاصة بضرورة احترام القدماء، أو أخذ الحق من أي مصدر كان دون الانغلاق على الذات والتشنج ضد الآخر ورفضه، مجرد حجة خارجية لفكرة داخلية اعتمادا على أكبر سلطة عند القدماء في الحضارات القديمة لإيجاد نوع من التواصل بين القديم والجديد؛ لذلك كانت أكثر الألفاظ ورودا في مؤلفات الكندي التي تتمثل الوافد «القدماء»، «حكماء القدماء».
4
ولا يشير الكندي إلا إلى كبار الحكماء المبرزين منهم؛ فهم علامات تطور الحضارة البشرية. والإشارة إلى القدماء على وجه العموم دون تحديد حضارة خاصة، وإن كانت اليونانية هي الأغلب، أو تعيين لتيار أو فيلسوف خاص، وإن كانت الرواقية هي الأغلب. وتحقيق المناط في التاريخ لا يهم، بل المهم الفكرة والاتجاه القصد. (ب) وفي «سجود الجرم الأقصى» قد تتحول حضارة بفكرة تقبلها باقي الحضارات، مثل فكرة تقابل العالم الأصغر مع العالم الأكبر، وتصبح فكرة معقولة في حكمة البشر بصرف النظر عن الشعب القائل بها أولا. له فضل السبق، ولكنها مستقلة عنه، تطابق العقل والواقع، صورة فنية، تشبيه إنساني، تسانده الملاحظة والتجربة ويدعمه النقل،
وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون ، ورددها إخوان الصفا فيما بعد. تمثل الوافد إذن يقوم أحيانا على انفتاح على الموروث بطريقة لا شعورية؛ إذ يقبع الموروث في اللاشعور يستقبل الوافد في الشعور.
5
ويشير الكندي إلى ما أسماه القدماء الحكماء من اليونانيين بعد المشاهدة والتجربة والتعليل، ويصدق أقوالهم؛ فمراجعة كتب القدماء ضرورية قبل التسليم بها، ولا يمكن معرفة كتب القدماء دون معرفة أوائل العلوم، وإلا كان الناقل لها كالحمار يحمل أسفارا، كالأمي الذي لا يعرف لغة أو يقرأ كتابا. وتتم مراجعتها بالحس والمشاهدة، والانتقال من اللفظ والمعنى إلى الشيء، ومن الخطاب إلى الواقع، ودون ذلك لا يمكن فهم كتب القدماء. شرط الفهم معرفة العلم أولا قبل قراءة كتاب علم، انتقالا من الشيء إلى اللفظ، ومن الواقع إلى الفكر. هناك إذن حدود للمعرفة المكتبية التي لا حصر لها، ولكن يمكن ضبطها بالتجربة المباشرة؛ لذلك يفرق الكندي بين الاسم والمسمى، وحدة المسمى وتعدد الأسماء؛ فالشيء مستقل عن اللغة، والموضوع سابق على الإدراك؛ لذلك تشير الحضارات إلى نفس الشيء بلغات متعددة. يستعمل الكندي إذن منهجا مركبا في العلم. حين تمثل الوافد يقوم على أربع خطوات، هي: (أ)
معرفة أوائل العلوم الطبيعية، وترتيبها وفنونها والصبر عليها؛ فالتمثل لا يبدأ بالكتاب، بل بالمعرفة السابقة عليه، انتقالا من الشيء إلى اللفظ، ومن العالم إلى اللغة، ومن الأنا إلى الآخر . (ب)
مراجعة كتب القدماء؛ فالتمثل ليس موقفا سلبيا يقوم على التحصيل والتعليم والنقل ، بل على مراجعة المنقول ابتداء من المعروف بالعقل والتجربة. (ج)
معرفة لغتها والتفرقة بين الأسماء والمسميات حتى يسهل التفاعل بين الأنا والآخر، بين المنقول والأشياء المستقلة عنها، والتي هي مشاع بين الحضارات جميعها. (د)
العلوم الإنسانية نسبية محدودة، تختلف في إدراكها الحضارات والشعوب. ومن هنا أتت ضرورة التكامل بينها من أجل رؤية متكاملة للموضوع المستقل وراء المنقول.
6
وأحد أسباب تمثل الوافد عند الكندي اختصار ما أطاله القدماء طبقا لما عرف صحته وجربه بنفسه؛ فهو ليس اختصارا للأقوال، بل تحقق من صدقها، واستبقاء ما طابق الواقع، وحذف الحشو والإطالة، وما لا يطابق الواقع أشبه بدور «الجوامع» عند ابن رشد. ويتم الاختصار بناء على التجربة، والمراجعة لأقوال القدماء، والتوثق من صحتها بمراجعتها على التجارب تمحيصا لها، وهو مقياس مستمد لا شعوريا من مصطلح علم الحديث، مراجعة الخبر على الحس؛ فشهادة الحس أحد شروط التواتر مع العدد الكافي، واستقلال الرواة، وتجانس انتشار الرواية في الزمان.
7
المطابقة مع الحس أساس الحكم على صحة ما يقوله القدماء كرواية تاريخية، كما هو الحال في نظرية العلم في علم الأصول واليقين في الأخبار. لا يكفي في العلم مجرد روايات السابقين ونقل آرائهم، بل لا بد من تمحيصها وتصديقها وزيادتها بالعلم المباشر.
8
ولا يشذ على هذه المراجعة والتصديق أحد، حتى ولو كان أرسطو. (ج) وفي «المد والجزر» روى أرسطو أن نصول السهام إذا رمي بها في الجو ذاب الرصاص الملصق بها، وهي رواية محرفة؛ لأن رصاص السهام لا يذوب في نار المدة التي يخرق بها السهم الجو، ولا يمكن أن يحمي الهواء أكثر من النار، كما أن الهواء الذي يخرق السهم يتغير بهواء جديد؛ فالتجربة لا تصدق هذه الرواية عن أرسطو، والتجربة مدعاة للتصديق؛ لأن الحس مقياس صدق الخبر.
9
ويذكر أرسطو للتحقق من صدق رواية ذوبان رصاص السهام باختراقها الجو؛ لأن التجربة أثبتت أن الحرارة المتولدة عن الاحتكاك بالهواء أقل من حرارة النار، كما أن الهواء البارد اللاصق في الجو يبرد حرارة الاحتكاك بالهواء المحتك؛ فالرواية عن أرسطو محرفة بالضرورة. (د) وفي «رسالة الجو» يراجع الكندي من القدماء أقوال مارينوس وبطليموس، وقياساتهما لارتفاع البخار معللا بارتفاع الجبال في بيئتهم؛ فالعلم تحليل كمي، وليس فقط تحليلا كيفيا؛ يعتمد على القياس، وليس على مجرد الرأي؛ فالإحالة إلى الآخر بناء على سؤال التراث، ومراجعة صحة نتائج الآخر بعد تجربة الذات، كان يمكن للكندي ذكر غيرهم؛ فالتخصص لا يعني التشخيص أو الإعجاب بشخص دون غيره.
10
ويسمي الكندي أصحاب المقالات في علم الهيئة المتكلمين، وهو لفظ موروث لتمثل الوافد؛ ومن ثم يصبح القدماء أشبه بفرقة كلامية ما دامت قد انتشرت أقوالها في الداخل، وكأنها من الفرق غير الإسلامية. يدرس الكندي الموضوع، فإذا ما اتفق مع القدماء أشير إليهم، خاصة إذا كان القدماء من المنجمين؛ أي من العلماء غير العلميين. وقد يرجع اختلاف العلماء إلى اختلاف الأسماء على نفس المسميات.
11
وواضح أن المراجعة تتم أولا في العلم اليوناني قبل أن تكون في الفلسفة اليونانية، وأن تمثل الوافد كان أولا للعلم قبل أن يكون للفلسفة؛ فقد كان الكندي طبيبا ورياضيا وطبيعيا وفيلسوفا، يدرس الطبيعيات والرياضيات دراسته للإنسانيات والإلهيات.
وصلة القدماء بالمحدثين صلة الأصول بالفروع، وهما مفهومان أصوليان؛ فقد وضع القدماء القواعد وبنى المحدثون عليها، وهي نظرة أيضا أصولية، الأصل والفرع في القياس الشرعي. يضع القدماء المقدمات ويستنتج المحدثون النتائج، والبحث بلا مقدمات لا يؤدي إلى شيء، ومضيعة للعمر والوقت. وإن ظهور تعبيرات، مثل القدماء المبرزين من المتفلسفين قبلنا من غير أهل لساننا، حكماء القدماء من غير أهل لساننا، القدماء من اليونانيين، الحكماء القدماء، المتقدمين، القدماء من حكماء اليونانيين، لأكثر ذكرا من أعلام اليونان، أرسطو وأفلاطون وسقراط وبطليموس وأيسقلاوس والإسكندر. يحيل الكندي إلى القديم من أجل تأصيل الجديد، ويتمثل الوافد من أجل تنظير الموروث فيما بعد بصرف النظر عن الأشخاص، وهو وعي تاريخي حضاري عام يكشف عن تفاعل الحضارات، وليس تبعية مفكر لمفكر، أو إعجاب فيلسوف بفيلسوف، أو عشق حكيم لحكيم، كما يفعل الباحثون في هذا العصر. (ه) وفي «الجواهر الخمسة» يذكر الكندي من المجموعات الفلاسفة واختلاف آرائهم في الزمان دون ذكر لأفلاطون أو أرسطو، كما فعل في المكان. قال بعضهم إنه الحركة ذاتها، بينما أنكر ذلك البعض الآخر. ثم يتحقق الكندي من صواب أحد القولين أو خطئه دون الاعتماد على أفلاطون أو أرسطو، أو ذكر لهما أو لغيرهما. يحكم الكندي على الأقوال ويفصل بينها كما يفصل الإسلام مع باقي الديانات، وكما يفعل القدماء مع الكتب السابقة، حكما وفصلا للخطاب،
مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ، وكما يفعل ابن رشد القاضي للفصل بين المتخاصمين وهم الشراح. ويحيل إلى شرحه لكتاب المقولات؛ أي إلى الأنا متمثلا الوافد، وليس الوافد مباشرة كما هو الحال في العرض.
12
ويشير الكندي في «الجواهر الخمسة» إلى أرسطو (مرتين)، وأفلاطون (مرة واحدة)، وربما استعمل الكندي لأول مرة صياغة «قال» الحكيم أرسطوطاليس بداية بالقول، وليس بداية بالشيء، ووصفه بأنه الحكيم احترام له. وسبب الاحترام أن الحكمة ضالة المؤمن، والحكيم من صفات الله؛ فأرسطو مر على الإسلام أولا. ويقدم الكندي قراءة إسلامية لأرسطو اليوناني، ويحدد الموضع الذي قال فيه أرسطو ذلك توخيا للدقة، واستشهادا بعلم مدون، وليس فقط برأي شخص عن هوى أو ظن، ثم يظهر أفلاطون مع أرسطو في تعريف المكان، واختلاف الفلاسفة فيه سبب غموضه وخفائه؛ فبينما أنكره البعض، قال البعض الآخر مثل أفلاطون إنه جسم، وقال فرد ثالث إنه ليس بجسم، وقال أرسطو إنه موجود وبين. لم يذكر الكندي إذن أفلاطون وأرسطو بشخصيهما، بل لأنهما يمثلان رأيين بنيويين في المكان، وليسا مقصورين عليهما فقط، بل يشاركان فيهما غيرهما من الفلاسفة. ويستعمل الكندي عبارة «أما أرسطوطاليس»؛ أي إنه قد يكون لديه القول الفصل في النهاية، ثم لا يترك الكندي لأرسطو هذا القول الفصل في النهاية دون توضيحه والكشف عنه بمزيد من البرهنة. هناك إذن تحقق ومراجعة، وليس تبعية أو تقليدا.
13
والانتقال من القديم إلى الحديث هو انتقال من الغموض إلى الوضوح، ومن الصعوبة إلى السهولة، وكان تطور الحضارات كما برز في تطور الفلسفة هو نحو مزيد من الإيضاح والسهولة.
14
ويكون كل تأليف بلغة عصره وعادة أهل الزمان؛ فلكل عصر أسلوبه ولغته ومستوى ثقافته، وطبقا للجهد البشري بالرغم من بقاء بعض المصطلحات المعربة من عصر إلى عصر آخر مثل «الأسطقسات». (و) ثم يذكر أرسطو (مرة واحدة) مع أفلاطون (ثلاث مرات)، التلميذ مع الأستاذ، في «ماهية النوم والرؤيا»؛
15
فأرسطو هنا الفيلسوف المبرز تابع لأفلاطون حكيم اليونانيين راويا عنه أقواله في النفس بأن لها علما بالطبع، وأنها تحيط بجميع الأشياء المعلومة حسية كانت أم عقلية؛ فأفلاطون هو حكيم اليونانيين، آخر ما وصل إليه القدماء من علم، والكندي يستأنف العلم القديم بالعلم الجديد. وقد انتهى أفلاطون طبقا لرواية أرسطو إلى ما وصل إليه الكندي من قبل، ولم ينقله فقط أرسطو عن أفلاطون، بل اقتناه وتبناه؛ وبالتالي تتأكد السلطة العلمية للقدماء مرتين؛ أفلاطون العالم، وأرسطو العالم الراوي. ويستشهد الكندي بأفلاطون على أنه قال نفس الشيء قبله طبقا لرواية أرسطو؛ فالكندي هو العالم. ويتأكد قوله بحجة تاريخ العلم، أفلاطون عن طريق رواية أرسطو طبقا للأمانة العلمية، وعن طريق تأكيد ما قاله بالعلم والبرهان دون تقليد أو تبعية. صحيح أن الكندي يستعمل لفظ «فنطاسيا» المعرب، ويعني القوة أو التخيل، أي الرؤية والنبوة والأحلام؛ وذلك لأن الكندي أول حكماء الإسلام، وما زال المصطلح العربي لم يستقر بعد بين النقل والتعريب؛ فالقوة المصورة عند الكندي هي التي يسميها اليونان فنطاسيا، وليست الفنطاسيا عند اليونان هي التي يسميها الكندي القوة المصورة. الكندي لديه المسمى واليونان لديهم الاسم، ربطا للجديد بالقديم، واستمرارا لتاريخ العلم. وفي مقابل أفلاطون وأرسطو ذكر الكندي مصدرا موروثا، أو بالأصح واقعا محليا، هو حمزة بن نصر وذويه كنموذج لأضغاث الأحلام ونكس القول وتخليط الكلام، وهو من المرويات في الثقافة الشعبية الموروثة.
16 (ز) وفي رسالة الكندي في «العقل» يذكر أرسطو (ثلاث مرات)، وأفلاطون (مرتين)، وأرسطو هو الأول في الذكر. وقد تمت الإشارة إلى اليونان بناء على سؤال من الواقع، وليس تبعية لهذا الفيلسوف أو ذاك أو نقلا عن الآخرين؛ فالتعامل مع اليونان تعامل مع الواقع بعد أن أصبح الوافد جزءا منه، وكأننا مع الوحي والواقع وأسباب النزول؛ فالواقع يسأل والواقع يجيب. الواقع يسأل عن رسم قول في العقل واليونان تجيب، اليونان ككل وليس واحدا بعينه، حضارة الغير من لها باع في العلم، ومن حاولت الإجابة على الأسئلة قبل إجابة الوحي عليها، ثم يتخصص الآخر الوافد بالمحمودين منهم وإعلامهم وثمار أشجارهم، وأرسطو أحدهم، معلم أفلاطون. أرسطو هو الزبد، وصانعها هو أفلاطون. ويعترف الكندي بالجميل حتى في فهم الآخرين، ويحاول التوفيق بينهما؛ فحاصل قول الأستاذ هو قول التلميذ؛ إذن ما حاوله الفارابي فيما بعد ليس جديدا، بل بدايته عند الكندي، وهو مشروع حضاري إسلامي استمر أيضا في الحضارة الغربية في عصريها الوسيط أو الحديث، ثم يبدأ الكندي بأرسطو بعد كل هذه المقدمات ورأيه في العقل ثم يبني عليه، ويطوره، ويكمله، بناء واضحا سهلا؛ فالعقل أربعة أنواع؛ الأول: العقل الذي بالفعل أبدا. والثاني: العقل الذي بالقوة، وهو للنفس. الثالث: العقل الذي خرج من النفس من القوة إلى الفعل. والرابع: العقل الذي يسميه الكندي الثاني، العقل بالحس لقرب الحس من الحي، وعموم ذلك يسمى العقل. لم يقل الكندي إن العقل الذي بالفعل هو أبدا العقل الإلهي في بداية التحول من الكلام إلى الفلسفة، ومن العقيدة إلى الفكر الخالص.
17
يتفلسف الكندي ثم يستشهد بأرسطو، سلطة القدماء وثقافة العصر، على صدق تفلسفه. أرسطو يأتي بعد الكندي وليس قبله. الكندي هو المقروء، وأرسطو هو القارئ، كما كان ابن رشد هو المشروح، وأرسطو هو الشارح. يأتي الكندي بحججه الداخلية ثم يأتي أرسطو بحجج خارجية؛ فأرسطو هو الذي يتفق مع الكندي، وليس الكندي هو الذي يتفق مع أرسطو. ولو كان هناك خلاف لأعلن عنه؛ فالموافقة تعني احتمال المخالفة. (ح) ويذكر الكندي في «الحيلة لدفع الأحزان» الإسكندر (خمس مرات)، منها أم الإسكندر (مرة واحدة)، وسقراط (ثلاث مرات)، ونيرون (مرة واحدة)، وشخصية الإسكندر الأكبر في الفكر الإسلامي وعلاقته بأرسطو نموذج الملك الفيلسوف والفيلسوف الملك، رفقة الفكر. وقد نسج الخيال العربي الإسلامي قصصا وحكايات وأساطير حول الإسكندر الأكبر وعلاقته بأمه وأستاذه وجنوده، بل ووروده في القرآن في قصة ذي القرنين، وأصبح موطنا خصبا للانتحال. كتب الإسكندر إلى أمه رسالة يوصيها فيها بدفع الأحزان بداية بنداء «يا أم إسكندر»، كما هي عادة العرب. وربما هي قراءة عربية لوصايا الإسكندر، البداية تاريخية، والنهاية إبداعية. ويضرب الكندي بالإسكندر المثل في الحيلة الرابعة لدفع الأحزان؛ الشعور بالتأسي بالماضي، والإحساس بتيار الشعور الجارف. وتظهر عبارات أرسطو ومصطلحاته على لسان الإسكندر، مثل الكون والفساد. هل كان الإسكندر في أقواله وأفعاله فيلسوفا حقا، مخلصا لتعاليم أرسطو، أم أنها قراءة سقراطية أو أرسطية للإسكندر وتحويله إلى مثال؟
18
ويشير الكندي إلى سقراط اللاتيني في حكاية بعد البرهان المنطقي لتصويره في سيرة من لا يحزن؛ لأنه لا يقتني شيئا يحزن لفقده، سواء كان اقتناء الأشياء أو اقتناء العواطف مثل الحب، وتحديده بالأثيني أي المغاير للعربي الإسلامي. كما يذكر الكندي حكاية أخرى للملك نيرون مع الفيلسوف وهو سنيكا دون أن يعينه الكندي بشخصه اكتفاء بالموقف، وتفيد نفس المعنى؛ الفرح الظاهري بامتلاك الشيء الثمين يسبب الحزن على فقده. ولم يلتزم الكندي بنص معين، بل بين احتمال الوضع الأخلاقي للتاريخ. وتدل الحكاية على حضور الوافد الروماني مع الوافد اليوناني. وأخيرا يقوم الكندي بتصحيح أقوال اليونان باعتباره مسئولا عن تراث الأقدمين؛ فيصحح قول أبسقلاس في المطالع، ويراجع اختلافاتها بعد مراجعة كتب القدماء في علم حقيقة الكواكب ومعرفة ماهيتها، وينقد أرسطو القدماء اعترافا بإمكانية تقصيرهم كبشر.
19 (2) آليات الإبداع. وكما جرت العادة في محاولة وضع منطق للفكر ونشأة النص وتكوينه في آليات الإبداع في الشرح والتلخيص والعرض، فإنه يمكن اتباع ذلك أيضا في التأليف وعلى نسب متفاوتة. وأول شرط للإبداع هو التمايز بين الأنا والآخر؛ فبالرغم من هذه القدرة على تمثل الوافد واحترام القدماء وتعظيمهم، إلا أن هناك تباينا وتمايزا وتقابلا بين الأنا والآخر، والحديث عن الأنا بضمير المتكلم الجمع، منفعتنا، منافعنا، لساننا، مطلوباتنا، شكرنا، زماننا، مددنا؛ ومن الأفعال أشركونا، أفادونا، خرجنا؛ ومن الأدوات لنا، عندنا، قبلنا؛ وذلك مقابل الآخر في ضمير الغائب المفرد والجمع، الاسم والفعل مثل هم؛ إنهم قصروا، سهلوا، فكرهم. وأرسطو فيلسوف اليونانيين، وليس فيلسوف المسلمين، وصفا للتمايز بين الأنا والآخر؛ وسقراط الأثيني، وليس البغدادي أو البصري.
20
ويستعمل الكندي لغة التقنين لغة معيارية، وليست تقريرية وصفية؛ «ينبغي أن ...» «يحسن بنا ...» مثل لغة الشراح، وكأن الفلسفة أمر معياري بناء على طبيعة العقل؛ لذلك كثيرا ما يبدأ الكندي بمصادرات أخلاقية عملية بديهية معيارا للحكم.
21
ومع ذلك فإن الفلسفة عند الكندي ليست نسقا جاهزا أو معرفة مسبقة، بل هي عملية تفلسف؛ فلا يوجد فلاسفة، بل متفلسفون؛ ولا توجد فلسفة، بل تفلسف؛ أي البحث عن الحق تواضعا وليس غرورا، تساؤلا وليس اعتقادا، وينقد الكندي متفلسفة العصر، ويوجه الإبداع كله نحو العصر من أجل نقده واكتشاف أوضاع الزيف فيه. وتبدأ الرسائل بمخاطبة القراء، جمعا وفردا؛ فالقضية اجتماعية، والفكر تجربة مشتركة، والمؤلف صاحب رسالة، والتأليف خطاب بين المؤلف والقارئ، الخطاب علاقة بين ذوات، وليس علاقة بين موضوعات، مع استعمال عديد من الأساليب الإنشائية، مع الدعاء لمن كتب له الرسالة.
22
وتبدو آليات الإبداع في أولى مراحل التأليف في تمثل الوافد كتأليف مصطنع مركب مفكك تنقصه الوحدة الداخلية نظرا لغياب الإبداع الخالص، ويبدو ذلك في «الفلسفة الأولى»، وفي رسالة «العقل». وترجع أهمية رسالة «الفلسفة الأولى» إلى أنها بداية التأليف؛ ومن ثم تثار عدة موضوعات: هل هي كتاب أم رسالة؟ ليس مقياس التفرقة الكم وحده، بل المضمون. الكتاب بناء ونسق، والرسالة موضوع جزئي. الكتاب لا شخصي يقترب من التجريد، والرسالة شخصية أقرب إلى المحاولة الأدبية. الكتاب له عنوان صغير ودقيق، والرسالة لها عنوان طويل. الكتاب لا يبدأ بحرف «في أن ...» والرسالة تبدأ به. ورسالة الكندي تتأرجح بين النوعين.
وهل هي رسالة أم رسالتان أم أكثر نظرا للبنية المصطنعة للكتاب؟ الحقيقة أنها عدة نصوص تبين نشأة النص الفلسفي على دفعات في بداية التأليف ثم الربط المصطنع بينها، مجموعة من الأفكار بصرف النظر عن البنية التي ظهرت فيما بعد عند ابن سينا .
23
يتكون الكتاب من خطبة وأربعة فنون، وأهمها الخطبة؛ ففيها الموضوع والمنهج والموقف الحضاري ، الصلة بين الفلسفة والدين كموضوع وكوضع مؤسسي اجتماعي، ثم يبدأ الفن الثاني دون الأول، وكأن الخطبة كانت بمثابة الفن الأول عن المناهج والقسمة، وأن الوجود وجودان، ثم يأتي الفن الثالث عن الطبيعي والمنطقي والرياضي والوحدة والكثرة. ثم يتلو الفن الرابع عن الله؛ أي الواحد، وكلها أربعة فنون من الجزء الأول من الفلسفة الأولى دون الجزء الثاني. ولا تتناسب الفنون الأربعة كما؛ الخطبة أقصرها، والفن الثاني أوسطها، والفنان الثالث والرابع أكبرهما ومتساويان.
24
ولا يظهر موضوع النفس بالرغم من الثنائية كتصور رئيسي للعالم؛ ومن ثم تغيب الخطة العامة. والحديث عن الفن، وليس عن الموضوع اللاشخصي؛ إحساسا بالتمايز بين الأنا والآخر. ومن مظاهر الربط المصطنع بين الفقرات بعبارات خارجية التذكير بما فات والتقديم لما هو آت، أو الدعاء، أو الإعلان عن القول وعدم ترك الموضوع يتحدث عن نفسه حتى يتطور الموضوع تلقائيا على نحو طبيعي،
25
وأحيانا يحتاج الفكر أن يوضح ذاته ويشرح نفسه بنفسه فيستعمل أسلوب البيان والإيضاح.
26
وتتنوع الموضوعات بلا رابط بينها، تبدأ بتقسيم العلوم إلى الفلسفة والرياضة والطبيعة، ثم باستعراض تاريخي يكشف عن الإطار الحضاري للفلسفة. يتجاوز الكندي أرسطو ويرفض إشراك العالم مع الله في التوحيد، ويثبت نهاية الجرم، ويقول بالخلق دونما حاجة إلى فيض الفارابي وابن سينا، على غير ما هو شائع في الدراسات الاستشراقية والعربية المقلدة، أو إلى قدم ابن رشد. يفضل أفلاطون على أرسطو؛ لأن أفلاطون أقرب إلى الصانع؛ وبالتالي إلى الخالق.
ويبدو التأليف المصطنع في «رسالة العقل»، والتي تقوم على التقسيم والمقارنة وذكر المتقابلات، وهو المنهج المتبع في بداية التأليف؛ فبعد الدعاء والسؤال يذكر رأي أرسطو في العقل، ثم شرحه بالمادة والصورة والنفس، ثم رأي الكندي في العقول الأربعة، وأخيرا تأتي الخاتمة والحمدلة.
27
وقد حدد لها الكندي نوعا أدبيا، وهو «موجز خبري»، أو «كلام مرسل». وهي رسالة قصيرة تقريرية تضع الأحكام والآراء العامة دون إفاضة في البرهان مع ذكر بعض الفلاسفة. ولفظ الخبر المرسل من مصطلحات علم الحديث وعلم أصول الفقه؛ مما يدل على مصدر نشأة المصطلحات .
28
وبالرغم من تمثل الوافد وأنه لا يضم إلا الوافد ظاهريا، إلا أن البيئة الدينية تظهر في بدايات النصوص ونهاياتها، وتعبر عن الجو الثقافي العام الذي يتم فيه البسملة والحمدلة والدعاء والصلاة والسلام على الرسول وآله وصحبه أجمعين، وتتراوح بين البسملة والحمدلة والدعاء بالتوفيق بالله، أو البسملة وإثبات العزة لله، أو البسملة وإثبات القوة والحول لله، ولا توجد آية قرآنية أو حديث نبوي؛ فالعقل يعمل تلقائيا ويبني موضوعه داخليا. وقد تظهر في البداية الدعوة للقراء بالتوفيق إلى طاعة الله، وقد يظهر هذا الجو الديني وسط الرسالة بعد المقدمة وقبل بداية الرسالة.
29
وتنتهي الرسائل أيضا بنفس التصور الديني للعالم كمفتاح للرسالة كلها بعد التمرينات العقلية العديدة في الطبيعيات أو الرياضيات، وهو تصور عن الواحد كنوع من الخاتمة تصب فيها الرسالة كلها، وعادة ما تكون من نوع الموضوع، والحديث عن الله بالمصطلحات الفلسفية مثل العقل والقوة والقدرة، والخاتمة الأكثر شيوعا هي: الحمد لله رب العالمين، وصلواته على محمد النبي وآله أجمعين. وأحيانا يكون الدعاء مع الخاتمة، الدعاء بالتوفيق. والسؤال لتتميم الكمالات وجميع الدالات على وحدانية الله وحكمته، والدعوة لمصابرة النفس على اقتفاء آثارها، وإنارة طريقها، وتوسيع علمها.
30
والتوجه بالدعاء للخلفاء عادة قديمة استمرت حتى الآن، ووصلت إلى حد التملق، ليس فقط عند المتكلمين، فقهاء السلطان، بل أيضا عند الحكماء المتجردين عن الدنيا.
31
فدور المفكر بالنسبة إلى السلطان هو دور المرشد والناصح، الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وليس المداح والداعي، وإلا أصبح المفكر مثل فقيه السلطان. وتكون الدعوات بطول العمر والبقاء، والتنبيه على الأصل الرفيع والنسب الشريف، والدعوة بحسن الأخلاق، وتطهير القلب، والصون من الزلل، والعمل للآخرة أعمالا صالحة. وقد تصل كثرة الدعاء عبر السنين إلى مدح السلاطين بالرغم من
قتل الخراصون ، والحث عن الابتعاد عن المدح. ويتداخل الإنشاء مع المدح، والأدب مع العلم، والوجدان مع العقل، المبالغة جزء من المدح، وقد يصل إلى حد المبالغة، مثل:
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما
تخر له الجبابر ساجدينا
فالسلطان هو خير الناس أجمعين، وأفضل الخلق. وتتداخل صفات الله مع صفات الرسول مع صفات السلطان في أفعل التفضيل؛ فلا فرق بين المدائح النبوية والمدائح السلطانية بعد أن يتحولا معا إلى مدائح صوفية في التراث الشعبي، وإلى مدائح سياسية لأنظمة الحكم. وهي صورة واحدة للسلطان تقابلها صورة الحاكم الظالم الغاشم القاهر، «أشر الخلق وأرذله»، وهو موجود أيضا في التراث الشعبي. ولا يتوقف المدح على الحاكم وحده، بل على السلالة الشريفة كلها، وكأن الفضائل وراثة من بقايا المدح القبلي الجاهلي.
وأحيانا يكون الدعاء أقصر، طبقا لشحنات المؤلف، ووجدانه للحفاظ، والصون من كل آفة وشر وزلة ابتغاء للآخرة. وقد يصبح الدعاء أكثر من مرة في البداية والوسط والنهاية، وتكون الصيغة هي الخطاب المباشر والدعوة بضمير المخاطب المفرد، وقد تكون الدعوات فلسفية لفهم العلم وتفهيم المسائل العويصة، وقد لا يتجاوز الدعاء ذكر «أيها المحمود»، والسؤال هو: إذا كان كل هذا الخير في الحكام، فلماذا انهارت الدول، وضاعت الشعوب، وفسدت الأخلاق، وعم الجهل، وساد القهر، وعم الظلم؟
رابعا: الرازي والخازن والسجستاني والقوهي
(1) الرازي
التراث العلمي هو جزء من التراث الفلسفي، الطبيعيات والرياضيات، وليس منفصلا عنه باسم تاريخ العلم وبداياته الأولى قبل اكتماله في العلم الغربي الحديث، وكما هو الحال في جمعيات تاريخ العلم الدولية في الغرب الآن، وهو ليس جزءا من تاريخ العلم عند العرب كرد فعل على الاستشراق، بل هو جزء من التراث الفلسفي لا ينفصل عنه، وليس في مواجهة مع التراث الديني أو الفلسفي كما هو الحال في الإسقاطات المعاصرة على التراث القديم من الصراع بين السلفية والعلمانية، ومثال ذلك بعض مؤلفات الرازي الطبية، والخازن والقوهي الرياضية، والسجستاني الفلسفية. (أ) ففي كتاب «ما الفارق» أو «الفروق» أو «كلام في الفروق بين الأمراض» للرازي (313ه)، لا يذكر إلا جالينوس (مرتين) متبوعا بالرازي، البداية والنهاية، النقل والإبداع، اليونان والمسلمين، حتى ولو كان الرازي من وضع الناسخ؛ لأن المؤلف لا يتحدث عن نفسه؛
1
فالدلالة الحضارية قائمة نظرا للعمل المشترك بين المؤلف والقارئ والناسخ والمالك. ويستأنف الرازي ما قاله جالينوس في الإسهال، ويؤكد على صحته ويدلل عليها، وإذا ما ذكر جالينوس أن ورم المحدب أسرع من نحافته، فإن الرازي يدلل على صحة هذا القول نظرا لعدم نفوذ الغذاء من المحدب. كما يذكر بعض الأطباء على العموم، دون تحديد وافد أو موروث، بداية لتصور العلم، لا مشخصا في الاعتبار، وكموضوع مستقل.
ويقوم الكتاب على التقابل بين الطبيعة والجسد؛ فالطب جزء من الطبيعيات، ومنهجه البحث عن التشابه والاختلاف بين الأمراض لإيجاد تشخيص أو علاج كلي للأسباب الأولى؛ فقد يكون الاختلاف ظاهريا وليس بالحقيقة، وقد يكون التشابه ظاهريا والاختلاف حقيقيا. ويحدد الرازي الغاية والمنهج والأسلوب أولا من أجل تأسيس العلم. يصنف الأمراض من الرأس إلى القدم، من أعلى إلى أدنى، بناء على تصور لا شعوري موروث من الفيض أو من سلم القيم.
2
ويعتمد هذا التصور على العقل والتجربة، القياس والمشاهدة، في تصور حتمي عام لقوانين البدن والطبيعة، بطريقة السؤال والجواب، وما هو أليف في تأليف كتب الطب بحثا عن أسلوب ونوع أدبي ولغة، بالرغم من وجود بعض المصطلحات المعربة. وكان سبب التأليف هو التنظير المباشر للواقع، وتلبية لحاجة العصر، وكرد فعل على نقل الطب من الكتب دون تأسيس العلم بالقياس والتجربة، واكتشاف القوانين الطبية الكلية بمنطق التشابه والاختلاف؛ فبالرغم من ذكر جالينوس إلا أن الإبداع منذ البداية كرد فعل على نقل الأطباء. ويعتذر الرازي عن القدماء؛ فتقصيرهم ليس في ذاته، فقد اجتهدوا قدر الوسع والطاقة، ولكن لتغير الزمان وتقدم العلم.
3 (ب) وفي «كتاب القولنج» لا يذكر جالينوس إلا مرة واحدة في معرض النقد الذاتي؛
4
فقد راجع جالينوس موقفه في كتابه في الأعضاء الأولية؛ مما يدل على أن الرازي يعلم مقدار الاجتهاد في الطب، صوابه وخطئه، وضرورة مراجعة أحكام الأطباء منهم ومن غيرهم. وهو نص واضح ومركز دقيق، سهل الأسلوب، ويتضمن الوصف والتشخيص والعلاج بالنباتات وليس بالكيماويات. وبالرغم من قلة الوافد وغياب الموروث إلا أن البيئة الدينية تظهر في بداية النصين الطبيين للرازي؛ البسملة، والحمدلة ، والشكر على النعم، والشهادة على الوحدانية في السر والعلن، وطلب الرحمة والغفران، والصلاة على النبي وآله أجمعين؛ كما تظهر الدعوات بالتوفيق وتعليقه على المشيئة، وبعض العبارات الفلسفية مثل واهب العقل.
5 (2) الخازن
وإذا كان جالينوس عند الرازي في الطب هو نموذج الوافد، فإن إقليدس وديوفنطس ونيقوماخوس الرياضي هم نماذج الوافد في «المثلثات القائمة الزاوية المنطلقة الأوضاع» لأبي جعفر الخازن من علماء الرياضيات في القرن الرابع الهجري،
6
فيستشهد بكتاب الأصول لإقليدس وليس نقلا عنه؛
7
إذ يضع الخازن نظريته ثم يتبعها بعبارة «على نحو ما بين ...» ويحدد الشكل والمقال من كتاب الأصول، ودون أن يذكر مؤلفه إقليدس نظرا لشهرته، ولاستقلال العمل عن صاحبه في بناء العلم. ويؤرخ للرياضيات اليونانية، ويبين كيف استمد نيقوماخوس صناعة العدد وأصولها من إقليدس. ويحيل الخازن إلى ديوفنطس بنفس الطريقة، الاستشهاد به على القسمة العددية، أو عرض الموضوع ذاته الذي يوضح ما أراده ديوفنطس؛ فدراسة الخازن توضح ما تركه ديوفنطس غامضا. كما يحيل الخازن إلى أصحاب الارتماطيقي والمفسرين لكتاب الارتماطيقي؛ مما يدل على علمه بالأدبيات حول علم الحساب بصرف النظر عن أشخاص المؤلفين؛ فالعلم له أوائل هي كليات، وكماله في الجزئيات.
8
وبالرغم من الطابع التجريدي للرسالة إلا أنها تكشف عن مسار الفكر في عبارات التقديم والاستدراك، وكلما خفت الدعوات الدينية خفت الدعوات إلى السلطان، وكلما قلت الدعوات لله قد تختفي الدعوات للسلطان.
9 (3) السجستاني
وبالرغم من أن أبا سليمان السجستاني هو الراوي عن الفلاسفة والمصدر الرئيسي لأبي حيان كمؤرخ للفلسفة في «صوان الحكمة»، إلا أن رسالته «في المحرك الأول» من نصوصه النادرة التي يظهر فيها تمثل الوافد الفلسفي قبل الفارابي وابن سينا وابن باجه وابن رشد، لا يظهر في النص إلا أرسطو والإسكندر الأفروديسي والفيلسوف والسماع الطبيعي (مرة واحدة)، بحيث يمكن أن توضع بين تمثل الوافد والإبداع الخالص في هذا الوقت المبكر، والموضوع بين الطبيعة وما بعد الطبيعة. ويذكر أرسطو في معرض الدفاع عنه ضد سوء تأويل الشراح له؛ فالمسلمون أولى بأرسطو من شراحه اليونان مثل الإسكندر، كما حدث في سوء تأويل المقالة الثامنة من السماع الطبيعي بفهمها على مستوى الطبيعة الحسية، وليس على مستوى الميتافيزيقيا والتجريد العقلي. وتسمية أرسطو الفيلسوف بداية للتحول من الشخص إلى الرمز في مسار القضاء على تشخيص العلم في العلماء. وبالرغم من قصر المقال تكثر عبارات وصف مسار الفكر، وتنتهي بالحمدلة والصلاة على خير الخلق وآله.
10 (4) القوهي
وفي «كتاب صنعة الأصطرلاب بالبرهان» لأبي سهل ويجن بن رستم القوهي (335ه)، يظهر الوافد في موضوع المخروطات. لا يذكر من الوافد إلا أبولونيوس وكتابه «المخروطات»، وفي نفس الوقت يحيل القوهي إلى رسالتيه «إحداث النقط على الخطوط في نسب السطوح» و«إخراج الخطين من نقطة على زاوية معلومة».
11
وتغلب أفعال البيان وضرب الأمثلة وأفعال الإرادة والتوهم والبحث عن البرهان، وتكثر أيضا عبارات مثل «ونريد أن نعمل باقي الأعمال بالتمام»؛ فالبرهان الهندسي يتطلب عملا تاما. وللكتاب غرض محدد يستبعد أغراضا أخرى، محدد المقصد والغاية. ويتضمن المقال سبعة عشر رسما توضيحيا.
12
ما تم توضيحه من قبل فلا حاجة إلى تكراره، وما يحتاج إلى توضيح يتم بالتمام.
13
وبطبيعة الحال لا تظهر إلا صيغة «أقول» من صيغ أفعال القول؛ فالقوهي هو الذي يتحدث.
14
ومن الموروث تظهر البسملة في البداية، والحمدلة في نهاية المقالة الأولى.
15
خامسا: الفارابي، والعامري، وابن سهل
(1) الفارابي
قد يعتبر الفارابي (339ه) هو الفيلسوف الذي يظهر لديه تمثل الوافد؛ فهو المعلم الثاني، ويبدو ذلك في «معاني العقل» التي يظهر فيها أرسطو (8 مرات) بمفرده؛ فالعقل له ستة معان؛ الأول: في الثقافة الشعبية عند الجمهور عندما تصف أحدا بأنه عاقل. الثاني: معناه عند المتكلمين انتقالا من الثقافة الشعبية إلى الثقافة الجدلية، ما ينفيه العقل ويثبته جدلا. أما المعاني الأربعة الأخرى فتأتي من الوافد عند أرسطو في المنطق والأخلاق والنفس وما بعد الطبيعة العقل البرهاني في المنطق، والعقل الأخلاقي في كتاب الأخلاق، والعقل النفسي في كتاب النفس، والعقل الإلهي في كتاب ما بعد الطبيعة على هذا النحو صعودا من أسفل إلى أعلى، من الجمهور إلى الميتافيزيقا، العقل البديهي أو الفطري، والعقل الجدلي، والعقل النظري ، والعقل العملي، والعقل الحيوي، والعقل الإشراقي القادر على الاتصال بالعقل الفعال.
1
لم يكن هدف الفارابي مجرد ذكر أرسطو ومعاني العقل الأربعة لديه، بل إدخاله في منظومة أوسع من الثقافة الشعبية والموروث الكلامي؛ ومن ثم يتزاوج الوافد مع الموروث، الخارج مع الداخل، مع الثقافة الشعبية وبداهة الفطرة لصياغة نظرية متكاملة في معاني العقل، تمثلا للوافد، وتنظيرا للموروث، وترسيخا للثقافة الفلسفية في الثقافة الشعبية؛ أي في الواقع.
2
يدخل الفارابي إلى الجوهر مباشرة، العقل إله الفلسفة اليونانية وأساس الحضارة الإسلامية ليبنيه بعد تمثل الوافد وتنظير الموروث وغرزهما في الواقع المعاش. المقصود احتواء أرسطو من الوافد والمتكلمين من الداخل، لتأسيس العقل البرهاني. وقد يشير المعنى الشعبي للعقل الشائع عند الجمهور إلى التعقل والدين والفضيلة؛ فالإنسان العاقل هو الإنسان جيد الرؤية في استنباط الخير وتجنب الشر، وهو المعنى الذي يتجاوز الحضارات والتاريخ والسائد عند كل الشعوب وما يقابل العقل عند المتكلمين، المشهور في بادئ الرأي هو العقل الخطابي أو الجدلي عند أرسطو، والذي نقده ابن رشد في صيغة الأقاويل الخطبية والجدلية. وصيغة الفارابي «العقل الذي يذكره أرسطو في كتاب ...» وليس العقل ذاته الذي يعرف الفارابي معانيه المختلفة، ويحدد وضعه فيما ذكره أرسطو، وهو قوة في النفس يحصل بها الإنسان اليقين من المقدمات الكلية الضرورية الصادقة دون قياس وتعلم، بل بالطبع والفطرة. هذه المقدمات هي مبادئ العلوم النظرية، هو العقل النظري أساس العلم النظري الذي تحدث عنه الفارابي من قبل في «فلسفة أرسطوطاليس». ولا يستعمل الفارابي إلا كلمتين معربتين، الأسطقسات وهيولانية، وما زالتا معربتين حتى الآن.
3
وبالرغم من ظهور الموروث في العقل عند المتكلمين إلا أن تمثل الوافد أظهر. يظهر الموروث في البداية وليس في النهاية كوعاء تحتي، وليس كإكمال فوقي. المعنيان الأول والثاني محليان؛ فالأول هو المعنى الشائع العرفي للاستعمال في الواقع الخاص، والثاني المعنى الموروث عند المتكلمين. والكلام هو العلم الأصيل قبل الوافد، والذي نشأ قبل عصر الترجمة. يقوم الفارابي بتأسيس معاني العقل وتأصيل أرسطو، معاني العقل في الوافد الأرسطي في الموروث الكلامي، والموروث في الثقافة الشعبية. ويستعمل الفارابي لفظ «دين» بالمعنى العادي؛ العقل هو النقل، والتعقل هو التدين، والدين هو الفضيلة؛ وهو معنى أقرب إلى العقل العملي. الدين إذن طبيعي ومرادف للعقل والأخلاق عند عامة الناس، ومن يستعمل العقل في الشر لا يسمى عاقلا، بل ماكرا أو داهيا. ويستعمل الجمهور العقل في معنى الفضيلة، ويتوقف عن استعماله في الشر.
4
والمعنى الثاني هو العقل عند المتكلمين؛ أي المشهور في بادئ الرأي عند الجميع، الرأي المشترك عند الأكثر، عقل الأغلبية، إجماع الأمة، وهو عقل محلي صرف لا إشارة فيه إلى أرسطو أو غيره، مبني على أن الأمة لا تجتمع على خطأ. الفلسفة هنا تبدأ من علم الكلام كي تتجاوزه بعد استعماله كوعاء يوضع فيه الوافد فينشأ نتاج جديد من تفاعل الوافد مع الموروث. وعقل المتكلمين ليس هو العقل البرهاني النظري؛ لأن مقدماتهم ليست أولية ضرورية صادقة، بل مستمدة من بادئ الرأي المشترك، يقصدون شيئا ويستعملون شيئا غيره، والعقل الجدلي غير العقل البرهاني، ثم يأتي العقل البرهاني لتصحيح أخطاء المتكلمين. هناك إذن جدل مزدوج للعقل، تصحيح الموروث بالوافد؛ أي تصحيح خطأ المتكلمين ببرهان الفلاسفة، والعقل الجدلي بالعقل البرهاني، والثاني وضع الخارج في الداخل؛ فالفعل الشائع عند أرسطو هو العقل عند الجمهور.
5
والعقل العملي هو الذي يذكره أرسطو في المقالة السادسة من كتاب الأخلاق دون إشارة إلى أرسطو أو ذكره مرة ثانية. يكفي تحديد مكان المقال. وتذكر الأخلاق على العموم بحيث يتحول كتاب الأخلاق إلى نيقوماخوس المحدد إلى علم الأخلاق العام أو إلى موضوع الأخلاق ذاتها، وهو ما يعادل العقل العملي الذي تحدث عنه الفارابي ذاته في فلسفة أرسطوطاليس، والذي يتعلق بالمشيئة والاختيار، وهو جزء من النفس، يحصل بالمواظبة والاعتياد وبطول التجربة. مقدماته إرادية من أجل الفعل أو عدم الفعل، التأثير أو الاجتناب، الإقدام أو الإحجام، وبتعبير الأصوليين الأمر والنهي في صيغتي افعل أو لا تفعل. ويتزايد هذا العقل مع طول العمر، وينمو بالمران، ويتفاضل فيه الناس، ويمكن بعد ذلك في نهاية العمر طلب البرهان النظري عليه .
6
والحقيقة أن هذا التعقل للعقل العملي قد يحدث قبل المشيب، والإنسان ما زال في مقتبل العمر .
7
والعقل النفسي يذكره أرسطو في كتاب النفس على أربعة أنحاء: عقل بالقوة، وعقل بالفعل، وعقل مستفاد، وعقل فعال. ولا تهم أسماء العقول وألفاظها؛ فقد يكون العقل بالقوة هو العقل بالملكة أو العقل الهيولاني، وقد يكون العقل المستفاد هو العقل بالفعل. الأول في مرحلة التعلم، والثاني بعد إتمام التعلم. الأول تطور، والثاني بناء. الأول منهج، والثاني موضوع. ولا فرق بين العقل الفعال ومصدر المعرفة الأول خارج النفس، الوحي أو اللوح المحفوظ أو العلم الإلهي أو الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى، التوراة أو الإنجيل أو القرآن. إنما المهم عملية الانتقال من مرحلة الطبيعة إلى مرحلة العلم، مثل انتقال الجنين في الرحم من مرحلة إلى مرحلة، العلقة فالمضغة فالعظام فاللحم فالروح، أو انتقال الطفل في مراحل تعلمه من سنوات الطفولة إلى سنوات البلوغ، من العلم البديهي إلى العلم المكتسب، من الفطرة إلى التعليم، وكلها تسميات لمسميات، ألفاظ متعددة لمعان واحدة. هي عملية تعليمية، وليست عملية كونية أو عضوية؛ عملية شعورية نظرية، وليست عملية بيولوجية طبيعية مثل الشمعة والنقش عليها، وكأن الحقيقة تنشأ بتركيز العقل، وكما بين الفارابي في نشأة المنطق في كتاب الحروف.
8
العقول الثلاثة الأولى في كتاب النفس وليس في ما بعد الطبيعة، بالرغم من اختصاص ما بعد الطبيعة بنظرية الاتصال. وفي العقل الرابع تظهر لغة الضوء والإشراق، لغة البصر والإبصار والشفافية والانعكاس، فيتحول العقل من الأخلاق إلى المعرفة، وتصبح مقولات الأخس والأشرف والأقدم مقولات أخلاقية معرفية، ويتم الانتقال من الكثرة إلى الوحدة؛ فالصور في العقل الفعال غير منقسمة، بينما في المادة منقسمة.
9 (أ) وفي «المسائل الفلسفية»، وهي إحدى وأربعون مسألة، لا يظهر أرسطو إلا في مسألتين؛ الأولى: المسألة الثلاثون عن حد الخير والشر الإنساني. والثانية والثلاثون في حد النفس، بعد الواحد والثلاثين عن الفرق بين الإرادة والاختيار. وهي مسائل سئل عنها الحكيم الفيلسوف الشيخ وكأنها فتاوى فلسفية، كما فعل ابن رشد في «فصل المقال»، وسؤال عن حكم النظر. عرف الفارابي القوى والملكات والأفعال الإرادية التي إذا حصلت عاقت عن حصول الغرض وهي الشرور، والتي إذا حصلت حصل المقصود وهي الخيرات؛ أي الغاية والتحقق، في حين أن تعريفهما عند أرسطو في كتاب الخطابة أن الخير هو الذي يؤثر لذاته ويتشوقه كل ذوي الفهم والحس، والشر عكس ذلك. وهو تعريف أقل حركية مع أن به الغاية، ومع ذلك يتفق مع تعريف الفارابي. يضع الفارابي حده أولا ثم يستشهد باتفاق أرسطو معه ربطا للماضي بالحاضر، والقديم بالجديد. ولم يكن حد أرسطو النفس بأنها استكمال أول لجسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة جديرا بأن يذكر، ولكنه ذكر بالاقتران مع سؤال الإرادة والاختيار لما كان من مقولات النفس، كما ذكر بالاقتران موضوع الجوهر وقسمته إلى هيولاني وصوري، وقسمة الجسم إلى طبيعي وصناعي، وقسمة الطبيعي إلى ما له حياة كالحيوان، وما ليس له حيوان كالأسطقسات، ثم ذكر الأسطقسات وأنها مبادئ الجواهر المركبة، ثم ذكر الهيولى آخر الهويات وأخسهما، ولولا قبولها الصورة لكانت معدومة بالفعل بعد أن كان معدوما بالقوة، ثم يأتي الحديث عن تناهي الأفلاك وإنكار وجود أي جوهر وراءها أو شيء أو خلاء أو ملاء؛ لأنها موجودة بالفعل؛ وبالتالي فهي متناهية، ولو كان لا متناهيا لكان موجودا بالقوة كما قال الكندي من قبل، والأجرام السماوية كلها موجودة بالفعل. ويستشهد بحكاية أفلاطون عن سقراط أنه كان يمتحن عقول تلامذته، فيقول لو كان الوجود غير منتهاه وجب أن يكون بالقوة لا بالفعل. ويظهر فيها أثر منهج الرواية والخبر في الحضارة الإسلامية.
10
كما يشير الفارابي إلى الحكيم (مرة واحدة) إشارة إلى التحول من العالم إلى العلم، ومن الشخص إلى الموضوع، كما يحيل إلى سقراط كمثل في قضية بدلا من زيد أو عمرو، ويحيل إلى أسماء كتب أرسطو معربة مثل قاطيغورياس (أربع مرات)، وإيساغوجي، أو ترجمة مثل المقولات والقياس والخطابة، تعاملا مع العلوم وليس الكتب، الموضوعات وليس الأسماء، كما يحيل الفارابي إلى تفسيره كتاب المقولات بمشيئة الله؛ فالإحالة هنا إلى عمل الفارابي، إلى قراءته أرسطو بطريقة حكماء المسلمين، وربط كل أفعاله بالمشيئة الإلهية. يحيل الفارابي إلى أرسطو بأسماء كتبه معربة ، وإلى مؤلفه هو بأسماء موضوعاتها، مثل المقولات والقياس والخطابة. كما تظهر بعض الألفاظ المعربة، مثل «الهيولى» و«الهيولاني» و«الأسطقسات»، بعد أن استقرت وأصبحت أشبه بالترجمة. كما يشير الفارابي إلى القدماء ذكرا للتاريخ، وربطا للماضي بالحاضر، واعترافا بقدر من سبقوه نقدا لهم أو إكمالا لتحليلاتهم، مع الإشارة إلى المتأخرين إحساسا بالزمن وتطوره من القدماء إلى المحدثين.
11 (ب) وفي «عيون المسائل» لم يذكر الفارابي أحدا من اليونان إلا أفلاطون في المسألة الأخيرة من اثنتين وعشرين مسألة في موضوع وجود النفس قبل البدن، ومعه التناسخيون، وفي معرض الرفض والاستنكار والمعارضة، وكذلك وجودها بعد البدن متنقلة في أبدان أخرى كما يقول التناسخيون حرصا على فردية الثواب والعقاب. ذكر أفلاطون إذن في معرض جمع الأخطاء في تصورات النفس، وليس وحده جريا وراءه وتبعية له مع فتح أفق جديد، وهو وجود النفس بعد البدن إثباتا للمعاد، وتصحيحا للتصور اليوناني بالتصور الإسلامي. وتتفاوت مراتب النفوس بعد الموت بما تستحق من ثواب وعقاب؛ فالإنسان مسئول عن ذلك في دنياه كما هو مسئول عن صحة بدنه. ويسترسل الفارابي في الوعاء، ويفيض في شرح التصور الإسلامي المعياري؛ فيذكر عناية الله المحيطة بكل شيء والمتصلة بكل كائن، وبقضائه وقدره يحدث كل شيء خيرا أو شرا. والشر محمود للكائنات الخاضعة للكون والفساد، ولولا الشرور لما كانت الخيرات، واليسير من الشر أفضل من الكثير، والكثير من الخير أفضل من القليل، وكأن اللاشعور يعبر عن مضمون
عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون . وهنا يتحول الفارابي إلى متكلم بين الأشاعرة والمعتزلة؛ فهو أشعري يقول بالقضاء والقدر، ومعتزلي يقول بالمسئولية الفردية. هو أشعري يجعل الشر والخير من الله، ومعتزلي يجعل الشر والخير في نسيج الفعل الإنساني في جدل السلب والإيجاب.
12
كما يشير الفارابي إلى الحكيم (أربع مرات) بطريقة لا شخصية إظهارا للموضوع لا الشخص، وتقديرا لفضل القدماء. المطالب أربعة: الموجب والسالب والكلي والجزئي. ومنها تتكون أشكال القياس. والاستحالة تغير يعرض للجوهر. والحكيم يبحث عن الحقائق الموجودة. كما يحيل إلى القدماء، وليس إلى أرسطو وحده، بل إلى التراث اليوناني كله؛ اعترافا بالتاريخ، وبجهود السابقين، وذكر اختلافاتهم، وحل هذا الاختلاف عند المتأخرين؛ فالتطور يكتمل في البناء كما هو الحال في تاريخ النبوة. كما يحيل إلى قاطيغورياس في السؤال عن الحركة إن كانت من الأسماء المشتركة، فكتب الحكيم جزء من ثقافة الناس يسأل عنها الفارابي ولا يستدعيها من تلقاء نفسه، ويحيل إلى شيء موجود بالفعل.
13 (ج) وفي «فصوص الحكم»، وهو الكتاب الصوفي، يستشهد الفارابي بالأساطير اليونانية؛ جوع بوليموس (مرتين) كدليل على أنه ليس كل جوعان يتوق إلى الطعام إلا بعد كشف الغطاء، محولا الأساطير اليونانية إلى ثقافة شعبية تستقى منها الأمثلة.
14 (ه) وفي كتاب «السياسة» لم يذكر أحدا من القدماء إلا أفلاطون (مرة واحدة) كخاتمة للرسالة، واستشهادا بأقاويله كحكايات ونوادر وأمثال من القدماء، وليس في صلب الرسالة، مجرد أقوال مأثورة كنوع أدبي تختم به الرسالة، وهي أقوال موجزة وكأنها أحاديث الرسول، لها ما يشابهها في الموروث المحلي. ويظهر فعل القول في صيغة المبني للمعلوم، الشخص الثالث المفرد، وهي الصيغة المثلى «قال أفلاطون»، أو «قال» فحسب؛ لأن القول لا يحتاج إلى دقة أو إلى إثبات صحة تاريخية. وصيغة قيل في المبني للمجهول أكثر استعمالا؛ تهربا من الصحة التاريخية، أو لعدم تحديد المواضيع التي اقتبست منها الأقوال. واستعملت صيغة «سئل» في المبني للمجهول، وكان أفلاطون مفت يسأل فيجيب طبقا لأحكام السؤال والجواب عند الأصوليين. ويمكن تصنيف مجموع الاثنين وثلاثين قولا مأثورا التي تحدد علاقات الإنسان مع أطراف أخرى في خمسة موضوعات: الإنسان مع الله، ومع النفس، ومع الأكفاء، ومع الرؤساء، ومع المرءوسين. وهي كلها معان واردة في الموروث، ومقبولة بالعقل والبديهة، وتحسها الفطرة.
15 (د) وأهم كتاب في العلم المدني للفارابي هو «آراء أهل المدينة الفاضلة» لم يذكر فيه من اليونان إلا أنبادقليس وبارميندس في آخر الكتاب، ويذكر القدماء (مرتين) في معرض الحديث عن المدن الضالة وإرجاعها إلى أهواء النفس، مثل الشهوة والغضب وسائر عوارضها المضادة للجزء الناطق ، فينشأ تعارض الفاعلين كما يقول أنبادقليس. والبعض أرجع ذلك إلى تضاد الحوار كما هو الحال عند بارميندس؛ فالموت عندهم موتان؛ موت طبيعي، وموت إرادي. الأول مفارقة النفس الجسد، والثاني إبطال عوارض النفس من الشهوة والغضب. فالحياة نوعان، طبيعية وأخلاقية، من أجل الكمال والسعادة. عوارض النفس من الشهوة والغضب قسر في الإنسان، وهي آراء ضالة أتت من القدماء، وانبثقت منها ملل في كثير من المدن الضالة، ولكن بارميندس ليس من الطبائعيين، ولا يقول بتضاد المواد، وهو الميتافيزيقي الخالص الذي يتأمل في الوجود العام. يبين الفارابي فساد هذه الآراء ولا يعرضها فقط. العرض أمانة الماضي، والنقد أمانة الحاضر، والعلم أمانة المستقبل.
16 (و) وفي «كتاب الملة» لا يذكر الفارابي إلا القدماء (مرتين)؛ فالملك بالضرورة الملك الفاضل، ولا يقال الجاهل. ويستشهد بالقدماء لأنهم لا يطلقون على الرئاسة الجاهلة ملكا اعتمادا على التاريخ وبحجج الحضارات السابقة كمرحلة في تاريخ الإنسانية، كما يستعمل الفارابي تسمية القدماء القوة التي يقدر بها الإنسان على الاستنباط بحسب المشاهدة والتعقل، والتي تحصل بالمعرفة والتجربة في آن واحد.
17 (ز) وفي كتاب «السياسات المدنية» يشار إلى مصطلحات التشكل الكاذب، مثل العقل المنفعل والعقل المستفاد والعقل الفعال، كما هو الحال في كتاب النفس، وإلى اعتبار القدماء من يتصف بالعقل بالفعل هو الملك على الحقيقة.
18 (2) العامري
وبالرغم من كثرة مؤلفات العامري (381ه) إلا أن تمثل الوافد كان قد تم بصورة أشمل عند الفارابي، فغلبت على مؤلفاته المراحل الأخرى للتأليف مع تنظير الموروث. وللعامري رسالة واحدة فيها تمثل الوافد بمفرده، هي «الإبصار والمبصر»، يذكر فيها إقليدس وبطليموس وجالينوس وأرسطو والإسكندر وثامسطيوس (مرة واحدة)، وينقد العامري حكماء المهندسين، مثل إقليدس وبطليموس، وأتباعهما الذين زعموا أن الاتصال لا يكون إلا بخروج الضوء من الحس إلى المحسوس في شكل مخروطي، من الموضوع إلى الذات، وهي النظرية الرياضية. ويؤيد النظرية الأخرى لجالينوس وأرسطو والإسكندر وثامسطيوس التي تقول بخروج الشعاع من الرائي إلى المرئي ، من الذات إلى الموضوع، مؤيدا أولوية الذات على الموضوع، والمعرفة على الوجود. ويحيل إلى شرح كتاب النفس (مرة واحدة) إلى تفسير كتاب البرهان لأرسطو دون تحديد من الشارح هو أو غيره. كما يذكر الحكماء والمتأخرين (مرتين) لبيان الاستمرار من القدماء إلى المحدثين، وهذا هو معنى تمثل الوافد.
19 (3) ابن سهل (أ) وفي «كتاب الحراقات» للعلاء بن سهل (النصف الثاني من القرن الرابع الهجري) لا يعني تمثل الوافد مجرد النقل والاستيعاب، بل العرض على العقل والمراجعة، وتحويل النقل اليوناني إلى العقل الإسلامي أو العقل الخالص؛ ومن ثم يلتقي الطرفان؛ تمثل الوافد، وهو النوع الأدبي الأول في التأليف، مع الإبداع الخالص، النوع الأدبي الثالث في التراكم.
20
ويعني تمثل الوافد البيان وإيجاد البرهان واستبعاد التناقض؛ لذلك تكثر عبارات «وذلك ما أردنا أن نبين»، «وكذلك نبين»، «لمثل ما بينا فيما تقدم»، كما يعني إيجاد البراهين على صحة الوصف واستبعاد التناقض؛ لذلك تكثر أيضا عبارات «برهان ذلك»، «وهذا محال».
21
ولما كان تمثل الوافد نوعا من التأليف، تظهر أفعال القول في صيغة المتكلم المفرد «أقول».
22
ونظرا لوحدة العمل يحيل السابق إلى اللاحق، واللاحق إلى السابق.
23
والمقال مزود برسوم رياضية توضيحية تبين انكسار الأشعة.
24
لم يذكر من الوافد إلا أرشميدس والقدماء؛ فالموضوع من أصحاب التعاليم، القدرة على إحراق جسم بضوء على مسافة بعيدة كما أحرق أرشميدس سفن الأعداء؛
25
فاللجوء إليه جزء من المعرفة بتاريخ العلم وجهد القدماء وفضلهم فيه في وصف الإحراق بضوء الشمس المنعكس على مرآة، وإكمال ما تركه القدماء، وصف الإحراق بضوء الشمس الذي ينفذ في آلة وينعطف في الهواء؛ فالسياق حربي، ويمكن أن يكون أيضا في السلم لتوليد الطاقة.
ومع ذلك تظهر عادة المؤلفين العرب بالتوجه بالكتاب إلى السلطان، وقدر نعمه في إظهار العلوم حتى يشيع في الناس ذكرها.
26
وكما يبدأ المقال بالبسملة والاستعانة بالله ينتهي أيضا بالوثيقة الشرعية؛ الناسخ، ووقت النسخ، ثم الصلاة على محمد وآله أجمعين.
27 (ب) وفي «البرهان على أن الفلك ليس هو في غاية الصفاء» للعلاء بن سهل أيضا، يعني التمثل إيجاد البراهين على صحة ما ذهب إليه بطليموس في المناظر ابتداء من تصفح المقالة الخامسة منه،
28
ومع ذلك لا تظهر صيغ أفعال القول إلا مرة واحدة في ضمير المفرد الغائب «قال».
لذلك لا يذكر من الوافد إلا بطليموس في المناظر
29
كنقطة بداية لإكمال مسار العلم في التاريخ بمزيد من البرهان، والتحول من النقل اليوناني إلى العقل الإسلامي؛ فمسيرة العلم على الإطلاق هو التحول من النقل إلى العقل. وكما يبدأ المقال بالبسملة والاستعانة بالله ينتهي بالوثيقة الشرعية؛ خط الناسخ والمنسوخ منه، والمقابلة بين النسخين، ثم الحمدلة والصلاة على محمد وآله أجمعين.
30 (ج) وقد تكون الرسالة قصيرة للغاية، مجرد فقرتين، مثل «مسألة هندسية» لابن سهل أيضا. الفقرة الأولى الموضوع، والثانية بيانه بعبارة «وذلك ما أردنا أن نبين».
31
سادسا: ابن سينا
(1) الرسائل الفلسفية
وبالرغم من صمت ابن سينا (428ه) عن مصادره، وهو صاحب العرض النسقي في الموسوعات الثلاث، إلا أن تمثل الوافد يبدو في بعض رسائله على استحياء، خاصة أرسطو أو الحكيم وأفلاطون وجالينوس وفرفوريوس، ولا يتجاوز كل منهم مرة واحدة. (أ) ففي رسالة «الحدود» ذكر أرسطو وفرفوريوس (مرة واحدة)، أرسطو كتاريخ الفلسفة اليونانية ومرحلة من مراحلها، مثل استعمال لفظ الجوهر على كل ذات، وجوده ليس في موضوع، واصطلاح الفلاسفة على ذلك منذ عهد أرسطو، ثم ذكر الحكيم (مرة واحدة) تحولا من الشخص إلى المثال. وإحالة إلى كتاب «طوبيقا» في الحد على أنه القول الدال على ماهية الشيء.
1
كما يحال إلى الفيلسوف في كتاب «البرهان» إشارة إلى أحد معاني العقل الثمانية عند الحكماء، والفرق بينه وبين العلم. وقد يشار إلى الكتب وحدها؛ فهي الأبقى وصاحبها هو الزائل، مثل الإحالة إلى كتاب «النفس» في أنواع العقول، وإلى كتاب «البرهان» للحديث عن العقل بالفعل الذي هو العقل بالملكة بعد استكمال قواه. فأرسطو الحكيم الفيلسوف مذكور مع الفلاسفة القدماء والحكماء، والإحالة إلى الكتاب يدل على مدى ارتباط المنطق بالنفس في تحليل ملكات العقل.
2
كما يذكر فرفوريوس في حد المضاف، حد الجنس بالنوع.
3 (ب) وفي «الجوهر النفيس » بالرغم من أنها تعبر عن رأي القدماء من كلامهم المترجم إلا أنه لم يذكر أرسطو، ولم يذكر من اليونان إلا صفة ديمقريطسية (مرة واحدة)؛ ففي البداية كانت الأجسام الديمقريطسية هي الأجزاء التي تتجزأ، ثم شاعت في علم الكلام فأصبحت وافدا علميا بعد أن تم تعشيقه فيما يشابهه في ألفاظ الذرة،
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره *ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره .
ويرد قول الحكيم (أرسطو) إلى قول الإلهي (أفلاطون) في الكون والفساد والإبداع، شرح التلميذ بالأستاذ من أجل بيان وحدة الفكر الفلسفي اليوناني، وفي نفس الوقت يدافع ابن سينا عن أرسطو ضد شراحه من العامة المتفلسفة الذين حرفوا قوله، وجعلوه ملحدا يقول بالدهر؛ فقد قال أرسطو إن السماء غير مكونة ولا فاسدة؛ لأنها لا ضد لها. فأول ذلك العامة على أنه قول بأزلية العالم، وأرسطو عن ذلك براء، وتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، في حين ذكر الأقدمون بل ذكر الحكيم (مرة واحدة) والإلهي (أفلاطون) والقدماء والعامة من المتفلسفة (مرة واحدة) في الظاهر. الرسالة تأليف في المنقول، مجرد عرض، أو على الأكثر انتقال من النقل إلى العرض والتمثل، ولكنها في الحقيقة موجهة إلى الداخل، إلى نقد علم الكلام كما يفعل ابن رشد في «تفسير ما بعد الطبيعة» في نقده لعلم الأشعرية من خلال تفسير أرسطو، بالرغم من عدم وجود آية قرآنية أو حديث نبوي. اللغة من القدماء، ولكن المضمون أي المعنى والشيء من الواقع الفلسفي المحلي طبقا لظاهرة التشكل الكاذب. وهناك إحساس بالتغاير مع الآخر بتكرار ألفاظ الأقدمين والقدماء في مقابل المحدثين، وما زالت بعض الألفاظ المعربة مستعملة، مثل «هيولى»، وحتى الآن. ويحيل ابن سينا موضوع الفعل والانفعال إلى باقي كتبه في تحليل قوى النفس؛ مما يكشف عن وحدة الرؤية والتصور، كما يظهر القرآن ليس فقط تصورا، بل تعبير.
4 (ج) وفي رسالة «دفع الغم من الموت» لا يذكر من اليونانيين أحد إلا أفلاطون مرة واحدة في عرض السببين الثاني والثالث من الخوف من الموت؛ الأول جهل مصير النفس، والثاني انحلال الذات مع انحلال البدن، وبعد التمييز بين الحياة الإرادية والحياة الطبيعية استشهد بوصية أفلاطون الحكيم، روح الله رسمه، لطالب الحكمة. الموت الإرادي هو إماتة الشهوات، والحياة الإرادية السعي لها، والحياة الطبيعية بقاء النفس في الغبطة الأبدية. إماتة الشهوات إراديا تبعث على الحياة الطبيعية؛ ومن ثم يكون الخلود بيد الخلود، إن شاء حصل عليه، وإن شاء بدده.
5 (د) وفي رسالة «في الأجرام العلوية» لا يذكر إلا جالينوس باسمه (مرة واحدة) في إشارة إلى كتابه «في منافع الأعضاء»، الذي عد فيه في كتب الحكمة أربعة آلاف دليل حكمة، وحكم في الحيوان والإنسان إثباتا للعناية عن طريق الطب. وكان السبب في ازدهار الطب ليس فقط سببا عمليا، الحاجة إليه في مداواة الجرحى في الحروب، بل سبب نظري؛ البحث في ميدان من ميادين العلوم الطبيعية يكشف عن العناية الإلهية. أما أرسطو فإنه يشار إليه أنه الحكيم تحولا من الشخص إلى النمط، ومن المؤلف إلى الموضوع، كخطوة نحو الانتقال من الحكيم إلى الحكمة، ومن المؤلف إلى النص.
6
ويدافع ابن سينا عن قول أرسطو إن السماء غير مكونة من شيء ولا فاسدة لأنها لا ضد لها. ولكن العامة من المتفلسفة حرفوا هذا القول إلى غير معناه، وأمضوا في الإلحاد والقول بقدم العالم. يبرئ ابن سينا أرسطو من التهمة التي لصقت به كما لصقت بابن رشد، وهو القول بقدم العالم، بعد إثبات جالينوس بالأدلة والبراهين العناية الإلهية؛ ومن ثم لا خلاف بين الوافد والموروث.
ويذكر ابن سينا «الأقدمين» باعتبارهم الحضارة القديمة الوافدة، ورأيهم في جوهر الأجرام السماوية والمذهب المحقق عنده منهم بمقدار اطلاعه عليهم. يراجع التراث القديم بعد التحقق من صحة الرواية كي يتفرغ من ذلك التحقق من صحة الآراء، وهذا هو الباعث على التأليف في الوافد،
7
وأحيانا يسميهم الأوائل باحثا عن رأيهم في جوهر الفلك؛ فالبحث في الطبيعة مقدمة في البحث عن الفلك لفتح مذهب اليونان المغلق على التصور الديني. والحديث عن الطبيعيين أو الحكماء الطبيعيين هو حديث عن الآخر، الغرب القديم، الوافد في مقابل الموروث، للتحقق من صدقه دون تعيينهم بأنهم يونان أو غير يونان، بل التراث الفلسفي السابق احتراما للقدماء كما فعل الإسلام مع المسيحية واليهودية وباقي الديانات السابقة عليه من قبل، في تواضع تام، وقدرة على الاطلاع، واعتمادا على المشاهدة، وليس على القول المجرد من أجل إعادة زرعه في الموروث في التصور الديني العام، وصفا للقديم في الجديد. وسبب الحديث عن الأجرام العلوية تعرضه لموضوع الأجسام السماوية، وهو موضوع ديني؛ الباعث إذن خارجي وداخلي، وافد وموروث. ويتحدث ابن سينا عن تطور الفكر اليوناني دون تسميته ووضعه في إطار محليته، وجعله مجرد تاريخ فكر بشري ورثته الحضارة الجديدة من الحضارات القديمة. والتاريخ يصحح نفسه، انتقالا من الخطأ إلى الصواب، من الجزء الذي لا يتجزأ إلى مبادئ الطبيعة، الصورة والمادة، ومن التشعب إلى الإجماع. كما تحدث الفارابي من قبل عن تطور الفكر المنطقي من النقص إلى الكمال، من الانفعال إلى الحكمة، ومن الخطابة والجدل إلى القياس والبرهان. تطور الفكر البشري هو تطور الإنسانية كلها، واتجاهها نحو الكمال، وكشف الحقائق، وكما فعل ابن عربي في «فصوص الحكم».
8 (ه) وفي «أحوال النفس» ذكر أرسطو في الفهرس في أن قوى النفس واحدة طبقا لأرسطو، في حين أن أفلاطون هو المذكور في النص والذي له رأي مخالف. ويوصف أفلاطون بأنه الإلهي كما هو الحال عند الفارابي، فهل يقول أفلاطون بتعدد قوى النفس حقيقة وليس بوحدتها؟ وكيف يوصف بالإلهي أي بالتوحيد وهو يقول بتعدد قوى النفس؟ ويعارض ابن سينا أحيانا أفلاطون دون الإعلان ضرورة عن انتسابه لأرسطو. وهل الدفاع عن أرسطو دفاع عن أرسطو ذاته وعن واقعية أرسطو، أم أنه تأكيد على واقعية الإسلام اعتمادا على أرسطو تدعيما للموروث بالوافد، واتفاقا للمنقول مع المعقول؟ في حين قرأ آخرون في أفلاطون الإلهي الصوفي الإشراقي ممثلا لروح الإسلام ضعفا وتعويضا، فناء وخلودا. كما يحيل ابن سينا إلى بعض كتب أرسطو المنطقية مثل «طوبيقا» لبيان الجنس أن يجب أن يجعل مطلقا على الشيء، ومن كل جهاته لا من جهة واحدة. ولا تظهر ألفاظ معربة في أحوال النفس إلا لفظ أسطقسات، والنبطاسيا (ثلاث مرات).
9
وبالرغم من أن أحوال النفس تمثل للوافد إلا أنها لا تخلو من تحليلات الموروث وألفاظه وموضوعاته، فلا مضمون بلا صورة، ولا محتوى بلا وعاء. يكثر ابن سينا من استعمال المعاني المجازية والتشابه، أي اشتراك الاسم، ليس فقط في الإلهيات، بل أيضا في الإنسانيات؛ فيسمي كل عمل اجتماعا في المساكن باشتراك الاسم، واليد المقطوعة والشلاء يد باشتراك الاسم، والميت إنسان باشتراك الاسم، والنفس المفارقة نفس باشتراك الاسم، وهي صورة البدن باشتراك الاسم، وكل واحدة من قوة النفس العاملة والعالمة عقل باشتراك الاسم.
10
وتظهر الموضوعات المحلية مثل التواتر في أحوال النفس؛ فالتواتر ليس فقط في المنطق، بل أيضا في علم النفس في بيان كيف تستعين النفس بالبدن ومتى تستغني عنه، متى ينفعها ومتى يضرها، مستعارا من علم الحديث، واستعارته من قبل في علم أصول الفقه. تعين القوى الحيوانية النفس في أشياء، منها أن يورد الحس الجزئيات فتحدث لها أمور أربعة؛ الأول: انتزاع النفس الكليات من الجزئيات عن طريق التجريد. والثاني: إيقاع النفس مناسبات بين الكليات سلبا وإيجابا، وهو الاستدلال. والثالث: تحصيل المقدمات التجريبية، وهو التمثل أو الاستقراء، حسيا أو قياسا. والرابع: التواتر. فالنفس الإنسانية تستعين بالبدن لتحصيل المبادئ للتصور والتصديق، والتصديق بالتواتر لا يرجع إلى صحة السند، بل إلى صدق المتن ومطابقته لقوى النفس العلمية والعملية.
11
فإن زاحم الخيال قوى النفس ضعف التواتر، وإن كان المنطق هو المسيطر صح التواتر؛ فالتواتر مصدر للمعرفة الصحيحة من خلال النفس الناطقة. والسؤال الآن: هل حصول المعارف في النفس يجعل المعرفة جزءا من علم النفس؟ هل وجود النفس بالبدن وحصول المعارف بالنفس يجعل البدن جزءا من نظرية المعرفة؟ هل لأن التواتر أحد مصادر المعرفة يصبح بذلك جزءا من موضوع علم النفس؟ هل التواتر يدخل في موضوع علم النفس وتطهيرها وخلاصها من البدن؟ هل يدخل مع قوى النفس الحسية والخيالية؟ يستعمل ابن سينا لفظ التواتر في اللغة العادية في «حي بن يقظان»، ويعني به الأخبار اليقينية ، وكأنه رمز معرفي. وأخيرا يظهر الأسلوب العربي والأمثلة العربية؛ مما يدل على التأليف المحلي.
12 (و) وفي رسالة «القولنج » لا يظهر إلا جالينوس استشهادا بقوله (مرة واحدة). وابن سينا كالعادة صامت عن مصادره إلا الاستثناء. والرسالة وسط بين القصر والطول. فصولها قصيرة، ومع ذلك تغلب عليها الإيمانيات والدعوة لله والسلطان؛ فالرسالة مكتوبة لخزانة السلطان، وليس للصالح العام.
13 (2) آليات الإبداع
ولا تختلف آليات الإبداع في تمثل الوافد عنها في باقي الأنواع الأدبية منذ التفسير والتلخيص والعرض، من تحليل أفعال القول أو أفعال البيان والإيضاح، ووصف مسار الفكر، وإيجاد البراهين والاتساق العقلي، وبيان وحدته، والإحالة إلى نفسه أو إلى غيره، والانتقال من السابق إلى اللاحق، من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل.
14
ويحيل العلم إلى باقي العلوم تأكيدا لوحدة العلوم في منظور واحد. وتقوم الإحالة على نظرية حتمية في تقسيم العلوم، والتي يسميها الفارابي «إحصاء العلوم»؛ فكل علم تتأسس مبادئه في علم آخر، ومبادئ العلوم الجزئية تتأسس كلها في علم كلي هو الفلسفة الأولى؛ لأنه لا يمكن البرهنة على مبادئ العلوم من العلوم الجزئية ذاتها؛ فيحيل موضوع النفس إلى كتب النطق؛ إذ يعتمد تحليل قوى النفس الناطقة الخمسة التي تداخل فيها النفس الحيوانية مع النفس الإنسانية على كتب المنطق في المقدمات الذاتية المشهورة؛ أي قياس النفس إلى نفسها، وهو ما يعادل العقل النظري. كما يحال إلى كتب الأخلاق لمزيد من التفصيل عن التوسط بين الخلقين الضدين.
15
ويظهر أيضا هم الاختصار واستبعاد التطويل، خاصة في الرسائل كنوع أدبي، ومع ذلك قد يطيل آخرون لجعل الموضوع أوضح وأجلى.
16
وتظهر البدايات والنهايات الإيمانية في تمثل الوافد، مثل الدعوة إلى العبر، والله أعلم، وقد تظهر في وسط الرسالة بعض الأساليب القرآنية الحرة واحدة تلو الأخرى لتقوية الأسلوب، والإقلال من التعامل مع الخارج، واستعمال الموروث الأصيل كمخزون أدبي.
17
سابعا: ابن الهيثم، وعلي بن رضوان
(1) ابن الهيثم
ويقوم ابن الهيثم (432ه) بتمثل الوافد الرياضي، والرياضيات جزء من الطبيعيات في علوم الحكمة، ويأتي في المقدمة بطليموس ثم أرسطو ثم أرشميدس ثم إقليدس، وتدل بعض العناوين، مثل «حل شكوك حركة الالتفاف»، «الشكوك على بطليموس»، أن تمثل الوافد لا يعني بالضرورة العرض أو تعشيق الوافد في الموروث، بل قد يعني أيضا النقد والشك في الوافد والمراجعة والتحقق من صدقه. (أ) ففي «حل شكوك حركة الالتفاف» يتم الحوار في الداخل على الخارج، ونقد السابقين الذين تعاملوا مع الوافد وأساءوا تأويله، كما يفعل ابن الهيثم مع «مولاي الشيخ» الذي يكن له احتراما كبيرا بالرغم من ظاهريته وحرفيته في فهم بطليموس؛ فقد أخذ الشيخ كلام بطليموس من غير تأمل أو تأويل، نقلا من غير فهم. ولا يستشهد ابن الهيثم بأقوال بطليموس فقط، بل بأقوال مولاي الشيخ على بطليموس في نص مزدوج، يقرأ ابن الهيثم مولاي الشيخ قارئا بطليموس.
يهز ابن الهيثم السلطة القديمة، سلطة الوافد، أو سلطة الوافد بعد أن يتحول إلى موروث، ويعيد مراجعة النصين على الواقع والتجربة حتى يتقدم العلم ضد تقديس القدماء. وخطأ بطليموس أنه وضع أصولا نظرية ثم ناقضها تجريبيا. ولا يكفي في ذلك منهج الاستشعار الذي استعمله الشيخ؛ أي الإحساس الغامض دون البرهان الواضح، والحكم بالظن دون اليقين.
1
كما أخذ الشيخ الكلام على ظاهره دون تأويل، على التقريب وليس على التحقيق، على العموم وليس على الخصوص؛ مما قد يخرج النص عن قصده.
ويستعمل ابن الهيثم منهج التمييز بين المعاني؛ إذ يرجع خطأ الشيخ أنه لم يختر بين ثلاثة معان؛ مما جعله يتشكك ويبعد عن الحق.
2
ومهمته البيان والتوضيح لأقوال الشيخ ولأقوال بطليموس، وتبديد سوء فهم الشيخ لأقوال بطليموس معيدا قراءة الاثنين لمعرفة أين الخطأ. يبحث ابن الهيثم عن الاتساق بين المقدمات والنتائج، ويراجع مسار الفكر حتى يكتشف التناقض والشناعات والمجالات فيه، والانتهاء إلى النتائج الصحيحة في الاستدلال عن المقدمات الصحيحة في القراءة،
3
بل يفترض ابن الهيثم وجود عدة نسخ للنص المقروء قد يكون اختلافها هو سبب الاختلاف في فهمها.
ويقدم ابن الهيثم منهجا يقوم على ثلاث خطوات؛ الأول: ضرورة تأويل النص وعدم فهمه حرفيا؛ أي إنه ينقد موقف الحشوية، كما فعل ابن رشد. والظاهر والمئول مقولات أصولية. والثاني: أخذ المعاني دون شك، وفهمها بيقين دون ظن، والتوثق من يقينها بالبرهان . والثالث: توضيح المعاني الغامضة وفهمها فهما دقيقا؛ مما يتطلب الجهد والعناء. وبدون هذه الخطوات الثلاث يتحول الموضوع إلى مجرد وهم، عنقاء مغرب.
ويتصدر بطليموس ثم أرسطوطاليس ثم مولاي الشيخ، ومن الكتب يتصدى كتاب «الاقتصاص» ثم المجسطي ثم المناظر.
4
ويراجع ابن الهيثم بطليموس نفسه متجها إلى الأصول الأولى دون التوسط بشرح «مولاي الشيخ» ليرفع التناقضات الموهومة في عمل بطليموس، مستعينا بباقي أعماله، ومصححا الكتاب بالكتاب، المجسطي بالاقتصاص، واستعمال نفس ألفاظه حتى تستبدل بها ألفاظ أخرى لا تفيد نفس المعنى، واكتشاف ما قاله بطليموس بنفسه وما لم يقله.
5
ويحدد في الكتاب المقالة والمكان حتى لا يتحدث انطباعا على الإطلاق.
ويعتذر ابن الهيثم عن بعض أخطاء بطليموس؛ لأن بطليموس نفسه يعتذر عنها ويدخل في فكره، ويصف كيف يتأمل ويفكر ويستدل، بل يتوجه ابن الهيثم إلى مصادر بطليموس عند أرسطو والتمييز بين القول بالحركة عند كل منهما. يبين قصد أرسطو وقصد بطليموس ومدى اتفاقهما واختلافهما؛ فابن الهيثم يقوي النصين معا، ويهيمن عليهما كما يهيمن القرآن على الإنجيل والتوراة، يصدق مضمونهما ويصحح ألفاظهما.
6
ويدل ذلك على أن بطليموس هو الذي يشرح ابن الهيثم، وأن ابن الهيثم هو الدارس، ويستعمل أقوال بطليموس تأييدا له إن كانت مطابقة، أو نقدها ومراجعتها وتصحيحها إن كانت مخالفة؛ لذلك يكثر تردد ألفاظ: صحيح، تصحيح، غلط، خطأ. فابن الهيثم يترك النص ويتجه نحو الموضوع حتى يراه، ثم يعود إلى النص ليراجعه على الموضوع.
7
هنا يرتبط تمثل الوافد بالشرح، إلا أن تمثل الوافد تجاوز للشرح إلى مستوى آخر؛ فهو أول مرحلة من مراحل التأليف، في حين أن الشرح مجرد فهم له على ما هو عليه.
وإن خطأ «مولاي الشيخ» هو تصديق بطليموس في كل شيء، ولكنه يصدق بطليموس من غير برهان ولا حجة، بل تقليدا ونقلا، وكأن أصحاب الحديث لا يصح أن يكونوا علماء لأنهم مجرد نقلة عن الرسول، تعودوا على منهج النقل ، وليس على منهج البرهان كما هو الحال عند أصحاب التعاليم. ويصعب عليه تغليط بطليموس وكأنه نبي، مع أن لبطليموس أغلاطا كثيرة في مواضع كثيرة من كتبه؛ فكثير من أقواله في المجسطي متناقضة، يضع أصولا للهيئات ثم يناقضها، وقد كان في نية ابن الهيثم تأليف كتاب في علم الهيئة يرصد فيه أغلاط بطليموس، كما أن له أغلاطا في كتاب المناظر والبرهان على أشكال المرايا. معاني كتاب «الاقتصاص» يبطل أكثرها ويضعف. وألف ابن الهيثم منشورين في العاجل يبين غلط بطليموس في ذلك التدوير.
8 (ب) وفي «الشكوك على بطليموس» يتقدم بطليموس على الإطلاق كي يصبح هو العلم الوحيد، ويتقدم المجسطي ثم الاقتصاص ثم المناظرة.
9
ولا يعني تمثل الوافد مجرد القبول والاستيعاب والتعلم، بل يعني الشك في الوافد ونقده وتجاوزه، كما يدل العنوان؛ من أجل القضاء على تقليده، وتحوله إلى اعتقاد مضاد لتقدم العلم. وقد استمر هذا التيار النقدي للوافد حتى في العصور المتأخرة.
10
فالنقد مشروع حضاري لعدة أجيال، وهو موقف واع مقصود، يعبر عنه ابن الهيثم؛ فطالب الحق ليس هو قارئ كتب المتقدمين وحسن الظن بهم، بل هو الناقد لفهمه، الباحث عن الحجة والبرهان، لا المتبع لقيل وقال، والخصيم للكل دون تحامل أو تسامح حتى يدرك الحق والباطل في كلام القدماء، ويتحقق من صدق أو خطأ أقوالهم.
11
ويستعمل ابن الهيثم عدة مناهج للنقد والمراجعة والتصحيح؛ أولا: منهج اتساق الفكر، وتطابق النتائج مع المقدمات، وعدم الوقوع في التناقض والمحال والشناعة.
12
وقد يكون سبب الغلط اللغة، وسوء استعمال الألفاظ، وعدم دقة المصطلحات. المقياس إذن هو تطابق الفكر مع نفسه، واتباع قواعد القياس؛ فالهيئة التي فرضها بطليموس للكواكب الخمسة باطلة لأنها خارج القياس، وفرض الحركة على دوائر مجردة أيضا خارج القياس؛
13
لذلك يرفض ابن الهيثم التناقض في المعاني والأقوال والتصورات والأصول الصحيحة، كما يرفض ما ينتج من محال وفحش. وقد يكون المقياس هو التناقض مع الواقع؛ فالوجود خلاف القول.
14
وقد تكون المعاني صحيحة، ولكن أوجه الاستدلال تتبين ببراهين أخرى، كما هو الحال في بعض إشكالات كتاب المناظر؛ لذلك تكثر ألفاظ: التناقض في المعنى، المحال في الوجود، الغلط في التصور أو الظاهر، المناقض للأصول الصحيحة، المحال الفاحش في مقابل الصحيح، البين، البرهان.
15
وأحيانا يجد ابن الهيثم لبطليموس العذر لبعض ما نسيه أو أخطائه، مثل نقص البراهين، والقفز على المقدمات، والسهو الذي لا يعتري البشر منه. وأحيانا أخرى ليس له عذر في مواضع ارتكب الخطأ فيها قصدا. ويراجع ابن الهيثم ما قاله في كتاب المجسطي مثلا على ما قاله في كتاب آخر من أجل تفسير العمل كله بعضه ببعض في وحدة المذهب ونسقه الكلي. ويدعم منهجه بالنصوص، واقتباس الأقوال، والإشارة إلى موضع القطع والوصل، وإعطاء فرصة لبطليموس لتأويل صحيح لأقواله بعد عرضها على العقل والتجربة، مع السير خطوة خطوة مع فكره لمعرفة مساره، وأين القفز فيه في الأصل أو الشرح.
16 (ج) وفي «مقدمة ضلع المسبع» يتقدم أرشميدس وحده؛
17
فالرسالة مختصرة دون الإضرار بالمعنى على مقدمة أرشميدس في ضلع المسبع. ويكمل ابن الهيثم براهين أرشميدس؛ فأساس برهان أرشميدس هو المثلث الذي عمل منه المسبع يمكن إعادة توظيفه لعمل المربع منه. كما يوسع ابن الهيثم الموضوع ويكمله، وهو ما يحتاج إليه أرشميدس لإثبات ضلع المسبع؛ فإكمال النتيجة يفيد في إعادة وضع المقدمات. كما يجد ابن الهيثم العذر لأرشميدس واضعا إياه في سياقه التاريخي؛ فالعلم يتقدم بتقدم التاريخ.
18 (د) وتبدأ «رسالة في الكرة المحرقة» لابن الهيثم أيضا من المقالة الخامسة من كتاب «المناظر» لبطليموس،
19
دون ذكر للسياق التاريخي والاكتفاء بالموضوع العلمي؛ «شعاع يخرج من الشمس على خطوط مستقيمة، وينفذ في كل جسم مشف مقابل للشمس. فإذا نفس في جسم مشف، ثم لقي جسما آخر مشفا مخالفا الشفيف لشفيف الجسم الذي هو فيه، ولم يكن قائما على سطح الجسم الثاني على زوايا قائمة، انعطف ولم ينفذ على استقامة.»
20
يعني التمثل هذا القدرة على العرض النظري الخالص بداية من نقطة تاريخية عند اليونان، تتحول إلى الإبداع الخالص عندما ينتهي الوافد كلية، ولا يبقى إلا العقل الخالص؛ لذلك لا يذكر من الوافد لا بطليموس والمناظر. ويوضع المقال داخل مجموع أعمال ابن الهيثم، مثل «المناظر» و«خطوط الساعات».
21
تغيب ألفاظ القول، وتكثر صيغ ألفاظ البيان؛ لأن ابن الهيثم لا يشرح قولا، بل يوضح برهانا، بل قد يكون فعل البيان مزدوجا عندما يتم بيان البيان من أجل مزيد من الإيضاح.
22
وهو بيان للبرهان؛ أي للبحث عن المنطق الداخلي للموضوع.
23
ويقوم البيان على الافتراض، كما هو الحال في البراهين الرياضية، توهم الخطوط من أجل بناء البرهان الهندسي عليها؛ لذلك يظهر تعبير «وإذا توهمنا»، وحتى يمكن استبعاد المحال، بالإضافة إلى عدد من الرسوم والأشكال التوضيحية، كما يحيل اللاحق إلى السابق، والسابق إلى اللاحق، لبيان وحدة الموضوع ووحدة الاستدلال في عبارات مثل «وإذ قدمنا». وكما يبدأ المقال بالبسملة والدعوة بالتيسير والإتمام بالخير والسعادة، ينتهي بالحمدلة والصلاة على الرسول وآله أجمعين. (ه) وفي «رسالة الكرة المحرقة» لابن الهيثم أيضا، تحرير كمال الدين الفارسي (718ه)، يبدو التمثل مزدوجا بين ابن الهيثم والفارسي، تمثلا على تمثل نحو مزيد من التحول من النقل إلى العقل، من الوافد إلى العقل الخالص.
24
الفارسي يتمثل ابن الهيثم متمثلا بطليموس.
25
يستبعد المقدمات التي ذكرها ثم يدخل في الموضوع مباشرة في الكرة المحرقة، وهي أن زاوية الانعطاف في الزجاج أصغر من نصف العطفية وأكبر من ربعها؛ لذلك لا يذكر من الوافد إلا بطليموس وكتابه المناظر، ثم ابن الهيثم وكتابه في خطوط الساعات؛ مما يدل على وحدة عمل ابن الهيثم؛ ولذلك أيضا تتعادل ألفاظ القول بين «قال» و«يقول»؛ أي ابن الهيثم، و«أقول»؛ أي الفارسي.
26
ففي تمثل الوافد أيضا يقع التراكم، بداية الإبداع؛ فالتمثل أول نوع في التأليف، والإبداع آخر نوع في التراكم. ويعتمد الفارسي على أكثر من نسخة من مقال ابن الهيثم ليستوثق من صحة النص.
27
وتظهر أفعال البيان والإرادة لتدل على أن التحرير رغبة المتمثل الثاني في توضيح المتمثل الأول؛ التمثل الأول فعل عقلي، والتمثل الثاني فعل إرادي. والفعل الإرادي يحقق المطلوب وما يحتاج إليه، ويستبعد المحال والتناقض، ويلخص النتائج، ويستقري الحاصل، ويضيف التكملة والحاشية؛ فهو فعل كيفي في البيان، وكمي في التركيز والشرح. والمقال به ستة رسوم توضيحية وجدول واحد. ولا يظهر من الموروث إلا ابن الهيثم، رحمه الله، متمثلا الوافد دون بسملة أو حمدلة.
28 (و) وفي «مقالة عن ثمرة الحكمة» يأتي إقليدس في المقدمة، لدرجة تلقيب ابن الهيثم بإقليدس الثاني بعد بطليموس الثاني.
29
ويعرض ابن الهيثم لما سماه إقليدس الرأي العام أو الإشكال مع موقف نقدي، يتفق مع بعض، ويختلف مع البعض الآخر؛ مما يتطلب الصبر على تأمله؛ فالعلم صبر وتأمل.
30
ولا يهم إذا كان ابن الهيثم هو مؤلف المقال أم أنه منتحل عليه؛ فهذا سؤال الاستشراق، فالنص له استقلاله الداخلي بصرف النظر عن مؤلفه؛ ميلاده ووفاته وحياته. تحليله من أجل التعرف على مكانه في التحول من النقل إلى الإبداع. وابن الهيثم في الرياضيات مثل ابن سينا في علوم الحكمة، يمثل القدرة على التنظير لدرجة الاقتراب من الإبداع الخالص لولا ذكر الوافد وتمثله. درس في بداية حياته أرسطو وجالينوس وبطليموس وإقليدس، ثم تجاوزهم وانتقل من تمثل الوافد إلى الإبداع الخالص في بعض رسائله الأخرى. ويستعمل الاسم المنقول مثل علم التأليف الذي يسميه اليونانيون الموسيقى حرصا على التمايز بين الأنا والآخر.
31
منهجه يعتمد على الشك في المنقول، سواء كان الوافد أو الموروث أو الوافد الموروث حتى يتأكد من صحته، صحة النقل أو صحة الفهم والتأويل، صحة المتن وصحة السند بلغة علم الحديث. ويتم التصديق إما عن طريق العقل والبرهان أو بطريق التجربة والملاحظة والمشاهدة، لا فرق في ذلك بين العلوم الرياضية أو الطبيعية أو الإنسانية. والتعبير عن النتيجة بلغة علمية دقيقة وبأسلوب مختصر بعيدا عن الإنشائيات واللغو والتطويل. والمثابرة في العمل ضرورية بالرغم من الشعور بحتمية النهاية وهموم قصر العمر.
والهندسة تجمع بين الرياضة والمنطق، الهندسة منطق الرياضة، وهي أساس العلوم الرياضية الأربعة، تعطي خواص الأشكال الهندسية في الهندسة، وخواص الأعداد في الحساب، وخواص علم التأليف في الموسيقى، وخواص علم الهيئة في الفلك. وعلى أساس الهندسة تنشأ باقي العلوم الصناعية.
32
والرياضة بديل عن المنطق في قسمة الحكمة إلى رياضيات وطبيعيات ومنطقيات.
وابن الهيثم متكلم وفيلسوف، ألف في الرد على ابن الراوندي والرازي والمعتزلة والمتكلمين، ولإثبات أن أدلة المتكلمين فاسدة لا تقوم على برهان ضروري، حتى ولو كان الموضوع إثبات حدوث العالم كما فعل ابن رشد فيما بعد.
ولا يخلو فكر ابن الهيثم من جانب أخلاقي عملي بالرغم من التأصيل الهندسي الطبيعي، لدرجة الشك في صحة «ثمرة الحكمة» لأفلاطونيتها في تقسيم قوى النفس، وتناول موضوع الأحلام، وجمعها بين العلوم الطبيعية والإلهية والرياضية. أراد منها ابن الهيثم تعليم المبتدئين أصول الحكمة اعتمادا على أصول الهندسة؛
33
إذ تستطيع الهندسة، وهي منطق الرياضيات، الوصول إلى الأمور الطبيعية، التي هي الحكمة ومبادؤها وعللها وأسبابها، وإلى الأمور الإلهية، حكمة الله وذكره في هيئة السماء والأرض وما بينهما، فلزم إثبات الباري حكيما قادرا خبيرا.
34
وفي الرسائل الأربع تنتهي ثلاثة منها دون «الشك على بطليموس» بالإيمانيات، ابتداء بالبسملة والحمدلة، والثقة بالله، ودعوته للعصمة من الزلل، والتقصير والخلل، والاستعانة بمشيئته، والتوكل عليه، العزة لله، وحده لا شريك له. ويدعو ابن الهيثم لمولاه الشيخ بحراسة الله له، بالرغم من تقليده لبطليموس وامتعاضه من نقده. ويستشهد بآية قرآنية
إن بعض الظن إثم
لإثبات ضرورة الانتقال من الظن إلى اليقين. ويحمد لابن الهيثم أنه لم يدع للسلطان بعد دعاء الله.
35 (2) علي بن رضوان
وفي «المستعمل من المنطق في العلوم والصنائع» لعلي بن رضوان (453ه)، يدل العنوان على تحويل المنطق من منطق صوري إلى منطق للاستعمال، وأنه ليس فقط في قواعد الفكر، بل أيضا في العلوم والصنائع، لا فرق بين منطق تقليدي قديم ومنطق علمي حديث. وينقسم إلى مقالات ثلاث بلا عناوين؛ الأول: عن الأجناس العشرة، ويضم المقولات والعبارة. والثاني: عن القياس والبرهان؛ أي منطق اليقين. والثالث: عن الجدل والمغالطة والخطابة والشعر؛ أي منطق الظن. فلا يعني تمثل الوافد مجرد التكرار والنقل والتقليد، بل يعني بداية الإبداع والنقل الحضاري. وهو على وعي باختلاف الترتيب بينه وبين أرسطو؛ فأرسطو يبغي العلم والعمل، وابن رضوان يبغي العمل فحسب.
36
يدرس ابن رضوان الموضوع ثم يبين موضعه في منطق أرسطو، مثل الفصل الرابع من كتاب العبارة،
37
ويركز منطق أرسطو، ويبين سبب إطالته في تعليم صناعة الجدل واستقصائها في ثماني مقالات،
38
ويؤيد تقسيم الفيلسوف المخاطبات إلى خمس ما دامت القسمة تتفق مع العقل والموضوع.
39
وكان ابن رضوان على وعي بتقدم المنطق من القدماء إلى المحدثين. التمثل ليس الثبات على اللحظة الأولى التي نشأ فيها المنطق عند القدماء، بل تمثله واستيعابه عند المحدثين. ويختلف المناطقة في طرق تعبيرهم «وقد جرت عادة القدماء أن».
40
ولا يعني تمثل الوافد مجرد تحصيل واستيعاب، بل يتضمن التأمل والفهم، كما تدل على ذلك صيغ «وإذ تأملنا»، «وإذ قد لخصنا».
41
ويظهر الاستدلال في الانتقال من المقدمات إلى النتائج، وهو استدلال معياري لما ينبغي أن يكون عليه الفكر «ولذلك ينبغي أن تفهم». كما تظهر أفعال البيان؛ مما يدل على أن التمثل توضيح وشرح.
42
وتتم مخاطبة القارئ «وإذا عرفت هذا»؛ فالتمثل تجربة مشتركة، ورسالة حضارية واحدة بين المؤلف والقارئ.
43
ومن الوافد يذكر الفيلسوف تحولا من الشخص إلى النموذج وأرسطوطاليس ثم إقليدس وأبقراط؛
44
فقد استخرج أرسطو صناعة المنطق. ويشار إلى جميع الفلاسفة والمشهورين من الفلاسفة أو ذوي النباهة منهم دون تحديد من الوافد أو الموروث.
45
ويحال إلى كتاب العبارة بمفرده؛ لأنه أقرب إلى مباحث اللغة. ويضرب المثل بكتابي «كليلة ودمنة» و«العرس والعرائس». وما زالت بعض الألفاظ المعربة مستعملة، مثل أسطقس وأسطقسات.
ويضرب المثل بمواد طبية من أبقراط، إن الحرارة تكثر في الأجواف في الشتاء؛ مما يتطلب قلة البلغم، في حين أن البلغم يكثر؛ فهذا خلف؛ أي اختلاف النتائج عن المقدمات تجريبيا، وذلك في أمثلة البرهان. كما يضرب المثل بأمثلة طبية أخرى؛ فالمنطق للاستعمال منطق تجريبي. كما يضرب المثل ببرهان إقليدس لما يستعمل في العلوم والصنائع، وهو برهان مكون من مقدمتين. وما يجري في الهندسة يجري في سائر العلوم الطبيعية، مثل الجرم السماوي.
وتظهر اللغة العربية في عادة الإشارة إلى المجهول بزيد وعمرو. كما يضرب المثل بأرسطوطاليس وسقراط، بنفس الطريقة لشرح «متى» كعرض ، أو على أشخاص جزئية. ويذكر الناسخ الشيخ أبا الحسن علي بن رضوان.
46
وتظهر مادة الموروث تلقائيا؛ فما دام المنطق للاستعمال فإنه يكون نافعا في التخلق بأخلاق الصالحين. والشرائع ضربان؛ عقلية: وهي ما يذعن إليه كل عاقل، مثل مواساة صديق أو قريب، وحب الغير مثل حب النفس، والبر بالوالدين، وشكر المنعم، وهي متواترت في كل أمة. والثانية: وضعية، وهي الشرائع الخاصة بكل أمة أو صنعة، ومنها شرائع الطوائف الإلهية عن نبوة أو وحي من الله ومن الإمام أو الفقيه. والفرق بين الإمام والفقيه والمتكلم أن الإمام قائم بأمر الشريعة ويحمل الناس عليها، والفقيه يعنى بالحلال والحرام، والمتكلم هو الذي يتكلم في أصول الفقه ونصرة الدين بأقاويل، لا فرق بين عالم أصول الفقه وعالم أصول الدين. ويتم الاحتكام إلى الشريعة الوضعية في حالة الخصام بين طائفتين، أو إلى الشريعة العقلية العامة في حالة الخلاف بين البشر.
47
وكما يبدأ الكتاب بالبسملة والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه، ينتهي بالحمدلة، وأحيانا في آخر كل مقال.
48
ثامنا: ابن باجه وابن رشد
(1) ابن باجه (أ) وفي «الغاية الإنسانية» يحال إلى أرسطو والحكماء فقط؛
1
إذ يستشهد ابن باجه بقول أرسطو إنه إذا حصل الإنسان على الكمال فقد نجا من مجاهدة الطبيعة وآلامها والنفس وقواها، وصار كما يقول أرسطو في فرح وسرور دائمين. مجرد اتفاق في الآراء، وتوافق في الخواطر، كنموذج لإجماع العقلاء وتبادل الخبرات بين الحضارات. كما يستعمل لفظ الحكماء دون تحديد انتمائهم للوافد أو الموروث بعد أن أصبح الوافد موروثا. ويحيل إلى «تدبير المتوحد» أكثر مما يحيل إلى أرسطو والحكماء مجتمعين؛ مما يدل على أن مذهب ابن باجه يأتي قبل مذهب أرسطو، وأن تمثل الوافد ليس من أجل تمثل الآخر، بل من أجل إبداع الأنا.
2
وما زال لفظ «الأسطقسات» معربا هو المستعمل، وحتى الآن. (ب) ولابن باجه (533ه) أعمال صغيرة يتمثل فيها الوافد؛ فقد أتى في القرن السادس بعد أن كانت عملية تمثل الوافد قد تمت؛ ففي «قول يتلو رسالة الوداع»
3
يحيل إلى أرسطو فحسب، ثم يحيل من أعماله إلى الحيوان، ثم السماع الطبيعي، والسماء والعالم، والكون والفساد.
4
فبعد أن يقوم ابن باجه بدراسة الموضوع يستشهد بأرسطو، مثل وجود حسي أبدي في البذر مجانس لأسطقسات الكواكب؛ لأن جوهرها واحد وهو العقل، ومثل حد النفس بأنها استكمال لجسم طبيعي ذي الحياة للنعم في الأولى والآخرة. وهو غير التعريف التقليدي المشهور لتعريف النفس عند أرسطو. أما بالنسبة إلى أعمال أرسطو فإنه يبين أن جوهر الفاعل عقل إلهي، ويحيل إلى السادسة عشرة من كتاب «الحيوان»، فإذا يبين أن به روحانية، كما رأى الأوائل أن السماء مسكن الروحانيين، فإنه يحيل إلى «السماء والعالم» وإلى «السماع الطبيعي». كما يحيل في «التمييز بين الترداد والتردد» إلى آخر المقالة الثانية من «الكون والفساد». ولا يحيل ابن باجه إلى مؤلفات أرسطو وحده، بل يحيل إلى مؤلفاته هو، مثل «رسالة الوداع» و«النفس» و«تدبير المتوحد» و«النبات»؛ تأكيدا لوحدة المذهبين، أرسطو وابن باجه، وتفسير الجزء بالكل.
5 (ج) وفي «الصورة الأولى والمادة الأولى» لا يذكر إلا الحكيم (مرة واحدة) دون أن يعني أرسطو بالضرورة، بل أي حكيم من الوافد أو الموروث في موضوع طبيعي إلهي باعتبارهما علما واحدا؛ فالطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى.
6
ويبدو فيها ابن باجه جامعا علم الكندي، ومنطق الفارابي، وإشراقيات ابن سينا. كما يحيل إلى بعض مؤلفات أرسطو؛ فقد تحول الوافد إلى نصوص وليس أشخاصا، إلى مؤلفات وليس مؤلفين، بداية للتحول من الشخص إلى العلم، ومن التراث العلمي إلى العلم ذاته؛ فإذا كانت أول الصورة تحصل في المادة هي صورة الأسطقسات لأنها بسائط الموجودات، يحيل ابن باجه إلى «الكون والفساد» ثم «الآثار العلوية» و«السماء والعالم»، كنوع من الأدبيات السابقة.
7
ابن باجه هو الدارس، وأرسطو هو صاحب الأدبيات في الموضوع قبله. وما زال يستعمل لفظ «الأسطقسات» معربا.
8 (د) وفي «تراتب العقول وخلودها» يذكر من الوافد كتاب «إيضاح الخير» (مرة واحدة)، وليس اسم علم، تحولا من المؤلف إلى النص، ومن النص إلى العلم، كنوع من التأكيد والتثبت من الموضوع الذي درسه ابن باجه من قبل مع تحديد للأبواب الرابع والمائة والخامسة والمائة والسادس والمائة؛ مما يدل على معرفة دقيقة بالكتاب . ولا يذكر مؤلفه نظرا لشهرته لأولوية النص على الشخص، وإمكانية نسبة النص إلى أكثر من شخص، وربما هو كتاب «الخير المحض» المنسوب إلى البغدادي، والمنتحل على النسق الأفلوطيني. والرسالة دينية الطابع، تبين ثلاثة أمور للتقرب إلى الله، ذكره باللسان تمجيدا أو تعظيما، وأخذ الجوارح بما يعطيه القلب، وتجنب ما ينهى عن ذكره أو يشغل القلب عنه، وذلك كله لا يتم إلا بالصبر على الدوام معه. وتنتهي الرسالة بمخاطبة القارئ وتبصرته، إذا أخذ ما فيها كان من المخلصين لله، ولا يتم ذلك إلا بالصبر على إدامته.
9 (2) ابن رشد
وبالرغم من الصورة الشائعة عن ابن رشد (595ه) أنه «الشارح الأعظم»، أي أنه يقوم بتمثل الوافد، إلا أن الشروح والملخصات والجوامع كانت في الحقيقة استعمال الوافد لنقد الموروث، خاصة علم الأشعرية؛ أي الكلام، والفلسفة الإشراقية، خاصة ابن سينا، ولكن يظهر تمثل الوافد في مقالاته الصغيرة المنطقية والطبيعية (ثمانية عشر مقالا) فيما لا يتجاوز مقالين طبيعيين «في المزاج»، و«في البذور والزروع». (أ) «في المزاج». يتقدم جالينوس باعتباره منطقيا وطبيعيا، ثم أرسطو. ويختفي الشراح نظرا لأن المقالة في الطب، وجالينوس هو الطبيب، وليس أرسطو. ويحال إلى القدماء ثم إلى الفلاسفة والمفسرين على العموم. كما يحال إلى «في المزاج» نفسه ربطا لأجزائه وتفسيرا للكتاب بالكتاب، ثم إلى «الكون والفساد» و«الآثار العلوية».
10
ويدافع ابن رشد عن أرسطو ضد سوء تأويل جالينوس له عندما جعل المفاعلات أربعة؛ الحرارة، والبرودة، واليبوسة، والرطوبة؛ مع أنهما عند أرسطو اثنان فقط؛ فقد أخطأ جالينوس تصور الأربعة بضرب اثنين في اثنين، فاعل ومنفعل. عند أرسطو الحرارة والبرودة فاعلتان، واليبوسة والرطوبة منفعلتان، وعلاقة الصورة بالهيولى هي علاقة الفاعل بالمنفعل. وخطأ جالينوس قياسه الكل على أنه فاعل ومنفعل كأضداد. ويقوم ابن رشد بدور الحكم والقاضي والإمام الواحد، ويبحث عن سبب سوء التأويل كما يفعل القاضي لمعرفة أدلة الاتهام أو البراءة، اتهام جالينوس، وبراءة أرسطو. وسؤال ابن رشد إلى أي حد يمكن إضافة جالينوس إلى الرأي القديم في المزاج يوافق الأصول الطبيعية، ويدل على البحث عن الأصل، كما هو الحال عند الأصوليين.
11
ولجالينوس مقالة في «المزاج» يبين فيها أن الأمزجة تسع؛ فالدافع على التأليف هو الموضوع، هل الأمزجة تسع كما هو الحال عند جالينوس، أم أربع كما هو الحال عند أرسطو؟ والأمزجة ثمان بالإضافة إلى المعتدل، وهو الموجود في اللحم في جلد الكف وطرف السبابة؛ فالمعتدل في أطراف النوع. وتوجد فيه كيفيات الأسطقسات بمقادير متساوية، من الحار والبارد، والرطب واليابس. وقد غلط جالينوس في إضافة المعتدل إلى الكيفيات الأولى؛ لأنه شبه الأمور الطبيعية بالأمور الصناعية؛ فأرسطو أكثر طبيعية من جالينوس، قايس بينهما، وتصور أن كل واحد منها فاعل ومنفعل.
12
وبالنسبة للمشائين الأمزجة الأربعة مركبة على نحو وجودها في البسائط، ولكن جالينوس وأتباعه لم يفهموا هذا المعنى في فعل الحرارة والبرودة في الرطوبة واليبوسة، وجعلوا كل واحدة من الأربعة فاعلة، وأولوا أرسطو تأويلا بعيدا. والمشاءون مجرد رواة للتاريخ الفلسفي ينقل عنهم جالينوس.
13
ويضع ابن رشد جالينوس مع تاريخ الحكماء، وأنه استدرك ما فات جميع الفلاسفة والأطباء قبله، وتابعه من أتى بعده، ويشكره ابن رشد على حسن صنيعه، ويحكم بينه وبين القدماء، أيهما حق وأيهما باطل، ويشكر صاحب الحق وينبه على غلط صاحب الباطل. ويستشهد بالقدماء؛ فليس كل ما يقوله القدماء خطأ على الإطلاق. وعلى مستوى المصطلحات ما زال ابن رشد يستعمل أيضا اللفظ المعرب «الأسطقسات» مفردا ومثنى وجمعا، وليس المترجم بعد أن استقر، مثل الموسيقى والجغرافيا والفلسفة والسفسطة.
14
ولا فرق في آليات الإبداع بين الشرح والتلخيص والجامع والعرض والتأليف من حيث تحليل أفعال الشعور المعرفي، ومنطق الاستدلال، والتطابق بين المقدمات والنتائج، والمسار الفكري بين البداية والنهاية، والمنطق المعياري باستثناء أفعال القول؛ لأن التأليف لا يبدأ بشرح أقوال. يظهر أرسطو كأحد مكونات التأليف أثناء تمثل الوافد. إنما تظهر أفعال القول للمعترض الذي يرد عليه سلفا طبقا للأسلوب الفقهي. كما تظهر أفعال البيان والإيضاح للغرض والقصد؛ فالتأليف قصدي وليس مجرد تجميع. وتظهر أفعال الشعور المعرفي التي تبين أفعال الفكر في اتجاهه القصدي. فغرض ابن رشد فحص عدد إضافات المزاجات والموجود في كل نوع من الأجسام المتشابهة الأجزاء، سواء كانت لذي نقص أو لم تكن؛ فإن النظر في المزاج يكون ذاتيا أو جسميا. ويبدأ بالإعلان عن القصد، وينتهي بالإعلان عن تحقيق القصد. وتظهر البيئة الدينية كالعادة في البداية والنهاية، بالبسملة والحمدلة، والصلاة والسلام على الرسول، وطلب الرضا عن المؤلف.
15 (ب) وفي «البذور والزروع» يظهر أرسطو وحده دون أي شارح أو أي فيلسوف آخر.
16
ولا توجد إحالات إلى مؤلفات لأرسطو أو لابن رشد؛ نظرا لأنها مكتفية بذاتها. ويبدأ المقال بأرسطو لمعرفة مسار فكره، وهو نفس بنية الموضوع؛ نظرا لوحدة العقل والطبيعة؛ لذلك أتى المقال بسيطا سهلا واضحا. يعرض أرسطو من الداخل عن طريق عرض الموضوع متجاوزا القول في الشروح والملخصات والجوامع. ولا يوجد نقد لأحد، بل فقط بيان الاتساق الفكري الداخلي وحقيقة الموضوع أو موضوعية الحقيقة تمثلا للوافد. ويرفع ابن رشد الاشتباه في فهم أرسطو بين الذي يتحرك من ذاته والذي يتحرك بالمحرك الأول، والشبه مقدمة للاشتباه. الموضوع في ظاهره طبيعي، وفي حقيقته ديني؛ لأن الفكر الديني يفضل النوع الثاني، الحركة بالمحرك الأول على النوع الأول، الحركة الذاتية لأن النوع الثاني يسمح بوجود محرك أول لا يتحرك؛ ومن ثم يمكن إثبات وجود الله. يؤلف ابن رشد في الموضوع ثم يحيل إلى تأليف أرسطو لبيان الاتفاق في النتائج بين حكيمين في حضارتين مختلفتين، وربما بمنهجين مختلفين؛ جزئي عند أرسطو، اتفاق العقل والطبيعة، وكلي عند ابن رشد، اتفاق الوحي والعقل والطبيعة. تمثل الوافد هو إخراج ما بالقوة إلى ما بالفعل في الوافد، إظهار الكامن، قراءة ما بين السطور، دفع الشيء إلى نتائجه الأخيرة، القول في استدلالاته ومعاركه ثم نقله إلى بؤرة الحضارة الجديدة كمرحلة من مراحل التحول من النقل إلى الإبداع.
17
ويبين ابن رشد غرضه منذ بداية المقال، الفحص عن القوى الموجودة في البذور والزروع، جوهرها ووجودها، فاسدة أم غير فاسدة، الجنين المحمول قبل أن يتكون، وكل ما تتوق النفس إلى معرفته. ويشعر ابن رشد بمسار فكر أرسطو، مقدماته ونتائجه، خطواته ووحدة مذهبه. ويحيل الأجزاء إلى الكل. يقول أرسطو ويقول ابن رشد. فليس القول حكرا على أرسطو، بل إن قول ابن رشد أكثر من قول أرسطو.
18
ليس الحديث عن البذور والزروع موضوعا قرآنيا مباشرا، وإن كان موضوعا قرآنيا غير مباشر؛ نظرا لوجود الصورة في القرآن؛ ومن ثم فإن اتفاق فلسفة أرسطو مع العقل والطبيعة يجعل من السهل اتفاقها مع الوحي والحكمة الشعبية؛ أي التاريخ؛ فالطبيعة قيمة. ويظهر ذلك من استعمال تعبيرات مثل «أكرم في وصف جسد الطبيعة»، «أكرم من الأسطقسات الأربعة»، واستعمال لفظ إلهي بهذا المعنى التفضيلي يكون به الكرم والشرف. ويبدو أن تمثل الوافد يتم عن طريق إيجاد وعاء عقلي خالص أو طبيعي أو من الوحي اللاشعوري في وعي المؤلف؛ فالوعاء معد ومهيأ لاستقبال الوافد. وعلى مستوى المصطلحات يستعمل ابن رشد اللفظ المعرب «الأسطقسات»، وليس المترجم العناصر، بعد أن تحول بطول الاستعمال إلى لفظ عربي أصله أجنبي، وفي القرآن البعض منه.
19
وتظهر البيئة الدينية للتأليف في البداية بالبسملة، والنهاية بالحمدلة، وطلب العون من الرب، والصلاة والسلام على الرسول وآله، وطلب الرحمة والرضا للمؤلف. إيمانيات في موضوعات طبيعية، لا فرق بين أن يكون ذلك من المؤلف أو الناسخ أو القارئ؛ فالنص عمل حضاري مشترك، وثيقة حضارية تعبر عن موقف واحد.
20
الفصل الثاني: تمثل الوافد قبل تنظير الموروث
أولا: المترجمون: ثابت بن قرة، ويحيى بن عدي
(1) ثابت بن قرة
وكما ساهم المترجمون في تمثل الوافد فإنهم ساهموا أيضا في تمثل الوافد قبل تنظير الموروث؛ فهم المؤلفون الأوائل. ولم يظهر تمثل الوافد قبل تنظير الموروث قبل القرن الثالث؛ فقد كان القرن الثاني بداية عصر الترجمة، أي نقل الوافد وقلة التراكم الفلسفي في الموروث. ويغلب على هذا النوع من التأليف علم الطب لحاجة الحضارة القائمة الجديدة إليه في مداواة الجند؛ فهو علم عملي قبل أن يكون علما نظريا جزءا من الطبيعيات عند اكتمال بنية علوم الحكمة عند ابن سينا. لم يكن الموروث في ذلك الوقت يتجاوز الطب النبوي، المرويات في الطب عن الرسول.
ويمثل كتاب «الذخيرة في علم الطب» لثابت بن قرة (288ه) هذا النوع من التأليف. جمعه ابنه سنان ابن قرة، مجرد تجميع علم دون منهج، قياس أو تجربة أو حيل، ولا يوجد أسلوب يعبر عن وحدة العمل وتأليفه، أو تجارب شخصية توحي بممارسة الطب.
1
ولو أن بعض عبارات التذكير بما فات تبدأ أحيانا ربطا للاحق بالسابق.
2
تبدو فيه بداية المصطلحات الطبية مثل الصفة؛ أي تركيب الدواء. ويغلب على أسماء النباتات والأعشاب فيه أسلوب التعريب عن اليونانية مباشرة.
ويتصدر الوافد بطبيعة الحال على الموروث، ويأتي جالينوس في المقدمة، يليه أبقراط.
3
ويعطى لجالينوس لقب الحكيم أو الفاضل، ولأبقراط لقب الفاضل، بداية للتحول الشخصي من الشخص إلى النموذج، وتقديرا للوافد الذي سيظهر عند الكندي كموقف حضاري. ومن مؤلفات جالينوس المحال إليها: تدبير الأصحاء، حيلة البرء، الأهوية والبلدان، الميامير، أغلوقون، طيماوس. وواضح خروج الحكمة الخالصة مثل طيماوس من ثنايا الطب. ومن مؤلفات أبقراط يذكر «الفصول». وتبدو بعض الألفاظ معربة مثل الماليخوليا، الإيلهسيا.
أما الموروث فيأتي ابن ماسويه في الصدارة، ثم حنين بن إسحاق، ثم الحارث بن كلدة طبيب العرب، ثم ابن سرابيون.
4
وتظهر البيئة الدينية الإسلامية أيضا في مؤلفات النصارى نظرا لتحول الإسلام إلى ثقافة يومية للجميع، سواء كان ذلك من المؤلف أو الناسخ أو القارئ أو المالك، مثل البسملة والاستعانة بالله وطلب العصمة والتوفيق وهو الأغلب، والحمدلة والصلاة على الرسول وآله الأكرمين. وتبرز بعض تعبيرات النصارى مثل «إيلاوس»، وتأويله «رب ارحم».
5 (2) يحيى بن عدي
لم يقتصر المترجمون فقط على تمثل الوافد نظرا لقربهم منه ومعرفتهم به، والقيام بأولى خطوات التحول من النقل إلى الإبداع؛ فالمترجمون مثل المؤلفين ذوو ثقافتين، الوافد والموروث، وإن غلب الوافد. بدأ المترجمون المؤلفون بوضع الوافد في وعاء الموروث حتى ولو كان المحوي أكبر من الحاوي. (أ) مثال ذلك «تعاليق عدة في معان كثيرة» ليحيى بن عدي (364ه) بعد الكندي والرازي والفارابي.
6
وتشمل موضوعات متفرقة لتعريفها، أشبه برسالة في المصطلحات الفلسفية.
يتصدر تمثل الوافد على تنظير الموروث، ويتصدر أرسطو ومؤلفاته مثل قاطيغورياس، ثم باري أرمنياس ، ثم القياس (أنالوطيقا الأولى)، وما بعد الطبيعة، ثم فرفوريوس وأفلاطون. ويذكر لفظ اليونانيين وأسطقس.
7
يذكر أرسطو في تعريف المتقابلات في قاطيغورياس، ثم يعلق ابن عدي لإعطاء مزيد من البراهين، ويبدد الشكوك، ويعطي حد المضاف في السرياني على ما أورده أرسطو ويبين معناه، ويبين أيضا حد أرسطو للكيفية والإضافة، ويستشهد برأيه في الحمل، ويستشهد في قوله في قاطيغورياس عن الذوات الجنسية في موضوع الجن، ثم يشرح قوله في قاطيغورياس إنه بالواجب صارت الأنواع والأجناس وحدها دون غيرها كالجواهر الأول والجواهر الثواني، ويفسر قوله بقوله، والعودة إلى قاطيغورياس، بأن الألفاظ المفردة لها معان مفردة. كما أن أرسطو جعل الموجود في قاطيغورياس اسما مشتركا تشترك فيه المقولات العشر، وسماه فيما بعد الطبيعة جنسا. وجعل أرسطو المعلوم هو العلم، إذا رفع العلم رفع المعلوم، كي يشحذ المتعلمون أفكارهم؛ فأرسطو عالم تربوي. ويبرر ابن عدي عدم بيان أرسطو غرضه في كتاب قاطيغورياس كما فعل في باقي كتبه أنها أوساط على مراتب مختلفة. وربما شك في التقديم والتأخير لها. ويضع ابن عدي جدولا لشرح استخراج الحد الأوسط في القياس بين المقدمات والنتائج، ويشرح رأيه في جهات القضايا، الضروري والممتنع والممكن. ويلاحظ على أرسطو أن حرف السلب إنما يقرن بالأسوار. كما يبين رأيه في المقدمات التي يكذب بعضها بعضا، ولا يمكن أن تصدق لتناقضها أو تضادها، ويوضح معنى قول أرسطو إن الكل يدل على أن الحكم كلي وليس المعنى. كما شرح أرسطو في باري أرمنياس أن الكلمة على العموم هو المحمول. ويعلق ابن عدي على ترتيب القضايا عند أرسطو بين الإيجاب والسلب. والموضوع منطقي تجريدي. يبدو تمثل الوافد وكأنه محاولة للإيضاح والفهم والتقطيع جزءا جزءا حتى يتم هضم الوافد قبل تمثله. أما فرفوريوس فقد عرف الآخر بأنه ما خلف غيره بطبيعته، وهو ما يعتمد عليه ابن عدي في تحديد الشخص بأنه اسم مشترك. ويضرب أفلاطون المثل بالجن على الكائنات غير الناطقة وغير المائتة؛ وبالتالي عدم تنافي الفصلين. وما زال لفظ «أسطقس» معربا، مع الإحالة إلى اليونانيين الذين يسمون الإنسان ناظرا.
أما الموروث فيعتمد ابن عدي على تعليق أبي سليمان المنطقي السجستاني على إضافة ما بالقوة إلى ما بالقوة، وما بالفعل إلى ما بالفعل، حتى تصح الإضافة. كما يعلق على تفسير أبي بشر متى بن يونس على مقدمات القياس، وكيف أنه تفسير عويص.
8
ولا يغيب الدافع الديني متخفيا وراء التجريد المنطقي؛ فالله تعالى هو موجد الممكنات. (ب) وفي «كتاب أجوبة بشر اليهودي عن مسائله» يتصدر أرسطو مع إحالات إلى قاطيغورياس، ثم السماع الطبيعي، ثم باري أرمنياس والبرهان واللام والسماء والعالم، ثم يظهر الإسكندر مع إحالة إلى مقاله «العناية»، وجالينوس مع إحالة إلى «الكبير في النبض» و«الصغير في النبض»، ثم أفلاطون، ثم أنكساجوراس وثامسطيوس وأفلاطون وفرفوريوس، ثم أبقراط مع إحالة إلى «الفصول»، وديمقريطس، وأفيقوس، وبرقلس الأفلاطوني. ومن الفرق يأتي الحكيم، ثم الإسكندرانيون، ثم الفلاسفة.
9
وتشمل قسمين؛ الأول: سؤال بشر اليهودي. والثاني: أجوبة ابن عدي.
10
السؤال من الموروث اليهودي، والجواب من الموروث النصراني حول الوافد.
كان السؤال عن رواية أرسطو في السماع عن رأي أنكساجوراس في أن مبادئ الأشياء بلا نهاية متشابهة الأجزاء بعضها من بعض، ويظهر فيها الأغلب مثل الماء. وقام أرسطو بتفنيد الرأي، ثم شرح ثامسطيوس نقد أرسطو، فهل أفحم أنكساجوراس؟ كما بين أرسطو في المقالة الرابعة من السماع الطبيعي أن المكان هو نهاية ما يحويه، فكيف تكون كرة الكواكب الثابتة في المكان؟ وبين في «السماء والعالم» أنه ليس وراءهما خلاء ولا ملاء، وهو الكل، فهل لا مكان لها؟ ولما حد الحركة بالزمان، ألا يوجد زمان بلا حركة أم أن الزمان جوهر قائم بنفسه والحركة تقدره، وهو رأي الإسكندر كما رواه جالينوس، وهو رأي أفلاطون أيضا؟ فهل الحق مع أرسطو أم جالينوس؟ يرى أرسطو في السماع أن كل جسم متناه فقوته متناهية؛ مما يلزم عنه أن تكون قوة الفلك متناهية، مع أنها ليست كذلك. كما بين في مقالة «اللام» أن الله علة العلل، مع أنه قسم العلل في البرهان إلى أربعة، فأي علة يكون الله؟ وكيف يكون علة والله مثل العقل مفارقا؟ كما أن أرسطو في «باري أرمنياس» يبحث عن الموجبة، ويرى أن السالبة المناقضة أشد عنادا لها. وأثبت الإسكندرانيون خطأ أرسطو في ذلك، ويرون العكس، وينقضون حجج أرسطو. وأرسطو على حق، والإسكندرانيون لم يفهموا أقواله. كما قسم أرسطو الموجودات في قاطيغورياس إلى جوهر وعرض، وإلى عشرة أقسام، فما هي القسمة؟ هل هي الأجناس والأنواع؟ ولم صارت الموجودات عشرة؟ وهل يزيد الإسكندرانيون عليها؟ كما تحدث أرسطو في «قاطيغورياس» عن ناطق غير مائت، فهل هي الكواكب كما يعتقد فرفوريوس؟
أما بالنسبة للإسكندر، فقد عدد الآراء في العناية في مقالة عنها. ينكرها البعض مثل ديمقريطس وأفيقوس، ويثبتها البعض في الكليات والجزئيات، وهو ما يرويه الإسكندر عن أفلاطون. وأرسطو مع الإسكندر يرى أن الله يعنى بالكليات دون الجزئيات. ويحصي الإسكندر حجج كل فريق.
أما أبقراط فقد صرح في «الفصول» بأن من عرض له الصرع قبل نبات شعر عانته، فإن برأه يكون بتقدم السن، فإذا وصل إلى سن الخامسة والعشرين فإنه يموت به، دون بيان ذلك منه ولا عن جالينوس. وصرح جالينوس في «الكبير في النبض» أن أجناس النبض عشرة دون برهان، حتى حين ذكر في «الصغير في النبض» سبعة فقط، وبرر ذلك يحيى النحوي بعدم تحمل المتعلمين لهذه الثلاثة دون ذكر برهان.
11
ويجيب يحيى بن عدي عن المسألة الأولى عن طريق شرح ثامسطيوس لكلام أنكساجوراس ثقة من ابن عدي بالشارح اليوناني. والجواب عن المسألة الثانية بتحليل لفظ المساواة يتضح صواب رأي الحكيم. والجواب عن الثالثة الظن بأن كل جسم في مكان، وأن علة مكانية الأجسام جسميتها وهم لا يلزم الحكيم. والجواب عن الرابعة في صواب ما قاله الحكيم في تحديد الزمان. والجواب عن الخامسة، شك يحيى النحوي، هو أن الحكيم قال بأن القوة متناهية، وليس الجسم، وفرق بين الجسم وقوته. والجواب عن السادسة بأن الله علة فاعلة للفلك ومكون له وأقدم منه، وفرق بين التكوين والحدوث، كما بين الحكيم في قاطيغورياس. والجواب عن السابعة صواب رأي الحكيم أن المعاند للإيجاب سلبي دون إيجاب ضده، وكما شرح أبو بشر. والجواب عن الثامنة من شرح أبي بشر لقاطيغورياس أن العرض ليس جنسا للتسع مقولات. وجواب التاسعة قوة البرهان على أن المقولات عشر. وجواب العاشرة ما قاله الإسكندرانيون في حل الشك في حمى الدق اعتمادا على القياس والمعقول. وجواب الحادية عشرة أن الفلاسفة لم يستعملوا أقسام الجسم على أنها أجناس أو أنواع، بل فصول. وجواب الثانية عشرة أن العناية تعم كل الأشياء المعلولة، وإن لم تكن على قدر متساو؛ مما جعل البعض يظن أنها للبعض دون البعض الآخر. وعلى هذا يتفق الفيلسوفان الجليلان أفلاطون وأرسطو على الرغم من ظن البعض أنهما مختلفان، وهو ما لا يتفق مع عظمة الفيلسوفين ولا حقيقة الفلسفة، إنما الخلاف في الرؤية؛ ظن أفلاطون العناية شاملة لكل المعلولات، في حين أنها عند أرسطو تنتهي إلى كليات الكائنات الفاسدة، وكلاهما تعظيم لله؛ الأول للإرادة؛ فالعناية الشاملة للكل والجزء، والثاني للعقل، العناية للجزئيات الفاسدة عن طريق كلياتها. وقد أفسد هذا اللقاء برقلس الأفلاطوني بتأييده أفلاطون على أرسطو مدافعا عن إيمانيات أفلاطون على عقليات أرسطو. ويعتذر ابن عدي عن الجواب على المسألتين الطبيتين لأنه غير خبير بهذه الصناعة؛ مما يدل على تواضعه وأمانته العلمية.
12
أما الموروث فإنه لا يتعدى السائل اليهودي عرس بن عثمان بن سعيد الموصلي، وعدم استطاعة أبي إسحاق إبراهيم بن بكوس الرد على تساؤلاته، ولا شيخ ابن عدي أبا سعيد. وقد يكون السائل هو بشر بن سمعان اليهودي اعتمادا على كتاب ابن أبي سعيد عرس بن عثمان بن سعيد اليهودي الموصلي صاحب بني عمران. وقد سأل عيسى بن أسيد عن سبب كون المقولات عشرة، وميله إلى أنها أكثر طبقا لرأي أرسطو. ويكشف السياق عن اشتغال اليهود أيضا بالوافد اليوناني، وليس النصارى وحدهم. وكانت هناك مراسلات بينهما حول الشكوك على أرسطو. ويعتذر ابن عدي عن عدم مناقشة هذه المسائل شفاها مع أبي إسحاق إبراهيم بن بكوس، واستفتاء الشيخ أبي سعيد في ذلك، والاكتفاء بالرد المكتوب في ثقافة تزاوج بين الشفاه والتدوين. كما يظهر أبو بشر متى بن يونس، رضي الله عنه، شارحا لأرسطو، خاصة قاطيغورياس، واعترافا بمشيخته.
13
ويحيى النحوي بين الوافد والموروث.
وتتضح الدوافع الدينية في الأسئلة والأجوبة، ليس فقط من حيث الشكل والأسلوب، بل أيضا من حيث المضمون والتصور؛ فالأسئلة والأجوبة تبدأ بالبسملة وتنتهي بحسبنا الله ونعم الوكيل، والله ولي التسديد، وهو حسبه كافيا ومعينا، وله الحمد المستحق له. لا فرق بين يهودية السائل، ونصرانية المجيب، وإسلام الناسخ والقارئ. كما تتوجه الأسئلة والأجوبة بالدعوات للسائلين والمجيبين بطول العمر والبقاء، وبتأييد الله، وزيادة في العلم، ونفع الناس به، وعز الله، والعشم بالله على التشوق لمعرفة الحق، واللجوء إلى المشيئة الإلهية. وفي الإجابة دعوة بأن يفيض الله على السائل من نور الحكمة، وأن يزيد الله من علمه، ولا يوصف الله إلا بعبارات التنزيه، مثل جل وتعالى، الباري جل اسمه، تقدست أسماؤه، جل ثناؤه إلى خلائقه.
14
أما من حيث المضمون فيتضح التصور الديني للعالم في موضوع العناية الإلهية، هل هي شاملة للكليات الباقية دون الجزئيات الفاسدة كما يقول أرسطو؟ وهو ما اتهم به حكماء المسلمين بإنكار علم الله بالجزئيات، كما قال أرسطو، تحولا من العناية إلى العلم. يرى أفلاطون أن الله علة فاعلة في العالم، ويراه أرسطو مفارقا له، وهو الصراع الشهير عند المتكلمين بين التشبيه والتنزيه عند الأشاعرة والمعتزلة، وبين الإرادة والعقل، بين الغزالي وابن رشد. وهناك من أنكر العناية كلها بالكليات والجزئيات معا إيثارا للنظرة العلمية الآلية، تفسير الطبيعة بنفسها، كما هو الحال عند أفيقورس وديمقريطس؛ فالعناية صفر لا معنى لها ولا وجود لها البتة، وإن كل شيء يجري بالاتفاق، اتفاق الأجزاء التي لا تتجزأ من الأشكال. وهو ما يفسر كل ما في العالم من التغاير.
15 (ج) وفي مقالة «التوحيد» من الوافد يذكر أرسطو والسماع الطبيعي مرة واحدة، ومن الموروث «متكلمي عصرنا» مرة واحدة؛ فهو من حيث الشكل طبقا لتحليل المضمون أقرب إلى تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، ومن حيث المضمون أقرب إلى الإبداع الخالص نظرا لطول الرسالة وقلة الإحالة .
16
ويذكر سقراط، كما يذكر زيد وعمرو عند العرب، أو بطرس وبولس في الغرب المعاصر، للدلالة على الشخص المجهول بمعنى «أحد من الناس».
ومع ذلك فالموضوع من الموروث، «التوحيد»، والرسالة محاولة للتحول من الكلام إلى الفلسفة، ومن التشبيه إلى التنزيه، ومن النقل إلى العقل، ومن العقيدة الإسلامية إلى الحكمة الخالدة التي تجمع بين الإسلام والنصرانية؛ فقد اختلف الناس في معنى الوحدانية؛ أنه لا نظير له، وأنه موجود كما يقول أحد متكلمي عصرنا، وأنه مبدأ العدد، وأنه أحد المعاني التي يوصف بها سواه من الموجودات. كما اختلفوا في وحدانيته؛ من كل الجهات، أم أنه واحد من جهة (الذات)، وكثير من جهة أخرى (الصفات)؟ ويراجع ابن عدي كل هذه الأقوال للتثبت من صحتها بعقلية الفيلسوف وبرهانه، وليس بإيمان المتكلم وجدله. ويبطل ابن عدي كل هذه الآراء السابقة، أن الوحدانية تعني نفي الكثرة، وأنه لا نظير له، وأنه الموجود مبدأ المعدودات، أو أنها مشتق من اسم معنى موجود في ذاته، أو أنه واحد من كل وجه. وبعد النفي يأتي الإثبات، إثبات الكثرة داخل الوحدة، ربما دفاعا عن التثليث كعامل موجه. هنا يبدو ابن عدي متكلما متخفيا في صورة فيلسوف؛ فمن المستحيل أن يكون الله واحدا بالقوة يخرج إلى الفعل في جهات كثيرة؛ فهو واحد بالقوة كثير بالفعل، بالرغم مما قد يتضمنه هذا التخارج من حركة وتغير لا يجوزان على الله. وقد كان دليل التمانع شائعا عند المتكلمين، صاغه الأشعري ونسب إليه، وربما كان شائعا قبله في النقاش بين المتكلمين والفلاسفة.
والرسالة مملوءة بالتعبيرات الإسلامية، مثل الخالق تبارك اسمه، الخالق جل وتعالى، الباري تعالى ذكره، الخالق جل ذكره، العلة عز وجل. كما تبدو العبارات الإيمانية داخل الفقرات، مثل: «الله الهادي لكل حقيقة، البادئ بنفع جميع الخليقة، المستعين وعليه أتوكل، وهو حسبي كافيا ومعينا»، وختم المقالة «بحمد الله ذي الجود والحكمة والمحل، ولي العدل، وواهب العقل، حمدا متصلا دائما على حسن توفيقه ومعونته». فالتوكل عليه، والاستعانة به، وبه العون والحسبان والكفاية، وله الشكر الذي يستحقه، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
17
ثانيا: الرازي، وابن الجزار، والبلدي، والعامري، وابن هندو
(1) الرازي
ويبدو أن التأليف في مراحله الأولى كان في الطب؛ نظرا للحاجة إليه في مداواة الجنود في الفتوحات الأولى، وبطبيعة الحال يأتي الرازي (313ه) في مقدمة الأطباء الأوائل بكتابيه «المنصوري» و«الحاوي». (أ) في «المنصوري» الطب علم نظري وعملي، صناعة تدبير الجسد وسياسته، ويحتاج العقل إلى التدريب في الصناعات التي يحتاج إليها الإنسان، هو علم غامض يحتاج إلى فهم، وهو قسمان؛ تدبير الجسم الصحيح في حالة الصحة مثل الطب الوقائي، وتدبير الجسم السقيم في حالة المرض وهو الطب العلاجي. يجمع بين التحليل النظري ودراسة الحالات.
1
يغلب عليه الاختصار والإيجاز بالرغم من اتساعه على عشر مقالات. واضح الوصف والأسلوب بالرغم من أعجميته؛ فهو ليس كتابا في الأدب. علمي خالص. دلالته على الفلسفة الطبيعية ليست كبيرة. المقالة الأولى في المدخل في الطب، وفي شكل الأعضاء وهيئتها، تحتوي على فلسفة الطب؛ أي معرفة الأشياء الطبيعية، مثل الأسطقسات والمزاجات والأعضاء والقوى والأرواح والأفعال، ثم معرفة العلل، ثم معرفة الدلائل.
2
ويحيل بعض الكتاب إلى بعض، وتذكير اللاحق بالسابق، مثل تفسير الكتاب بالكتاب.
3
يغلب عليه الوافد في العمق (أربعة أعلام)، ويأتي في المقدمة جالينوس ثم أبقراط ثم أرماسوس ومادريوس.
4
وقد ذكر الوافد كلية في فقرة واحدة عن مصادر الطب اعترافا بجهد القدماء، ورصد الخلافات بينهما، مثل خلاف مادريوس في القول بالأسطقسات. ولا غرابة أن يستعمل فعل «زعم» لجالينوس عندما زعم جالينوس أنه لم ير أحدا ممن يشفي هذا الدواء، وتروى تجارب عن جالينوس، وليس فقط أقواله التي تؤكد ما انتهى إليه الرازي بنفسه.
5
وهي أعلام قليلة نسبيا، وكأن الإبداع في بداية الحضارة كان أكثر من النقل في النهاية، كما هو الحال عند ابن البيطار، ولكن يغلب عليه الموروث في الاتساع على مستوى واحد، (خمسة أعلام) بولس، وأهرون، وحنين بن إسحاق، ويحيى بن ماسويه، والخمار.
6
ولا فرق بين وافد وموروث في تاريخ الطب. وربما صمت الرازي عن باقي المصادر كما صمت ابن سينا. وقد يكون الإبداع مبكرا بعد تمثل الوافد، وقد يكون النقل هو السائد بعد أن يحدث التراكم الداخلي الكافي؛ فالإبداع على درجات من تمثل الوافد إلى تمثل الوافد وتنظير الموروث، على اختلاف النسب بينهما، حتى الإبداع الخالص. ويحيل الرازي إلى بعض العلماء، قدماء الأطباء، الحكماء، بعض القدماء. ويحال إلى اليونانيين؛ مما يدل على التمايز بين الأنا والآخر.
7
ويظهر الوافد، الهند والصين، في أسماء بعض الأدوية على طول تاريخ الطب العربي الإسلامي، مثل الساذج الهندي، والدار صيني، والصمغ العربي؛
8
فالطب مرتبط بالبيئة الجغرافية وأحوال البلدان؛ نظرا لأثر الحرارة في الأجسام، تجعيد الشعر عند الحبشاء، وأدمة العرب، وارتباط الأخلاق بألوان العيون، ودلائل الشعر والحاجب والأنف الجهة والفم والشفة والأسنان، وكأنها بدايات علم الفراسة،
9
بل ويتعرض لبعض المؤسسات الاجتماعية، مثل تسري المماليك،
10
بل يتحدث الرازي عن الأوضاع الاجتماعية لمهنة الطب في «محنة الطبيب»؛
11
فالطبيب يجمع بين القراءة والمشاهدة، بين الاطلاع والنظر؛ أي إنه يجمع بين المنقول والمعقول باصطلاح الموروث، غايته الآخرة وليست الدنيا، على عكس ما هو شائع عن الرازي وابن رشد من المادية وإنكار النفس المستقلة عن البدن. كما أنه يحاول أن يحول علم الطب إلى ثقافة شعبية عامة بأسلوب الجوامع والنكت حتى يمكن المساهمة في الوعي الطبي؛
12
لذلك وضع أسلوبا أدبيا يخاطب به العامة والخاصة، أقرب إلى السهل الممتنع. وفي نفس الوقت ينقد الممارسات الجاهلة في عصره، ولو أنه خارج موضوع الكتاب وأدخل في النقد الاجتماعي.
13
بل ويبدو الموروث داخل العلم نفسه عندما يوصف البدن كخلق الله عز وجل؛ فقد جعل العظام عماد البدن ودعامته، وركب في جثة الإنسان أجساما ما متحللة غير دائمة البقاء والثبات؛ حتى لا يبقى الشخص الواحد دائما، كما هيأ آلات التناسل لبقاء النوع بحاله، وخلق الثدي ليحول الدم إلى لبن.
14
وكما يبدأ الكتاب بالبسملات ينتهي بالحمدلات، والدعوة بالتوفيق، والتوكل على الله وعلى مشيئته وإذنه.
15
ويتعادل الوافد مع الموروث عددا، ولكنه يفوقه عمقا.
16
ويأتي في الصدارة جالينوس ثم أبقراط ثم ديسقوريدس ثم روفس ثم بولس وزنبور الحكمة.
17
وتتعدد الأفعال بين أفعال القول والذكر والظن، بالإضافة إلى فعل «زعم» الذي يعني النقد والتمايز عن المنقول؛ فتمثل الوافد ليس مجرد تحصيل، بل مراجعة. ويذكر لجالينوس بعض مؤلفاته، مثل العشر مقالات، نصائح الرهبان؛ ولأبقراط كتاب «الفصول»، ويعطي أبقراط لفظ الحكيم. كما تذكر بعض الألفاظ المصرية اليونانية بعد اسمها العربي ربطا للوافد بالموروث.
18
ومن الوافد الشرقي يذكر التمر هندي والصمغ العربي، ويذكر العمل بالسابق تأكيدا على وحدته.
19
وفي الموروث يتصدر ابن ماسويه ثم إسحاق ابن عمران ثم الكندي وبختيشوع بن جبريل وقسطا بن لوقا وأبو بكر عم المؤلف،
20
ويذكر معظمهم في سياق تأليف الأدوية أو إصلاحها أو كمصادر للروايات الطبية.
21 (ب) و«الحاوي» في الطب للرازي من نفس النوع، تمثل الوافد قبل تنظير الموروث.
22
ومن الوافد يأتي جالينوس في المقدمة، في وسط الفقرة وفي بدايتها، بالاسم الكامل أو بالحرف. وقد يذكر رواية عن آخرين مثل قسطا، وتذكر مؤلفاته دون اسمه، مثل حيلة البرء؛ نظرا لشهرتها دون الحاجة إلى نسبة. ويذكر أبقراط وأفلاطون من خلاله نظرا لمقارنته بينهما. وبعض المؤلفات تنسب إلى جالينوس نظرا للشك في صحتها. وبعد جالينوس يأتي ديسقوريدس، والغالب عليها ذكر الأمراض والأدوية، ثم روفس، ثم أبقراط، ثم عشرات الأطباء تباعا، الأكثر تردادا فالأقل. ويتضح تواري أرسطو كلية أمام أطباء اليونان.
23
أما الموروث فإنه يغلب عليه الأطباء النصارى، حلقة الوصل بين الوافد والموروث. ولما كانوا من النصارى العرب كانوا أقرب إلى الموروث منهم إلى الوافد. والأقلية منهم من اليهود. ويأتي في المقدمة ابن ماسويه، ثم أهرن القس،
24
ثم اليهودي دون اسم بل تكفي الملة، ثم حنين بن إسحاق، ثم علي بن ربن الطبري، ثم الكندي طبيبا، ثم ثياذوق وشمعون، ثم مسيح الدمشقي، ثم بختيشوع، ثم ماسرجويه وجرجس، ولا يغيب الموروث الشرقي الفارسي والهندي خاصة في أسماء الأدوية.
25
وكان الرازي على وعي بالفرق بين الطب الجديد والطب القديم، وكثير الإشارة إلى الطب القديم. وبالرغم من حداثة الرازي إلا أن التراكم التاريخي لديه واضح، ليس فقط نصارى اليونان، بل أطباء المسلمين مثل الكندي إعلانا عن مصادره. وتتفاوت أجزاء الحاوي بين النقل والإبداع؛ إذ يقل الإبداع في البداية ويزداد النقل، في حين يزداد الإبداع في النهاية ويقل النقل. وكالعادة يبدأ كل جزء بالبسملة، وينتهي بالحمدلة والصلاة على الرسول، دون ذكر لآيات القرآن أو أحاديث النبي. كما تظهر العبارات الدينية التقليدية، مثل المشيئة الإلهية والتوفيق الإلهي. (ج) ويدل كتاب «الشكوك للرازي على كلام فاضل الأطباء جالينوس في الكتب التي نسبت إليه» للرازي أيضا على قدرة الموروث على نقد الوافد وتجاوزه، بالرغم من الاعتراف بفضله. ويذكر ذلك بكتاب ابن الهيثم «الشكوك على بطليموس»، وهو دفاع عن جالينوس، وتبديد الشكوك حوله اعتمادا على نصوصه، والتأليف بينها، ورفع التناقض منها، بالرغم من استجهال الناس للرازي ولومه وتعنيفه، واتهامه بأنه يستعذب مناقضة رجل بقامة جالينوس، وهو اتهام غير صحيح؛ فالرازي يقدر جالينوس وأستاذيته له ومنفعته بمؤلفاته، ومع ذلك فإيثار الحق أولى من التبعية للأساتذة وتقليدهم، وهو ما فعله جالينوس نفسه في كتاب «منافع الأعضاء» عندما وبخ من يقبل منه بغير برهان. ولو كان جالينوس حيا لما لام الرازي على الإفصاح عن هذه الشكوك، بل لحمده وشكره؛ لذلك قال أرسطو: «أحب أفلاطون، ولكن حبي للحق أعظم.» ولا يعني ذلك أن المتأخرين أفضل من المتقدمين، بل يعني أن المتقدمين معرضون للسهو والغفلة الموكلة بالبشر، وغلبة الهوى على الرأي، وأن الصناعات تزداد وتقترب من الكمال على الأيام. وقد ناقض ثاوفرسطس أرسطوطاليس في أوضح أجزاء الفلسفة بعد الهندسة الذي هو المنطق. وبين ثامسطيوس غلطه في كثير من المواضع، ويتعجب من ذهاب ذلك على الحكيم. وقدر جالينوس نفسه على القدماء والأجلة من أهل زمانه وصبره عليهم، وأطال الكلام فيهم. ولم ينج من نقده أحد من الفلاسفة أو الأطباء، وكلامه عليهم حق. ولا يسلم من النقد إلا كتب الله المنزلة التي لا يجوز مراعاتها ما دام المخبر بها حقا لم يقصر في بيانه.
26
لذلك تكثر أفعال القول «قال»، ومعه «أقول»، تحولا من النقل إلى الإبداع، وتجاوزا للمنقول إلى المعقول. ويتخيل الرازي الاعتراض سلفا ويرد عليه في صيغة شرطية «فإن قيل»، أو «إن قال قائل»، ثم جواب الشرط «قيل». ومع فعل القول تأتي باقي أفعال الشعور المعرفي، مثل «أتى»، «أخذ»، «نظر»، «بان»، «ظن» ... إلخ.
27
وأحيانا تظهر أفعال القول كأسماء، مثل «قوله»؛ أي التعامل مع الموضوعات وليس مع الأقوال. كما يظهر القصد والغاية عاملا موجها لمسار الفكر كله.
ويتصدر الوافد الموروث. من الوافد يأتي أولا جالينوس، ثم أرسطوطاليس، ثم أبقراط وأفلاطون، ثم أبنادقليس، ثم أرسطراطس، وثاوفرسطس، وخروسيبوس، ثم أبرخس، وأسقليباوس، وثاليس، وثامسطيوس، وديسقوريدس، وديوقلس.
28
ومن أسماء الفرق اليونانية يظهر الأطباء والطبيعيون، ثم الحكماء، ثم الفلاسفة والقدماء واليونانيون والمهندسون أصحاب التعاليم، وأصحاب العلم الإلهي، وأصحاب المظلة، وأهل النظر، والجدليون والخطباء، والروم والمتفلسفون ومحبو الحكمة.
29
وتتم المقارنة بين اللغة اليونانية واللغة العربية؛ إذ يعيب الرازي على جالينوس قوله إن لغة اليونانيين أعذب اللغات وأطلقها على عكس سائر لغات الأمم التي هي أشبه بصياح الخنازير أو نعيق الضفادع، وهو نفس إحساس العرب بلغتهم؛ إذ يستثقلون لغة الروم. ومن الوافد الشرقي يتصدر البراهمة والهند وملوك الهند.
30
ويحيل الرازي إلى أربعين عملا من أعمال جالينوس؛ مما يدل على أنه على علم بفكره كله من خلال أعماله كلها، ويحلل الموضوعات عرضا خلال أكثر من عمل، وليس فقط طولا من خلال عرض الأعمال.
31
ومن الموروث يتصدر حنين بن إسحاق، ثم الرازي، ثم أبو جعفر محمد بن موسى فيلسوف العرب، وأحمد بن الطيب السرخسي، وشخصان غير معينين، مثل رجل وجيه بمدينة السلام، ورجل أنا معلمه ومرشده.
32
ومن أسماء الفرق العرب، متفلسفو الإسلام، المعزمون، اليهود. ومن أسماء المدن والأقاليم بغداد، العراق، الجبل، الري.
33
ومن أسماء الكتب الجامع الكبير أو الجامع، وهو الحاوي. كما يحيل إلى سبعة عشر عملا له؛ مما يدل على وحدة الفكر.
34
وكما يبدأ الكتاب بالبسملة، وينتهي بالحمدلة لواهب العقل وولي العدل والحكمة والفضل، حمدا بلا نهاية كما هو أهل ومستحق. تتخلل الفقرات التعبيرات الإيمانية، مثل: يشهد الله، إن شاء الله، أسأل الله الهداية والكفاية منه، ومسألتي على الله، يعلم الله.
35 (2) ابن الجزار
36 (أ) لم يكن الهدف في التأليف في الطب فقط التحليل النظري أو مداواة الجند في الفتوحات، بل أيضا مداواة المرضى في السلم، خاصة وقت السفر، والعرب رحالة، والطرق طويلة في بيئات صحراوية، حارة أو باردة. (أ) مثال ذلك «زاد المسافر وقوت الحاضر» لابن الجزار من أطباء القرن الرابع،
37
وهو من مدرسة قيروان الطبية؛ مما يدل على وحدة الثقافة وتعدد المدارس والاتجاهات. وأهم ما يميزها تطبيق القوانين الطبية على البيئات الخاصة، كما هو الحال في فقه النوازل، والفقه المالكي السائد في المغرب العربي. كما يغلب عليه التطبيق العملي أكثر من التحليل النظري، والفصل بين الطب والصيدلة، بين عمل الطبيب في العيادة وعمل الصيدلاني. ومع ذلك تمت صياغة الكتاب على المنهاج الطبي والقانون الصناعي، ويقوم على أربع خطوات: العلة، وحدها، والبرهان، والعلاج. فأتى مختصرا واضحا ومفسرا. وبالرغم من أن الغاية هو التشبه بأفاضل الفلاسفة، إلا أن التجربة مصدر للمعرفة الطبية؛ فالتجربة جزء من الحكمة؛ لذلك يقول ابن الجزار: وقد جربناه، وقد جربته أنا وحمدته، وقد عملته وجربته، وهو دواء نافع ألفته وجربته فوجدته نافعا.
38
ويعني تأليف الدواء تركيبه؛ فالطب صنعة؛ لذلك يسمى الطبيب المتطبب؛ أي الذي يمارس صناعة الطب.
كما يتدخل الله في تفسير الظواهر الطبية الجسمية أو النفسية؛ فيقال إن الله إذا غضب على أحد من خلقه رماه بالصرع، ثم مواجهة ذلك باليقين العلمي عند جالينوس، العلم في مواجهة الدين.
39
فتمثل الوافد وتنظير الموروث قد يكون نقدا للموروث دفاعا عن الوافد، وقد يكون نقدا للوافد دفاعا عن الموروث. وكما يبدأ الكتاب بالبسملة ينتهي بالحمدلة وطلب العون والتوفيق. وتظهر لغة الطب في الدعاء بجلب المنفعة وتجنب الضرر، وإتقان الله صنع كل شيء. وتتكرر عبارات المشيئة والعلم الإلهي المحيط، والصلاة على خاتم النبيين.
40
ومع الدعاء لله يأتي مدح السلطان، فلا فرق في البناء النفسي بين الاثنين.
41 (ب) وفي كتاب «في المعدة وأعراضها ومداواتها» لابن الجزار أيضا، يبدو أن الطب الجغرافي والاجتماعي لا ينفيان الطب التشريحي؛ فمعروف عن ابن الجزار ربط الطب بالبيئة الجغرافية والاجتماعية، طب الفقراء والمساكين، وطب الصبيان والشيوخ. ولا يغيب أيضا الطب النفسي لعلاج النسيان وتقوية الذاكرة. وتعرض المبادئ العامة للطب التي تجعله أحد فروع الطبيعيات، مثل القوة الجاذبة وهي حارة يابسة، والقوة الماسكة وهي باردة يابسة، والقوة الدافعة وهي باردة رطبة، والقوة الهاضمة وهي حارة رطبة. ويعتمد أيضا كما هو الحال في الكتاب السابق على المراجعة لأقوال السابقين، وعلى الاختبار والتجربة، وإصلاح تجارب السابقين وأدويتهم المركبة، والقياس تحقيق المنفعة في عبارات كثيرة، مثل: وقد جربناه، وقد اختبرناه، وقد اختبرت ذلك بنفسي، وقد امتحنتها، وهو مجرب، وهو نافع، وهو عظيم المنفعة، سريع النجاح ... إلخ. ويحال إلى أجزاء العمل تذكيرا للاحق بالسابق، وحرصا على وحدة العمل.
42
وتمثل الوافد اتساعا وعمقا يتصدر تنظير الموروث؛
43
ففي الوافد يأتي أولا جالينوس، ثم أبقراط، ثم فولس تلميذ أبقراط، ثم أسقليبيادس وديسقوريدس وأفلاطون.
44
وتقل أفعال القول في جالينوس، وتزيد أفعال الشرط والزعم؛ مما يدل على مراجعة الوافد. كما ينقد الجزار أصحاب الكناشات المجردة من الاستدلالات على مواضع العلل والإبانة عن أسبابها المولدة بها، والاشتغال بتركيب الأدوية، وكأن الطب علم معملي خاص. ويحال إلى بعض مؤلفات جالينوس مثل العلل والأعراض، الأعضاء الآلمة، مداواة الإشباع، الصنعة الصغيرة، رسالة إلى أغلوقون ... إلخ. وقد خالف جالينوس أكثر من مرة الأطباء المتقدمين؛ مما يدل على أن تاريخ الطب يمثل تقدما بين مراحله من القدماء إلى المحدثين؛ لذلك يذكر اليونانيون على أنهم فترة تاريخية محدودة، وليسوا كل العلم أو العلم ذاته. كما يذكر لأبقراط «الفصول»، ولفولومس «تدبير الأضداد». كما يحال إلى بعض الحكماء وبعض الأطباء والأطباء القدماء. ويأخذ بعض الأعلام ألقابا، مثل الفاضل لأبقراط احتراما للسابقين، وتحولا من الشخص إلى الرمز. وتستعمل بعض الألفاظ اليونانية المعربة، مثل فيوطس.
45
ويراجع الجزاز على ما قاله جالينوس فيجده متفقا مع النظر والقياس؛ لذلك يحيل إلى قوله حذاق الأطباء والفلاسفة.
46
وفي تنظير الموروث يتصدر يحيى بن ماسويه، ثم محمد بن أحمد عم المؤلف، وإسحاق بن عمران، ثم حنين بن إسحاق، وسابور بن سهل، وابن بطلان، وشمعون الراهب.
47
ويثني على حنين بن إسحاق بأنه من الفلاسفة ومن الحذاق في صناعة الطب.
48
ويذكر حديث نبوي «المعدة حوض البدن، فإذا صحت المعدة صدرت العروق بالصحة، وإذا اعتلت صدرت بالعلل.»
49
ويبدو فيه ضعف المتن، وليس بقوة «المعدة بيت الداء». ويتفق الحديث مع قول جالينوس؛ فتمثل الوافد وتنظير الموروث ينتهيان إلى نفس الشيء. وكما يبدأ الكتاب بالبسملة ينتهي بالحمدلة، والاستعانة بالله، والتسليم بالمشيئة الإلهية، وبقدرة الله، والدعوة بالتوفيق، والتوكل عليه، ثم يتبادل الله الصفات مع السلطان؛ فلم يؤلف الكتاب للعامة وعوام الناس نظرا لعجزهم عن استيعاب ما فيه من الأدوية والأشربة، إنما ألف للسلطان الواجب الطاعة؛ فطاعة السلطان من طاعة الله.
50 (3) البلدي (380ه)
لم يكن الطب نظريا خالصا، بل ارتبط بحياة الناس اليومية، مثل «تدبير الحبالى والأطفال والصبيان وحفظ صحتهم ومداواة الأمراض العارضة لهم» للبلدي الخاص بطب الأطفال، ويعتني بوجه خاص بالأم، ويرصد كل الأمراض الجديدة، وأشبه بالطب الحديث. يبدأ بذكر الاختلاف ثم الاتفاق بين الأطباء والمشرحين من أجل التنسيق بين الأقوال، والتحقق من صدقها بأسلوب علمي. معرفة الأدبيات السابقة جزء من تاريخ العلم دون التقيد به، بل للتحقق من صدقه بالتجربة التي تقوم على الحس والقياس والمشاهدة، وعلى التصنيف وتعريف الألفاظ دون إطالة أو تكرار.
51
ويتقدم تمثل الوافد عمقا واتساعا على تنظير الموروث. يتصدر أبقراط، ثم جالينوس، ثم فولس، ثم رفوس، ثم أرسطوطاليس، ثم ثاوفرسطس، ثم الإسكندر وأطمورسقس، ثم باليس وديرقيس الحكيم، وديسقوريدس، وهرمس.
52
ويحال إلى مؤلفات كل حكيم؛ مما يدل على الاطلاع على المصادر الأصلية.
53
ويعتبر الأطباء السريان مرحلة انتقال بين الأطباء اليونان والأطباء العرب المسلمين، وذلك مثل المسيح والباب الأنطاكي، والإحالة إلى كتبهم.
54
أما الموروث العربي فيتصدر الطبري (الطبيب)، ثم حنين، ثم سابور وسلمويه واليهودي، والإحالة إلى كتاب سابور الأقرباذين.
55
ونظرا لأن الكتاب تجميع غلبت أفعال القول على أفعال الذكر والتلخيص والوصف والتلخيص، مع التمايز بين اليونانية والعربية. وكالعادة يبتدئ الكتاب بالبسملة، وينتهي بالحمدلة، والاعتماد على المشيئة الإلهية، وعلى عونه وتوفيقه، لا فرق بين دعاء الله ومدح السلطان.
56 (4) أبو الحسن العامري
وتمثل بعض أعمال العامري (381ه) هذا التحول في التأليف من تمثل الوافد إلى تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، وهي الشذرات الباقية منها، مثل: (أ) «شرح كتاب المقولات لأرسطو». وهو أدخل في الشروح منه في التأليف طبقا للشكل الأدبي.
57
وهو على نموذج التفسير الكبير عند ابن رشد؛ أي الفصل بين النص المشروح والنص الشارح. وفي كلتا الحالتين، الشرح أو التأليف، يتصدر الوافد الموروث. ويتصدر أرسطو الوافد، ثم الإسكندر، ثم فرفوريوس، ثم قويري وأرمينس، ثم سنبقليوس ويابليخوس، ثم ثامسطيوس وسقراط. ويغيب أفلاطون وأفلوطين؛ ومن ثم يصبح كل ما يقال عن أثر الأفلاطونية المحدثة على الفارابي قولا بلا برهان.
ويتصدر فعل القول تمثل الوافد، وتلك الصياغة النمطية للنقل، ويذكر باقي الشراح لأرسطو باعتبارهم شراحا، وليسوا باعتبارهم حكماء مستقلين عن أرسطو، اتفاقا أو اختلافا معه. وأحيانا يأتي شرح العامري أولا، ثم يتأكد بموافقة قويري أو فرفوريوس له.
58
الإسكندر يفسر قول أرسطو، ويوافقه سمبلقيوس ويامبليخوس.
59
ويتصدر الموروث الفارابي، ثم أبو بشر متى بن يونس، ثم السجستاني والخازن.
60
وواضح من أولوية الفارابي أنه نقطة تحول في التأليف، وأنه هو الموروث الذي استطاع تمثل الوافد؛ فهو جامع الحكمتين، اليونانية والإسلامية. ويذكر الموروث باعتباره شارحا للوافد، ومتمثلا له أسوة بالشراح اليونان، بل وشراحا لهم؛ فالفارابي يشرح الإسكندر شارحا أرسطو، ويضع العامري نفسه بين الشراح؛ مما يؤكد أن الشرح بما يتضمنه من تفسير وتلخيص وجوامع هو أحد أشكال التأليف المبكرة.
ولا يعني الشرح تبعية النص الشارح للنص المشروح بطريقة العبارة الشارحة؛
61
إذ يستدل الفارابي على أرسطو فيما يتعلق بصفة الجوهر أنه يقبل المتضادات التي جعلها أرسطو خاصية الجوهر المطلق، في حين أنها عند الفارابي خاصية الجواهر الأول فقط. كما ينقد الفارابي المفسرين اعتمادا على أرسطو؛ إذ يعتبر الفارابي أن هذا الحد كامل للمتضادين دونما حاجة إلى المفسرين. ويكفي تصريح أرسطو بذلك في تضاد الأمكنة.
62
ويبدو الموروث على علم دقيق بالنص الأرسطي من حيث هو نص مدون، ما فيه وما ليس فيه، في النص الأصلي أو في ترجماته السريانية والعربية؛ إذ يبين أبو جعفر الخازن أن مثال تربيع الدائرة ليس في نص أرسطو، إنما في حاشية الناسخ. كما يلاحظ متى أن الرسم الأول في اليوناني والسرياني، وأن الماهيات تقال لغيرها؛ مما يشكل قول أرسطو. وهو ظاهر الفساد. والموجود في الترجمة العربية لا يخالف قصده؛ فالترجمة العربية أدق من السريانية وأقرب إلى الأصل اليوناني.
63 (ب) وفي «شذرات في الفلسفة الخلقية» يتصدر الوافد الموروث كذلك، ويتصدر الوافد الحكيم في كتاب «السماء والعالم» في علة الأجناس والأنواع ودوامها، الفلك المستقيم، وعلة كون الأشخاص وحدوثها، الفلك المائل دون ذكر أرسطو الشخص واكتفاء بالرمز أو الصورة، الحكيم.
64
ثم يأتي الموروث ممثلا في السائل، أبي الفتح ذي الكفايتين، فالسؤال من الداخل وليس من الخارج، من الموروث وليس من الوافد، كما هو الحال في «أسباب النزول»، والإجابة بآية قرآنية؛ أي بالداخل أيضا. الوافد مجرد تراث الأقدمين، ومعرفته واجبه بالشرع كما هو الحال في قصص الأنبياء، والموروث هو السؤال والجواب طبقا لأحكام السؤال والجواب في علم الأصول.
65 (5) ابن هندو
وتتأرجح النصوص الطبية بين الطب كعلم عملي، والطب كعلم نظري. ومن نماذج الطب النظري الفلسفي «مفتاح الطب ومنهاج الطلاب»
66
لابن هندو (420ه) الذي يبدأ في الفصول التسعة الأولى في فلسفة الطب حتى الفصل العاشر وحده المخصص لصناعة الطب؛
67
لذلك تكثر أسماء الأطباء في البداية وتقل في النهاية؛ فالفلسفة النظرية بها مدارس واتجاهات، وصناعة الطب بها اتفاق بين الأطباء؛ فهو كتاب حول الطب وليس في الطب، كما أنه ينقد الطبيب المزيف في عصره اعتمادا على البحث أو تزوير الصناعات، إثباتا للإطالة أو حسدا للأطباء.
68
وينقد الأدعياء في العلوم، والعوام الجهال الذين يبطلون الطب ويزيفونه ويربطونه بالتنجيم والموسيقى، وهو كتاب واضح علمي دقيق، يهتم بالمنهج قدر اهتمامه بالموضوع، ويكشف عن عظمة مدرسة الإسكندرية، وكيف أن الطب العربي الإسلامي جالونسي الاتجاه. وهذا لا يمنع من ضرورة اطلاع الطبيب على الأخلاق وبعض الهندسة والفلك؛ لارتباط هذه العلوم بالطب في تكامل علوم الحكمة. وهو مكتوب لمجموع القراء، للجمهور أو للعوام، وليس للأطباء وحدهم؛ لذلك كثرت به التشبيهات ، جسم الإنسان بجسم المجتمع، وتصور البخت كامرأة عمياء جالسة على كرة أخذ بيدها سكار سفينة، وعطارد كشاب حسن جالس على قاعدة مربعة؛ فالمرأة تتميز بالخرق وعدم الحكمة، وهو ما يبرر اسم الكتاب الشعبي.
ويفصل ابن هندو فرق الطب طبقا لمناهجها واتجاهاتها، وهي ثلاثة: التجربة، والقياس، والحيلة التي تجمع بين التجربة والقياس.
69
وقد احتالوا في اختصار الطب وادعاء القياس والتجربة. وواضح أن ابن هندو فيلسوف أساسا؛ فالطب جزء من الفلسفة الطبيعية. يعرف الوافد الغربي والشرقي في الطب والحكمة، ومؤلفه في الطب جزء من منظومته الكلية في الحكمة. ويشير إلى كتابه «المشوقة في المدخل إلى علم الفلسفة»؛ فهو يكتب مداخل ومقدمات؛ لذلك سمى كتابه «مفتاح الطب»؛ أي المدخل له. تضع الفلسفة الكليات، ويستنبط الطب الجزئيات منها؛ لذلك جاء واضح الأسلوب، دقيق التحليل، مختصرا بلا حشو، مخاطبا القارئ.
70
ومن الوافد يأتي جالينوس كالعادة في الصدارة، ثم أبقراط، ثم أرسطو، ثم أفلاطون، ثم حوالي عشرين طبيبا من اليونان والإسكندرية.
71
كما يذكر عشرة مؤلفات لجالينوس، وعمل واحد هو الفصول لأبقراط.
72
ويكثر ذكر جالينوس راويا عن تاريخ الطب القديم أكثر من ذكره كطبيب؛ لذلك تظهر أفعال القول والذكر والرواية. ويضعه ابن هندو في عصره وزمانه نظرا لأن الطب علم اجتماعي. ويذكر نقده لأطباء عصره؛ فثالسس رئيس الفرقة المحتالة، دخل معه جالينوس في حوار لكشف احتياله، ومثل هؤلاء يستحقون القتل. ونظرا لتعظيم جالينوس الطبيب، ونظرا لجمعه بين الطب والمنطق، جعله فيلسوفا. ويصف ابن هندو أغراض كتب جالينوس كتابا كتابا، واعتمادا على شرح أبي الخير؛ فقد تحول الوافد إلى موروث ولم يعد وافدا؛ مما سهل عملية تمثل الوافد وبداية تنظير الموروث. ويبدو جالينوس شارحا لأبقراط؛ مما يدل على التراكم الفلسفي أيضا عند اليونان. وقد جعل لها الإسكندرانيون جوامع تغني عن أصول جالينوس. وينقد أبو الخير ما فعل الإسكندرانيون بجالينوس ؛ فقد نقصهم الأغذية والأدوية والأهوية، وغاب عنهم الترتيب الصحيح الذي يقوم على المنطق والقياس، الترتيب الصناعي الذي يتدرج من الأظهر إلى الأخفى. وأضاف كتبا أخرى لإكمال جوامع الإسكندرانيين.
73
ويستعمل قول مشهور لأبقراط، حكمة عامة لا تتعلق بالطب، مكررة في معظم الكتب مثل حكمة أنوشروان في السياسة. ويتعامل أبقراط مع البدن تعامله مع النفس، وهو من المدرسة الطبيعية في الطب على عكس جالينوس الذي ينتسب إلى المدرسة المنطقية. ويمدح ابن هندو شخصية أبقراط العلمية ويلقبه بالفاضل، ويثني على ارتباطه بوطنه، ورفض عرض ملك الفرس لاستدعائه وعرضه عليه مبلغا كبيرا من المال.
74
وقد منع أرسطو مجادلة منكري الطب؛ فالحوار له شروطه، ومع هؤلاء لا تتوافر شروط الحوار. كما عرف أفلاطون الفيلسوف بأنه المتشبه بالباري بقدر الطاقة البشرية. وينقد ابن هندو ابن الخمار اعتمادا على أفلاطون؛ فالطبيب للأبدان، والفيلسوف لحقائق الموجودات.
75
ويبدو الطب في الإسكندرية حلقة الاتصال بين الطب اليوناني والطب العربي الإسلامي، كما كان الطب السرياني في الشام؛ فيروي ثاون الإسكندراني عن أبقراط أن المتقدمين كانوا يعالجون الأمراض بالموسيقى؛ لذلك تذكر أسماء الفرق والمجموعات، مثل اليونانيين والإسكندرانيين والسريانيين، بل ويذكر الوافد الشرقي من فارس والهند والروم.
76
ويتعادل اليونانيون مع الفرس من حيث حضور الوافد الغربي والشرقي. ويوحي الحديث عن القدماء بتطور الطب من القدماء إلى المحدثين؛ فالعلم ليس كاملا في حضارة واحدة، بل هو تراكم تاريخي في تقدم العلم. وبالرغم من مساهمة الحضارات شرقا وغربا في الطب إلا أن العلم واحد له مصطلحاته وألفاظه، ومع ذلك فالعلم نتاج حضاري، يتكون بتكونها، وقد ينفصل في حضارة عن الدين، وقد يرتبط به في حضارة أخرى؛ ففصل الإسكندر الطب عن الدين قد يصح على الأمد القصير، ولكنه خاطئ على الأمد الطويل، بل يتنوع العلم داخل كل حضارة؛ فالطب قد يرتبط بالمنطق عند جالينوس، وبالطبيعة عند أبقراط، وبعلم التنجيم أو الموسيقى والهندسة عند البابليين والمصريين. والتقابل بين الحضارات إنما يكون على مستوى اللغة، مثل اللغة اليونانية واللغة العربية.
77
وتسمي العرب الخمر طلاء.
ومن الموروث يتصدر أستاذ ابن هندو أبو الخير ابن الخمار، ثم برزويه وغيره.
78
ويذكر واحد من المتكلمين رفض الطب فمات.
79
فالأدلة عملية على فضيلة الطب. ومن أسماء الكتب يذكر كليلة ودمنة، وكتاب العين للخليل، ولكن يظهر الموروث أكثر ويتحد مع الوافد، ليس في أسماء الأعلام، بل في الصلة بين الله والطبيعة أو الملكة أو البدن؛ أي الصلة بين الدين والعلم. فنظرا لأن أسقليبيادس كان طبيبا إنسانا جعله الله ملكا من الملائكة. اعتقد العوام أن الطب توفيق من الله، وحيا أو إلهاما كما اعتقد الهنود. وفي الموروث لا فرق بين العلم الإلهي والعلم الطبيعي، بين قدرة الله وقوانين الطبيعة.
80
فالقدح في الطب ليس فقط قدحا في السياسة الاجتماعية، بل قدح في الشريعة؛ فقد أمسك شيخ حافظ للقرآن متصوف بحية فلدغته فمات وهو يدعي أن القرآن حافظه. وذكر أن نفس المعجزة حدثت مع السلطان، فجربها السلطان فيه فمات نتيجة لتملق السلطان. لا تعارض إذن بين العلة الأولى والعلل الثانية، بين العلة البعيدة والعلل القريبة، ولا يمكن نفي الطباع؛ فالطبيعة قوة إلهية.
81
فإذا ارتبط الإلهي بالطبيعي فلا سبيل إلى فهم الطبيعي إلا بالمنطق، فالمنطق هو أساس العلوم، وكما يبدأ الكتاب بالبسملة ينتهي بالحمدلة والدعوة بالتوفيق والارتباط بالمشيئة والعون.
ثالثا: مسكويه
وإذا كانت الأعمال الطبية في التأليف هي الغالب أولا في تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، فإن الأعمال الفلسفية تبدأ بمسكويه، ثم تتراوح بين الفلسفة والرياضيات عند ابن سينا والبيروني، ثم تعود إلى الطب والرياضيات والطبيعيات عند ابن بختيشوع وابن رضوان والخيام والطغرائي، ثم إلى الحكمة من جديد عند ابن باجه، ثم إلى الطب والحكمة عند ابن زهر وابن رشد، ثم تنتهي في التراكم إلى الأدوية عند ابن البيطار، ثم إلى الرياضيات عند الطوسي والفارسي وابن الأكفاني، وتنتهي إلى الطب كما بدأت عند داود الأنطاكي ومقلديه. (أ) و«تهذيب الأخلاق» لمسكويه (421ه) تأليف أخلاقي تتضح فيه أولوية تمثل الوافد على تنظير الموروث كنوع أدبي، وربما هو التأليف الأول الذي يحاول وضع أسس علم الأخلاق باعتباره علما مستقلا داخل النسق بعد الإلهيات، كما حاول ذلك إخوان الصفا في العرض النسقي الشعبي بإضافة العلوم الإلهية الناموسية والشرعية كقسم رابع من أقسام الحكمة. وعنوانه «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق»، وعادة ما يذكر النصف الأول دون الثاني اختصارا بالرغم من أهميته، وأنه جزء لا يتجزأ من مضمون الكتاب، نبه مسكويه نفسه على أهميته؛ فإذا دل الشق الأول «تهذيب الأخلاق» على الطابع العملي التأديبي، فإن الشق الثاني «تطهير الأعراق» يبين الجانب الإشراقي، تطهير النفس من شهوات البدن بالرغم؛ مما يدل لفظ عرق في الفكر العربي المعاصر من معنى الجنس بالمعنى العنصري.
1
وبالرغم من تشعب تهذيب الأخلاق إلى مقالات سبع إلا أنه يتميز بوحدة الفكر والإحالة المستمرة إلى بعضه البعض، إحالة اللاحق إلى السابق، والسابق إلى اللاحق. كما يحيل مسكويه إلى باقي أعماله؛ مما يدل على وحدة المشروع والرؤية والتكامل بين أجزائه. ويأتي ترتيب السعادات و«منازل العلوم» في المقدمة، وله صيغ مختصرة «ترتيب العادات»، أو «مراتب العادات»، أو «الترتيب» فقط. ويحال إلى «الرسالة المسعدة» و«صناعة العدد».
2
ويتكون من سبع مقالات يتداخل فيها الوافد والموروث بنسب متفاوتة؛ ففي المقالة الأولى عن الأخلاق النفسية يغيب الوافد ويحضر الموروث الأصيل؛ مما يدل على أن التأليف غير مرتبط بالضرورة بالوافد كنقطة بداية، بل قد يبدأ من الموروث، بالداخل وليس بالخارج. وفي المقالة الثانية الأولوية للوافد على الموروث. وفي المقالة الثالثة أيضا الأولوية للوافد على الموروث حتى يسهل امتصاصه وتفاعله داخل الموروث. وفي المقالة الرابعة، ومعظمها عن العدالة، يحضر الوافد ويغيب الموروث بعد أن اطمأن الموروث إلى قدرته على الاستيعاب والوقوف أمام الوافد. وفي المقالة الخامسة عن الأخلاق الاجتماعية والسياسية، الأولوية للوافد على الموروث، كما هو الحال في المقالتين الثانية والثالثة بعد ظهور الموروث كمصدر ثان مستمر للفكر. وفي المقالة السادسة تستمر أولوية الوافد على الموروث كآخر محاولة لتمثل الوافد واستيعابه كلية. والمقالة السابعة عن الرذائل تنقلب الأولوية للموروث على الوافد باعتبار أن الموروث علوم الغايات، في حين أن الوافد علوم الوسائل. ففي المقالتين الأولى والسابعة، أي في البداية والنهاية، الأولوية للموروث على الوافد، بينما في المقالات الوسطى من الثانية حتى السادسة الأولوية للوافد على الموروث، وكأن الوافد موضوع بين دفتي الرحى، بين المطرقة والسندان في البداية والنهاية .
3
والعجيب أن عند مسكويه، وهو ممثل الحكمة الفارسية، يتصدر الوافد اليوناني على الوافد الفارسي، بل ويتصدر الموروث نفسه.
ومن الوافد يتصدر أرسطو، ثم أفلاطون وجالينوس، ثم أبقراط وسقراط والإسكندر المقدوني والرواقيون، ثم بروسن وفرفوريوس وفيثاغورس وإيرقليطس. ويشير مسكويه إلى كتاب الأخلاق لأرسطو دون تحديد هل هو الأخلاق الكبير أم الصغير، الأخلاق إلى نيقوماخوس، أو الأخلاق إلى أوديموس. وتدل الإحالات إلى أن مسكويه يحاول تأسيس الأخلاق على المنطق (التأسيس النظري)، وعلى التربية (التأسيس العملي)؛ فمثال التأسيس المنطقي للأخلاق: (1) كل خلق يمكن تغيره. (2) لا شيء مما يمكن تغيره هو بالطبع. ∴
لا خلق واحدا منه بالطبع.
بل يحاول مسكويه إثبات صحة كل مقدمة منطقيا كما سيفعل ابن رشد فيما بعد في إثبات زيف كل استدلال وكل مقدمة من حجج الأشاعرة في علم الكلام؛ لذلك يحيل مسكويه إلى كتاب الأخلاق وكتاب «المقولات» لأرسطو في آن واحد. أما التأسيس العملي على التربية فيرى أرسطو، مثل جالينوس ومسكويه، أن الناس ليسوا أخيارا بالطبع كالرواقيين، ولا أشرارا بالطبع، بل فيهم أولئك وهؤلاء، ويمكن الانتقال من أحدهما إلى الآخر بالتأدب والتعليم عند البعض بسرعة، وعند البعض الآخر ببطء؛ ففي مراتب الناس في التعليم يزيد مسكويه على أرسطو منهج المشاهدة والعيان في تربية الأطفال، وليس مجرد تحليل عقلي للفضائل لوضع ما ينبغي أن يكون؛ نظرا للاتفاق عند مسكويه بين العقل والطبيعة، بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن؛ فإذا كان كتاب «الأخلاق» عند أرسطو لا ينتفع به الأحداث الحسيون كثيرا، بل الحكماء وحدهم، فإن مسكويه يحاول تعميمه، ويجعله مفيدا للاثنين، للأحداث وللحكماء، انتقالا من الخاصة إلى العامة، ومن النخبة إلى الجمهور، ومن التأمل العقلي إلى الكمال الخلقي، وإسماعا للأحداث لصوت الحكمة حتى يتم تشويقهم إليها والصعود إليها على مراتب، وإبرازا للتمايز بين الآخر والأنا؛ «أرسطو يقول أما أنا فأقول»؛ أرسطو الحكيم فقط، ومسكويه المربي والحكيم؛ وأرسطو صاحب النظر فقط، ومسكويه صاحب النظر والعمل، انتقالا من اليونان إلى المسلمين.
4
ويعقد مسكويه خطبه في تناول الخير المطلق والسعادة الإنسانية من أجل معرفة الغاية القصوى التي تطلب بالأفعال الإرادية، ثم يبين اتفاق أرسطو معه فيها؛ فأرسطو هو الشارح، ومسكويه هو المشروح؛ أرسطو هو القارئ، ومسكويه هو المقروء؛ ثم يقوم مسكويه بتجميع كل ما قاله أرسطو في الموضوع وليس اقتفاء أثر كتاب واحد، ثم يسلطه على الموضوع الذي يعرفه مسكويه ليظهر مدى الاتفاق بين الاثنين مع الاستعانة في فهم أرسطو بأقوال المفسرين. وعندما يبدأ مسكويه بذكر الفرق بين الخير والسعادة يذكر ألفاظ أرسطو اقتداء به وتوفية لحقه، الألفاظ وحدها دون المعاني والأشياء طبقا لمنطق التشكل الكاذب.
5
ويقسم أرسطو الخيرات إلى أربعة أنواع كما يرويها فرفوريوس؛ الشريفة، والممدوحة، والتي بالقوة، والنافعة؛ كما يفعل الأصولي في تقسيم الأحكام الشرعية الخمسة. ومعيار القسمة لديه الصورة والمادة؛ فالأفعال الشريفة صورة بلا مادة،
6
ثم ينقل مسكويه ذلك إلى الحضارة الإسلامية، فيجعل ما سماه أرسطو الصورة عطية من الله وموهبة للناس، وتتحقق السعادة عند أرسطو في الدنيا وكذلك في الإسلام. ويتأكد العقل اليوناني بالبداهة العقلية الإسلامية؛ فالعقل أساس النقل. والاستشهاد بأرسطو لإثبات فكرة واضحة، مثل أن الشيء الفاضل أجل من أن يمدح؛ فالمدح زيف،
قتل الخراصون . ويفعل الناموس نفس الشيء في قوله: إن الدنيا ناموس عادل. والناموس من عند الله كما أنه من عند الحاكم أو من الدنيا، ويظل الناموس الإلهي قدوة لها كلها، وهو تصور إسلامي لسنن الكون وسنة الشريعة.
7
ويسهل تعشيق أخلاق أرسطو في الأخلاق الإسلامية؛ نظرا للغاية القصوى التي يترقى إليها الحكيم للوصول إليها بجهده، وهو الله الذي يعين الإنسان ويوفقه. البنية واحدة، والفرق في الألفاظ طبقا لمنطق التشكل الكاذب. بنية العقل عند أرسطو هي نفسها بنية الوحي؛ لذلك يسهل تركيبها في بنية واحدة تكشف عن اتفاق العقل والوحي؛ لذلك نادرا ما يستعمل مسكويه لفظ أرسطو «يقول»، بل يستشهد بنص له لإثبات ما يعرفه مسكويه من قبل. العقل يثبت الوحي ويؤكده؛ فالسعادة عند أرسطو شريفة، وسيرتها ألذ، ولكنها محتاجة إلى سعادات أخرى خارجة حتى تظهر بها، وإلا ظلت كامنة غير ظاهرة، وكان صاحبها كالنائم لا يظهر فعله. أما السعادة الإلهية فإنها تظهر الكامن؛ فالوحي ازدهار للعقل وإكمال له. وكذلك لا يدل مدى تحمل الإنسان للأشياء التي تعرض للبحث على عظمة النفس. أما من لم يعرف السعادة ووصل إليها، فإن القدرة على التحمل تكون موضع اختبار، إما سعادة وهناء، وإما شقاء وتعاسة. وكذلك يقول أرسطو ببقاء النفس ومعادها، جزاء على الأعمال، ويحل الشكوك التي أوردها على نفسه بأن الإنسان يتأثر وهو حي بسيرة أولاده، فالأولى أن يتأثر بسيرته هو بعد الموت طبقا لأعماله الفاضلة. فهذه قراءة إسلامية لحجج أرسطو ضد الشك في بقاء النفس بعد الموت إكمالا للعقل وبالدين، وللفطرة بالوحي. السعادة شيء ثابت، والإنسان متغير؛ ومن ثم ليست السعادة في الموت، بل في الحياة؛ مما يدل على وجود حياة بعد الموت.
8
من السهل إذن تحويل المثالية اليونانية إلى رؤية إسلامية قديما عند حكماء الإسلام.
9
وإذا كانت القسمة العقلية عند أرسطو معقولة دونما حاجة إلى إكمال من الوحي، فإن مسكويه يؤكدها دون أن يضيف عليها شيئا، مثل تقسيم الجائر إلى جائر أعظم لا يقبل الشريعة، وجائر لا يقبل قول الحاكم العادل، وجائر لا يكتسب، بل يغتصب الأموال. الجائر الأول مجدف في الدين، والثاني في السياسة، والثالث في الاقتصاد. كما أن العدالة إما من الناس إلى الله، وإما من الناس إلى الناس الأحياء، وإما من الناس إلى الناس الأموات. الأولى في الدين، والثانية في المجتمع، والثالثة في التاريخ. وبعد أن يثبت مسكويه اتفاق قسمة أرسطو مع العقل والطبيعة يعشقها في الوحي ويكملها به؛ فيذكر العبادة الموصلة إلى الله، ويستعمل ألفاظ الخالق والمخلوق ومصطلحات الشرع، والصلاة والصيام، والإقرار بالربوبية، وإعادة كتابة الوافد بلغة الموروث، وقراءة أرسطو باللغة العربية. يعلن مسكويه عن أرسطو في البداية حتى يتمثل الوافد في الموروث، ثم يضعه في قالبه، ثم إكماله بالموروث حتى يصعب بعد ذلك التمييز بين الاثنين؛ فالعبادات عند أرسطو من أعلى إلى أدنى، تختلف باختلاف الناس طبقات ومراتب، ثم صلوات وصيام وخدمة وهياكل ومصليات وقرابين، ثم الإحسان إلى النفس بتزكيتها، ثم الإلهيات حتى تكمل معرفة الله، وأخيرا الإقرار بالربوبية والاعتراف بالإحسان والتمجيد بحسب الاستطاعة.
10
ويتم تعشيق الوافد في الموروث أيضا في موضوع المحبة. البداية من أرسطو كبناء عقلي خالص، والنهاية أيضا أرسطو بعد أن تمت قراءته قراءة إسلامية، تمثلا للوافد داخل الموروث، وإدخالا للعاشق في المعشوق؛ فتتحول المحبة أو الصداقة أو الوله أو العشق عند أرسطو إلى المحبة الإلهية التي ذكرها أرسطو أيضا حكاية عن إيرقليطس أنها تقع عندما تتشابه الأشياء وتتشاكل لا تختلف وتتباين. ويستدل أرسطو على ذلك بأن صانع المعروف يدعو لصانع المعروف بالسلامة والبقاء وسبغ النعمة، وكذلك يتعاهد المقترض مع المقترض على سلامته حتى يعود إليه القرض لا المحبة، وهذا يدل على حاجة الإنسان إلى الصديق في السراء والضراء؛ في السراء يحتاج إلى المؤانسة، وفي الضراء إلى المعونة، ثم تجاوز أرسطو هذه الألفاظ كلها إلى السعادة الخاصة الخالصة لله ثم للملائكة والمتألهين التي يصل إليها الإنسان، والإنسان وحده عن طريق الفضائل، وهي الأمانة التي اختارها الإنسان وأبتها الجبال والسموات والأرض. ويستعمل جدل المطلق والمقيد، وهما من مباحث الألفاظ عند الأصوليين، لتقييد ألفاظ أرسطو حتى تصب في وعاء الموروث، وإطلاق ألفاظ الموروث حتى تتسع للوافد. يتحدث أرسطو عن الملائكة والله سبحانه تعالى، جل وعز، وعن الإبداع والعناية، وعن الصلاة والصيام.
11
ويتم التعبير عن الإسلام بلغة المحبة والسعادة والصداقة والعقل والخير.
12
وبعد أن يتحول أرسطو من الشخص إلى النموذج، ومن الواقع إلى المثال، يصبح الحكيم الأول، أو الحكيم، أو هذا الرجل، أو الرجل الفاضل. وقد يعني الأول المتقدم في الزمان، مثل الأولية بمعنى المتقدمين في مقابل المتأخرين، وقد يعني الأول في الرتبة والشرف في مقابل الثاني أو الأخير. ويستعمل الحكيم الأول كمثال أو استشهاد أو قول لإثبات شيء يعرفه مسكويه من قبل، مجرد تشبيه أو استعارة أو اقتباس لنقد الفصل بين القول والعمل، بين الرغبة والجهد، بين النية والفعل؛ فالدعوة إلى محبة الأفعال الجميلة لها ثمنها في مجاهدة الترف والبطالة. كما يشار إلى الحكيم في تقسيم أنواع السعادة إلى خمسة أقسام، من اجتمعت له كان هو السعيد الكامل على مذهب هذا الرجل الفاضل، وهي مرتبة من الأدنى إلى الأعلى؛ الأول: صحة البدن، ولطف الحواس، واعتدال المزاج. والثاني: الثروة والأعوان. والثالث: تحسن أحدوثة الإنسان في الناس، ونشر ذكره بين أهل الفضائل، فيكون محمودا مثنيا عليه. والرابع: التنجيم في الأمور عن روية وعزم. والخامس: جودة الرأي، وصحة الفكر، وسلامة الاعتقاد. وأحيانا يستعمل هذا الرجل كمرحلة تاريخية في الفلسفة اليونانية، ما قبله عند الفلاسفة السابقين عليه مثل فيثاغورس وأبقراط وأفلاطون وغيرهم، وما بعده ابتداء منه؛ فأرسطو هو الذي يقسم الفلسفة اليونانية إلى مرحلتين، التاريخ والبناء، الاجتهادات والحقيقة؛ فقد اختلف الفلاسفة قبله في السعادة. ويجمع مسكويه بين الرأيين، بين التطور والبناء، بين اجتهادات الفلاسفة في الحقيقة وبين انكشافها. كما انتهى تطور الوحي من اليهودية إلى المسيحية واكتمل في الإسلام، يجمع أرسطو بين السعادتين في الدنيا والآخرة، ويعطي كلا من البدن والنفس حقهما كما يفعل الإسلام. يراها الفقير في الثروة واليسار، والمريض في الصحة والسلامة، والذليل في الجاه والسلطان، والخليع في الشهوات، والعاشق في المعشوق، والفاضل في المعروف. والفيلسوف يضع كلا منها في مرتبتها عند الحاجة إليها، وهي كلها عند أرسطو وسائل لسعادة أخرى هي السعادة الحقة.
13
ويستعمل مسكويه نفس تشبيه أرسطو كأداة حسية في التعبير؛ فالخطاف الواحد إذا ظهر لا يدل على طبيعة الربيع ولا يوم معتدل واحد يبشر به كذلك. وإذا خص مدير المدينة طائفة بالنظر دون طائفة فإنه لا يستحق اسم الرياسة، وجذب شيء من كل الجهات ينشق وينقطع، وتفسد المحبة المغشوشة كما تفسد الدنيا والدرهم المغشوشان. وقد يستعمل مسكويه حكم أرسطو، وهو المولع بالحكم والأمثال والمواعظ، للاستشهاد بها على ما وصل إليه هو نفسه، مثل: من وجد السعادة الحقيقة فلا ينشغل بالسعادات الظاهرية، فالقديم تأكيد للجديد، والنقل تأييد للإبداع. ولما كان الإسكندر المقدوني تلميذا لأرسطو فإن مسكويه يستعمل نادرة له في موضوع أسباب الغضب والسيطرة عليه برفض تأديب أحد أصحابه لنقده له وانتقاصه منه وعيبه عليه؛ لأنه أبسط لسانا، وأعذر عند الناس، وعفوه عن بعض أعدائه الخارجين عليه.
14
وما زالت بعض الألفاظ اليونانية المعربة، مثل الناموس،
15
ويعني في لغة أرسطو التدبير والسياسة، بالرغم من مدحه لنقل أبي عثمان الدمشقي لكتاب فضائل النفس لأرسطو إلى العربية، وينتقل عنه لأنه فصيح في اللغتين اليونانية والعربية، دقيق في المصطلحات، حريص في نقله الألفاظ والمعاني من لغة إلى أخرى.
16
وعند النقل من أرسطو يعلن مسكويه عن ذلك نظرا للوعي الشديد بين النقل والإبداع. كما ترك مسكويه المثل اليوناني الذي ذكره أرسطو، وهو نموذج الآلام مثل أيوب، دون أن يستبدل به مثلا عربيا كما فعل ابن رشد في تلخيص الخطابة.
17
وجالينوس عند مسكويه هو الأخلاقي، لا الطبيب أو المنطقي. وقد اقتصر التوسط بين المذهبين المتعارضين؛ الإنسان خير بالطبع كما يقول الرواقيون، وشرير بالطبع كما يقول الفلاسفة السابقون؛ وينقدهما، ويتوقف الأمر على طبيعة الأفراد، منهم من هو خير بطبعه، ومنهم من هو شرير بطبعه؛ ومن ثم كان جالينوس أقرب إلى الإسلام. وقد حاجج جالينوس كلا المذهبين ببرهان الخلف، إثبات فساد النقيض حتى يثبت النقيض الثاني؛ فلو كان الناس أخيارا بالطبع لتعلموا الشر، إما من أنفسهم لأن بهم قوة تشتاق إلى الشر أقوى من القوة التي تشتاق إلى الخير، وإما أن بهم قوة تشتاق إلى الشر، أو تعلموه من غيرهم لأنهم أشرار بالطبع. ولو كان الناس أشرارا بالطبع لتعلموا الخير من أنفسهم أو من غيرهم؛ وبالتالي يثبت وجود الخير. وهنا يبدو مسكويه مؤسسا الأخلاق على قواعد المنطق والبرهان. وينتهي إلى نفس الرأي المتوسط عند جالينوس مع مزيد من الترجيح بالبداهة والتجربة بعد المنطق والبرهان. ويمكن تصور الناس على مراتب ثلاث كالهرم؛ في القاعدة، وهم الأكثر، الناس أشرار بالطبع؛ وفي الوسط، وهم من على استعداد للخير والشر؛ وفي القمة، وهم الأقلية، الأخيار بالطبع. وعلى هذا النحو جالينوس هو الذي يؤيد مسكويه، وليس مسكويه هو الذي يؤيد جالينوس.
18
ويجمع جالينوس الأخلاق إلى الطب؛ فالأخلاق تبدأ بالطبيعة بنعمة الوجود ثم تتواتر بعد ذلك، تبدأ بالجسد ثم بعد ذلك بالإجادة؛ لذلك كتب جالينوس كتابي «التشريح» و«منافع الأعضاء»؛ فالطب مقدمة للأخلاق. وفي كتابه «أخلاق النفس» يبين موافقة أهل الشر للأشرار لإيجاد الأعذار لأنفسهم أنهم غير متفردين بهذا الرأي، بل ويشاركهم فيه غيرهم طبقا لقواعد الجدل والإقناع، ثم يزيد مسكويه على جالينوس تعرف المرء على عيوب نفسه بعد أن يعرفها؛ إذ إن عيوب نفس كل إنسان خافية عليه؛ ومن ثم وجب أن يختار صديقا فاضلا ويطلب منه أن يبينها له دون أن يغضب من صراحته، بل يغضب من كتمانه، ويطلب منه المزيد دون أن يتضجر أو يتضرر. ولعل العدو في هذا أنفع من الصديق؛ فعدو عاقل خير من صديق جاهل.
19
ويحيل مسكويه إلى أفلاطون وسقراط وفيثاغورس عندما يؤسس الأخلاق على النفس مستعيرا منه تشبيها للنفس الناطقة والنفس البهيمية، مثال الذهب في اللين والانعطاف، والحديد في الصلابة والامتناع. كما استعمل مقالا من بقراطس في موضوع التهور والجبن، مجرد صورة فنية على كبح جماح النفس، مثال السفينة إذا عصفت بها الرياح وتلاطمت عليها الأمواج، يمكن السيطرة عليها عن طريق الملاحين أكثر من السيطرة على القضبان الملتهب. وهؤلاء الثلاثة يمثلون تطور الفلسفة قبل اكتمالها في أرسطو، وقد أجمعوا على أن الفضائل كلها في النفس، وأقسام السعادة، الحكمة والشجاعة والعفة والعدالة، في قوى النفس العاقلة والغضبية والشهوية، وهي فضائل قائمة بذاتها لا تحتاج إلى البدن في شيء. وإذا أشرقت العدالة أشرقت بها كل قوة من قوى النفس لأنها مجموع فضائلها، فتنهض النفس وتؤدي غايتها في قرب الإنسان السعيد من الله تقدس اسمه. والعدالة توسط بين الأطراف؛ لذلك أوصى أفلاطون طالب الحكمة بأن يموت بالإرادة حتى يحيا بالطبيعة في موضوع علاج الخوف من الموت. وعلى الرغم من ارتباط الأخلاق عند أفلاطون بالنفس، وارتباطها عند جالينوس وأبقراط بالبدن، إلا أن مسكويه يجمع بين الاثنين مضافين إلى أرسطو في نظرية متكاملة للأخلاق، تقوم على قواعد البرهان وطهارة النفس وسلامة البدن.
20
ويقتبس مسكويه نصا من سقراطيس في موضوع الصداقة بألفاظها، ويقطع النص إلى فقرات حتى يسهل استيعابها وتمثلها، متعجبا مما يعلم أولاده أخبار الملوك والحروب والضغائن دون أن يعلمهم أمور المودة وأحاديث الألفة، وما يحدث للجميع من خير بالمحبة والأنس؛ إذ لا يستطيع أحد أن يعيش دون مودة، حتى ولو كانت الدنيا كلها ضده، بل تكون حاجته إلى المودة أشد، ولا يعادل المودة شيء في الدنيا حتى لو كانت ذخائر جميع الملوك وكنوز قارون؛ مما يدل على انتحال النص؛ فسقراطيس لم يكن يعلم خزائن قارون، وقد تكون قراءة إسلامية لقول صحيح، وكلاهما إبداع. ولا شيء يعادل لوعة صديق، ولا شيء يقوم مقامه. والسلطان إليها أحوج؛ لأنه بها يباشر أمور الرعية أكثر من الاعتماد على أعوانه. عيون الصديق أفضل من عيون الأمن. والنص له ما يقابله في الموروث، ولكن الغاية منه تمثله وابتلاعه في المحيط الواسع.
21
ويعي مسكويه تماما متى يكون ناقلا نصا، ومتى يكون معلقا وقارئا لنص ثان، ومتى يكون مكملا ومبدعا لنص ثالث. ويعلن عن ذلك صراحة في فصل «تأديب الأحداث والصبيان»، يعلن أنه نقل أكثره من كتاب بروسن حتى، ولو كان عنوانا بأكمله دونما شعور بحرج من قال، قلت، ولو كان أكثره نقلا وأقله صفحتين من الكتاب كله، متفقين مع الجو العام في نقطة تطبيقية، جزء في كل، يمكن حذفه دون الإخلال بمنطق الكتاب، مجرد قوسين عارضين يمكن تلخيصها وعرضها أو حذفها. وتصل بداهة هذه النصائح إلى حد البساطة بالرغم من اختلافها من حضارة إلى حضارة، ومن فرد إلى فرد، ومن مذهب إلى مذهب، ومن غاية إلى غاية. والانتقاء أيضا تأليف غير مباشر ما دام متفقا بين المنقول والناقل، الحديث عن النفس بلسان الآخر. وهو موضوع عملي صرف، تأديب الأحداث والصبيان، قد لا يوجد ما يقابله في الموروث، ولكنه متفق في العقل والمصلحة. تبدو الأخلاق عند مسكويه هنا على مستويين؛ الأخلاق الإشراقية والأخلاق العملية، فضائل النفس والنصائح والمواعظ التربوية .
22
ويقتبس مسكويه نصا ثانيا من سقراط في موضوع كيفية اختيار الصديق يتعرف فيه الإنسان قبل الصداقة على الصديق. صحيح أن لأفلاطون محاورة عن الصداقة، لكن النص في أغلبه منتحل، سقراط المثالي المعلم، الشيخ المربي الفاضل يقص عن سقراط. يذكر النص سيرة سقراط مع أصدقائه وإخوته وآبائه، وشكر من يجيب شكره معنويا وليس ماديا، وميله إلى الراحات والتباطؤ في الحركة، ومحبته للذهب والفضة، ومحبته للرياسة، والغناء واللحون، وضروب اللهو واللعب، وسماع المجون والمضاحيك، وهي سلبيات في الصداقة. أما الإيجابيات، فعدم الإكثار من الأصدقاء، والتسليم بعيوبهم؛ إذ لا يخلو صديق من عيب، وهي قيم إسلامية. والضحك الكثير يميت القلب، وأبو بكر صاحب الرسول. سقراط نموذج عملي على الصداقة والصديق. وقد ألف أبو حيان في الموضوع ولم يكتف بالاقتباس. وعندما يحلل مسكويه علاج الحزن فإنه يستشهد بسقراط عندما سئل عن سبب قلة حزنه، فأجاب بأنه لا يقتني ما إذا فقده يحزن عليه، مجرد استشهاد ومثل تاريخي للإيضاح.
23
ويحيل مسكويه إلى الرواقيين في معرض التساؤل عن طبيعة الإنسان خيرة أم شريرة؛ إذ يرى الرواقيون أن الإنسان خير بالطبع ثم يصير شريرا بفعل المجتمع ودوره السلبي في تربية الأفراد.
24
وقد شاع الرأي المضاد قبلهم، أن الإنسان شرير بالطبع ثم يصير خيرا بالتربية والتعليم، بفعل المجتمع ودوره الإيجابي. ثم يأتي جالينوس ويتوسط بين الرأيين؛ فالناس فيهم الأخيار بالطبع والأشرار بالطبع، بصرف النظر عما إذا كان تطور الجدل بين الشيء ونقيضه والمركب بينهما تاريخيا أم بنيويا. ويحال إلى الرواقيين أيضا مع جماعة من الطبيعيين جعلوا البدن جزءا من الإنسان وليس مجرد آلة؛ لذلك جعلوا السعادة في النفس غير كاملة إذا لم تقترب بها سعادة البدن وما هو خارج البدن؛ أي الأشياء التي تكون بالبحث والجد. السعادة عند أفلاطون وفيثاغورس وأبقراط في النفس فقط، وعند الرواقيين والطبيعيين في البدن والنفس، وعند أرسطو ومسكويه في كليهما؛ فالوسط أقرب إلى أحد الطرفين.
25
وبالإضافة إلى أعلام اليونان وفرقهم يذكر مسكويه مجموع الحكماء أو الحكماء المتقدمين استشهادا بأقوالهم؛ فقد قال الحكماء إن الإنسان مدني بالطبع، وإن إصابة الهدف أعسر من العدول عنه ولزوم الصواب، وإن صحة اللذة تسوق البدن من السقم إلى الصحة، ومن النقص إلى التمام، والنفس من الجهل إلى العلم ، ومن الفضيلة إلى الرذيلة، وحب الشر للأعداء الذي يجعل صاحبه شريرا. وتذكر أقوال الحكماء مسبوقة ب «لذلك» «ولهذا»، «على ما حكت»؛ فالقول يؤكد ما انتهى إليه مسكويه وليس مصدرا له. كما يستعمل أمثالهم كصيغ في التعبير عن المخزون الفلسفي الأدبي وتشبيهاته، مثل: من يهمل سياسة نفسه لسلطان الشهوة كمن يرمي بياقوتة حمراء من الذهب في نار حتى تصبح كاسا لا منفعة فيها. وضرب الأمثال جزء من حكم الشعوب وأقوال الأنبياء. وكذلك: مثل الملك الموكول بالدنيا، والطرق الثلاثة فيها طريق الخير، وطريق الشر، وطريق لا هو خير ولا هو شر، من عرفها نجا، ومن جهلها هلك، ليس بالموت بل بالحياة. ومثل: الإنسان الشرير كالكهف الذي أضرم فيه النار واختنق فيه اللهيب، كلما كانت هناك محاولات للإطفاء زادته اشتعالا وقوة.
26
وأحيانا تذكر أقوال الحكماء تعبيرا عن براعة العقل، مثل تحليل الانتقام وأثره على القلب، ومتى يكون محمودا عن شجاعة ومذموما عن جبن، وكذلك تحليل العدالة كفعل اختياري لتحصيل الفضيلة، والجور كفعل اختياري لتحصيل الرذيلة. ومع ذلك يترجم المثل في بعض ألفاظه بألفاظ الموروث، مثل ترجمة الهياكل بالمساجد. كما يركب مسكويه قسمة الحكماء على الموروث، ويجعلها مقامات الله عز وجل؛ الأول للموقنين، وهو رتبة الحكماء والعلماء. والثاني للمحسنين، وهي رتبة التوحيد بين العلم والعمل. والثالث للأبرار، وهي رتبة المعلمين خلفاء الله في الأرض. والرابع للفائزين، وهي رتبة المخلصين في المحبة، ورتبة الاتحاد. لا فرق بين الوافد والموروث إلا في الألفاظ، وهي مقدمات الفلاسفة والفقهاء والمجاهدين والصوفية.
27
كما يحيل مسكويه إلى القدماء ورأيهم في الخلق، أو في رأي البعض أنه للنفس غير الناطقة وحدها، بينما رأى البعض الآخر أنه قد يكون للنفس الناطقة بعد قسمة الخلق إلى طبيعي وعادي؛ الأول لا ينتقل من فرد إلى آخر، والثاني يمكن أن ينتقل بالتأديب والمواعظ سريعا أو بطيئا. والانتقال السريع أفضل اعتمادا على قوة التربية. ويعتمد على تشبيه القدماء لقوى النفس الثلاث بإنسان راكب دابة يقودها كلب أو فهد، إن استطاع الإنسان قيادتها عاش سعيدا. ويعيد توظيف هذا المثل تنبيها للنفوس على ما وهب الله، عز وجل، للإنسان ومكنه منه، تركيبا للعقل على الوحي. كما اختلف القدماء في السعادة العظمى؛ إذ ظن البعض أنها لا تحصل للإنسان إلا بعد مفارقته البدن لأنها في النفس وحدها، وجعلوها جوهر الإنسان دون البدن، وهم أفلاطون وفيثاغورس وأبقراط؛ بينما رأى البعض الآخر أنها قد تحصل في الدنيا، وهو رأي أرسطو ومسكويه.
28
ويحيل مسكويه أيضا إلى المتقدمين في مقابل المتأخرين، ويستحسن آراءهم من أن الخير مقصود الكل، والغاية الأخيرة، وقد يسمى النافع كذلك. كما يستعمل لفظ الأوائل الذي لا يشير إلى اليونان بالضرورة، بل قد يشير إلى الفرس أيضا؛ لأنهم لا يسمون الملك إلا من حرس الدين وقام بحفظ مراتبه وأوامره، وإلا فهو متغلب؛ فالإحالة إلى الأوائل موجهة بدور الملك في رعاية الدين من تصور الخليفة أو الإمام. وفي أقسام المحبة عند الحكماء يجعلها مسكويه تبدأ بمحبة الوالدين ثم محبة الحكماء؛ فهم بالنسبة لتلامذتهم كالوالدين للنفوس، ثم محبة الله. وفي مرتبة الحكماء يصير العلم صحيحا والعمل صوابا؛ لذلك جعل الحكماء الموت موتين؛ موتا طبيعيا بانتهاء الأجل، وموتا إراديا عن طريق إماتة الشهوات، وكذلك الحياة حياتان؛ حياة طبيعية للبدن، وحياة إرادية بالنفس؛ فيضيف مسكويه البعد الإلهي على بعد الحكماء، ويجعل محبته لله قمة المحبة بعد محبة الحكماء.
29
ويستعمل مسكويه بعض نوادر الفلاسفة للتعبير عن آرائهم الفلسفية، مثل ما وقع بين مملوك وبعض الفلاسفة، والذي افتخر عليه بعض رؤساء زمانه بحالهم من الفضائل الخارجية، الفرس والثياب، دون الداخلية الذاتية، ومثل دخول أحد الفلاسفة على بعض أهل اليسار والثروة، وكان يحتشد في الزينة وأبهة البيت، فبصق عليها؛ لأنه لم يجد أحقر منها؛ فالفضائل في النفس وليست خارجها في موضوع العجب والافتخار. ومثل تعمد أحد المتفلسفين الذين يمارسون الفلسفة على نحو عملي إيجاد نفسه في مواطن الخوف حتى يعود نفسه تحمل المخاطر الخارجية بالتعرض لها، مثل ركوب البحر أثناء هيجانه حتى يعود نفسه على السيطرة عليها حين الغضب. وكلها أمثلة على انقلاب الفيلسوف من الخارج إلى الداخل في تصوره للفضائل في موضوع الجبن والخور.
30
ويستعمل مسكويه لفظ الفلاسفة للدلالة على فلاسفة الإسلام، وهو المعنى الخاص الضيق، أو كل الفلاسفة بما في ذلك اليونان وغيرهم، وهو المعنى العام الواسع، وآراؤهم هي ما يسمى فلسفة بإجماع العقلاء؛ فقد أجمعوا على أن للإنسان كمالين؛ الأول نظري للمعارف والعلوم، والثاني عملي لنظام الأمور وترتيبها؛ لأن له قوتين؛ علمية وعملية، ولكل قوة اشتياقها، كما أن المحققين منهم يجمعون على تحقير البخت، ولا يجعلونه ضمن السعادة؛ لأن السعادة أمر ثابت ينال بالإرادة، وليس متغيرا ينال بالمصادفة، والأخس لا ينال الأشرف. أما الحدث منهم، أي المحدثون، فإنهم جعلوا عبادة الله على ثلاثة أنواع متدرجة من أدنى إلى أعلى؛ الأول واجبات البدن، كالصلاة والصيام ومواقف المناجاة لله. والثاني واجبات النفس بالاعتقادات الصحيحة، كالعلم بالتوحيد. والثالث ما يجب حين مشاركة الناس في المدن بالمعاملات والمزارعات والمناكحات وتأدية الأمانات والمعاونات والمناصحات وجهاد الأعداء والذب عن الحريم وحماية الحوزة، وهي أيضا عبادات، طريق إلى الله. الأول طريق العبادات، والثاني الاعتقادات، والثالث المعاملات؛ لذلك يتدرج معنى الفلاسفة من كل الفلاسفة منذ القدم إلى بعض الفلاسفة، وهم المتحققون منهم، إلى بعض البعض، وهم المحدثون منهم. وقد يكون المقصود فلاسفة المشرق، ثم فلاسفة اليونان، ثم فلاسفة الإسلام، وهي معرفة الله.
31
ويذكر مسكويه أخلاق الشعوب وعاداتهم، الغرب والهند والعرب، فيشير إلى عادة ملوك الفرس في تربية أولادهم بعيدا عن القصور، وإرسالهم إلى المناطق الخشنة ليتعودوا على أخلاق الرجولة، وهي عادة عربية أيضا نظر لها ابن خلدون فيما بعد في التمييز بين أخلاق الحضر وأخلاق البدو. ويشير إلى حكيم الفرس وملكهم أردشير وقوله الشهير: الدين والملك أخوان توءمان؛ فالدين أساس، والملك حارس، ومن لا أساس له مهدوم، ومن لا حارس له ضائع. وكأنها نظرية الإمامة أو الخلافة عند المسلمين في التوحيد بين الدين والدولة. كما يشير مسكويه إلى الهند، كتاب «كليلة ودمنة»، والحديث عن الأخلاق بلغة الأمثال والوصايا؛ لما في ذلك من النفع العظيم عند السامعين الفضلاء، ولخوفهم من الضرر الذي قد يقع عليهم إذا ما استهانوا بها. كما يذكر الأحباش والروم والنوبة في موضوع الغدر والضيم عند بعض أجناس العبيد، ويمدح وفاء هذه الشعوب؛ فالشعوبية ليست سلبا، بل هي أيضا إيجاب؛ فلا تذكر الرذائل وحدها، بل أيضا الفضائل. وقد يوجد وفاء عند بعض العبيد أكثر مما يوجد عند الكثير من الأحرار. كما يظهر الأعراب كعادات في الأخلاق؛ فمن ترك الشهوات من المآكل والمشارب وسائر اللذات فإما لأنه ينتظر أكثر مما هو حاضر، وإما لأنه لا يعرفها كما هو الحال عند الأعراب في الجبال والرعاة في البوادي وسفوح الجبال. كما اشتق لفظ إنسان من الأنس، كما يؤيد ذلك النحو، وليس من النسيان كما يقول بعض الشعراء.
32
أما الموروث فقد ذكر الكندي أولا، ثم علي بن أبي طالب مما يبين أصوله الشيعية، ثم الحسن البصري وأبا بكر الصديق وعثمان الدمشقي، ثم امرأ القيس والنابغة والنبي أيوب، الأنبياء مع الشعراء.
33
يأتي الكندي في المقدمة؛ مما يدل على استمرار التراكم التاريخي ابتداء من الكندي كبديل للوافد، مع أن الكندي لم يركز كثيرا على الأخلاق، واستبعاد الفارابي وابن سينا، وهما اللذان أوغلا في الأخلاق، ربما للحسد المعروف بين مسكويه وابن سينا، وربما لرغبة مسكويه تأسيس الأخلاق على العقل والعلم، كما فعل الكندي في تأسيس الفلسفة بعيدا عن إشراقيات الفارابي وابن سينا. والغريب أيضا عدم الإحالة إلى الرازي الذي حاول تأسيس الفلسفة أيضا مثل الكندي ابتداء من العقل والعلم. وقد تكون الإشارة إلى الكندي، وليس إلى الرازي أو الفارابي السابقين عليه، أو ابن سينا المعاصر له، إما تخفيا وتقية من التشيع، أو اختيارا للكندي الأخلاقي، وليس الرازي الطبيعي، والفارابي المنطقي، وابن سينا الإشراقي. ويستشهد مسكويه بالكندي في موضوعين؛ معرفة المرء عيوب نفسه، والحيلة لدفع الأحزان، ويذكره بعد جالينوس وكخاتمة له؛ فالوافد بداية الموروث، والموروث نهاية الوافد؛ الوافد وسيلة، والموروث غاية. ويقتبس مسكويه نصا للكندي بألفاظه، وهو ربما الوحيد الذي يقتبس نصا من المخزون الموروث فاصلا بين ما له وما لغيره دون التجميع الذي يخلط كل شيء مع كل شيء. ويذكره باسمه الكامل، أبو يوسف ابن إسحاق الكندي. ويقطع نص الكندي حتى يسهل إعادة توظيفه واستعماله، ويعلن عن النص مرتين في بدايته وفي نهايته. والموضوع كيف تكون الأنا مرآة للآخر، والآخر مرآة للأنا، في التعرف على الفضائل والرذائل؛ حتى لا ترى الأنا عيوب الآخرين دون عيوبها، ولا تدرك فضائلها وإغفال فضائل الآخرين؛ فإذا فعل الآخر سيئة كان تحذيرا للأنا، وإذا فعل حسنة كان تشجيعا للأنا. تراجع الأنا أفعالها كل يوم لتقييمها وتصحيحها. ودون هذه المرآة المزدوجة يصبح الإنسان في مواجهة الكتب والدفاتر فقط، تفيد غيرها وهي عادمة لها.
34
وفي موضوع الحزن يقتبس أيضا نصا من الكندي يفيد أن الحزن ليس من الأشياء الطبيعية، وأسبابه ليست ضرورية، بل يجلبه الإنسان ويضعه وضعا، مثل فقد مملوك، الملكية سبب الحزن حرصا عليها وخوفا من فقدها، ومن لا يملكون لا يحزنون، والقضاء على الحزن مرهون بالقضاء على الملكية والعودة إلى الحالة الطبيعية.
35
ثم يأتي الموروث الصوفي بعد الموروث الفلسفي، الحسن البصري نموذجا في أقواله المأثورة عن آفة النسيان في موضوع اللذة التي تطيقها الشريعة، قليلة الحروف، كثيرة المعاني، فصيحة البيان، مستوفية شروط البلاغة؛ فالحسن البصري مصدر للأخلاق كما هو الحال في الحكمة الشعبية، لا فرق بين الصوفية والخلفاء. كما يستشهد بأقوال علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، ويصفه بألقاب أمير المؤمنين والإمام، صلوات الله عليه، في حقيقة الشجاعة، وإن ألف ضربة بالسيف على الرأس أهون من ميتة الفراش. كما تؤخذ شخصيته نموذجا في المزاح والدعابة حتى لقد عابه البعض عليه. ويضرب به المثل، علي ونسله، في ضرورة الموت؛ لأن الأرض لا تسع للأحياء كلهم في موضوع علاج الخوف من الموت. وقد يكشف ذلك مرة أخرى عن تشيع مسكويه وولائه لأهل البيت. ويستعمل أيضا قول أبي بكر الصديق إن الملوك أشد الناس فقرا، بل إنهم أشقى الناس في الدنيا والآخرة؛ فالملك يزهد فيما في يده، ويرغب فيما يد غيره؛ يشطر أجله، ويشقق قلبه، ويحسد على القليل، ويسخط بالكثير، ويسأم الرخاء، ولا يضار إن انقطعت عنه اللذة، ولا يسكن إلى الثقة، جلد الظاهر، حزين الباطن، واقع تحت الحساب مع قلة العفو؛ لذلك كانوا أوجب الناس بالرحمة. ويحال إلى ابن عثمان الدمشقي، مترجم أرسطو، باعتباره عربيا؛ فالمترجمون عرب، حلقة الصلة بين الوافد والموروث.
36
ويذكر مسكويه امرأ القيس والنابغة في معرض الحديث عن الشعر وصلته بالأخلاق، وهو الموضوع الشهير في سورة الشعراء عن الصلة بين الشعر من ناحية، والغواية والخيال والفصل بين القول والعمل من ناحية ثانية؛ فرواية الشعر الفاحش وقبول أكاذيبه واستحسان قبائحه ونيل لذاته، كما هو الحال في شعر امرئ القيس والنابغة، ثم إقرار ذلك من الرؤساء، وإجزال العطايا للشعراء وأقران السوء الذين يساعدون في اللذات الجسمانية؛ ومن ثم يحذر مسكويه من معاشرة أهل الشر والمجون، والمجاهرين باللذات وركوب الفواحش، والمفتخرين بها، والمنهمكين فيها، أو الإصغاء إلى أخبارهم ورواية أشعارهم وحضور مجالسهم؛ لإضرار ذلك بالنفس، بحيث لا يكون علاجها بعد ذلك صعبا، ويحتاج إلى زمن أطول. وكانا سببي فساد الفاضل المحنك، وغواية العالم المستبصر، وفتنة للحدث الناشئ الذي يتوق إلى النصح والإرشاد. ويحذر النظر في الأشعار السخيفة التي تذكر العشق وأهله، والذي يوهم بأنه ضرب من الظرف ورقة بالطبع معه مع أنه مفسدة للأحداث، إنما تتطلب الأخلاق سماع محاسن الأخبار والأشعار التي تبعث على الأدب وحفظها. وينقد مسكويه لا أخلاقية الشعر، وارتباطه بالشرب والمجون، والتكسب به عند الأمراء. وفي نفس الوقت يطالب الأطفال بحفظ الشعر الجيد القائم على الأخلاق.
37
ويستشهد مسكويه بالشعر المرسل غير المنسوب فيما يعن له من موضوعات أخلاقية، مثل الحديث عن الإنسان وأنه أشرف الموجودات، ونقد المبالغة والتقصير كطرفي نقيض، والحذر من عداوة الصديق، وعدم الخلط بين الحقيقة والزيف، بين السمنة والورم، وفي نقد المزاح والحذر منه؛ فالشعر نوع من الإحسان العرضي، وليس الباقي الذاتي، ويكون سفها وغضبا ورذيلة إذا ما كان رفضا للطبيعة وهجاء للقمر. أما الأمور الممكنة فإنها مدعاة للخوف، سواء وقعت أو لم تقع.
ويستدعي مسكويه تاريخ الأنبياء، أيوب، وإبراهيم، وقارون؛ فأيوب نموذج للبلايا التي لا تخرج الحكيم عن مرتبة السعادة التي وصل إليها، وأموال وكنوز قارون لا تغني عن قدر المودة، ومن أحب الله وتقرب إليه يصبح مثل إبراهيم خليل الله.
38
ويستشهد مسكويه بالموروث الأصلي، القرآن والحديث،
39
ويعظم الآيات القرآنية ذات المنحى الإشراقي التي يستشهد بها الصوفية، وتتكرر آية واحدة ثلاث مرات تعد الأخيار بما أعد لها من قرة أعين، أو تصف واقع إيمان أكثر الناس بالله وهم مشركون، أو استعارة بعض أمثال القرآن، مثل رجلين لأحدهما جنتان من أعناب فأصبحت خاوية على عروشها مما أنفق، ومثل الحياة الدنيا كالماء من السماء المختلط بالأرض فيصبح هشيما تذروه الرياح في موضوع العجب والافتخار، إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون في موضوع الحزن. وتبين الأحاديث أن الإنسان أشرف الجواهر، وأنه فرد بين المجموع، كالراحلة بين الإبل، وأن الناس سواسية كأسنان المشط أو الحمار، يتفاضلون بالعقل، ولا خير في صحبة لا يعرف فيها فضل الصاحبين، ورجحان أمة الإسلام على باقي الأمم، وأن النخل من طينة آدم احتراما للزرع، وأن في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن الناس بأعمالهم لا بأنسابهم، وأن المزاح المعتدل محمود؛ فقد كان الرسول يمزح ولا يقول إلا حقا. وبصرف النظر عن صحة هذه الأحاديث تاريخيا إلا أنها جزء من المخزون النفسي الجماعي.
40
وأخيرا تظهر المقدمات والخواتيم التي تعبر عن البيئة الدينية للتأليف، مثل البسملة والحمدلة، وطلب التأييد من الله، فالخير بيده، وهو نعم الوكيل، والبداية بعون الله، فالرسول هو النموذج التطبيقي للتهذيب والتربية الإلهية، وإلى الله يتوجه مسكويه بالدعوات وطلب الرضا واستجداء العون، ويبدأ كل مقالة بمعونة الله.
41
وبعد الدعاء لله يبدأ الدعاء للسلطان وواليه، مع ذكر التاريخ الهجري وحده في طباعته قبل أن يزدوج مع التاريخ الميلادي في وعينا التاريخي الحديث، والمشرف على الطباعة ونسبه ووظيفته.
42
وبالإضافة إلى الوافد والموروث يظهر عند مسكويه بدايات التنظير المباشر للواقع، والاعتماد على التجارب الذاتية، وتحليل العقل الخالص، تحولا من النقل إلى الإبداع؛ فقوى النفس الثلاث ليست من الوافد، أفلاطون فحسب، ولا من الموروث، النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة، والنفس المطمئنة فقط، بل هي تجربة شخصية عند مسكويه، وإبداع ذاتي من تحليله الخاص وتنظيره المباشر للواقع. يصف مسكويه تجاربه الخاصة وتجارب الآخرين. يلاحظ ذاته واكتساب العادات وجهادها، ويعبر عن خلاصة ما انتهى إليه للقراء لنصحهم؛ فليست الغاية المعرفة وحدها، بل التوجه العملي أيضا، وإسداء الرأي والنصح للناس في إطار تجربة حضارية مشتركة وهم مشترك وغاية واحدة. يبزغ الإبداع عند مسكويه من تجاربه ومشاهداته، ثم يصدق الوافد أو الموروث على ما عرفه بنفسه معرفة مباشرة خاصة، وأن الموضوعات إنسانية خالصة، مثل الحزن والخوف، وفي ذهنه أحداث العصر.
43
ويشرك مسكويه القارئ في التجربة والمشاهدة. لم يعد الأمر بين مسكويه وأرسطو، ولكن مع القارئ أيضا كطرف ثالث في تجربة مشتركة واحدة وموسعة؛ لذلك يتحدث مسكويه بضمير المتكلم المفرد والجمع تعبيرا عن التجربة الشخصية. الخطاب موجه إلى القارئ والمستمع، وليس حديثا مجهولا، معادلات رياضية بلا متكلم ولا مخاطب، فيقول: ذكرنا، وصفنا، وعدنا. الفلسفة مشروع حضاري جماعي يعبر عنه الفيلسوف، خطاب أمة.
44
يدل أسلوب مخاطبة القارئ على أن الفكر تجربة مشتركة بين الكاتب والقارئ، وأن القراءة جزء من الكتابة، وأن الكتابة تهدف إلى أن تتحول إلى واقع يتحرك، وتغير فعلي. الكتابة فعل. والانقياد إلى الشريعة شيء بديهي يمكن رؤيته في سلوك الآخرين، وكذلك استعداد الصبيان لقبول الأدب أو نفورهم منه، وما يظهر فيهم من الإباحية والحياء، والقسوة والرحمة، والجود والبخل؛ مما يساعد على معرفة مراتب الإنسان إلى الفضيلة، وأنهم ليسوا على رتبة واحدة؛ ففيهم السهل السلس والصعب الممتنع. يكفي الكاتب الكليات، ويترك الجزئيات للقارئ. العلم في النفس وليس في الخارج، والتعلم من النفس وليس من المعلم. ويتحقق بالفعل، فيصير الإنسان خليفة الله، الموجود التام والدائم والباقي، يقبل الفيض منه بحيث لم يعد بينه وبينه حجاب. والقارئ على نفس المستوى والأهلية لما يطلبه الكاتب، والذي سرعان ما ينضم إليه ويصبح جزءا من الدعوة، كما هو الحال في التشيع والتبليغ. القارئ على نفس مستوى الكاتب، وقادر على أن يحقق وصاياه، القيم الذاتية، وليست الأشياء الخارجية في موضوع العجب والافتخار. ويعرض المؤلف للقارئ الموقف بحيث لا يكون هناك مجال إلا لاختيار واحد، إن شاء القارئ أن يختار الفضيلة والسعادة، مثل تقسيم النفس إلى بهيمية وسبعية وناطقة، ومطالبة القارئ أيها يختار، وكأن الحلقة أو الطريقة قد تحولت إلى تدوين. لا يعلن المؤلف عن حقيقة، بل يولدها من باطن القارئ.
45
أمام الإنسان طريقان؛ طريق البهائم وطريق الملائكة وطريق السباع، فأيها يختار؟ على القارئ أن يقوم بقلب النظرة من الخارج إلى الداخل حتى يصبح الاختيار واضحا، وإذا تأمل القارئ هذا الجوهر الشريف فيه لعرف أنه باق غير فان. وفي النفس الناطقة يتم الاتصال بالله، وتتلقى منه العون، على أن تقوم كل قوة بالسيطرة على القوة التي تحتها؛ فتسيطر السبعية بما فيها من حمية وغضب، على البهيمية بما فيها من لذات وشهوات، ثم تسيطر الناطقة بما فيها من عقل ورجحان على السبعية.
46
ويتم التأليف المزدوج من الوافد والموروث وتجاوزهما إلى التجربة الشخصية أو التنظير المباشر للواقع عن طريق آليات التأليف. التأليف المزدوج ليس تجاورا للمصدرين، بل توظيف معنوي عضوي لهما في عمليات الإبداع. ويمكن وصفها عن طريق تحديد المسار الفكري للعمل، بداياته ونهاياته، مقدماته ونتائجه، خطواته واستدلالاته. ويمكن الكشف عنها عن طريق تحليل أفعال الفقرات وأزمنتها وصياغاتها وأسمائها وحروفها؛ فالأفعال المستعملة كلها قبل فعل القول أو معه، أفعال البيان والإيضاح، مثل: بان، وضح، علم، ظهر، حدد، عرض؛ أو أفعال التقديم، مثل: ذكر، قدم، رأى، رتب، سمى، وصف، فحص، وقف. وتدل كلها على أن الفكر موضوع يقدم بوضوح وتفصيل واستقصاء. كما تدل الأزمنة، الماضي والحاضر والمستقبل، على مسار الفكر، ما تم وما يتم وما سيتم في مراحل ثلاث. وأحيانا يتم الجمع بين فعلين، الماضي والمضارع، ما تم وما يتم ، ما بان وما يتبين، وأحيانا مع الماضي في المستقبل. والفعل المضارع مواجهة مباشرة مع القارئ، ووضع الاستنتاج أمامه، ومطالبته برؤيتها بعد الاستدلال السابق؛ فهي النتيجة بعد المقدمة. وكثيرا ما يرتبط المضارع بالماضي على التبادل، وهو مسار معياري للفكر يعبر عن نفسه بأفعال يجب وينبغي. ويأتي المستقبل بعد الإعلان عما تم في الماضي وما يتم في الحاضر انتظارا للنتيجة، وغالبا يأتي بمفرده ومرتبطا بالمشيئة الإلهية. الغالب على العبارات إذن أنواع الأزمنة الثلاثة التي تحدد مسار الفكر ومراحله، من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، من المقدمات إلى الاستدلال إلى النتائج. الزمان هنا زمان الاستدلال؛ أي لا زمان. وإذا كان هناك خطأ في المسار يتم تصحيحه عن طريق إعادة ترتيب المقدمات وتحديد الغاية والقصد وتحقيق اتساق الفكر.
47
مسار الفكر كله نظرية في الإيضاح. وقد يطول الربط بين الفقرات ويصبح تلخيصا للسابق واستعدادا للقادم، إعلانا لوحدة الفكر وتكامل العلوم، ولحصار الاستطراد بين قوسين، ومع ذلك تأتي أهمية الإيجاز، ويتم التذكير بالعودة على البداية لحصار الاستطراد والخروج على الموضوع؛ مما يدل على وحدة الفكر والقصد والغاية. ومسار الفكر مسار إشكالي، يعرض الإشكال وحله، القضية وعلاجها، المادة وإكمالها؛ مما يتطلب وضوح الغاية والقصد، وتحديد المسار بدقة من المنطلقات الأولى حتى النتائج الأخيرة.
48
ونظرا لأن التفكير تجربة مشتركة بين المؤلف والقارئ، فتظهر صيغة الأمر على أساس أنه فعل مشترك، خطوة ضرورية إما في الشخص الثاني المخاطب، مثل «فاعلموا»، أو في الشخص الأول المتكلم، مثل «فلتعلم»، أو الغائب «فليعلم» مفردا أو جمعا. وهي نتيجة أمرية للبرهان، وضع للشعور أمام موضوعه، ودعوة مباشرة إلى الرؤية.
49
ونظرا لأن مسار الفكر استدلال واستنتاج تظهر حروف التعليل، لذلك، لهذا. وتذكر ألفاظ التعليل صراحة، مثل الأسباب. فالفكر البرهاني والفكر العلمي كلاهما يقوم على التعليل في المنطق وهو الاستغراق، وفي العلم وهو العلية، ويجمع القياس الشرعي بين الاثنين.
50
كذلك تظهر حروف الشرط والاستنتاج، مثل «ولما»، وأفعال الشرط وجواب الشرط؛ فلا مقدمات بلا نتائج، ولا نتائج بلا مقدمات.
51
وأحيانا تبدأ الفقرات بالأسماء تتلوها الأفعال، وليس بالأفعال وحدها تتلوها الأسماء؛ مما يدل على أن المؤلف يتعامل مع موضوعات وليس مع أقوال، مثل الغاية، القصد، الغرض الذي يبين اتجاه مسار الفكر نحو غاية. كما يبين اسم الموضوعات ، مثل: الإنسان، الفضيلة، السعادة، الكمال، قوى النفس، العدالة، الصداقة كمبتدأ في الجملة الاسمية يكون الفعل خبرها.
52
بل يشترك الناسخ مع المؤلف في إعادة إخراج النص وتقطيعه إلى فقرات حتى يسهل فهمها والتعرف على استدلالاتها، مقدماتها ونتائجها. ويذكر أمام كل فقرة باسم المؤلف مع طلب الرحمة له. وأسلوب القول هو أسلوب المؤلفين وليس الشراح فقط، يستعمله المؤلف طلبا للتوفيق. وأسلوب التأليف عربي جيد؛ مما يميز التأليف على العرض، ويميز كليهما على الشرح والتلخيص والجوامع، وهو مكتوب للخواص. وهناك إحساس بقصر العمر وطول المشروع؛ فالبيان جهد لا يتوقف. ويقوم العلم على الاتساق.
53 (ب) «في النفس والعقل»، ويقوم تمثل الوافد على سؤال عن الوافد والإجابة عليه بوصفه في الموروث المباشر أو في التصور العام للموروث، مثال ذلك «في النفس والعقل»؛ فإنها جواب على سؤال وحل شكوك في الجوهر، وهو موضوع مشترك بين الوافد والموروث، قضية الحس والعقل عند الغزالي، وحجج أنصار الحس لإنكار العقل والمعاني الكلية والموضوعات المفارقة، وأنصار المنهج الاستقرائي الذين يريدون الانتقال من الجزء إلى الكل عن طريق الحواس، وليس إدراك المعاني العقلية بالعقل، وضرورة إثبات الوعي الخالص تحت العقل وفوق الحس، والشعور بالله في النفس. وهو نوع أدبي فقهي، أحكام السؤال والجواب، يتجاوز الوافد والموروث إلى بداية الإبداع الخالص بالتوجه نحو الموضوع وسبر غوره والتعبير عنه.
54
ومن الوافد يتصدر روفس الطبيب، ثم أرسطو والحكيم، ثم أفلاطون، ثم جالينوس، ثم أبقراط وسقراط، ثم ثامسطيوس والإسكندر.
55
وروفس الطبيب نموذج الشاك القديم في المعرفة، بصرف النظر هل هو وضع سؤال الشك في الحس والعقل أم أن ذلك تأييد سؤال الشك الأعم بواقعة تاريخية خالصة. يعتمد السائل الشاك على قول روفس وحجته في كتاب «الماليخوليا»، الذي يتضمن أساس الشك التام بناء على خطأ الحواس والوهم والتخيل. ولما كان العقل يعتمد على مادة الحس السابقة عن طريق التذكر فإنه يكون أيضا عرضة للخطأ؛ فهناك أوهام لا يمكن مشاهدتها بالحس؛ وبالتالي يمكن الشك في الجواهر الروحانية لأنها جزئيات لا تدرك بالحس. الشك في الحواس إذن مقدمة لإنكار الجواهر الروحانية، أو ما يسمى بالإلحاد حاليا.
56
ولا يرفض مسكويه حجج روفس كلها، بل ينقد منها ما يستحق النقد ويقبل ما يستحق القبول، مثل عدم إدراك الكليات لعدم إدراك الجزئيات. ويخطئ عندما يستعمل لفظ «ماليخوليا» عاما، ويطلقه على كل فكر على أنه خاص بمعنى المرض، مع أن الذي يميز الإنسان عن الحيوان هو قوة التمييز. ويستعمل مسكويه حجة جدلية مؤداها أن علم روفس الطبيب ليس ماليخوليا بمعنى المرض، أو الوهم بمعنى الفكر، ثم يعطي حجة إيجابية ضد الشك تقوم على إثبات أن النفس جوهر روحاني لطيف لا كل لها ولا جزء. ويقال نفس الشيء في العقل، استغناء العقل عن المحسوس في البرهان عند العاقل. وينتهي روفس إلى إنكار الوحي والقوى الإلهية والكهانة، ربطا للوحي بالنفس والعقل، أي بطريق المعرفة والسعادة، أكثر من ربطه بالواقع الاجتماعي وحاجة الناس إلى شريعة.
57
يبدو مسكويه هنا فيلسوفا خالصا أقرب إلى الإبداع منه إلى النقل، وأقرب إلى الفارابي في اعتماده على العقل الخالص. والعجيب غيرة ابن سينا منه، ونقد أبي حيان له؛ حسده ابن سينا، وشوه التوحيدي صورته.
58
وتعتبر هذه المقالة نموذج العمل الفلسفي؛ الدعوة ونقضها.
ويعتمد مسكويه على أرسطو لتنفيذ حجج الشك عند روفس، من الذاكرة إذا ما غلبت الكتب؛ فأرسطو قابع في الوعي الحضاري الجديد. ويحال إلى كتاب النفس في نظرية المعرفة وليس الأخلاق. يبدأ مسكويه بقول أرسطو، قول الآخر على لسان الأنا، ويعبر عن معاني أرسطو بألفاظه، كما يعتمد على شراح أرسطو ومفسري كتبه، أرسطو في الوعي الحضاري القديم، خاصة ثامسطيوس. العقل والحس لا يتعارضان، ولا ينفي أحدهما الآخر؛ فكلاهما في النفس. ولقد جمع بينهما الإسلام.
59
وقد بين ذلك الحكماء، أن فعل العقل الذي به يدرك من الحواس، بل يدرك كلياتها فحسب، وهو علم العلم، علم ذات العقل الذي يدرك إدراكه ؛ فالعقل عاقل ومعقول، وعلم من العلوم الأوائل التي لا تحتاج إلى براهين لأنها وضح من البرهان. وإن عدم وضوحه راجع إلى العين التي لا ترى، كالخفاش إذا نظر إلى عين الشمس فإنه يغشى ولا يرى؛ لنقصان في عين المبصر وليس في المبصر. يستعمل مسكويه مثل أرسطو لبيان أن العيب في الذات لا في الموضوع. والانفعال الحسي والانفعال العقلي متمايزان؛ لأن الحس لا يدرك المحسوس الضعيف أو القوي، في حين أن العقل قادر على تصور ما هو دونه. الحس لا يخلو من الجسم، في حين أن العقل لا يفارقه. العقل يدرك ذاته، والحواس تدرك غيرها؛ لذلك كان العقل هو جوهر الإنسان بالحقيقة، وحياته هي الحياة الفاضلة السعيدة. وكان العقل عند الحكيم أبديا مفارقا، لا يفسر بفساد الإنسان، بل جوهر قائم بذاته يستعمل المزاج كآلة له. إن اعتدل حيي الإنسان، وإن انحرف أو بطل مات. والعقل جوهر مفارق، مثل الله والعلة الأولى. ولأول مرة في علوم الحكمة يقتبس مسكويه نصوصا من أرسطو دون خلطها وتعليقه بشرحه، إحساسا بالفرق بين النقل والإبداع، بين الآخر والأنا، كما فعل ابن رشد بعد ذلك في «تفسير بعد الطبيعة»، وكما فعل الفارابي من قبل في «شرح البرهان»، وابن باجه في شروح السماع الطبيعي، احتواء للشرح داخل التأليف.
60
كما يذكر أرسطو في معرض الجمع بينه وبين أفلاطون، وكما فعل الفارابي من قبل في الجمع «بين رأيي الحكيمين» ودون الإشارة إليه، ردا على سؤال هل العقل يأخذ على جهة التذكير أم على جهة الانقداح. وقد اختار أفلاطون الرأي الأول في نظريته في أن العلم تذكر والجهل نسيان، واختار أرسطو الرأي الثاني عن طريق المحسوسات. ولا خلاف بين الطريقين؛ تذكر العقل بالمعقولات ونسيانه بالبدن، وهو طريق أفلاطون، وإدراك العقل من خلال الحس، وهو طريق أرسطو. إنما الخلاف في كيفية النظر إلى المعرفة من أعلى كما يفعل أفلاطون، أم من أسفل كما يفعل أرسطو؛ استنباطا عند أفلاطون، أو استقراء عند أرسطو؛ من الله إلى الإنسان عند أفلاطون، أو من الإنسان إلى الله كما هو الحال عند أرسطو. أرسطو يعلم الحكمة من الترقي من الأشياء الطبيعية، وأفلاطون ينحدر من الأمور الإلهية؛ ومن ثم يجمع مسكويه المنظومتين في منظومة واحدة طبقا لمنهج التوحيد بين الجزئيات. ويشارك سقراط أفلاطون في منظوره الإشراقي، طرح البدن، والانصراف عن الانشغال بالحواس حتى يدرك الأمور الروحانية. ويقتبس مسكويه نصا من سقراط كي يتحدث بلسانه أو يتركه هو يعرض رأيه بألفاظه، ويعتمد سقراط على ذلك لإثبات أن النفس مفارقة للبدن.
61
وكما يجمع مسكويه أفلاطون وأرسطو في منظور واحد، كذلك يجمع بين العقل والحس، بين أفلاطون وأبقراط في منظور واحد، بين العقل والمزاج؛ فمن الطبيعي أن يجعل أبقراط الطبيب القوى كلها عن المزاج، أن ينظر إلى المبادئ الطبيعية دون الذهاب إلى ما وراءها. ومن الطبيعي أن يجعل أفلاطون الفيلسوف المزاج مجرد آلة. العقل وحده هو القادر على الذهاب إلى ما وراء الطبيعة للنظر في المبادئ كلها إلى أن ينتهي إلى مبدأ المبادئ، وهذا لا يتأتى إلا بإماتة شهوات البدن للحصول على الحياة الأبدية؛ لذلك قال أفلاطون: «مت بالطبيعة، تحيا بالإرادة.»
62
كما يحيل مسكويه إلى جالينوس الذي يرى أن التفكير يفسد، كما فسد تفكير مشاط الصوف ثاوسيس حين ظن أن البساط يتألم، فرمى به من فوق ليؤلمه لما غضب عليه. هناك فكر خاطئ يصححه الفكر الصحيح بعد أن يعرف علة الخطأ. أما الروحانيات فليست فكرا فاسدا مثل مشاط الصوف ما دمنا لا ندركها جزئيا ولا كليا؛ ومن ثم تكون موضع شك كما قال روفس. هنا يعيد مسكويه تفسير جالينوس لحمايته من نظرية روفس المادية. كما يذكر مسكويه الشكوك التي أوردها البعض على الإسكندر احتراما لآراء الآخرين، وإعطاء كل ذي حق حقه بالنسبة إلى العقل المفارق، مع أنه أيضا رأي مسكويه. ويضرب المثل بالإسكندر الأكبر وزمانه، وهو زمان الآخرين، على زمن حركات الأفلاك ونسبة بعضها لبعض.
63
ويحيل مسكويه إلى الحكماء على الإطلاق، لا فرق بين حكماء اليونان وحكماء المسلمين؛ فالحكمة تجمعهم. فمن كلامهم أن للعقل فعلا خاصا به، جهة من النظر ليست مبادئ للحواس. ليس العقل فقط العلم، بل علم العلم، علم العقل بذاته. كما يحيل إلى الطبيعيين وإجماعهم على أن اثنين من العناصر الأربعة فاعلان، هما الحرارة والبرودة، واثنين منفعلان، الرطوبة واليبوسة، وكل واحد من هذه الأربعة أصل في نفسه لا يتولد عن الآخر، وإنما يستحيل بعضها عن بعض. ويحال إلى كتاب النفس وإلى الأخلاق والجوامع.
64
وما زالت بعض الألفاظ معربة، مثل ماليخوليا.
65
ومن الموروث لا يذكر علم واحد، بل ذكر شيخ الفلاسفة والمتكلمون وبعض الأئمة؛
66
فالمتكلمون هم واضعو لغة ومصطلحات وإن لم يضعوا موضوعات، والموضوع واحد في كل العلوم. الله ليس جسما ولا جزءا من جسم؛ أي ليس بذي عظم، ولا شاغلا لحيز، ولا محمولا في جسم؛ أي عرض بعبارة المتكلمين. وذكر أحد الأئمة لقوله إن الله لا يعرف بشيء، بل ويعرف كل شيء بالله. وذكر أيضا شيخ من الفلاسفة عندما سأل رجلا أكمه عما يتصوره من البياض، فقال «خلو.» وكذلك من فقد قوة العقل في معقولاته فإنه لا يتصور منها أشياء، ولا تنفعه أوهامه التي حصلت فيها من المحسوسات. ويظهر الأسلوب العربي الشائع في التأليف مثل: اللهم، لعمري. كما تحدث مقارنة بين الحكيم والنبي، الأول يعرف بالعقل، والثاني بالإلهام وبعناية إلهية.
67
إنما ذكر الموروث الأصلي، القرآن دون الحديث، ثلاث آيات من القرآن الكريم؛ الأولى لتأييد عدم احتياج المعقولات للحسيات للبرهنة عليها عند العاقل، واحتياج الذي لم يرتض لذلك بالرغم من المسافة الشاسعة بين المثل والممثول، مثل:
الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح . والثانية أهمية المثل لفهم المعقولات، مثل العقل في النفس كالعين في البدن، أو الربان في السفينة؛ فالمثل ينبه الإنسان، ويوجهه نحو مطلوبه، ويتدرج به من الحس إلى العقل
ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون . والثالثة إثبات أن أوائل العقول لا تحتاج إلى برهان، وإلا تسلسلت البراهين إلى ما لا نهاية، وكذلك الانتهاء إلى معرفة الله، فإن الناس تظن أنهم عرفوه، ولكن
إن الظن لا يغني من الحق شيئا ،
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون . وكما تبدأ الرسالة بالبسملة والترحم على المؤلف، وطلب التوفيق والاعتماد على المشيئة والعون والقوة وسط الرسالة، تنتهي الرسالة بالحمدلة والصلاة والسلام على النبي وآله.
68 (ج) آليات الإبداع. وتظهر آليات الإبداع في الأجوبة والأسئلة كنوع أدبي، وهو نوع فقهي معروف في أحكام السؤال والجواب في علم الأصول. هو سؤال من شاك في قدرة العقل على معرفة الكليات، والحس على معرفة الجزئيات، لضرورة وجود كل منهما، الحاس والمحسوس، مرتبطا بالآخر.
69
وإذا كان الحس أو العقل مصدرا للعلم، فكيف تكون الثقة بالأمور الخارجية عنهما؟
70
ويعتمد الشاك كلمة حق يراد بها باطل، قول أرسطو «من فقد حسا فقد فقد علما». والأخطر في السؤال هو الانتقال من الشك في المعرفة إلى الشك في الوجود، ومن الشك في أدوات المعرفة، الحس والعقل، إلى الشك في موضوع المعرفة، العالم الخارجي أو الوجود المطلق، وما يترتب على ذلك من إنكار الوحي لمعرفة تفوق الحس والعقل وإنكار وجود الله، الجوهر البسيط القائم بنفسه.
71
ويرد مسكويه على اعتراض الشاك بطريقتين؛ الأولى منهجية، والثانية موضوعية؛ فالسائل أخطأ في المنهج؛ فليس كل العقل في الحس.
72
هناك أوائل العقول. صحيح أن الكل والجزء إضافيان، ولكن لا يرد الكل إلى الجزء. والأوائل هي التي تحكم على الحس وليس العكس. كما أن عدم تحديد معاني الألفاظ سبب الأخطاء في الفهم طبقا لمنطق الأصوليين؛ ومن ثم أتت أهمية تحديد معاني الألفاظ، المطلق والمقيد، والمجمل والمبين، كما هو الحال في معنى ماليخوليا. المطلق أي الفكر الصحيح، والمقيد أي المرض والوهم. وتنشأ الفلسفة من التعبير بالألفاظ الشائعة عن المعاني العويصة. كان يمكن للشاك ملاحظة عيوب وضع سؤاله ويرد عليه بنفسه، ولكن مسكويه يرد عليه بالعقل وبالنقل، بالبداهة وبالنصوص، لإثبات إمكانية المعرفة؛ وبالتالي اليقين الذاتي الموضوعي، المعرفي والوجودي.
73
أما الطريقة الموضوعية فإنها تقوم على التمييز بين العقل والحس، وجعل العقل مستقلا عن الحس وليس تابعا له. وبالرغم من ظهور الحس قبل العقل في الزمان إلا أن العقل مقدم على الحس بالذات.
74
والفرق بين الحس والعقل أن في الحس الحاس غير المحسوس، في حين أنه في العقل العاقل هو المعقول. العقل وعي بذاته، عقل وعاقل ومعقول. ثم أطلق التشبيه على الله في عملية التشكل الكاذب. والنفس حس وعقل، والشيء هيولاني وروحاني؛ ومن ثم يتطابق الذات مع الموضوع، المعرفة والوجود. تبدأ نظرية المعرفة بتحليل وسائل المعرفة، الحس والعقل، حتى يثبت موضوع المعرفة الصور المفارقة والجواهر الروحانية، وإن إثبات هذا الجوهر الروحاني موجود لدى كل الشعوب وإن اختلفت طريقة التعبير عنه. ويقسم مسكويه السؤال إلى عشرة أقسام، تفكيكا له وتحليلا للموضوع، ابتداء من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، لمعرفة الهدف النهائي للشك، وأنه في الظاهر نظرية في المعرفة، وفي الحقيقة نظرية في الوجود، أطولها القسم العاشر عن الإلهيات، يتلوه القسم الأول عن الحس والعقل، وأصغرها القسم السادس عن الروحانيات الخارجية من الحس، والسابع عن الطبيعيات الدالة على ما بعد الطبيعة، والتاسع من الطبيعيات إلى ما بعد الطبيعة.
والتأليف كله نظرية في البيان والإيضاح وإثبات العلم اليقيني؛ لذلك ظهرت أفعال البيان في معظم الفقرات في الأزمنة الثلاثة، بينا، نبين، سنبين؛ أو أسماء البيان، مثل مبين، تبيين. وكذلك أفعال الشرح، مثل شرح، كشف، وضح، في الأزمنة الثلاثة وفي الأسماء.
75
وهو اللفظ الرئيسي في رسالة الشافعي في علم الأصول. وفي نفس الوقت يرتبط المسار الفكري بمنطق البرهان والاستدلال بداية ووسطا ونهاية؛ مما يبين أهمية الفواصل في النسق والخطاب المنطقي بلا فجوات أو قفزات حتى الوصول إلى الغاية القصوى، السؤال العاشر، الحديث عن الله والأفعال قبل الذات. ومنطق البرهان يفرض نفسه، سواء كان دائريا كما هو الحال في البرهان العلمي، أو طوليا مستقيما كما هو الحال في البرهان الديني والانتهاء إلى علة أولى. ويحافظ مسكويه على المستوى الرفيع للمناقشة احتراما للسائل وافتراضا لمستواه العالي في الذكاء، سواء كان ذلك حقيقة أم تهكما، تريبة له أم استمالة، موضوعيا أم ذاتيا؛ تأدبا من مسكويه.
76
ويتضح المسار الفكري في وضوح القصة وتحديد الغاية والهدف، وعدم الخروج على الموضوع، والتنبيه على الاستقراء، والعود إلى الموضوع، وبعد استيفاء مرحلة يعد مسكويه ببيان الجزء الثاني فيما بعد، بعد الفراغ من هذه المرحلة. وبعد استيفاء الموضوع يكتفي بهذا القدر منه. ويحيل إلى السابق تأكيدا على وحدة العرض والموضوع؛ فالفكر له مساره ومراحله ، في الماضي والحاضر والمستقبل، كخطوات في منطق الاستدلال، وانتقالا من العام إلى الخاص. كل ذلك في تجربة مشتركة بين المؤلف والقارئ، وفي عمل مشترك؛ فالعلم قضية، والقضية واحدة. العلم عالم شعوري مملوء بالشجون والهموم التي تعبر عن نفسها في أقواس وافتراضات مطلوب نفيها أم إثباتها. الرسالة وحدة موضوعية واحدة، يحيل المتقدم فيها إلى المتأخر، أهم ما فيها الجزء العاشر من السؤال، نهاية المطاف، وأطول الأقسام.
77
وقد تم تقطيع النص من الناسخ عدة مرات، والإعلان عن لقبه واسمه مع الترحم عليه،
78
وأكثرها قال أبو علي رضي الله، ولا يذكر قول أحد بإحدى صيغ فعل القول إلا ويرد عليه مسكويه بقول في صيغة المفرد «أقول»، أو الجمع «قلنا». ويقوم مسكويه بتقطيع السؤال حتى يتم تفنيده جزءا جزءا، يشرح القول الداخلي من السائل ثم القول الخارجي من أرسطو.
79
ونظرا لصعوبة معرفة الترتيب الزماني لأعمال مسكويه إلا إذا أشار هو إلى ذلك، فإن «في اللذات والآلام» و«في النفس والعقل» يدلان على عمق ونضج؛ مما يدل على بداية التحول من النقل إلى الإبداع، من إخوان الصفا والتقابل بين العالم الكبير والعالم الصغير، حتى ابن رشد والتفرقة بين الأقاويل الجدلية والخطابية.
80
رابعا: ابن سينا، والبيروني، وابن الهيثم
(1) ابن سينا
وتمثل بعض رسائل ابن سينا والبيروني هذا النوع الأدبي، تمثل الوافد قبل تنظير الموروث. (أ) ففي الرسالة «الأضحوية» لابن سينا (428ه)، يذكر أرسطو أولا، ثم أفلاطون، ثم فيثاغورس، والإسكندر حكيم اليونانيين،
1
كما يذكر برزجمهر من الوافد الشرقي، وثابت بن قرة، مبينا الواقع المحلي، واعتمادا على الترجمة وعصرها.
يذكر أرسطو في معرض مناقضته القائلين بالتناسخ من أجل إبطاله، والاستشهاد به في إثبات أن النفس ليست من المفارقات، وإثبات خطأ ذلك في ما بعد الطبيعة. وإذا كانت في حال تفارق المادة فليست من الهيئات المتعلقة بالمزاج البدني؛ وبالتالي ليست حادثة بحدوث البدن. وقد ذكر أرسطو في كتاب «النفس» أنها صورة للبدن وكمال له، وعدم اتفاق الأنواع في الصورة الفضلية بالكمال؛ فمن قال إن النفس تدخل بدنا غير الإنسان فإنه جعل صورة الزمان جائزة أن يدخل فيها آلهة الشجر. يحارب أرسطو هنا معركة ابن سينا لأبطال التناسخ، كما يحارب ابن سينا معركته على لسان أرسطو. يبين ابن سينا جوهرية النفس في شرحه لكتاب أرسطو، والذي يبين فيه أن النفس الإنسانية، وهي النفس الناطقة، ليست منطبعة في مادة، ولا قائمة بالجسم؛ فالشرح لا يعبر فقط عن المشروح بل عن الشارح، واستعمال المشروح، وهو أرسطو، لشرح موقف الشارح، وهو ابن سينا. أرسطو هو الشارح لابن سينا، هو الجهاز العقلي الأمثل لتوضيح رأي ابن سينا.
2
الشرح خطوة نحو التأليف وتمهيد له. ذكر ابن سينا أرسطو دفاعا عن شرحه الخاص ضد أخطاء الشراح اليونان مثل الإسكندر؛ فالمسلمون أكثر فهما لأرسطو من الشراح اليونان؛ فقد ظن الإسكندر أن النفوس الناقصة على الإطلاق تفسد بفساد البدن، وهو غير صحيح، ولا هو مذهب أرسطو؛ لأن النفس باقية اضطرارا. وقد اعتمد عليه القائلون بتناسخ النفوس الناقصة بأن السبب فيه طلب الكمال بتوسط الآلات البدنية، كما قال حكيم اليونانيين إن النفس هبطت لترثاش.
3
ويئول ابن سينا آراء أفلاطون وفيثاغورس في التناسخ على أنه رمز وتخييل وتصوير، أي أنها أقوال أدبية، دفاعا عن موقف أرسطو. والتأويل منهج إسلامي لرفع التناقض بين النقل والعقل، بين أفلاطون وأرسطو. كما يستعمل ابن سينا دفاعا عن أفلاطون وبرزجمهر التشكك في الروايات المنقولة عنهما المتعلقة بالتناسخ، وهو أيضا منهج إسلامي في التيقن من صحة الأخبار أولا قبل تفسيرها أو تأويلها. ويختتم ابن سينا بثابت بن قرة بمذهب عجيب، انفصال النفس عن البدن في جسم لطيف. ويعتبر ذلك مجرد رمز أو صورة في حاجة إلى تأويل مثل أفلاطون وفيثاغورس. فالمترجمون فلاسفة أيضا، ويتفقون معهم في إبطال القول بالتناسخ. تلك صورتهم عند الفلاسفة، وليس مجرد نقلة. والأحرى أن تكون هذه أيضا صورة الحكماء عن أنفسهم وليس فقط عن غيرهم.
4
ويشير ابن سينا إلى الحكماء دون تحديد لهويتهم أو حضارتهم؛ مما يدل على أن المهم هو الموضوع لا الشخص، الأفكار المنتشرة في البيئة الإسلامية حتى يتم احتواؤها إن كانت مخالفة، أو الاستشهاد بها إن كانت موافقة. وقد لا تكون هناك شخصيات تاريخية بعينها، بل مجرد أفكار شائعة في البيئة الثقافية يذكرها ابن سينا؛ فالفكرة تخلق قائلها بصرف النظر عن هويته كما هو معروف في الانتحال. ويذكر آراءهم في النفس ولا يرفضها ما داموا لا يقولون بالتناسخ، منها التذاذ النفوس الخيرة ببعضها وألم النفوس الشريرة ببعضها؛ فالطيور على أشكالها تقع. العاقل يعقل ذاته، ويعقل مثل ذاته أضعافا، يعقل مبادئ عقلية هي أسبابه. ومنها اتصال بعض النفوس بعضها بالبعض الآخر على سبيل التأثير فيها خيرا أم شرا؛ نظرا لتعلق النفوس والأمزجة بما يشابهها دون تدخل الأبدان. ومنها الاتصال العقلي الروحي الصرف بلا أبدان؛ وذلك أن القوة الوهمية تفارق المادة بتوسط وبسبب القوة النطقية، فتكون مطلعة على المعاني الموجودة في عالم الحس؛ فالطبيعة لهذه المعارف بدن، والمعارف الجزئية لها صلة بالأبدان، وليست المعاني الكلية. ومنها اعتماد البعض على القول بالتناسخ لتبرير وجود الشياطين والجن؛ فالشريرة تقوم بأفعال الشر وعلى اتصال بالأشرار مثل الشياطين، والخيرة منها تقوم بأفعال الخير وعلى اتصال بالأخيار مثل الجن. ويخصص ابن سينا القول الأخير بقول بعض العلماء بين العموم والخصوص، وهو مصاحبة النفس بعد التجرد لبعض الهيئات الطبيعية بسبب حمل القوة المتوهمة؛ فهي عند الموت شاعرة بالموت، وبعد الموت متخيلة نفسها على صورة الإنسان الذي مات، سعيدة أو شقية، ناقلة ما كان عليه حالها في الدنيا، قياسا للغائب على الشاهد؛ فنشأ عذاب القبر ونعيمه، واعتبرت النشأة الثانية على هيئة النشأة الأولى، وكما هو شائع في تاريخ الأديان منذ قدماء المصريين. فلا عجب أن تتخيل النفس كل ما في كتب الأنبياء من الجنان والحور العين على ما شاهدته في الدنيا، وما أكثر الرموز والألغاز في ذلك. وهنا يتفق الحكماء مع المعتزلة على تأويل الأخرويات على نحو مجازي ، قياسا للغائب على الشاهد.
5
ويظهر الموروث الأصلي من القرآن والحديث في خمس موضوعات إشراقية خالصة.
6
وموضوع النفس موضوع موروث. النفس مذكورة في القرآن وفي الكتب السابقة، وتعرضت لها الأمم السالفة. يتحدث القرآن عن النفس المطمئنة ورجوعها إلى الله راضية مرضية، ولا يتم الرجوع إلا لمن منه الورود. ويرفض ابن سينا تأويل آيات القرآن بحيث تفيد التناسخ؛ فالمعركة مع الموروث أيضا وليست فقط مع الوافد ومع أنصار الوافد في الموروث؛ أي التابعين للغرب اليوناني القديم. كما يستشهد بالقرآن لمعرفة أين الحقيقة والمجاز فيه، وهي نفس الآيات المذكورة عند علماء الكلام في موضوع التنزيه والتشبيه. كما يعطي نماذج من سوء تأويل الفرق الضالة للقرآن، واعتبارها الحيوانات غير الناطقة أمما مثل البشر، وهي كذلك بالقوة وليست بالفعل. المعاد إذن هو المعاد الروحاني، وهو ما أثبتته العقائد. كما يستشهد ابن سينا بالشريعة الإسلامية، وأنها أكمل الشرائع؛ وبالتالي كانت الملة الإسلامية خاتمة الملل بحديث نبوي، أن الرسول إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق. ولا يريد ابن سينا الإطالة في ذلك لأنه خارج موضوع علوم الحكمة طبقا لتصنيف العلوم عند المسلمين. والمعاد للنفس وحدها دون البدن.
7
ويلجأ ابن سينا إلى اللغة العربية لتحديد ماهية المعاد استنادا إلى المعنى الاشتقاقي للفظ. الموضوع موروث، والمنهج موروث، واللغة موروثة. والمعاد اشتقاقا يفيد المكان لا الزمان، من العود، أي للشيء وليس الوقت. العود هو المكان أو الحالة التي كان عليها الشيء. أما عند الصوفية فالمعاد من العود إلى الأصل، والحنين إلى عهد الذر الأول قبل الخلق. وفي اللغة حقيقة ومجاز، ويقع الخلط عندما لا يحدث التمييز بينهما، ويمنع اتفاق فصحاء العرب على المجاز والحقيقة من هذا الخطر. ولم يستعمل الوحي لغة الفلسفة المنزهة المجردة للتعبير عن التوحيد، بل عبر عنه مجازا، ولم يصرح به حقيقة. وإذا اختلف الحكماء في المعاني المجردة، فكيف حال العبرانيين، أهل الوبر من العرب؟ وقد امتنع الوحي من استعمال لغة الفلسفة المنزهة المجردة للتعبير عن التوحيد لعدم استطاعة العرب العاربة أو العبرانيين والأجلاف فهمه، وإلا عاندوا واعتبروا الإيمان عدما. هذا هو سبب التشبيه في الوحي.
8
وقد ضم ابن سينا العبرانيين مع العرب على أنهما شعبا الوحي. وقد يكون ذلك نقدا مبطنا لعلم الكلام، أنه صعب على الجمهور، وكما عبر الغزالي في «إلجام العوام عن علم الكلام».
9
ولو كلف الله رسولا إلقاء حقائق الأمور للعامة وللجمهور الغليظ الطباع المرتبط بالحس من أجل إدخال الإيمان في قلوبهم ورياضة نفوسهم، لكلفه ما لا يطيقه إلا أن يدركه بخاصة إلهية وإلهام سماوي. حينئذ يكون الرسول في غنى عنه، ويكون تبليغه لا حاجة منه. والقرآن كتاب عربي، به استعارة ومجاز على عادة اللسان العربي، كما أن الكتاب العبراني كله تشبيه صرف، ليس كله محرفا؛ فهو موجود بين أيدي الأمة كلها في أطراف متنامية، وهم أمتان، يهود ونصارى، متعاندتان، وأهواؤهم متباينة. يغلب ابن سينا التأويل للمتن على الشك في صحة الرواية، ورد الشرع إذن لمخاطبة الجمهور بما يفهمونه بالتشبيه والتمثيل. والنتيجة أن ظاهر الشرع ليس حجة، ولا بد من التأويل للتمثيل والتشبيه، وشرح الأمور البرهانية لفهمها وتقريبها إلى العامة؛ فلا يكون شيء حجة على شيء إلا إذا كان من نفس النوع. تؤدي الحرفية في فهم اللغة إلى المادية في تصور الشيء، ويؤدي التأويل في اللغة إلى الروحانية والمعنوية في تصور الأشياء. هناك إذن خطابان؛ خطاب للعامة وخطاب للخاصة. الأول يقوم على التشبيه والتمثيل، والثاني يقوم على التأويل والبرهان، انتقالا من النقل إلى العقل، ومن الكلام إلى الحكمة؛ وبالتالي يفتح الفلاسفة طريقا للتعامل مع الكتب المقدسة عن طريق التأويل على خلاف طريقة الفقهاء، ابن حزم مثلا لإثبات التحريف. ويتفق طريق الفلاسفة مع طريقة الأصوليين في مقاصد الشارع، وضع الشريعة للأفهام.
10 (ب) وبالرغم من أن «المبدأ والمعاد» لابن سينا في موضوع موروث، الله والفيض والنفس، تلخيصا من إلهيات «الشفاء»، إلا أن الوافد يتصدر الموروث على غير عادة ابن سينا في الصمت عن مصادره.
11
ويتكون من مقالات ثلاث؛ الأولى: «في إثبات المبدأ الأول للكل ووحدانيته وتعديد صفاته التي تليق به»، وتشمل اثنين وخمسين فصلا، وهي أكبر المقالات. والثانية: «في الدلالة على ترتيب فيض الوجود عن وجوده مبتدأ عن أول موجود عنه إلى آخر الموجودات بعده»، ويشمل أحد عشر فصلا. والثالثة: «في الدلالة على بقاء النفس الإنسانية والسعادة الحقيقية الأخروية والتي هي سعادة ما وغير حقيقية، والشقاوة الحقيقية الأخروية والتي هي شقاوة ما غير حقيقية»، وتشمل عشرين فصلا. والغاية التوضيح للغامض، والإعلان للمستور والمكتوم، وجمع المفرق وبسط المجمل، في حدود قصر العمر وهموم الزمان.
12
ويراجع ابن سينا أخطاء السابقين، ويكتشف خطأ الأصول التي تقوم عليها،
13
ويرصد المغالطات، ويبين الصحيح وأوجه الاستحالة في الأفكار الخاطئة، ويتحقق من صحة المعاني بدقة وتفصيل.
وابن سينا هو الذي يقول دون غيره؛ فالمقال تأليف مباشر؛ لذلك تكثر صيغة «قلنا»، و«نقول»، و«أقول قولا مرسلا». وقد تستهل صيغة المبني للمجهول «يقال» حتى لا يتشخص الفكر.
14
كما تظهر أفعال البيان في صيغة «من البين»،
15
أو أفعال الإيضاح مثل «يتضح». ويخاطب ابن سينا القارئ في صيغة «واعلم»؛ فالفكر تجربة مشتركة، والحقيقة اشتراك بين طرفين.
16
والفكر يبحث عن الأسباب والعلل؛ فهو فكر استنباطي استدلالي يعتمد على اتساق النتائج مع المقدمات، وفكر طبيعي يبحث عن العلل.
17
ويتخيل ابن سينا الاعتراض مسبقا في صيغة «فإن قال قائل»، ويأتي جواب الشرط «فإنا نقول».
18
والمقال كله قائم على قصد واحد وغرض يتجه نحوه الفكر، والذي يذكر بالاستطراد كلما حاد الفكر عن المطلوب إثباته.
19
ويتصدر الوافد على الموروث. يأتي أولا الفيلسوف، أي أرسطو غير مشخص، ثم بطليموس، ثم الإسكندر وثامسطيوس وأفلاطون، ثم بوليموس شخصية أسطورية.
20
ومن الفرق المشاءون المحصلون، علماء المشائين، وهم الذين ورثوا أرسطو، في الطبيعة وما بعد الطبيعة وأثولوجيا؛ أي الربوبية.
21
ومن أسماء الكتب: السماع الطبيعي، ما بعد الطبيعة.
22
وما زالت تستعمل بعض الألفاظ المعربة، مثل «الأسطقسات».
23
ومن الموروث محمد بن إبراهيم الفارسي الذي صنف له ابن سينا الكتاب، ملك من الساميين.
24
ومن كتب ابن سينا يحال إلى تلخيص كتاب النفس، وتلخيص كتاب الحس والمحسوس، والكتب المنطقية، والبرهان.
25
وتظهر عادة العرب في الإشارة إلى زيد وعمرو.
26
وتظهر آية قرآنية واحدة، هي
يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور . وتظهر بعض العبارات الإيمانية، مثل «تعالى الله الغني عن كل شيء».
27
وبعد البسملة في البداية، والحمدلة في النهاية والصلاة على محمد وآله الطاهرين، يدعو ابن سينا الله تعالى أن يجنبنا الزلل والاستبداد بالرأي الباطل، واعتقاد العجب فيما نرى ونفعل، ونهاية باسم الناسخ وسنة النسخ.
28
وبعد البسملة في البداية والحمدلة في النهاية، وتظهر العبارات الإيمانية، مثل: والله المستعان، وبه الحول والقوة.
29 (ج) وفي «مبحث عن القوى النفسانية» يذكر ابن سينا أفلاطون ثم أرسطو وأسقليبوس والقرآن، في الفصل السادس في تفصيل القول في الحواس الخمس وكيفية إدراكها.
30
ذكر أفلاطون وأرسطو في سياق واحد من أجل التوفيق بينهما في موضوع البصر؛ فقد اختلف الفلاسفة في إدراك القوة المبصرة؛ شعاع من العين إلى الشيء عند أفلاطون، أو شعاع من الشيء إلى العين مثل انطباع الصورة في المرايا وهو رأي أرسطو. وهناك رأي ثالث بالتقاء الشعاعين، القوة المتصورة والمحسوسات المرئية. ويؤيد ابن سينا رأي أرسطو، وينقد رأي أفلاطون ببراهين عقلية وتجريبية تتشكك في وجود هذا الشعاع ومكانه، خاصة وأن أفلاطون ينكر وجود الخلاء. في حين أن الفارابي قد أخذ الرأي الثالث، الشعاع المزدوج، ومقابلة العين بالشيء. وقد لا يذكر أرسطو صراحة لأنه هو الحقيقة، ويذكر تعريفه للنفس دون اسمه ثم تكملة تعريفه بعبارة شارحة تخرجه من مصطلحاته وأحكامه العقلية إلى معان طبيعية حية يعرفها كل الناس، ويحيل الفكر من الخاصة إلى العامة. وبالرغم من وصف كل من أرسطو وأفلاطون بأنهما فيلسوفان، إلا أن ابن سينا ينتسب إلى أرسطو دون أفلاطون، إلى الواقعية والموضوعية والعلم دون المثالية والذاتية والإشراق؛ لذلك يحاجج ابن سينا أفلاطون. فلو كان الشعاع من العين إلى الشيء لما احتاج البصر إلى الضوء الخارجي، ولأدرك في الظلمة، وأنار الهواء. ولو كان هذا الشعاع بالعين لكان خروجه محالا، ولو بجسم غير العين فلا بد له من حامل، وهو وهم. وهذا الجسم إما أن ينبعث من العين وهو الافتراض الأول الواقعي؛ وبالتالي لا يبصر كل ما تحت السماء؛ لأن الجسم لا ينفذ في الجسم إلا إذا نقل الجسم الجسم، ولا يمكن القول بالخلاء لأن أفلاطون ينكره، أو أن يبصر الجسم الجسم المقابل له مثل الماء، أو أن يكون الجسم متوسطا بين الذات والموضوع ليقوم به الضوء. وكلما كان الجسم أقرب إلى العين كان الضوء أقوى؛ فلا حاجة إذن إلى جسم متوسط. ثم ينقد ابن سينا الرأي المتوسط الثاني، القوة المتصورة التي تلاقي بذاتها المحسوسات المبصرة لأنها كانت في الحس؛ فإنها لا تختلف كثيرا عن أفلاطون. وأين يتم هذا التلاقي، في العين أم في الشيء أم بينهما في الخلاء أو الملاء؟ وعيوب هذا الرأي الثاني أنه لا يفرق بين الغائب والحاضر، بالإضافة إلى تعطيل الخلقة والتركيب للعين؛ ومن ثم لم يبق إلا صحة رأي أرسطو طبقا لبرهان الخلف.
31
ويتم التزاوج العضوي بين اليونان والقرآن، بين «اعرف نفسك بنفسك» عند سقراط، وتحويلها إلى «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، من البعد الأفقي إلى البعد الرأسي، من الوعي الحال إلى الوعي المفارق، لا فرق بين أقوال الحكماء وأقوال الأنبياء، بين الوافد والموروث؛ مرة إيجابا «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، ومرة سلبا «من عجز عن معرفة نفسه فأخلق به أن يعجز عن معرفة خالقه»؛ مرة بلغة ما هو كائن، ومرة بلغة ما ينبغي أن يكون؛ مرة بتقرير الوجوب، ومرة بطريقة الأولى. إنما الفرق بين الأوائل والأواخر هو الفرق بين العقل والوحي، بين الحكماء والأولياء. والوحي ليس خاصا بالمسلمين، قد يكون أيضا عند يونان. وليس بمستبعد أن يكون الوحي قد هبط على أسقليبوس؛ فقد كتبت هذه العبارة «اعرف نفسك يا إنسان تعرف ربك» في محراب هيكله، وهو يعتبر عند اليونان من الأنبياء ومشهود له بالمعجزات، قدرته على شفاء المرضى بصحيح الدعاء، وكذلك قدرة من تكهن في هيكله من الرهبان، ومنه أخذت الفلاسفة علم الطب. وهو نفس المعنى في المخزون النفسي عند ابن سينا من الموروث الأصلي
نسوا الله فأنساهم أنفسهم . لا فرق بين المسلم والمسيحي نظرا لقول المسيح «ماذا ستربح لو كسبت العالم وخسرت نفسك؟» إنما الخلاف بين الحكماء والأنبياء في أولوية العلة والمعلول. عند الحكماء، الأولوية للإنسان «من عرف نفسه فقد عرف ربه»، وعند الأنبياء تتداخل أولوية الله مع أولوية الإنسان
نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، وهو الفرق بلغة العصر بين العلمانية والدين، بين العقل والإيمان، بين اليونان والقرآن. ويستشهد ابن سينا بالآية تأييدا لنفس المعنى، من نسي ينسى، ومن ذكر يذكر. القرآن والحديث أصل الوافد، رافدان في التأليف معه، خاصة وأن أقوال العلماء والحكماء والأولياء والأوائل في الأنبياء عند الأنا وعند الآخر متشابهة، وتتلاقى على أهمية موضوع النفس كمقدمة لمعرفة الله، إنما الخلاف في العلة والمعلول، عند الحكماء العلة للنفس والله هو المعلول، وفي القرآن العلة لله والنفس هو المعلول، في حين أن الفعل أيضا، فعل النسيان أو التذكر، للإنسان أولا. القرآن والحكمة إذن متفقان، لا فرق بين الوافد والموروث. يؤكد الوافد على الإيجاب، الذكر، في حين يؤكد الموروث على السلب، النسيان. كما تظهر ألفاظ الموروث، مثل الإلهي، الوحي، الأنبياء، المعجزات، أكثر من ألفاظ الوافد. ولا فرق بين الإسلام والمسيحية، بين معجزات الأنبياء والأولياء ومعجزات المسيح والحواريين والرهبان، بين الطب العلمي والطب النبوي. وقد جمع الفلاسفة بين النوعين من الطب.
32 (د) وكتاب «القانون في الطب» لابن سينا من نوع تمثل الوافد قبل تنظير الموروث.
33
وقد كان الشائع أنه إبداع ذاتي خالص لا يحيل إلا إلى ذاته، إلا أن تحليل المضمون يكشف أولوية الوافد على تنظير الموروث. والوافد الغالب هو الوافد الشرقي على الوافد الغربي في المجلدات الثلاثة التي تضم الكتب الخمسة، أولوية للهند والصين وفارس على اليونان والرومان، على عكس ما هو شائع من غلبة الوافد اليوناني.
34
في المجلد الأول يتصدر الوافد الشرقي على الوافد الغربي؛ الهند ثم الصين ثم العرب ثم الشام ثم فارس ثم أرمينيا ثم النبط ثم مصر ثم الخوزي واليمني والمكي. وتظهر صفة العرب في الصمغ العربي وبلاد العرب وبلاد الشام.
35
وفي المجلد الثاني الذي يشتمل على أمراض الأعضاء عضوا عضوا ، يتصدر الوافد الغربي على الشرقي، الهند ثم الصين ثم اليمني والعربي والأرمني. وفي المجلد الثالث الذي يشمل الكتابين الرابع عن الأمراض الجزئية التي لا تختص بعضو عضو، والخامس عن الأدوية المركبة ، يتصدر الوافد الشرقي من جديد على الوافد الغربي، الهند ثم الصين ثم فارس والكندي ثم اليهود ثم الكرماني ثم العربي ثم أهل الإسكندرية والسوري وآسيا والأرمن.
36
ويظهر التمايز بين الأنا والآخر في استعمال الضمائر، ضمير المتكلم المفرد «أقول»، أو الجمع «نقول»، «قلنا»، «عندنا»، في مقابل «يقال»، «قال قوم»، «قال بعضهم»، «قالوا». ولم يرد لفظ «يقول» على الإطلاق الذي أصبح عنوانا على التبعية والتقليد في الأحكام الشائعة. ويدل استعمال المبني للمجهول على أن المهم هو القول وليس القائل. وقد يظهر هذا التمايز في عبارة واحدة، مثل «فهذا قوله ونقول»، «قال ونحن نقول»، «كلامنا في الأذهان في هذه الجملة على شرطنا». كما يعقد ابن سينا تقابلا آخر بين القدماء والمحدثين دليلا على التواصل والاختلاف الحضاري في الزمان، وعادة ما يكون القدماء أفضل من المحدثين تواضعا من العلماء.
37
ومع ذلك فالدافع على تأليف الكتاب محلي صرف بناء على سؤال بعض الإخوان لتأليف كتاب في الطب يشمل قوانينه الكلية والجزئية، بين الشرح والاختصار، وهو كتاب ضروري لكل من يدعي صناعة الطب، ويريد التكسب بها. يضم أقل القليل للطبيب دون زيادة غير مضبوطة. وكان ابن سينا ينوي، إن أخر الله في الأجل، وساعده القدر، أن يعيد تأليفه؛ لأن الكتاب مجرد صياغة أولى.
38
وبالنسبة للوافد اليوناني يتقدم جالينوس ثم ديسقوريدس ثم أبقراط ثم اليونان ثم الروم ثم أرسطو. فلا يأتي أرسطو إلا مؤخرا في المرتبة السادسة. في الكتاب الأول عن الأمور الكلية يتقدم جالينوس، وفي الكتاب الثاني عن الأدوية المفردة يتقدم ديسقوريدس. جالينوس هو الوافد الأول في الطب أي في التشخيص، وديسقوريدس هو الوافد الأول في الأدوية في العلاج والصيدلة. ويقل جالينوس تدريجيا في التحول من النقل إلى الإبداع، ويكثر ديسقوريدس في الأدوية؛ لأن النقل فيه أكثر من الإبداع، بل إن جالينوس يتفاوت أحيانا في تردده بين الكثرة والندرة في أول المجلد وآخره، ثم يتلوها أبقراط وروفس ثم أرسطو. ومن حيث الثقافات يتقدم اليونان على الرومان.
39
وفي المجلد الثاني الذي يضم أمراض الأعضاء عضوا عضوا، يتصدر جالينوس على أبقراط، وتقل أسماء الأعلام نظرا لغياب أسماء الأدوية، ثم يذكر أركاغيس وبولس وروفس، ولا يذكر أرسطو وأفلاطون وديسقوريدس إلا مرة واحدة.
40
وفي المجلد الثالث يتصدر أيضا جالينوس وأبقراط، ثم صفة اليوناني والرومي، ثم يظهر أرسطو والإسكندر وأرسطوماخوس وبولس، ثم أرسطراطس وفيلاكسانس وقاطاجانس وفيلون الطرطوسي. كان الأطباء كثيرين، ولم يشتهر منهم إلا جالينوس وأبقراط لأنهما يجمعان بين الطب والحكمة، في حين أن الآخرين مجرد أطباء ممارسين.
41
ويغلب الوافد اليوناني في أسماء الأدوية؛ وذلك لترجمته مبكرا عن طريق نصارى الشام، ومعرفة مصطلحاته الطبية قبل معرفة الوافد الشرقي الهندي أو الصيني أو الفارسي. كما أن الجوار الجغرافي والثقافي مع الشام كان أكثر قربا من الجوار الجغرافي والثقافي مع الهند والصين وفارس. كانت اللغة العربية لغة نصارى الشام؛ فقد كانوا عربا لغة، ويونان ثقافة، ونصارى دينا، ومسلمين حضارة وموقفا، في مقابل الاختلاف اللغوي والثقافي بين العرب يهودا ونصارى ومسلمين من ناحية، وبين أهل الهند والصين وفارس. كان العرب أهل شعر وفصاحة، بينما كان الهند أهل دين ورياضة، والصين أهل علم وتجارة، والفرس أهل أخلاق وسياسة.
وتدل كثرة الأسماء الطبية على قدرة فائقة على إيجاد مرادفات عربية للألفاظ اليونانية والفارسية والهندية والصينية، وهو عمل إبداعي لغوي. ليس النقل مجرد العثور على لفظ مقابل لفظ، بل فهم معنى اللفظ المنقول منه، وإيجاد ما يقابلهم في اللغة المنقول إليها؛ فإن صعب النقل أخذ التعريب؛ مما يكشف عن المصادر اليونانية والفارسية لأسماء الأدوية. وقد تشتق الأسماء من أماكنها المحلية، مثل السوسي والطرطوسي والنبطي والصيني والهندي والقرشي والقلزمي واليمني والبحريني والبالي والمكي والعباداني. وقد تؤخذ من المناطق والأقاليم، مثل البحري والبري، أو من الطوائف مثل اليهودي.
42
وقد تشتق من الوظائف، مثل المسخن والمبرد والمرطب والميبس. وقد تنسب إلى أسماء الأطباء، مثل كحل أرسطراطس، وحب أفلاطون، ودواء أندروماخوس، ودواء لنياوس، ودواء جالينوس، ودواء ديسقوريدس.
وابن سينا على وعي تام بالفرق بين الأسماء والمسميات، بين الألفاظ والأشياء، بين الاصطلاح والموضوع. وقد تكون الإحالة إلى الوافد من أجل بيان نشأة التسمية، كما بين الفارابي من قبل اشتقاق كلمة الفلسفة. فالأمراض تلحقها التسمية إما من الأعضاء الحاملة لها، مثل ذات الجنب وذات الرئة، أو من أعراضها كالصرع، أو من أسبابها كالسوداوي، أو من التشبيه مثل داء الأسد والفيل، أو إلى طبيب يذكره، مثل قرحة طيلانة نسبة إلى طيلانس، أو منسوبا إلى بلدة بكثرة وقوعها فيه، مثل قروح بلخية نسبة إلى بلخ، أو إلى بلدة مشهورة بالنجاح في معالجتها، مثل قرحة سيروتية، أو من جواهرها وذواتها كالحمى والورم؛ فالأسماء الوافدة لا تدل على تبعية، بل على كيفية اشتقاق الأسماء، كما هو الحال في المعاجم اللغوية للمصطلحات العلمية. وأحيانا تترجم الأسماء حرفيا، مثل «سيقومورون»، ومعناه التين الأحمق.
لذلك يشير لفظ «اليونانية» كصفة إلى الأسماء؛ أي إلى البعد اللغوي الصرف. وقد ذكر فعل «سمي» ومشتقاته قبل معظم الأسماء، وكأننا ما زلنا في عصر الترجمة الأول، مع التفرقة بين الاسم والمسمى، كما هو الحال في مبحث الألفاظ عند الأصوليين.
43
قد ينشأ كثير من الخطأ بسبب الخلط في الأسماء. وتختلف الأسماء على نفس المسمى؛ إما لاشتراك الاسم، أو لضعف التمييز كما هو الحال عند قدماء الأطباء. ويستعمل اللفظ بالضرورة في عدد من المؤلفات استعمالات مختلفة، كما يستعمل ابن سينا بعض أشكال الحروف اليونانية لشرح الأمراض ووصف الأجسام، مثل حرف
C ، وحرف 8 أو حرف
H ، كما هو الحال في استعمال الأشكال الرياضية.
44
وتظهر الخصوصية في اللغة في التقابل بين الأسماء الإفرنجية والأسماء العربية، بين الأسماء الوافدة والأسماء التي توجد في البلاد، في بلادنا، من أعشاب نيل مصر أو من بلاد السند.
45
وبصرف النظر عن مصادر ابن سينا، مدونة أو شفاهية، إعلانه أو صمته عنها، فإن الإحالة إلى التراث الطبي السابق لا تعني النهل منه أو الاعتماد عليه أو تقليده بقدر ما تعني معرفة الحالة الراهنة لعلم الطب والدراسات السابقة فيه، بصرف النظر عن مصدره، شرقي أو غربي، هذا الطبيب أو ذاك؛ فلا جديد بلا قديم، ولا تجديد بلا تراث، ولا إبداع بلا نقل. وتقدم العلم مرهون بمعرفة آراء السابقين ثم نقدها وتجاوزها، ونقل العلم ذاته من مرحلة أولى إلى مرحلة ثانية. العلم تراث متصل لا انقطاع فيه.
46
ولا يوجد تراث طبي عظم تراث السابقين عليه كما فعل التراث الطبي الإسلامي، ويتضح ذلك من الألقاب التي أعطيت لأطباء اليونان؛ جالينوس الفاضل، فاضل الأطباء، الحكيم الفاضل، ديسقوريدس الحكيم، الحكيم الفاضل، روفس الحكيم، أركيغانس الحكيم، أبقراط مقدم الأطباء. ليس لقب الحكيم وقفا على أرسطو. ولقب الفاضل لقب علمي يجمع بين العلم والأخلاق، النظر والصدق، الحكمة والأمانة، مثل الفاضل من المهندسين. وأحيانا يذكر الأطباء بلا ألقاب كأسماء فرضت نفسها على تاريخ العلم دونما حاجة إلى تعظيم وإجلال.
47
وبتحليل مضمون الأفعال التي تذكر قبل أطباء الوافد، خاصة جالينوس وأبقراط، يتضح تنوعها بين أفعال الذكر والتسمية والنسبة والحكاية والظن والرأي والشهادة والزعم، وأن أقلها ذكرا هي أفعال القول. يتعامل ابن سينا مع التراث الطبي السابق، ويراجعه، ويتحقق من صدقه، وليس مجرد راو أو ناقل له. تعني البداية بجالينوس البداية بالتراث الطبي الإنساني؛ فهو أول من عرف تشريح أصابع الرجل، وأول من دل على وجود العناية والحكمة في البدن بالعقل الخالص والتجربة الطبيعية، وإن لم يسندها إلى الوحي الذي لم يبلغه. ويقارن بين رأي جالينوس ورأي الفيلسوف الأول دون الإفاضة فيه؛ فقد اختلف أرسطو وجالينوس في سبب الشيب؛ فهو عند أرسطو الاستحالة إلى لون البلغم، وعند جالينوس النكرج الذي يلزم الغذاء الصائر إلى الشعر. ويقارن جالينوس بديسقوريدس في الأدوية المفردة دون تبعية لأحدهما دون الآخر. كما يتحقق ابن سينا من صدق الرواية التاريخية التي تنسب إلى جالينوس كما هو الحال في علم الحديث؛ فقد يكون الخطأ في السند أو في المتن. ولا يحال إلى أطباء اليونان فقط فيما أوردوه، بل أيضا فيما لم يثبتوه إحساسا بالإضافة إلى ما قاله القدماء والزيادة عليهم بما تركوه. ويميز ابن سينا بين القول الخاص والقول العام؛ فمع أن جالينوس له رأي خاص في حالة خاصة إلا أنه يطلق الحكم، وهو غير سديد. يراجع ابن سينا الأحكام ويقارن بين موضوعاتها حتى يخصص العموم أو يعمم الخصوص، كما هو الحال في علم أصول الفقه.
48
ويشير ابن سينا إلى أرسطو وإلى أطباء اليونان لبيان الفرق بين الأسماء والمسميات؛ فربما كان التمايز بين الموروث والوافد في الأسماء لا في المسميات؛ فأرسطو أول من أطلق على الشريان الأكبر اسم أورطى. وقروح العين سبعة أنواع، أربعة منها في سطح القرنية يسميها جالينوس قروحا. كما يسمى الدواء باسم الطبيب، مثل الصابون المنسوب إلى أسقليناوس، والدواء المنسوب إلى قسطيطيبوس، وكان لأبقراط تسمياته الخاصة. ولا يذكر ابن سينا «قال جالينوس»، بل يدخل في أفعال الشعور وأنماط الاعتقاد، مثل الظن والتوهم والرأي والزعم، أو من أجل الحسم واستعمال أفعال الجزم واليقين. يصف ابن سينا ما يسبق وهم جالينوس، وينقد زعمه وزعم ديسقوريدس. ويراجع بنفسه التجارب كي يتحقق من صدق أقوال جالينوس أو أبقراط ومن منافع أدوية ديسقوريدس. ويذكر تجارب السابقين ويراجع على أقوالهم. والقول عبارة لها معنى وتحيل إلى شيء في العالم، وليست مجرد ألفاظ منقولة وفهم يتم نقله من حضارة سابقة إلى حضارة لاحقة لإثبات إبداع السابق وتبعية اللاحق، كما هو الحال في الاستشراق القديم. كما يصف ابن سينا ما يصفه جالينوس، ويشاهد ما يشاهده حتى يمكن التحقق من صدق القول. ويذكر السابقين ليس تبعية لهم، بل مراجعة لأحكامهم ونقدا لتراثهم وبناء عليه وتطويرا له. «ويبين جالينوس»؛ أي إن عين ابن سينا على الشيء المرئي، ثم ينقلها على العبارة المقروءة، ثم يحكم على قصد جالينوس وهو البيان. «يرى جالينوس» مع ابن سينا تعني أن جالينوس هو الشاهد على رؤية ابن سينا، وليس ابن سينا هو الشاهد على رؤية جالينوس؛ فالإشارة إلى جالينوس لا تعني تبعية ابن سينا له، بل شهادة جالينوس له كحجة من التاريخ، وتواتر مصدق بين العلماء. وتكون الإشارة إلى أفعاله وليس فقط إلى أقواله، كما هو الحال في تقسيم السنة إلى قول وفعل وإقرار، وبناء عليه يرفض جالينوس هذا الشراب أو ذاك. ولا يتردد ابن سينا لحظة في تخطئة جالينوس أو بيان تناقض مذهبه، وقد يكون أعلم بمذهب جالينوس من جالينوس نفسه.
49
أما بالنسبة إلى الموروث فلا يذكر ابن سينا التراث الطبي السابق عليه؛ لأنه كعادته في موسوعاته الثلاث صامت على مصادره، محاولا تجاوز التاريخ إلى البنية، والتحول من النقل إلى الإبداع، على عكس الرازي الذي يذكر التراث الطبي النصراني الذي كان حلقة الاتصال بين الطب اليوناني والطب الإسلامي. ويستثني ابن سينا من ذلك الكندي والرازي. يذكر الكندي باعتباره طبيبا، ولكن في أغلب الأحوال باعتباره حكيما طبيعيا مستمدا منه بعض المصطلحات العربية الموروثة للعلل الأربعة، المادية والفاعلية والصورية والتمامية، وهي الغائية كما استقر الأمر عليها فيما بعد. كما يحيل إلى حنين بن إسحاق الطبيب، وليس المترجم، معتمدا عليه في جمع مادته الطبية. ولا يشير إلى علوم إسلامية نقلية أو عقلية نقلية أو عقلية خالصة عند متكلم أو صوفي أو أصولي، بالرغم من تعرضهم أيضا لبعض الجوانب الطبية، مثل حديث المتكلمين عن الجسم، والصوفية عن الحواس، والأصوليين عن المنافع والأضرار البدنية في الطهارة، كما لا يشير إلى محدث أو فقيه أو مفسر يروي مأثورات الطب النبوي.
50
ويقل الموروث شيئا فشيئا بالتحول من التشخيص في الأمور الكلية إلى الأمراض الجزئية للأعضاء أو لغير الأعضاء، ويكاد يختفي في العلاج؛ أي في الطب العملي في الأدوية المفردة والمركبة، فتقل الإحالة إلى العناية الإلهية وتجلي حكمة الله في الكون تعبيرا عن
فتبارك الله أحسن الخالقين ، أو
ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك . وفي موضوع الراضعة وضرورة خلوها من الانفعالات الرديئة، مثل الغضب والضجر والجبن؛ لأن ذلك يفسد المزاج فيفسد الرضاع، يحيل ابن سينا إلى نهي الرسول عن استظئار المجنونة؛ لأن سوء خلقها قد يؤدي إلى سوء العناية بتعهد الصبي وإخلال مداراته.
51
هذا بالإضافة إلى مفاهيم الخلق والعناية والتي تتحول إلى مفاهيم طبية علمية في منافع الأعضاء والأدوية، مع البداية بالبسملة والحمدلة والنهاية بها؛ مما يضفي على الكتاب روح الموروث بعد تمثل الوافد.
وكما أن هناك صلة بين الطب والمنطق في القياس والتجربة هناك صلة أخرى بين الطب والإلهيات بظهور مفاهيم الروح والمحرك الأول والرؤيا الصادقة والخلق والعناية في الاستعمالين العلمي والديني في اشتباه الميتافيزيقا بين العلم والدين، فيستعمل بعض المفاهيم، مثل «الروح» و«النفس»، بالمعنى العلمي أكثر منها بالمعنى الديني، بالمعنى الوظيفي وليس بالمعنى العقائدي. ويعني بالروح أو النفس المعنى الطبيعي، ما يسري في البدن كقوة مادية؛ فالغضب ينشأ من إثارة القوة في الروح. كما يظهر مفهوم «المحرك الأول» عند الحديث عن حركة الأعضاء بعنصر النار، واجتماع الحار واليابس والخفة والثقل؛ فالثقل أعون في كون الأعضاء وسكونها، والخفة أعون في كون الأرواح وتحركها، والمحرك الأول هو المحرك للنفس بإذن باريها. وهنا تبدو الأشعرية الكامنة في نسيج الفلسفة الإشراقية. وبمناسبة ما قاله جالينوس في الرؤيا يضيف ابن سينا أن الرؤيا الصادقة جزء من أجزاء النبوة، مكملا الوافد بالموروث وقارئا له من خلاله.
52
والفكرتان الرئيسيتان اللتان تتخللان الكتاب هي الخلق والعناية؛ فالطبيعة مخلوقة، والعناية فيها من صنع الله. الله هو الذي وضع المزاج المعتدل في الإنسان، وهو الذي وضع في كل عضو مزاجه الأصلح لأفعاله وأحواله بحسب إمكانياته، وذلك من اختصاص الفيلسوف لا الطبيب. وأعطى الإنسان أعدل مزاج في هذا العالم مناسبا لقواه، وتلك حكمة الخلق، وكأن ابن سينا يشرح آية
فتبارك الله أحسن الخالقين
في الطبيعة وفي علم الطب، ويظهر اللفظان، الخلق والعناية، على التبادل؛ الخلق أولا والعناية ثانيا. ويستعمل ابن سينا الآية على نحو حر تعبيرا عن حكمة الخلق، والتي صاح بها كاتب الوحي حتى قبل نزولها إحساسا منه بجمال الخلق وحكمته في تكوين الجنين في رحم الأم. والخلق والخلقة من نفس المصدر؛ الخلق طبيعة، والطبيعة خلق؛ ولا فرق في اللغة بينهما. وبعد أن يصف ابن سينا وظائف الأعضاء وحركة الاخلاط فيها يمدح الخلق. يصف الأعضاء وخلقها والحكمة في أجزائها ووظائفها طبقا للمنافع؛ فالخلق يقوم على زيادة المنفعة والإقلال من الضرر. ويحلل حكمة الخلق في البدن، في العظام والغضاريف والمفاصل وباقي أجزاء الهيكل العظمي لسهولة الحركة، كما يصف الحكمة في خلق الكتفين، تعليق للصدر وحمايته، وخلق الأنفين الدقيقتين، والنخاع والعنق والقصبة الهوائية والرئتين والعينين والأضلاع. ولا فرق في إدراك ذلك بين جالينوس وابن سينا، بين الحكمة اليونانية والعناية الإسلامية، بين العقل اليوناني والوحي الإسلامي، بين تراث الآخر وتراث الأنا، كلاهما يتوجهان نحو طبيعة واحدة. ولا فرق في حكمة الخلق بين خلق الإنسان وخلق الحيوان. يتحدث ابن سينا عن الخلق لا الخالق؛ أي عن الطبيعة وليس تشخيصها في فاعل، إجابة على سؤال «من؟» وهو أقرب إلى العلم منه إلى الدين. كما اقتضت العناية الإقلال من الآلات؛ لأن الإكثار منها ضرر، وخلق الأمعاء الستة آلات لدفع الفضل اليابس، وجعلها كثيرة العدد والتلافيف والاستدارات حتى لا ينفصل الغذاء سريعا، ولا يحتاج الإنسان إلى تناول الغذاء في كل وقت والتبرز الدائم والمشابهة بالبهائم. هناك إذن حكمة في الطبيعة تتجلى في المخلوقات. وتتجلى حكمة الخلق في تشريح المثانة، وهي وعاء يستوعب الماء مدة قبل أن يخرج من الحالبين ومن قضيب يتحكم فيه. وسبب ولادة الجنين احتياجه إلى هواء وغذاء أكثر مما في رحم الأم.
53
وقد خلق الله الدواء للمنفعة، كما خلق العضو للصحة والمرض، وهو دواء إلهي شاف بإذن الله. والأيارج اسم للمسهل، وتفسيره الدواء الإلهي لأنه عمل المسهل أمر إلهي. وهنا تبدو الأشعرية مرة ثانية في ثنايا علم الطب. يأخذ مفهوم العناية الإلهية إذن معنى علميا بمعنى نظام الكون كما هو الحال في البدن الطبيعي؛ فالعناية الإلهية تتجلى في الطبيعة وفي الإنسان، وكأن العناية حالة في الطبيعة، وكأن الطبيعة عاقلة وقاصدة إلى غاية خيرة. ويستعمل ابن سينا لفظ «التسخير»، اللفظ القرآني، لبيان هذه الوحدة بين الخلق والعناية.
54
ويعبر عن هذا الجو الديني داخل علم الطب البدايات والنهايات الإيمانية، البسملات والحمدلات في أوائل الكتب أو في آخرها، كما تتكرر لازمة «إن شاء الله تعالى» بعد الإعلان عن النية والقصد. ويظهر لفظ «اللهم» كأسلوب في التعبير . ونفس النهايات الإيمانية لصاحب المطبعة المتوسل إلى الله بالجاه، والطالب العون على أداء واجب الصناعة. وقد أسقطت أمثال هذه العبارات من الترجمات اللاتينية على أنها بنية محلية غير علمية، فتأزم العلم الغربي، ووقع في التجريبية الخالصة بدعوى الفصل بين حكم الواقع وحكم القيمة.
55 (ه) وتعد «أجوبة الشيخ الرئيس عن مسائل أبي الريحان البيروني»
56
من أطول الرسائل، ومن أكثرها اشتغالا باليونان وذكرا لهم، وتدل أيضا على التراكم الداخلي العرضي، الحوار بين المعاصرين في الداخل بالرغم من أولوية تمثل الوافد على تنظير الموروث، وفي صيغة السؤال والجواب كما هو الحال في علم الأصول. الرسالة رد على سؤال البيروني حول بعض موضوعات الوافد. البيروني عالم، والحكمة حاملة العلم.
من الوافد يتصدر أرسطو كاسم علم في الغالب، أو اللقب مثل الفيلسوف وهو الغالب، أو الحكيم صاحب المنطق، ثم أفلاطون، ثم ثامسطيوس وأنكسمندرس، ثم الإسكندر وطاليس وهرقليطس وديوجانس ويحيى النحوي. ولم يذكر من الموروث إلا الرازي والفارابي.
57
وقد ذكر أرسطو في مقدمة المسائل مع تحديد اسم كتاب «السماء والعالم» الذي به المشكلة. والسؤال حول السبب الفلسفي، وابن سينا هو الأقدر على الإجابة نظرا لتمثله ثقافة الآخر. لا يكفي علم أبي الريحان وحده دون حكمة أبي علي؛ فالعلم دون فلسفة لا يبصر ولا يدرك ذاته. العلم دون فلسفة مادة بلا صورة، بدن بلا نفس، والفلسفة دون علم صورة بلا مادة، نفس بلا بدن. ومن الأسئلة الثمانية عشرة ذكر أرسطو في تسع منها؛ أي في نصفها. والمسائل والأجوبة المذكور فيها أرسطو أربعة (أي ثماني مرات)، وفي الأجوبة وحدها أربعة، وفي الأسئلة وحدها مرة واحدة، وكلها موجهة إلى السماء والعالم.
58
وذكر من مؤلفات أرسطو «السماء والعالم»، ثم «السماع الطبيعي»، ثم «الكون والفساد»، «سمع الكيان»، «الحس»، ثم «الميتافيزيقا»، و«الآثار العلوية». ومن أفلاطون ذكر «السياسات».
59
وأحيانا يذكر الكتاب باسمين؛ «السماء» و«السماء والعالم»؛ أي الأصل اليوناني ثم إضافة الشراح اليونان والمسلمين؛ إذ لا يمكن تصور السماء دون العالم والأرض. ولا يحيل ابن سينا إلى كتاب واحد فقط الذي به موضع السؤال، بل إلى مجموع كتب أرسطو وضعا للجزء في الكل، والموضوع في النسق. ويذكر «السماع الطبيعي»، «سمع الكيان»، الترجمة العربية عن اليونانية وعن السريانية. وفي نفس الوقت ذكر من الموروث «الجمع بين رأيي الحكيمين» للفارابي. والاستشهاد بالكتب تأييد لتحليل ابن سينا ومنع للتطويل؛ أي الاعتماد على السلطة العلمية في ذلك الوقت. ويتم تحديد الكتاب والمقال والموضع. والإحالة إلى مجموع الأعمال تدل على وحدة علوم الحكمة وعلى فكر لا شخصي، أسماء علوم وليس أسماء أعلام. وتهدف الإحالة إلى إزالة اللبس وتحديد المعنى كقصد.
60
كما ذكرت الفرق والمجموعات، مثل: المفسرون ثم الفلاسفة ثم المهندسون والسوفسطائية والفضلاء في صناعة الهندسة وأصحاب العلم الرياضي.
61
كما يذكر الجناح الشرقي في أجوبة الشيخ الرئيس على مسائل أبي الريحان؛ إذ ترد الهند في السؤال؛ لأن أبا الريحان كان على اطلاع على ثقافاتها ودياناتها. فما هو معلوم عند أهل الكتاب وما يحكى عن الهند، أن الفلك غير ثابت، عكس ما ادعاه أرسطو. ثقافة الشرق وثقافة الوحي متفقتان على حركة الفلك عند أرسطو الذي يقول بثباته.
وتبدأ المسائل بأرسطو باستمرار؛ لأنه يمثل آخر ما وصلت إليه ثقافة العصر.
62
وأرسطو في الفلسفة اليونانية يدل أيضا على آخر ما وصلت إليه الفلسفة اليونانية؛ لذلك بدأ يؤرخ لها. والتاريخ رصد للبداية علامة على الاكتمال وبداية النهاية، كما أن الإسلام آخر مرحلة في النبوة اكتمالا لمراحل الوحي السابقة؛ فأرسطو آخر الحكماء كما أن محمدا آخر الأنبياء؛ لذلك يبدوان متفقين في الرؤية، لا فرق بين حكمة ونبوة.
والمسائل المذكور فيها أرسطو أربعة، الثانية والرابعة والخامسة والسادسة؛ فالسؤال الثاني عن اعتماد أرسطو على أقاويل القرون الماضية والأحقاب السالفة في الفلك، واعتبارها حجة قوية على ثبات الفلك ودوامه. ومن لم يتعصب لأرسطو يعلم أن ذلك غير صحيح، وهو ما يعرفه أهل الكتاب، وما يحكى عن الهند وأمثالهم من الأمم نظرا لتعاقب الحوادث على مكان المعمور من الأرض، إما جملة وإما على التناوب. اعتمدت شهادة القدماء على حال الجبال وشهادة المحدثين على وقوع الأحداث. وهو سؤال الثبات والتغير في العالم. ورد ابن سينا دفاعا عن أرسطو بأنه لم يورد ذلك على سبيل البرهان، بل على سبيل المقارنة بين السماء والأرض، وأن الجبال وإن بدت ثابتة في كلياتها إلا أنها متغيرة في جزئيتها، وهو ما لاحظه أيضا أفلاطون. وقد أثار هذا الاعتراض من قبل يحيى النحوي الذي موه على النصارى وزايد في الدين على حساب العلم والعقل إظهارا لمخالفته لأرسطو. لقد افتعل يحيى النحوي آخر كتاب «الكون والفساد» لأرسطو الخلاف معه في هذه المسألة. كذلك تجاوز الرازي المتكلف الفضولي قدره في شروحه في الإلهيات، وعرضه الخراج، ونظره في الأبوال والبرازات، وكشف عن جهله بنفسه. وواضح من السؤال والجواب نقد البيروني لأرسطو، وأنه لا أحد معصوم من الخطأ. وهو نقد علمي لرأي أرسطو في ثبات الفلك، بل وضد النظرة السكونية للعالم على الإطلاق.
63
ويقوم ابن سينا بدور القاضي الحصيف بين البيروني وأرسطو، وكما سيفعل ابن رشد فيما بعد بين الغزالي والفلاسفة، والمعتزلة والأشاعرة، والمذاهب الفقهية، مبينا نوع كلام أرسطو، وأنه ليس برهانيا بل خبري، وتأييد قول أرسطو استشهادا بأفلاطون؛ فلا إعجابا بأرسطو وحده، بل عرضا لتصور حضاري للعالم يشارك فيه اليونان مع الإحالة إلى المصادر، كتاب «السياسات» لأفلاطون، وأغلب الظن أنها محاورة «الجمهورية». مصدر الاعتراض سوء نية يحيى النحوي المنافق الذي يزايد في الدين، ويتملق النصرانية ضد أرسطو ليظهر التعارض بين الإيمان والكفر، مع أنه وافق أرسطو في تفسير آخر له لكتاب «الكون والفساد». رفض ابن سينا إذن التفسير النصراني لأرسطو باسم الإسلام دفاعا عن الحق وأكثر فهما للدين، وكذلك وافقه الرازي بالرغم من تجاوزه في البرازات، لا فرق بين الداخل والخارج؛ فالكل يصب في مخزون نفسي واحد. المعترض إذن جاهل، ويضمر سوء النية. وينهي ابن سينا جوابه دفاعا عن أرسطو في قوله إن العالم لا بدء له؛ بمعنى لا فاعل له. هناك فرق بين البداية والفعل درءا لتهمة قدم العالم أو التعطيل على ما يقول المتكلمون. لا يجوز إذن الاستخفاف بأرسطو أو ادعاء المدافعين عنه تعصبا والإصرار على الباطل لأنه قبيح.
64
والسؤال الرابع لماذا استشنع أرسطو القول بالجزء الذي لا يتجزأ بالرغم من عيوب هذا القول عند المهندسين، وموقف الرافضين له أشنع من موقف القائلين به؟ ويجيب ابن سينا على ذلك بتحديد موضع رفض أرسطو للجزء الذي لا يتجزأ، أو قيام هذا الرفض على براهين منطقية قوية. قد توحي المقالة الخامسة من «السماع الطبيعي» بالإثبات، ولكن المقالة السادسة واضحة في النفي. وقد اعترض أرسطو على نفسه هذا الاعتراض من قبل وأجاب عنه، ولا يعني باعتراضه أنه يقول إن الجسم يتجزأ إلى ما لا نهاية بالفعل، بل يعني أن كل جزء له وسط وطرفان؛ ومن ثم أمكنه التخلص من شناعة القائلين به وشناعة الرافضين له. والخطأ سوء فهم أرسطو من المفسرين والشراح، ووقوعهم في السفسطة والمغالطة. والحقيقة أن المسألة كلامية، ثم تعشيق نقد أرسطو لمذهب أصحاب الذرة عليها؛ فالفلسفة متأخرة في الظهور على الكلام، والكلام سابق عليها. ورفض أرسطو للجزء الذي لا يتجزأ مثل رفض الفلاسفة وبعض المتكلمين له اتفاقا بين الحضارتين، واعتراض أرسطو على نفسه مثل اعتراض الأصوليين على أنفسهم والرد عليه مسبقا. وينتهي ابن سينا بوضع اللوم على الشراح والمفسرين وضرورة العودة إلى الأصول.
65
والسؤال الخامس لما استشنع أرسطو أن يكون هناك عالم آخر خارج هذا العالم على طبيعة أخرى يجمعها برزخ؟ ويرد ابن سينا على ذلك محددا الموضع الذي قال فيه أرسطو ذلك منكرا أن يكون ذلك في «السماء والعالم»، ومحددا سياق قول أرسطو، وهو رده على من قال بوجود عوالم موافقة لهذا العالم بالنوع والطبع، مغايرة له في الشخصية. وقد نقل الفيلسوف حجج هذا القول في كتاب «السماء» مبينا تناقضاته؛ لأن العلل التي يسميها الفلاسفة الطبيعة والعقل والعلة الأولى لا تنقل النظام إلى لا نظام، بل اللانظام إلى النظام، وكما بين أرسطو ذلك «سمع الكيان»، وفي تفسير ابن سينا للمقالة الأولى من كتاب «ما بعد الطبيعة»، وفي المقالة الخامسة من «السماع الطبيعي» وتفاسيره؛ فالحركات الطبيعية متناهية، إما من المركز أو إلى المركز في جميع الأجسام بالدليل العقلي. أما الكيفيات المحسوسة فهي تسع عشرة كما بينها الفيلسوف في المقالة الثالثة من كتاب «النفس» وشروح ثامسطيوس والإسكندر وغيرهما. يبحث ابن سينا هنا عن دوافع أرسطو وليس مجرد تخطئته. والسؤال هو زيادة في الإيضاح لفهم أرسطو وليس نقضا له؛ لذلك اعتمد رد ابن سينا على الوضوح والاتساق العقلي، ودلل على صحة موقف أرسطو، وأنه ليس مجرد دعوى؛ فإن ما لا دليل عليه يجب نفيه في منطق الأصوليين، وبين أن موقف أرسطو أكثر علمية، ومتفق مع شهادة الحس، وأكثر واقعية عن الافتراض النظري الوهمي لوجود عوالم أخرى مفترضة خارج هذا العالم. كما يستوثق من الرواية عنه طبقا لمناهج النقل عند المسلمين. ويستعمل بعض المصطلحات القرآنية مثل برزخ. يربط بين العالم الواقعي والعالم الوهمي بالرغم من ظهور لفظ «أسطقسات» المعرب عدة مرات، وكذلك لفظ «ماطافوسيقا» قبل ما بعد الطبيعة جامعا بين التقريب والنقل.
66
ويشرح أرسطو بأرسطو كما يشرح المفسرون الكتاب بالكتاب.
67
وفي المسألة السادسة يرد ابن سينا على الاعتراضات على أرسطو مخطئا إياها ومصوبا إياه على طول الخط تعصبا وتحزبا له، بل يعترف أحيانا بتقصير أرسطو، ويتعجب من صاحب المنطق، ويحترم ابن سينا المعترض ويدعو له بطول العمر دون سبه أو لعنه كما يحدث هذه الأيام. يحدد ابن سينا بدقة مكان الاعتراض، ويبين أنه أيضا قد وجه هذا الاعتراض من قبل إلى أرسطو، كما اعتذر عن ذلك المفسرون. وقال ثامسطيوس بضرورة تأويل قول أرسطو على أحسن وجه. وإن بداهة المعترض ونباهته في الرياضيات والهندسة قادرة على الإجابة على مثل هذه الاعتراضات.
68
أما المسائل الأربعة الأخرى، الثالثة والثامنة والتاسعة والعاشرة، فإن أرسطو مذكور فيها في الأجوبة وحدها دون الأسئلة، وكأن السؤال علمي والإجابة أرسطية؛ لأن أرسطو كان هو العلم في عصره. المسألة الثالثة سؤال عن كيفية إدراك البصر دون إدراك ما تحت الماء، وشعاع البصر ينعكس على الأجرام الصقيلة، وسطح الماء صقيل. والجواب عن ذلك أن الإبصار عند أرسطو ليس بخروج شعاع من العين، وكما ظهر ذلك عند المفسرين للمقالة الثانية من كتاب «النفس»، وكتاب «الحس»، وكما هو الحال عند أفلاطون. والحقيقة أنه لا فرق بين الاثنين؛ لأن قول أفلاطون عامي، في حين أن قول أرسطو علمي. وقد بين ذلك الفارابي في «الجمع بين رأيي الحكيمين». لا يشير السؤال إلى اليونان أو إلى التراكم الفلسفي للموروث، ولكن الجواب يشير إلى الوافد والموروث مع تحديد المواضع. ويكشف ابن سينا في رسائله عن مصادره، في حين أنه يصمت عنها في موسوعاته.
69
وفي المسألة الثامنة يستعمل ابن سينا فعل «زعم» لعرض أقوال المعترض عندما ينسب إلى أرسطو ما لم يقله، مثل جعل النار العنصر الذي يتكون منه العالم طبقا للتحقق من صحة الرواية، كما هو الحال في علم الحديث. قد يصدق الاعتراض على فلاسفة آخرين جعلوا الأسطقسات شيئا واحدا من الأربعة أو اثنين أو ثلاثة منها، مثل الماء عند طاليس، والنار عند هرقليطس، والجوهر بين الماء والهواء عند ديوجانس، والهواء عند أنكسمندريس.
70
والمسألة التاسعة مجرد استفسار عن تعريف أرسطو للضوء، وهو لون ذاتي للمشف من حيث هو مشف، وكما حده في المقالة الثانية من كتاب «النفس» في المقالة الأولى من كتاب «الحس».
71
والمسألة العاشرة يحيل فيها ابن سينا لمزيد من التفصيل إلى المفسرين في شروحهم على «الكون والفساد» و«الآثار العلوية» و«المقالة الثالثة» من «السماء»، ويعتمد عليهم، ويقتبس من أمثلتهم لتأييد قول أرسطو في الكون والتغير من جزئيات الطبيعة. ليس الشراح على خطأ دائم أو على صواب دائم، بل يخطئون ويصيبون.
72
والمسألة الأولى مذكور فيها أرسطو في السؤال دون الجواب؛ مما يوحي بإمكانية الجواب عن أرسطو دون ذكره؛ فالعلم مستقل عن الشخص. وهي السؤال عما أوخذ على أرسطو وعما أشكل على قرائه، هو سؤال نقدي استفهامي. لم أوجب أرسطو للفلك عدم الخفة والثقل؟ والإجابة لعدم وجود حركة من المركز أو إليه، في حين أن الوهم يسوق إلى أنه من أثقل الأجسام. ويظهر من كثير من الأقوال التمويه والسفسطة، ويجر إليه الخلاف في اللفظ بالرغم من الاتفاق في المعنى، حيث تعتبر الحركة إلى المغرب ضد الحركة إلى المشرق؛ فإذا ما تم تجاوز الألفاظ ظهرت المعاني. الحل إذن في جدل اللفظ والمعنى، وفي دور الوهم والسفسطة. حل المسألة إذن في المنهج واللغة أكثر منه في الموضوع والاستدلال. (و) وفي «جواب الشيخ الرئيس على سؤال أبي الحسن أحمد السباعي عن علة قيام الأرض وسط السماء» يبدأ التراكم الفلسفي الداخلي، وتبدأ الأسئلة من الواقع الفلسفي، لا من الوافد ولا من الموروث مباشرة.
73
تبدأ الأسئلة من الداخل؛ فقد أصبح الواقع مخصبا والأرض حبلى، وهو سؤال علمي عن العلة؛ فالعلم هو علم بالعلل، وهو لون جديد من ألوان التأليف أشبه بالفتاوى الفقهية وأحكام السؤال والجواب، مثل فتوى «فعل المقال» لابن رشد. ولم يذكر في أرسطو لأنه ليس هما ولا ضرورة ولا مصدرا وحيدا للعلم، بل ذكر فيثاغورس وديمقريطس إفرادا لهما بالتعيين في معرض ذكر آراء القدماء للإجابة على السؤال، وهي إجابات ثمان لعلل محتملة. ويذكر أصحاب فيثاغورس، أي الفيثاغوريون، كفرقة وتيار، وليس كشخص أو فرد، ويذكر كلاهما في سياقهم التاريخي مع أقاويل العلماء القدماء أو العلماء والقدماء، طائفة منهم بقول، والبعض الآخر بقول آخر؛ فهما يدلان على تقسيمات فئوية لتيارات فكرية وآراء فلسفية. السؤال من الحاضر التراكمي، والإجابات متعددة ومحتملة من الماضي الوافد، ومعظم الآراء الثمانية الواردة أقل علمية من تحليل ابن سينا العلمي. ذكر آراء القدماء من أجل تجاوزها، انتقالا من تاريخ العلم إلى العلم، من التطور إلى البناء، كما هو الحال في تطور الوحي حتى اكتماله في المرحلة الأخيرة. وقد جمع ابن سينا ذلك كله في فصل خاص هو الفصل العاشر لتعديد أقاويل العلماء القدماء، كما فعل أرسطو ذلك من قبل مؤرخا لآراء السابقين ودون تطويل في المناقضة. نقد القدماء وارد وإن لم يكن مستفيضا. يأتي التاريخ بعد اكتمال الموضوع عند الفصل الأول في التاسع، وكأننا أمام قانون الطفو. ظهور الموضوع على السطح بعد تراكمه في التاريخ، اليقين أولا والظن ثانيا، الحقيقة أولا والتاريخ ثانيا، الاكتمال أولا ثم التطور ثانيا.
وتسمى الطوائف على العموم دون تحديد ثقافاتهم، يونان أو مسلمين. المهم الرأي والموقف والاتجاه، وليس أصحابه وممثليه وقائليه. إنما تكون الألفاظ بين العموم والخصوص، القدماء الأعم والعلماء الأخص. للقدماء أقاويل وللعلماء آراء. والأقاويل أقل علمية وبرهانا من الآراء. وهي آراء يستحضرها ابن سينا من الذاكرة، وبها كثير من الإسقاط والصور. فسبب قيام الأرض وسط السماء لأنها متحركة على الاستدارة (فيثاغورس) وهابطة إلى أسفل، أو أنها ساكنة. ثم تنقسم الآراء في علة السكون، قيامها على الهواء وضغطه عليها (ديمقريطس)، قيامها مثل الحبة عليه، طفوها مثل طفو الصفيحة من الرصاص الواسعة، وإلا رسبت إن كانت صغيرة، أو لاستحقاق الجهات بها على التعادل، أو إدارة الفلك وحركته كما يتحرك التراب في قارورة تدور، أو جذب الخلاء، أو تحركها إلى الوسط عشقا لكليتها.
74
وتبدو آليات الإبداع في وصف مسار الفكر في الماضي والحاضر والمستقبل، وبيان مراحله وخطوات استدلاله المنطقي. وهذا الربط بأزمنة الفعل تدل على أن ابن سينا يتعامل مع أفكار وليس مع عبارات، وتتم المراجعة واستبعاد التناقض بحثا عن الاتساق، ليس فقط اعتمادا على اتساق المقدمات والنتائج، واعتمادا على البراهين، ولكن أيضا مع المشاهدة والتجربة. والاختصار أفضل من التطويل بعد بيان القصد، ليس فقط لدوافع العلم والفكر، بل لكثرة المشاغل وقصر العمر، ولوجود التفصيلات في مؤلفات أخرى، ولافتراض ذكاء القارئ وحسن قريحته، وما لديه من علم يغنيه عن التطويل. وتدل الإحالة إلى باقي المؤلفات على وحدة الموضوع واحتواء الفكر له. والتأليف أيضا للسلطان.
75 (2) البيروني
ويمثل عملان للبيروني (440ه) تمثل الوافد قبل تنظير الموروث. (أ) الأول في الفلك «كتاب التفهيم لأوائل صناعة التنجيم». ويكون تمثل الوافد في العمق؛ أي أعلام قليلة العدد وكثيرة التردد، مثل بطليموس واليونانيون والروم، بالنسبة للوافد اليوناني، والهند والمجوس بالنسبة للوافد الشرقي، ويعظم الوافد الشرقي على الوافد الغربي، ويدل على ذلك أسماء الشعوب والبقاع. ويكون تنظير الموروث على الاتساع؛ أي كثرة الأسماء وقلة التردد، مثل السريان والنصارى والعرب والصابئة والحرانيون والقبط.
76
ويدل النص على ارتباط الفلك بالرياضة، الحساب والهندسة والجغرافيا والتاريخ؛ أي تكامل العلوم الرياضية والطبيعية وتفاعلها على الأرض. وهو في علم التنجيم أكثر في علم الفلك؛ أي العلم الشعبي المأخوذ بالتقليد أكثر منه في العلم الرياضي الطبيعي. كتب بطريقة السؤال والجواب، أسلوب الفقهاء من أجل تعلم المصطلحات ، فالعلم هو المصطلح، وبناء على طلب امرأة.
77
ويحيل إلى باقي الكتب؛ مما يدل على وحدة المشروع العلمي، وتكثر فيه الجداول التوضيحية من أجل عدم التشكك في علم التنجيم الذي لا يقوم إلا بعد استيفاء العلوم الرياضية الأخرى. وهو علم العامة، وليس للخاصة التي لها علم الفلك. ويعطي النص صورة لعادات الشعوب وتقاليدها وخرافاتها وأعيادها وعلومها وآلاتها، خاصة الهند التي تعتبر نقطة الإحالة الأولى مع اليونان، الشرق والغرب.
والإيمانيات قليلة للغاية، مثل ظهور الصلاة ومعرفة القبلة ودور الفقه كأحد البواعث على تأسيس علم الفلك، مثل الصوم ومعرفة أوائل الشهور. وتبدو مقارنة الأديان واضحة؛ فالعلم جزء من الدين، وكلاهما تعبيران عن الحضارة. وتظهر العبارات الإيمانية، مثل الدعوة بالتوفيق، والاستعانة بالله، والحمد لواهب الحياة، والصلاة على الرسول وآله.
78 (ب) والثاني «الآثار الباقية عن القرون الخالية». وهو في علم التاريخ الذي يشمل الجغرافيا والفلك والحساب والتنجيم ومقارنة الأديان والفلسفة؛ فالتاريخ علم الإنسان على الأرض، هو العلم الشامل للعلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية؛ ومن ثم فهو جزء من علوم الحكمة وإن لم يدخل في قسمتها الثلاثية التقليدية القديمة.
79
وهو المعنى الشعبي للتاريخ الذي يجمع كل شيء، ثقافات الشعوب، عاداتها وتقاليدها ودياناتها وأشعارها وأساطيرها وخرافتها، لا فرق بين تاريخ طبيعي وتاريخ إنساني. هو أقرب إلى تاريخ الحضارات المقارنة مع احترام كامل لها جميعا، سواء كانت ثقافات الغالب أم ثقافات المغلوب.
80
ولقد كان التاريخ القديم هو تاريخ صراع استعماري بين الفرس والروم، وتحقير كل منهما لثقافة الآخر. ولو كان لفظ التاريخ اشتفافا من لفظ فارسي، إلا أن الحضارة الإسلامية أعطته مضمونا مخالفا، وهو تاريخ الشعوب والحضارات القديمة بمساواة كاملة.
ويتكون من أقوال دون أبواب أو فصول، تتفاوت من حيث الكم، أكبرها السادس؛
81
ربما بسبب وفرة المعلومات أو ندرتها، وربما للأهمية التاريخية، وربما لميول طائفية أو شعوبية ؛ إذ يبدو المؤلف شيعي الاتجاه فارسي الأصل، يدعو لأن يحرس الله الجماعة والأئمة.
وترد التواريخ كلها إلى التاريخ الهجري، وضعا لتواريخ الآخر من منظور الأنا، وقد كانت البدايات الأخرى إما خلق العالم ، أو نزول آدم على الأرض، أو تاريخ الإسكندر بعد أن تحول الإسكندر إلى مثال ونبي وإله وأمه قديسة. التاريخ الداخلي مقياس التاريخ الخارجي.
82
وقد كان التاريخ الهجري اقتراحا من عمر بن الخطاب.
وسبب التأليف معرفة أخبار الأمم السالفة وأنباء القرون الماضية وذكر بقايا آثارهم، ولا يمكن معرفة ذلك بالقياس على المحسوسات والاستدلال بالمعقولات، بل بالاعتماد على أهل الكتب والملل وأصحاب الآراء والنحل، ثم قياس هذه الآراء بعد تطهير النفس، وتخليصها من الأهواء والتعصب والتظاهر واتباع الهوى والتغالب بالرئاسة، وتنقية الروايات من الأباطيل، كما فعل ابن خلدون فيما بعد، وإبطالها بالحوادث الطبيعية، والابتداء بالأقرب والأشهر من الأمم، ومعرفة أخبارهم من مصادرها. ويبدو البيروني هنا على وعي تام بمنهج كتابة التاريخ.
ثم يتخصص التاريخ من التاريخ العام إلى التاريخ الخاص، من تاريخ الحضارات إلى تاريخ الأديان، كما فعل البيروني من قبل في «تحقيق ما للهند من مقولة»، ويركز على الديانات الشرقية، اليهودية والنصرانية والإسلام، وديانات فارس، المانوية والمجوسية والزرادشتية، بالإضافة إلى ذكر ديانات الصين ومصر وخوارزم؛ أي أواسط آسيا حيث انتشرت ديانات الهند، الهندوكية والبوذية. وتاريخ الأنبياء جزء من التاريخ المقارن للدين، ويعتمد على الكتب المقدسة؛ أي المصادر الأولى لمعرفة الديانات وترجماتها المختلفة.
ويعتمد على العقائد الإسلامية كمعيار لتاريخ الأديان؛ نظرا لأن القرآن مصدر تاريخي صحيح لم ينله التحريف أو التبديل كما نال باقي الكتب المقدسة؛ فالمسيح رفعه الله إليه، والاختلاف في أنسابه مثل أنساب آلهة اليونان واللاتين. وقد وصل سهم زرادشت إلى مناجاة الله بأمر الله وإرشاده. ويفيض البيروني في ذكر الآريوسية ورأيهم في المسيح القريب من رأي الإسلام والبعيد عما يقوله كافة النصارى، ويقارن بين العقائد النصرانية والكهنوت النصراني، والتشيع، ونشأة عقائد المضطهدين ومؤسساتهم.
ويبدو منهج البيروني في كتابة التاريخ في عدم الاعتماد على الدليل النصي؛ فتحديد وقت الصيام ليس بالنص بل بعلم الفلك،
83
وكذلك الحدثان. وبناء على الواقع والعلم يمكن نقد النصوص. كما أن التاريخ ليس مجموعة من الحوادث، بل له قانون ينتظمها؛ لذلك يتحدث البيروني عن ماهية التاريخ وماهية اليوم والشهر؛ أي إنه بحث في ماهيات التاريخ؛ معناه وبنيته وقانونه وغايته.
84
وتدخل الأسطورة في التاريخ كفن شعبي، مثل ما نسج حول الأنبياء والأبطال مثل الإسكندر وهرمس، وأولاد آدم ونوح وإبراهيم، والأئمة مثل الحسين. وأحيانا ينقد البيروني الكذب في التاريخ وما يقوم به المنجمون والقصاصون.
85
ويحيل البيروني إلى باقي أعماله تعبيرا عن وحدة المشروع، التاريخ والفلك والرياضيات والطب والحكمة والمعادن. كما ينهل من الشعر العربي كمصدر للتاريخ، أوزانه وشطراته.
86
وفي نفس الوقت يصف مسار فكره ووحدة عمله، ويذكر بما فات وينبئ بما هو آت.
87
ويضيف كثيرا من الجداول والرسومات التوضيحية التفصيلية عن التواريخ والزيجات الفلكية.
88
كما يميل إلى عديد من المصادر المكتوبة والنصوص المقدسة.
89
ومع ذلك فالكتاب مملوء بالأسماء والحوادث، الملوك والقواد والأنبياء، والأساطير والأماكن والقبائل؛ مما يجعل تحليل المضمون له شبه مستحيل. يكفي التحليل الكلي للمقاصد والتوجهات العامة. أحيانا ينقض الترابط المنطقي. غلب التاريخ على فلسفة التاريخ، وأصبح أقرب إلى التاريخ منه إلى علوم الحكمة.
ويبدو الوافد قليل التردد في الاتساع، وكثير التردد في العمق، على عكس الموروث الكثير التردد في الاتساع، القليل التردد في العمق؛ فالأسماء العربية تفوق عشرة أضعاف الأسماء اليونانية من حيث العدد.
90
ومن الوافد يأتي بطليموس وجالينوس وهرمس في الصدارة، ثم المجسطي والإسكندر، ثم هيبارخوس وهيبوقراط، ثم يأتي أرسطوثيون الإسكندراني في المرتبة الثالثة.
91
ويتصدر الوافد الشرقي على الوافد الغربي كالعادة عند البيروني. ويأتي أشكنبار وجهانبار وجم ونبجتنصر في المقدمة، ثم الحرانيون، ثم فريدون والصابئة، ثم الأفستا والهنود.
92
ومن الموروث يأتي حمزة بن الحسن الأصفهاني في المقدمة، ثم أبو الفرج الزنجاني، ثم سنان بن ثابت، ثم أبو معشر وعماد الدولة علي ابن البويهي، ثم على بن أبي طالب، ثم الزقاق والكندي والجهيني، وتتوالى الأسماء تباعا بالمئات.
93
ويستشهد البيروني بخمس عشرة آية قرآنية خاصة في البداية ليبين تطابق العلم والدين، الطبيعة والقرآن؛ فالكتاب يصدق الطبيعة، والطبيعة تصدق الكتاب.
94
العلم وسيلة لفهم الوحي، والوحي طريق إلى تأسيس العلم. ويضرب البيروني المثل بالزمان. وبالرغم من تحريف الكتب المقدسة إلا أن البيروني يستشهد بها، خاصة التوراة بعد تصحيحها بالقرآن كمصدر للأخبار. وإذا كان التاريخ موضوعا للأهواء والمصالح، كما تبدو في الروايات، فإن القرآن رؤية موضوعية للتاريخ، ليس بالضرورة كنص حرفي، بل كتوجه عام، كما يستعمل الحديث أيضا بنفس الطريقة.
95
تستعمل ثمانية أحاديث حول الزمان والأمية والصوم والفطرة ويوم الخندق ووراثة اليهودية وأنبياء إسرائيل.
96
ويتجلى الموروث الديني في المقدمات والخواتيم الدينية في البسملات والحمدلات، والاعتماد على المشيئة الإلهية، والدعوة بالتوفيق للصواب، والاستعانة بالله وعلم الله المطلق. وتؤدي الدعوة إلى الله إلى الدعوة للسلطان أو الإمام، ووصف الله من السلطان بنفس الصفات والألقاب.
97 (3) ابن الهيثم
و«عمل المسبع في الدائرة»
98
لابن الهيثم (432ه) موضوع هندسي يتحرى به المهندسون، ويفخر به المبرزون، وهو عمل المسبع المتساوي الأضلاع في الدائرة. ظفر به بعض المتقدمين وبعض المتأخرين، حتى ظفر به بعض الأدعياء الدخل. استعمل فيه ابن الهيثم طريقة التحليل والتركيب.
99
ويتضح فيها مسار الفكر والبرهان من المقدمات إلى النتائج.
100
ويتقدم الوافد على الموروث على الإطلاق؛ إذ يذكر أرشميدس ثم المتأخرون والمتقدمون ثم المهندسون في فقرة واحدة؛ مما يكشف عن تجميع الوافد وحصاره. ويوضح ابن الهيثم المقدمة التي استعملها أرشميدس ولم يبينها ويوضح برهانها. كما حاول المتأخرون إظهار المسكوت عنه في أقوال المتقدمين. ويحيل إلى عمله الآخر «ضلع المسبع» تأكيدا على وحدة الموضوع.
ثم يظهر الموروث على استحياء بذكر قول أبي سهل الحسين بن رستم الكوهي، واستخراجه ضلع المسبع بخط قسم بثلاثة أقسام على نسبة مخصوصة، وهو الخط الذي تتم به مقدمة أرشميدس. وتظهر الإيمانيات الأخيرة في البسملة والحمدلة والصلاة على أفضل الأنام، مع تاريخ النسخ.
101
خامسا: ابن بختيشوع، وابن رضوان، والخيام
(1) ابن بختيشوع (450ه)
من أسرة طبية مسيحية أسطورية من أصل فارسي، معاصر لابن بطلان وصديق بعد أن انتقلت مدرسة الإسكندرية الطبية إلى أنطاكية، ثم إلى حران في النصف الأول من القرن الثاني، ثم إلى بغداد في النصف الثاني منه. وكان أيضا مؤرخا أثبت أن جالينوس ليس معاصرا للمسيح. كتب «رسالة في الطب والأحداث النفسانية» لإثبات الصلة بين الطب والفلسفة، والصلة بين الطب وعلم النفس كما يوحي العنوان.
1
فقد نشأت مشادة كلامية في البصرة حوالي (429ه) حول هل الطب صناعة مستقلة عن الفلسفة؟ وما فضائل الطبيب؟ اعتبر ابن بختيشوع والأطباء أن الطب صناعة مستقلة، وكتب هذه الرسالة ليبين حجج الأطباء ضد الفلاسفة، وأن مكان الطب هو المستشفيات وليس مدارس الحكمة. وتزعم الفريق الآخر ابن بطلان؛ فالطب ليس صناعة مستقلة عن الفلسفة، ولا يطلق لقب الطبيب إلا على من كان فيلسوفا، وإلا كان متطببا؛ أي مشتغلا بصناعة الطب. وتجتمع الفلسفة والطب في لفظ الحكمة، والحكيم هو الفيلسوف والطبيب في آن واحد كما هو المعنى العرفي للفظ حتى الآن؛ لذلك نقد ابن بطلان الدجالين والمشعوذين الذين يمارسون الطب كصناعة وحرفة دون فهم للأمراض وعللها. الفيلسوف صاحب المنطق يعمل بالطب برؤيته الفلسفية واستدلالاته المنطقية مع الدخول في الطب التجريبي؛ فالاثنان ليسا على التعارض أو التبادل، بل على الجمع، العقل والتجربة، القياس والدربة، وهي سنة الأطباء الحكماء والحكماء الأطباء؛ لذلك فضل المسلمون جالينوس الطبيب المنطقي الفيلسوف، على أبقراط الطبيب التجريبي.
2
ليست الفلسفة حجر عثرة في سبيل العلم. وخطأ أرسطو وأفلاطون في الطب يؤدي بالضرورة إلى انفصال الطب عن الفلسفة، بل إلى التحول من الطب التجريبي إلى الطب الفلسفي. وتعارض آراء أفلاطون وأبقراط في الطب، كما لاحظ جالينوس، لا تعني خطأ الطب الفلسفي، بل تعدد الآراء الموجودة حتى الآن في الطب التجريبي. ونقد جالينوس لأفكار أفلاطون الطبية لا تؤدي إلى فصل الفلسفة عن الطب، بل تصحيح آراء الطب الفلسفي بالطب التجريبي. وإن مخاطر الطب التجريبي الذي لا يقوم على تصورات فلسفة، بل على التوحيد بين النفس والبدن، أعظم من مخاطر الطب الفلسفي الذي يقوم على التمايز بينهما. الخلاف إذن فلسفي. خطورة الطب الفلسفي الغائية التطهرية أي المثالية ، وخطورة الطب التجريبي الوضعية المادية.
والقضية الثانية هي الصلة بين الطب البدني والطب النفسي، وحق دراسة الأطباء الظواهر النفسية نظرا لارتباط النفس بالبدن، وأثر الظواهر الجسمية في الظواهر النفسية، أو أثر الظواهر النفسية في الظواهر الجسمية.
3
وهو موضوع الفصلين الأخيرين من الرسالة، وهي أكبر الفصول، مع أخذ نموذج تطبيقي على العشق كمرض يدرسه الطبيب.
4
من الوافد يتصدر جالينوس ثم أفلاطون ثم أبقراط ثم أرسطو ثم أرخيجانس ثم سقراط (بمفرده أو من داخل نص فولس) ثم فيثاغورس وتوقيذيذس وإيرقليس وأرميطوس وأوميروس وقيطاوس وليطو وثامسطيوس، ويظهر تملوقون من داخل نص جالينوس.
5
كما يذكر مؤلفات جالينوس وأبقراط وأفلاطون وأرسطو.
6
ويوصف جالينوس بلقب الجليل، وهو ممثل الطب الفلسفي، وأن الطبيب الفاضل فيلسوف. صلة الفلسفة بالطب مثل صلة النظر بالعمل، فلا نظر بلا عمل، ولا عمل بلا نظر، بل إن الفلسفة منطق لكل العلوم وليست للطب وحده. الفلسفة هي التي تضع المصطلحات الطبية ومنطق الاستدلال للطبيب. الطب العلمي يقع في التجربة الساذجة؛ لذلك تحميه الفلسفة من قصر النظر وسطحية النظرة. يحتاج الطبيب إلى القياس والنظر، وهو ما تعطيه له الفلسفة. هناك إمكانية إذن للطب الفلسفي وليس الفلسفة غير الطبية (لأفلاطون)، أو الطب غير الفلسفي (أبقراط). وقد نظر القدماء من الطبيعيين، أي الفلاسفة، ووجدوا أيضا ضرورة نظر الطبيب في الأسباب؛ مما يجعله فيلسوفا.
وفي نفس الوقت ينقد ابن بختيشوع الطب الفلسفي عند أفلاطون اعتمادا على جالينوس، ودفاعا عن أبقراط في نقده له. هناك إذن تطور للعلم من هوميروس إلى أفلاطون إلى أبقراط إلى جالينوس إلى ابن بختيشوع إلى ابن بطلان؛ من الطب الأسطوري عند هوميروس، إلى الطب المثالي عند أفلاطون، إلى الطب العلمي عند أبقراط، إلى الطب الفلسفي عند أرسطو وجالينوس. وتأييد ابن بختيشوع لموقف جالينوس من أفلاطون خطوة لفصل الطب عن الفلسفة. ومقارنته بين أفلاطون وأبقراط من أجل تدعيم أبقراط، وفصل الطب عن الفلسفة. وأفلاطون هو نموذج الفيلسوف الذي يرفض تعلم الطب تجريبيا نظرا لاعتماده على الرياضيات، على نقيض اعتماد أبقراط على التجربة وحدها. والطب الفلسفي بين الاثنين يقوم على القياس والتجربة. ومن السهل نقد ابن بختيشوع لآراء أفلاطون لإثبات آراء أبقراط، والدخول في معارك القدماء، ولكن من الصعب إيجاد الحقيقة بينهما. لقد تحول أفلاطون إلى مذهب مغلق فأضر بالعلم . ونقد جالينوس لأفلاطون لا يجعل أبقراط على حق؛ لأنه نقد أبقراط أيضا. ومن الطبيعي أن يفضل جالينوس طب أبقراط على طب أفلاطون، ولكنه لا يقع في الطب التجريبي الذي يدعو إليه أبقراط، بل يفضل الطب التجريبي على الطب اللاعلمي في حالة الاختيار بين الاثنين، ولكن ابن بختيشوع يضم أبقراط إلى جالينوس في نقد أفلاطون من أجل اختيار أبقراط ودون نقد أبقراط بجالينوس. ويضم ابن بختيشوع أرسطو وأبقراط وجالينوس ضد أفلاطون لإثبات الطب التجريبي.
7
ويرجع الخلاف بين المذهبين إلى تصور الصلة بين النفس والبدن. إذا وقع التمايز بينهما نشأ الطب المثالي عند أفلاطون لدراسة النفس، والطب التجريبي عند أبقراط، والذي يدافع عنه ابن بختيشوع لدراسة البدن. ترتبط الظواهر النفسية بالنفس والظواهر الجسمية بالجسم ولا تدخل بينهما. وإذا وقع الاتحاد بينهما نشأ الطب الفلسفي الذي يدرس أثر النفس في البدن وأثر البدن في النفس عند جالينوس وابن بطلان. هناك نظام طبيعي يحكمه منطق العقل لمعرفة الصحة والمرض؛ فالضرر مثلا إما يكون أوليا وهو المرض، أو بواسطة وهو السبب، أو تابعا وهو العرض. ومع ذلك يتفق جالينوس وأبقراط وأفلاطون على قسمة النفس الثلاثية؛ أي إنه يمكن للفلسفة والعلم الاتفاق على نفس القسمة بشرط أن تكون الفلسفة علمية والعلم فلسفيا.
ونظرا لارتباط النفس بالبدن كان من حق الطب دراسة الظواهر النفسية لدراستها دراسة علمية بعيدا عن الخرافات والأوهام أو الجدل والسفسطة؛ فقد جعل جالينوس من حق الطبيب الفيلسوف النظر في عوارض النفس بعيدا عن صاحب التخاريف والخدع والكتب الإلهية التي تمنع النفاق والمنافقين؛ فالعشق حالة نفسية وليس إلهية، يدرسها الطبيب الفيلسوف كحالة كما يفعل جالينوس؛ فالله تعالى ليس سببا من الأمراض. وتلك أهمية أبقراط في الطب التجريبي كما أقر في كتابه «في تدبير الأمراض الحادة»، وفي كتاب «المرض الإلهي ». لقد ساوى جالينوس بين العشق والصرع، وجعله مرضا نفسيا وليس سماويا كما قال أرسطراطس. وقد ربط أفلاطون بين العشق والشهوة في حوار بين سقراط وأغلوقون، وجعله لطلب الولد في «السياسة المدنية»، وجعله يتبع الطمع، والطمع يحرق الدم؛ أي إنه يدخل باب الأخلاط. وعند أرسطو العشق ظاهرة نفسية. ويعتمد ابن بختيشوع على أرسطو الطبيعي المنحول، وهو «كتاب الفراسة»، لإثبات دراسة النفس من خلال البدن. وعند سقراط العشق ظاهرة نفسية يدركها الطبيب، ويمكن مداوته باللحون عنده وعند فيثاغورس وأفلاطون.
8
وقد وقعت مناظرة بين إيرقليس وأرميطوس حول ارتباط العشق بالشهوة، كما روى هوميروس حكاية عشق ليطو لطيطاوس، فأكل قلبه من فرط الشهوة، وجعله فولس من أمراض الدماغ. ولا تذكر أسطورة أفلاطون «أندروجين» في المأدبة.
ومن الموروث يذكر الحجاج بن يوسف، ثم ثياذوق، ثم حنين بن إسحاق والرازي والأصفهاني، ثم إسحاق بن حنين، ثم الكندي والطبري والجاحظ.
9
وتذكر مؤلفاتهم.
10
ويعتمد ابن بختيشوع على حنين بن إسحاق لإثبات رأيه في الربط بين الظواهر النفسية والظواهر الجسمية، وقد اعتبر ابن مندويه الحب غريزة تجمع بين النفس والبدن. ويعرف العشق بحالة النبض كما حدث للحجاج مع جارية. أما الصوفية فيجعلون العشق محبة متبادلة بين الله والإنسان.
11
ويظهر التقابل بين العرب واليونان، بين الأنا والآخر، بين الجاحظ وأفلاطون، بين العشق والحب، بين اللغة العربية واللغة اليونانية.
12
ويذكر الصابئة في شمال العراق وكأنهم يونانيون، وهم عرب. يعتقدون أن الناس في ابتداء خلقهم كانوا متصلين في موضع السرر، وأن زاوس أمر بقطعهم لشدتهم وقوتهم. كما يذكر التفسير الخرافي للهند للصرع والماليخوليا والعشق والجنون، بعضها من قبل الأرواح السماوية، وبعضها من قبل الشياطين.
13
وتبدأ الرسالة وتنتهي كالعادة بالإيمانيات، وهو الطبيب النصراني؛ بالبسملة والحمدلة والدعوة، بدوام السعادة ودوام التوفيق، وتقديس الله للأرواح، وطلب الرحمة والعون اعتمادا على المشيئة.
14 (2) علي بن رضوان
وفي «الكتاب النافع في كيفية تعليم صناعة الطب» لعلي بن رضوان (453ه) المصري يتحول الطب من تأسيس للعلم على القياس والتجربة إلى كيفية تعليمه.
15
وبالرغم من نقل عمر بن العزيز الطب من الإسكندرية إلى أنطاكية وحران، إلا أن مدرسة الإسكندرية بقيت في المدرسة المصرية عند ابن بطلان وابن رضوان.
كانت جوامع الإسكندرانيين تشمل ستة عشر كتابا لجالينوس وأربعة لأبقراط بطريقة السؤال والجواب من أجل تعليم الطب عن طريق الكتب، واستقصاء تاريخ الطب وتطوره؛ لذلك كتب «الكتاب النافع» وكتبا أخرى، مثل «مقالة في شرف الطب»، و«مقالة في مذهب أبقراط في تعليم الطب».
16
كانت طريقة في التعليم قراءة الكتب لإسماع الشيوخ، والاقتصار على الطب وحده دون النحو والعربية والآداب وأحكام النجوم، ونقد الدراسات الثانوية «الكنانيش» والاختصارات من أجل العودة إلى الأصول الأولى عند جالينوس وأبقراط. وقد شرح خمسة عشر عملا لهما، مع أن مدرسة الإسكندرية كانت تقوم بتعليم المنطق والهندسة والحساب والعدد والمساحة والموسيقى والنجوم للتعود على البرهان؛ فالعلوم الرياضية مقدمة للعلوم الطبيعية.
17
تاريخ العلم جزء من العلم بعد مراجعة أو بيان، وعدم الاكتفاء بسماع الرد على الشيخ دون قراءة أو نقد أو تعليق أو مراجعة، بل مجرد حفظ ونقل اللاحقين عن السابقين. والانعكاف على نقل القدماء دون إبداع المحدثين انعزال وانكفاء وانطواء. ثم يأتي دور القياس والتجربة وتصديق الأدبيات والتحقق من صدقها بجهد الطبيب؛ فأنواع العلاج ثلاثة: القياس والتجربة والحيلة. لذلك يربط ابن رضوان بين الطب والصيدلة. لذلك كان الباب الرابع كله في المقالة الأولى في بيان أغراض كتب أبقراط وطرق تعلمه؛ فقد أخفى أبقراط أغراضه؛ لأنه تكلم باللغز حتى لا يعلمه إلا لولده، كما أن الباب الخامس في كيفية تعليم جالينوس.
18
وتحقق جالينوس من كتاب ديسقوريدس في الأدوية، وقاسها بالتجربة لمعرفة أغاليطه. ويقتبس ابن رضوان نصوصا من جالينوس لدرجة توحي بانبهاره بالقدماء ونقمته على المحدثين. وأرسطو هو الذي أعطى جالينوس المبادئ العامة للطبيعة. ويقوم ابن رضوان بتحليل الطب على مستوى الشعور لمعرفة غرض كل طبيب؛ فالعلم قصد. ابن رضوان وحده، مغرورا، هو الذي فهم الطب، وصحح أخطاء السابقين. ولم يفهم أحد جالينوس مثله، قارئا الرازي، قارئا جالينوس، قارئا ثاسلس، قارئا أبقراط، مرايا أربعة استطاع ابن رضوان أن ينفذ إليها كلها .
19
ولا يتضح في النص فقط أولوية تمثل الوافد على تنظير الموروث، بل الانبهار بالوافد ونقد الموروث. فمن الوافد يتصدر جالينوس، ثم أبقراط، ثم ثاسلس، ثم ديسقوريدس أساسا، ثم أفلاطون وأرسطو، ثم إقليدس وأغلوقون وبطليموس وأورباسيوس، في حين يتصدر الموروث الرازي، ثم حبيش، ثم علي بن عباس المجوسي وعمر بن عبد العزيز والمأمون، ثم أيوب الرهاوي وسرجس الراسي وأبو سعيد بن الكرجي والمصري والبطريق.
20
وبقدر ما يوجد المدح للوافد اليوناني، فجالينوس أفضل الأطباء والذي يحذى صنعه، حتى إنه ليستشيره في أحلامه، وأبقراط أول من أحكم مصطلح ومهنة الطب، وديسقوريدس لاعتماده على التجربة، ينقد الرازي في الأخلاط، وأسلوبه خشن في نقد معاصريه وسابقيه، مثل حنين بن إسحاق، كما يتضح ذلك في قسمة كتابيه إلى مقالين بلا عناوين. ومع ذلك فالأول في الانبهار باليونان أبقراط وجالينوس، بل في عناوين الأبواب، والثاني في بيان الأسباب المغلطة لكتب الطب بعد جالينوس حنين بن إسحاق والرازي، والأولى أكبر والثانية أصغر.
21
يقيس حنين بجالينوس، والموروث بالوافد، ويحكم عليه بالجهل، مع أن الخطأ بالطب لا يعني الجهل به. ويتحقق من خطأ الرازي بذكر النصوص المئولة.
22
لم يستطع ابن رضوان قبول مناهج التعليم في عصره، ولا السفر إلى بغداد للتعلم، فعكف على شرح الأصول بداية بجالينوس في كتاب «في آراء أبقراط وأفلاطون»، وأعجب بجالينوس؛ لأنه وجد أن صناعة الطب لا تقوى إلا بدراسة الهندسة أو المنطق لمعرفة طرق البرهان، وللمساعدة على معرفة القرانين الكلية في صناعة الطب؛ لذلك كان منطقيا وطبيبا؛ فالطب المنطقي أفضل من غياب المعلم الجيد. وبالرغم من مساهمة المصريين واليهود في الطب إلا أن جالينوس هو صاحب الفضل الأعظم فيه. ولقد عرف ابن رضوان أبقراط وأفلاطون من خلال جالينوس الذي يعني باليونانية الفاضل أو المؤيد، كما يصفه ابن رضوان.
23
وتظهر البيئة اليونانية في أسماء الأماكن وتحديد الأقاليم والزمان القديم، في مقابل البيئة العربية الإسلامية التي تضم اليهودية والنصرانية وفلسطين ومصر والفرس والهند. وقد توحي الإحالة إلى مصر إلى وجود مدرسة مصرية في الطب في التصور العام لارتباطه بالبيئة في الطب الجغرافي لحديثه عن وضع مضار الأبدان عن أرض مصر وهواء مصر، وأزمنة الأمراض، والإشارة إلى بدايات الطب عند قدماء المصريين، وتعلم جالينوس في مصر، وكون بعض الأطباء اليهود النصارى من مصر. ولما ظهرت ملة النصارى كف الناس عن الاشتغال بالطب، وضعفت الصناعة، وذهب البعض إلى فارس. فلما جاء الإسلام أحيا عمر بن عبد العزيز الصناعة، ثم ظهر حنين في عصر المأمون، ثم ظهر المترجمون، مثل سرجس الراسي وأبو سعيد ابن الكرجي وأيوب الرهاوي والبطريق، ولا ينسى دول المغرب والعرب والجناح الشرقي كله في فارس والهند. ولا تظهر آيات قرآنية أو أحاديث نبوية، والعبارات الإيمانية قليلة للغاية لا تتجاوز البسملة والصلاة على محمد وآله والمشيئة الإلهية.
24 (3) عمر الخيام
ولا يقتصر تمثل الوافد قبل تنظير الموروث على العلوم الطبيعية وحدها، الطب والكيمياء، بل يشمل أيضا العلوم الرياضية مثل الهندسة، الرياضيات مع المنطق والطب مع الطبيعيات، مثال ذلك «مصادرات إقليدس» لعمر الخيام (515ه)،
25
وكلها ضمن علوم الحكمة التي يشتغل بها المشايخ والأئمة؛ فالعلوم الطبيعية والرياضية جزء من علوم الحكمة وفروع عليها.
26
والأصل يقيني، وقد تكون الفروع ظنية. الحكمة مضبوطة يمكن معرفتها، وأسبابها متناهية بالعقل. أما الفروع فأسبابها غير متناهية ولا تحيط بها العقول. تقوم الحكمة على العقل، في حين تقوم علومها الفرعية على التخيل والوهم.
27
وترتبط الرياضيات بعلوم الحكمة، بالفلسفة والإلهيات، وهي أسهل أجزاء الحكمة إدراكا وتصورا وتصديقا؛ فالحساب ظاهر بديهي، والهندسة لا يخفى منها شيء على سليم الفطرة، ثاقب الرأي، جيد الحدس، منفعتها شحذ الخاطر وتقوية النفس على البرهان، وهي وسيلة ليست غاية. العلوم متدرجة من أسفل إلى أعلى، من الطبيعيات إلى الرياضيات، إلى الحكمة والمنطق، إلى الإلهيات.
ومعلوم من البرهان في المنطق أن كل صناعة برهانية لها موضوع للبحث عن أعراضه الذاتية ومقدمات، إما أولية مثل الكل أعظم من الجزء، أو مبرهن عليها في صناعة أخرى، وإما مصادرات؛ فالبرهان جزء من المنطق الذي هو جزء من الحكمة.
ثم يتم تطبيق ذلك على كتاب «الأصول» لإقليدس، وهو أصل جميع الرياضيات للبرهنة على ما ظنه إقليدس مصادرة؛ فأصول الرياضيات عند إقليدس إما النقطة والخط والزاوية والسطح والدائرة، وإما مقدمات غير أولية، مثل انقسام المقادير إلى ما لا نهاية والخط المستقيم بين نقطتين، وهو ما يحتاج إلى برهان من الحكيم، وإما المصادرات، مثل المثلث والمربع والمخمس. مهمة الخيام البرهنة على ما ظنه إقليدس مصادرة، مثل كل خطين مستقيمين يقطعان خطا مستقيما على نقطتين خارجتين منه في جهة واحدة على أقل من زاويتين قائمتين يلتقيان في نفس الجهة. وقد ترك المتقدمون، مثل إيرن وأرطوقس، هذه المسألة، كما حاول المتأخرون، مثل الخان والشتي والتبريزي، البرهنة عليها؛ فتاريخ العلم متواصل من اليونان إلى المسلمين. أراد الخيام أن يراجع الموروث لولا كثرته، فاتجه إلى الأصول مباشرة. وقد حاول ابن الهيثم ذلك أيضا في كتابه «حل شكوك الغاية الأولى»، ولكنه تكلف البرهان وخرج على أصول الصناعة. وقد يكون السبب بترا في المخطوط أو خطأ من النساخ.
28
ويتصدر الوافد الموروث في العمق لكثرة الإشارة إلى إقليدس وأن تصدر الموروث الوافد في الاتساع لكثرة اسماء اعلام الموروث.
29
ويتصدر الوافد الموروث في الإحالة إلى الكتب.
30
وبالرغم من مدح أصول إقليدس وذكر نصوصه، إلا أن الخيام يبحث عن الأسباب التي من أجلها جعل إقليدس بعض مصادراته من غير برهان؛ ربما لغلبة الظن على إقليدس؛ وبالتالي فإن مهمة الخيام تحويل الظن إلى يقين. كان هدف إقليدس إرجاع الهندسة إلى الفلسفة، والظن إلى اليقين، والرياضة إلى المنطق، والفرع إلى الأصل، والانتقال من التناسب المشهور لإقليدس إلى التناسب الحقيقي عند الخيام. ونظرا لأهمية اللغة واشتقاق الأسماء يشرح الخيام الألفاظ لتوضيحها ورفع اللبس في معانيها. كما ينقد إطناب إقليدس بلا لزوم. كما خلط إقليدس بين الحساب والهندسة؛ لأنه يود أن يكتب كتابا شاملا في الرياضيات لاحتياجه إلى علم الحساب في المقالة العاشرة. ويقارن الخيام إقليدس مع بطليموس وأبولونيوس وضعا له في تاريخ الرياضيات عند اليونان. وبالرغم من أنه يسميه هذا الرجل في معرض النقد إلا أنه يجد له الأعذار لاعتماده على أرسطو الحكيم . لم يستطع الشراح اليونان حل هذه الشكوك.
31
ويصف الخيام مسار فكر إقليدس، مقدماته ونتائجه واستدلالاته، مستعملا أفعال البيان أكثر من أفعال القول.
32
ويخرج معاني إقليدس بالقوة، من المنطوق به إلى المسكوت عنه. ويدعو القارئ إلى مشاركته في الفهم.
33
وسبب خطأ المسلمين غفلتهم عن مبادئ أرسطو، واعتمادهم على إقليدس وحده، وفصل الهندسة عن الحكمة، وفصلهم بين إقليدس وأرسطو. كان نقد ابن الهيثم له نقدا ضعيفا، وأخطأ في نقده. وقد حاول المتأخرون، مثل الخان والشتي والتبريزي أيضا، دون الوصول إلى برهان نقي. أما ثابت والحجاج فقد قاما بالنقل دون النقد، وإن كان ثابت أفضل مكتفيا بالإصلاح الجزئي. كما غفل المتأخرون عن التمييز بين الموضوع والمحمول، واكتفى التبريزي ببرهان الخلف دون البرهان الصحيح.
34
ويبدأ الكتاب وينتهي كالعادة بالبسملات والحمدلات، وطلب التوفيق والعون، والصلاة على الرسول، واعتبار طلب العلم وسيلة للنجاة ونيل السعادة الأبدية؛ فالعلم هو القوانين العامة والكليات التي يتم بها إلى التوصل لإثبات المعاد وخلود النفس، ومعرفة أوصاف واجب الوجود، وترتيب الخلق، وإثبات النبوة.
سادسا: الطغرائي، واللوكري، وابن باجه
(1) الطغرائي (515ه)
له «حقائق الاستشهاد»،
1
وهي رسالة في الكيمياء للرد على ابن سينا وإنكاره لها. بداية لظهور التراكم الداخلي كدافع على التأليف. ويعني العنوان الاستشهاد على أخطاء ابن سينا اعتمادا على نصوصه، وليس الاستشهاد في الفتوحات. تهدف إلى الرد على أعداء صناعة الكيمياء، وتأييد أنصارها، والتمييز بين الكيمياء العلمية والسيمياء الخرافية التي تهدف إلى تغيير جواهر الأشياء اعتمادا على السحر والإضرار بالناس؛ فهي رسالة سجالية يظهر فيها مسار الفكر واستدلاله، مقدماته ونتائجه.
2
يتصدر فيها تمثل الوافد على تنظير الموروث في العمق والاتساع. ومن الوافد يتصدر هرمس، ثم بليناس، ثم أفلاطون وفيثاغورس وديمقريطس، ثم أرسطو وسقراط، أغاديمون، وزوسيموس، وجالينوس، وفرفوريوس، وأسفيدروس، وأرس. ومن الوافد الشرقي جاماسف.
3
كل الحكماء، كأفلاطون وأرسطو، مشهود لهم بإتقان العلوم؛ أفلاطون وأرسطو قديما، والفارابي وابن سينا حديثا. وكثير من الكتب المنسوبة إلى أجلة الحكماء غير صحيحة، مشكوك فيها، غير موثوق بها، بعيدة عن كلامهم، مضطربة النظم، وغير دالة على معاني الحل والعقد والمزج والاستحالة، وهي العمليات الكيميائية، وقد قال الحكماء كلهم بالطبائع الأربع. أما في أسماء الكتب المحال إليها فيتصدر الموروث الوافد. وذكر الحكماء مرة واحدة دون تمييز بين وافد وموروث. كما يضم لفظ القدماء الوافد والموروث معا بمعنى القدماء والمحدثين. ويتهم الطغرائي القدماء بالانتحال في النظم وفي المضمون.
وهرمس هو شيخ الحكماء الذي وضع أسس علم الكيمياء وأصل الطبائع الأربعة، والماء فيه سر كبير، ووضع قوانين التعفن، وكذلك عرفها الحكيم أرس، وهو ما عرفه جاماسف أيضا باعتباره الماء أصل الطبائع، وعبر عن ذلك فيثاغورس بطريقة العدد، وديمقريطس بطريقة الجزء الذي لا يتجزأ، وأشار بليناس إلى لون الكواكب والأجساد المنسوبة إليها. ويحال إلى «مصحف الحياة» لأرس، وإلى كتاب «الرموز» للراهب.
وينقد الطغرائي الموروث الكيميائي بأنه مملوء بالخرافات والمحالات، والدعاوى الباطلة، والخلو من الفائدة، وقلب الجواهر حقيقة وليس صباغة. ويستشهد بأقوال ابن سينا، وهو موضوع النقد، ضد السيمياء، ويسخر منه في كتاب «الشفاء»، ويسميه «صاحبك». وهي كتب خالد بن يزيد وجابر بن حيان وابن وحشية وابن زكريا. ويستعمل ألفاظا فقهية، مثل الحل والعقد، لتعني التحليل والتركيب.
4
ويتصدر الموروث ابن سينا، ثم جابر بن حيان وابن وحشية والراهب، ثم الفارابي وخالد بن يزيد وقدامة والرازي وإصطفن؛ فهم مشهود لهم أيضا بالتدبير في إتقان العلوم، مثل الفارابي وابن سينا. وكتب الإسلاميين، مثل خالد بن يزيد وقدامة وجابر بن حيان وابن وحشية وابن زكريا، بها كثير من الخرافات ومحالات يشهد الامتحان ببطلان دعاويها، خالية من الفائدة، موهمة بكتب الحكمة بألفاظها ومقاصدها؛ لذلك نقدهم ابن سينا لأنهم يدعون تحليل الحجارة وتحويلها إلى مياه رائقة. واحتار الناس فيما سموه الحلول والعقود والتراكيب والموازين والتشاميع والتصاعيد والتكليس والأمزجة. وتابع إصطفن وجابر وابن وحشية كلام فيثاغورس في الأعداد، وعرف إصطفن الألوان والأجساد الأربعة إثر هرمس في ذكر ألوان الطبائع.
5
ويحال إلى باقي أعمال الطغرائي، مثل «جامع الأسرار» و«مفاتيح الرحمة»، ثم إلى كتاب «الشفاء» لابن سينا للاستشهاد بأقواله وإبطالها، ثم بكتاب «الرحمة» لجابر بن حيان.
6
ومن الموروث الأصلي تذكر آيات قرآنية خمس وحديث تفيد الحكمة، وتحذر من خداع النظر، والضلالة في خلق الله، وهدايته لكل شيء، ويحذر من الارتزاق بالعلم لأن الرزق من الله. يثبت القرآن فضل الحكمة التي كانت غاية الحكماء؛
يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا . أما الكتب الإسلامية المموهة فإنها خالية من الحكمة، هي مجرد سراب يحسبه الظمآن ماء،
كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا . وتعتمد الحكمة على المبادئ العامة قبل تفصيلاتها، وبدونها تستحيل المعرفة،
ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا . والطبيعة والصناعة على نسق واحد،
ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ، وإنما يتفاوت الأثر بالأقل والأكثر والسلامة والدفاق والمقادير،
الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى . وكل شيء في الطبيعة يقوم على الانسجام والتأليف، «إن الأرواح جنود، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف».
فالكيمياء علم يقود إلى الإيمان، والحكمة تتوسط بينهما وتوحدهما، ومن اختص بهذا العلم خصه الله بفضل كثير، وما أعده الله لعباده الصالحين. ويثبت هذا الفن أن الله يرى العالم ويعمل لمصلحة البشر، فيطلع العلماء على أسراره. والكتاب مملوء بالإيمانيات من البسملة والصلاة على الرسول وآله وصحبه في البداية، حتى الدعوة بالعون على الفهم والرزق بالاطلاع على حقائق العلم، إنه جواد كريم منان. وخلال الرسالة كلها دعوات إلى القارئ وطاعته لله، وبأن يكون من الفائزين برحمته، الحاصلين على حكمته، والعصمة من الخلل والزلل، والتمسك بالعهود والمواثيق مع الله.
7 (2) اللوكري
وفي «بيان الحق بضمان الصدق» للوكري (517ه)، يستمر تيار ابن سينا ومدرسته الإشراقية، بل ومنهجه في التأليف، صمتا عن المصادر. ويتكون من قسمين؛ الأول: العلم الكلي. والثاني: الربوبيات، وهو العلم الربوني الذي يشمل المبدأ الأول وسائر المفارقات الروحانية الملكية، وهو جزء من مشروع كلي في العلوم الحكمية.
8
وهو مؤلف على سبيل التلخيص والشرح لابن سينا؛ فالشرح والتلخيص ليسا قاصرين على الوافد، بل أيضا للموروث. ويقل فيه ذكر أسماء الأعلام والاكتفاء بالحديث عن «في اقتصاص مذاهب الأقدمين في التعليميات والسبب الداعي إلى ذلك»، ضاما لهم جميعا في وعي تاريخي واحد.
9
وله طابع تجريدي نظري عام مثل «الشفاء»؛ مما يجعله يتراوح بين تمثل الوافد والإبداع الخالص، بداية التأليف ونهاية التراكم، وهو أقرب إلى الصمت على مصادره مثل ابن سينا. يتحول من التاريخ إلى الموضوعات المستقلة؛ فقاطيغورياس ليس كتابا من كتب منطق أرسطو، بالرغم من التقريب، ولكنه موضوع المقولات ذاته مستقلا عن مؤلفه، حتى ولو كان أرسطو.
وموضوعه العلم الإلهي، وطريقته على سبيل التلخيص والشرح بشرط عدم الإخلال بشيء من قوانينه، ولا تطويل شيء من فروعه، باستثناء المقالة الثالثة، النفس الإنسانية ومعادها وانقطاعها عن الحالة البدنية، وحالها من العلم والجهل بالأشياء، على عكس ما جرت به العادة في الكتب المألوفة بين أيدي الناس؛ فالنفس موضوع للإلهيات على عكس أرسطو الذي جعلها موضوعا للبدن، ثم تلحق بها فصول متنوعة من علم الأخلاق في اكتساب فضائل النفس الإنسانية وعقد المدينة الفاضلة.
10
لذلك قلت أفعال القول؛ لأنه ليس تعاملا مع أقوال، بل مع الموضوعات ذاتها، ومعظمها في صيغة المتكلم الجمع «نقول» دون تعيين القائل،
11
أو في المبني للمجهول «قيل»، كما يظهر مصدر «القول»، ويظهر «قال»، كما تظهر أفعال البيان في الأزمان الثلاثة، فعلا ومصدرا، ومعها أفعال الاستدلال، مثل ظن، سأل، فرض، نظر، سلم، شرح.
12
ويظهر أسلوب الاعتراض على النفس من أجل إحكام الاستدلال وبيان اتساق الفكر. وتتم مخاطبة القارئ بصيغة «اعلم»؛ فالفكر تجربة مشتركة.
13
وليس الكتاب مجرد تلخيص وشرح لابن سينا، ولكنه أيضا له مواقفه الخاصة واعتراضاته في فصول بأكملها.
14
ويتصدر الوافد الموروث، يتصدر المعلم الأول، ثم أفلاطون، ثم بطليموس، ثم سقراط وثامسطيوس، ومن الفرق الفيثاغوريون، ومن الكتب الربوبية «أثولوجيا» والمجسطي.
15
وعوضا عن قلة الأسماء يتعرض الكتاب إلى المذاهب، «في مذاهب الناس في وجود الجسم وفي إثبات الهيولى والصورة والإشارة إلى معنى الاتصال والانفصال»، وأيضا «في اقتناص مذاهب الأقدمين في المثل ومبادئ التعليمات والسبب الداعي إلى ذلك».
16
ويتم الحديث عن «قوم ظنوا»، «قوم قالوا»، «قال قوم من أهل العلم»، «قال بعض الأوائل»، «قال قوم آخرون»، دون تعيين؛ فالمهم هو الموضوع وليس القائل فردا أو جماعة. والجماعة غير المتعينة تدل على المذهب، والتحول من الشخص إلى التيار أحد مظاهر التحول من النقل إلى الإبداع.
ومن الموروث لا يظهر إلا صاحب كتاب الشفاء، والشفاء، والرئيس أبو علي في الإنصاف، ويدعو له «روح الله رمسه، وقدس نفسه».
17
كما يستشهد بآية قرآنية واحدة،
يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور ، وهي نفس الآية التي يستشهد بها ابن سينا في «المبدأ والمعاد».
18
وكما يبدأ المؤلف بالبسملة، والصلاة على محمد وآله، والدعوة بالعون يا لطيف، ينتهي بالحمدلة، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، في كل من الجزأين.
19
وفي نهاية الفصل تظهر التعبيرات الدينية، مثل «الله أعلم»، «والله أعلم بالصواب».
20
وتظهر التعبيرات الدينية التشبيهية، مثل أن السماء حيوان مطيع لله، تعالى، وحده.
21 (2) ابن باجه (أ) وبالرغم من العنوان الإبداعي «تدبير المتوحد» لابن باجه (533ه)، إلا أنه في الحقيقة أقرب إلى تمثل الوافد قبل تنظير الموروث،
22
بل إنه أقرب إلى تمثل الوافد وحده نظرا لحضور أفلاطون ثم أرسطو ثم أبقراط وجالينوس ثم الإسكندر وأغسطس وسقراط وهرمس وهرقليطس، في حين لم يظهر الفارابي إلا مرة واحدة.
23
ولا يحال إلا إلى أسماء مجموعات الوافد، مثل «الأولون» و«المتقدمون».
24
ولا يحال إلا إلى أسماء كتب الوافد، ومعظمها لأرسطو.
25
ومن حيث الألفاظ المعربة لا يظهر إلا لفظ واحد؛ سقومنيا.
يحال إلى أرسطو كسابق على ابن باجه في نشأة اليقين في التصورات والتصديقات، كما عرض أرسطو في الثانية من «الحس والمحسوس» ربطا للجديد بالقديم، وللمحدثين بالقدماء، وللأواخر مع الأوائل، استمرارا للتراث الفلسفي. ويحيل إليه مرة ثانية في نفس الموضوع، وإلى نفس المصدر. ويدرس التذكر والخطابة، وتأثير المتمثلين على الشباب، وانخداعهم بهم، محيلا إلى نفس المعد أيضا. ويذكر كتاب الأخلاق في موضوع الكمال والفضائل الفكرية، وهي العلم والعقل. ويميل إلى أخلاق نيقوماخوس في أن النقص ليس من قبل السن أو العامة أو الخلق، بل الأفعال الإرادية. كما يذكر هرمس كنموذج للحكيم عند أرسطو. ومن خصائص المدينة الفاضلة التعقل. كما يشير ابن باجه إلى مثال أرسطو في الانتحار بعد التيقن من غلبة العدو. وبالرغم مما قد يبدو في ذلك من إفراط إلا أن إتلاف الجسم خير من مذلة الروح. ويحيل إلى كتاب البرهان والمقولات والريطوريقا لتصحيح الفكر، مثل الإحالة إلى القرآن وسائر الكتب المقدسة للاستشهاد بها، وبيان حكم المختلف فيه؛ فالصور البرهانية قد تكون موضوعا للمنطق والبرهان. والكاذب لا يمكن أن يعلم أصلا؛ لأنه ليس له طبيعة محدودة، كما تبين في كتاب البرهان. كما أن نسبة القضايا بعضها إلى بعض في كتاب المقولات، وانخداع الشباب بالمتحنكين في كتاب الخطابة. وتكثر الإحالة إلى «الحس والمحسوس» في موضوع الصور الروحانية، وكذلك الظن الصادق والتصور والتصديق عند المحدث في الرؤيا الصادقة وفي الكهانات. كما يحال إلى شرح السادسة والسابعة والثامنة من السماع، وإلى كتاب الحيوان وكتاب النفس له تأكيدا على وحدة المشروع الفلسفي. كما يحيل إلى «ما بعد الطبيعة»، وإلى كتاب النفس والحس والمحسوس في العقول البسيطة الجوهرية التي يعقلها الحكيم. ويحيل إلى «نيقوماخيا» دون ذكر اسم أرسطو، انتقالا من المؤلف إلى التأليف، ومن الشخص إلى الموضوع. ويحال إلى مذهب أرسطو كله، لا فرق بين المنطق والطبيعيات والإلهيات، ولا فرق بين الطبيعيات والإنسانيات؛ فالطبيعة إنسانيات خارجية، والإنسانيات طبيعيات داخلية، والحركة في الاختيار وفي الطبيعة. ويزيد ابن باجه على أرسطو، ولا يكرر ما قاله بحيث يبدو أرسطو دائرة منعزلة مع دوائر أفلاطون وجالينوس مركزها ابن باجه.
26
ويستشهد ابن باجه بجالينوس في أن صلة الطبيب بعلاج البدن مثل صلة العالم المدني بعلاج المدن. هناك تشابه بين الطب والسياسة. ويحيل إلى كتاب جالينوس في حفظ الصحة أو استرجاعها إذا زالت عن طريق الطب. كما يستشهد به للتمييز بين الكيمياء وصناعة النجوم، بين طب النفوس وطب الأبدان. أما الحكومة فإنها تضع طب المعاشرات. فجالينوس الطبيب يقرأ النفس والمجتمع والسياسة قياسا على الطب، كما هو الحال عند الفارابي. ويضرب ابن باجه المثل بالإسكندر الأكبر وبأبقراط ملكا وطبيبا لحب طول البقاء وزيادة العمر بالطبع، وكلما زاد العمر كان أحب للنفس. ويبين ابن باجه أن أفلاطون قد بين تدبير المدن في السياسة المدنية وبين معنى الصواب فيه، ومن أين يأتيه الخطأ وعلى الآخرين الحكم على ما قاله. كما أنه يكمل أفلاطون في الخامسة من كتاب السياسة في موضوع القرابة؛ فكلها إنسانية، وأكثرها بالوضع والشريعة. ويستشهد بقول أفلاطون إن الطبيعة لا تخطئ فيما تختاره من النفس. ويستشهد بقول أبقراط إن البدن الرديء كلما غذيته ازددته شرا، وبقول سقراط إن الإنسان إذا وصل إلى سن متقدم وكان حكيما أصبح في جملة السعداء.
27
ويستعمل ابن باجه أسماء الفرق، مثل حكماء الطبيعيين على الخصوص، والحكماء على الإطلاق، وهم الذين يعلمون حصول الغاية للفاضل في حين أن أكثر الناس لا يعلمها، كما يذكر الفلاسفة والمتفلسفون دون تحديد انتمائهم للوافد أو الموروث بعد أن أصبح الوافد موروثا، فيما يتعلق بما يسميه الجمهور التشكيك، وما يسميه الفلاسفة اشتراك الاسم، ومثل قلة استعمالهم لفظ روحاني. وما زال ابن باجه يستعمل بعض الألفاظ المعربة، مثل «السقمونيا».
28
كما يظهر الوافد الشرقي الفارسي والهندي في مقابل الوافد اليوناني؛ فمن الوافد الفارسي يحيل ابن باجه إلى سيرة الفرس الأولى المركبة من السير الخمس حكاية عن الفارابي؛ فالفرس مصدر للأخبار عن أنواع المدن؛ أي عن الفكر السياسي، ومصدر لعادات البشر، مثل نكاح الأمهات. يتحدث عن فارس وهو في الأندلس؛ مما يدل على الوحدة الجغرافية للعالم الإسلامي. ويظهر الموروث الهندي في كتاب «كليلة ودمنة» الذي أصبح وافدا هنديا، وترجمة فارسية، وموروثا عربيا، وهو جزء من الآداب النفسانية، مع آداب حكماء العرب التي تشتمل على الوصايا والأقاويل المشهورة. كما يؤخذ نموذجا للآداب غير الصادقة الخيالية التي لا تطابق الواقع، على عكس شعر امرئ القيس الذي يتحدث عن وقائع تاريخية.
29
ويظهر الموروث في سبع صور: الفلسفة، والتصوف، واللغة العربية، والشعر العربي، والتاريخ، والجغرافيا، وأخيرا القرآن والحديث.
30
ويلاحظ أولوية اللغة والشعر على الفلسفة والتصوف. كما يشير التاريخ والجغرافيا، إلى البيئة العربية الإسلامية كمواطن للتأليف. ومن الفلاسفة لا يوجد إلا الفارابي، في حين من الصوفية إبراهيم بن أدهم وأويس القرني وهرم بن سنان. ويظهر أبو نصر الفارابي راويا عن الفرس السير؛ فكان نافذة للعالم الإسلامي على الحضارات الوافدة، الفارسية والتركية واليونانية. كما يشير إلى حيل ابن شاكر في موضوع العمل الخطأ الذي ينال به غرض آخر؛ فكل ما في الحيل أشياء يقصد بها التعجب وليس الكمال الإنساني. الحيل نموذج لتوليد قصد آخر. ويستشهد باعتراف الغزالي بأنه أدرك مدركات روحانية وشاهدها مستشهدا بقول الشاعر:
وكان ما كان مما لست أذكره
فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر
ومع ذلك ينقد ابن باجه الصوفية، وما ظنوه غاية الإنسان، ودعاءهم «جمعك اللهم ويمين الجمع»؛ لأنهم قصروا عن الصور الروحانية المحضة، وأخذوا بأشباهها؛ لذلك قال الصوفية إن السعادة القصوى قد تحصل بلا تعلم، بل بالتفرغ والتذكر الدائم. وهنا تفوق الحكمة التصوف؛ إذ يستحيل الحصول على الصور الروحانية بالرياضة والمجاهدة فحسب دون تعلم ومع غياب العقل والبرهان. التصوف مجرد خيالات وليس عقلا، خال من مقياس للصدق والكذب كما هو الحال في الحكمة المنطقية، وهم لا حقيقة، نزوع وليس عقلا. ويصبح الصوفية حكماء لو توجهوا نحو الروحانية العامة التي هي كمال النفس الناطقة.
31
ويظهر اللسان العربي والشعر العربي بعد الفلسفة والتصوف؛ فلفظ التدبير في لسان العرب يقال على معان كثيرة أحصاها أهل لسانهم، وأشهرها ترتيب الأفعال نحو غاية مقصودة. وفي بداية كل باب يبدأ ابن باجه بتحليل لغوي لمعاني الألفاظ، مثل تدبير، روح، روحاني، تتضح فيه ظاهرة التشكل الكاذب، بالتبادل مع ألفاظ للقرآن، مثل روح، نفس، أسماء لا صفات، مثل روحاني، نفساني.
32
كما يحاول البحث عن اسم عربي لوصف الحيوان، أو اختيار أقرب للاسم دون اللجوء إلى التعريب؛ فالروح يقال في لسان العرب على ما تقال عليه النفس، وهو عند المتفلسفين لفظ مشترك يراد به الحار العزيزي، آلة النفس. وعند الأطباء الأرواح ثلاث: طبيعي وحساس ومحرك. والروحاني من روح بالمعنى الثاني أي الحساس، أو الثالث بمعنى الجوهر الساكن المحرك لسواه. وهو ليس جسما، بل صورة لجسم؛ لأن كل جسم متحرك. وشكل اللفظ غير عربي، بل دخيل على لسان العرب، وعلى غير قياس النحاة؛ لأن المقيس روحي. ويستعمله المتفلسفون بمعنى الجسماني والنفساني. والهيولاني لفظ دخيل على اللسان. وكلما كان الجوهر أبعد عن الجسمانية كان أخلق به، مثل العقل الفعال والجواهر المحركة للأجسام المستديرة. وأحيانا يوجد معنى، مثل ما يتحرك إلى ما يشتهيه إلى وقت توجد له فيه الروية، ولا يوجد له اسم في لسان العرب، فيأتي بلفظ دخيل. ومع ذلك أقرب الأسماء العربية إليه هو «اليفعة». ويحلل ابن باجه المصطلح في اللسان العربي لرفع الخطأ؛ فشكل لفظ «مدرك» يدل على المحرك والمنفعل؛ لذلك كانت المحركات أشخاصا وليست كليات. كما يحاول إيجاد ألفاظ عربية للمعاني الفلسفية، مثل تسمية حال النشاط عند العرب نشاطا، وبطء حركة الضعيف كسلا؛ فإن لم يجد لفظا عربيا للمعنى فإنه يحاول إيجاد لفظ، مثل تسمية الحيوان الذي يربي أولاده المحصل الكامل، وتسمية الصور الروحانية التي لا عمل لها بأقرب الأسماء إليها، مثل الوهم والخيال، دون الأسماء المركبة، مثل «ما لا يبالى به». فالمصطلح لفظ أكثر منه عبارة شارحة. الألفاظ العربية موضوع سائد منذ نشأة المصطلح الفلسفي في عصر الترجمة ومراحل النقل حتى إبداع لفظ عربي جديد في مرحلة الإبداع.
33
ويلجأ ابن باجه إلى أشعار العرب كدليل على ما يقول، مثل نبوءات زرقاء اليمامة وتأبط شرا؛ فالشعر مصدر للفلسفة مثل التصوف. الشعر برهان الحكمة، والتجربة الشعرية تصديق للتأمل الفلسفي. وابن باجه شاعر، كما أن ابن رشد أديب. كما يستعمل الشعر العربي لإثبات المعنى الحرفي للفظ الذكر عند العرب، وأن الخلود في الذكر وليس في المال، في العمر الثاني وليس في العمر الأول، في البقاء وليس في البلى، وهو ما تدل عليه أيضا السير. وتنال هذه الأفعال بالقوة الخيالية، وليس بالحس المشترك. أما الأفعال الجسمانية فتقود إلى المذمة، ولا تنال بها الأفعال الباقية بذاتها. وبعضها يحفظ في ذاكرة الأمة باقترانها بأشياء أخرى، خاصة إذا كانت سيرة الأمة حفظ الأقاويل الموزونة، فيتداولها الناس والشعراء، كما فعل المحلبي بالأعشى الشاعر. وقد يتداول الناس الأفعال لغربتها والإعجاب بها. ما يهم هو اقتران الفعل بالانفعال حتى يرويه الناس. وفي هذا الصنف تدخل أكثر التواليف والأشعار والخطب. ولا يدخل مقصد الشاعر في العمل الفاضل، بل يدخل فقط الشوق أو الانفعال أو ما شابههما. وقد يذكر الفضلاء الأمور الغريبة والسيرة للإعجاب، لا ليذكروا به، بل من أجل كمال العمل، كما هو الحال عند كبار الأنفس ومدبري المدن. يستعملون الوعيد كما يستعملون النقائض، كالرياء وباقي الأفعال الجسمانية. ويبدو أن هناك توجها قرآنيا من آية الشعر في سورة الشعراء الشهيرة
والشعراء يتبعهم الغاوون * ألم تر أنهم في كل واد يهيمون * وأنهم يقولون ما لا يفعلون ؛ فالنص النازل يتحول إلى واقع صاعد في الشعور. يستشهد ابن باجه أيضا بالشعر العربي لوصف بكاء الديار، وللحزن على الآثار، وهو أكثر الشعر العربي لكثرة ما شاهده العرب؛ فالشعر مشاهدة، كما أن الحكمة تجربة. كما يستشهد بالشعر العربي لبيان أن الصور الروحانية التي لا يفيدها الحس ولا الطبيعة يفيدها الفكر أو العقل الفاعل قد تكون صادقة أو كاذبة، والكاذبة أكثر في بعض السير، ومنها تدخل الأماني. ويضرب المثل لمن يتلف صورته الجسمانية في طاعة صورته الروحانية في الانتحار بشعر تأبط شرا في أن الموت أفضل من العبودية، وبشعر المرواني وما فعلته الزباء مع عمرو، وملكة مصر مع أغسطس (وهو مثل أرسطو أيضا)، وما فعلته فاطمة أم الربيع وسائر بني زياد عندما لحق بها قيس بن زهير، وكما فعل حاتم الطائي عندما ذبح فرسه ولم يطعم منه وأهله شيئا.
34
ويضرب المثل بامرئ القيس على تخيل الأمور البعيدة، كما يضرب نماذج من الخيال الشعري على نسبة الصور للحس. والتصور والتصديق اضطرار وليس اختيارا، وإلا لعرف الإنسان ما يسوءه كما قال المتنبي شعرا، وكما قال أيضا في رثاء أخت سيف الدولة. ويستشهد بشعر زيد بن عدي العبادي في معرفة القرين بالقرين. ويستعمل الأسلوب العربي وضرب المثل بزيد وعمرو.
35
ومن التاريخ يضرب ابن باجه المثل على اختلاف الناس في الإدراك، ثم تداركهم الخطأ على تفضيل قوم معاوية على علي في الحزم، ثم تداركهم ذلك عندما ظهر الأمر على خلاف ذلك. كما يضرب المثل بملوك الطوائف على المتجملين الذين يذهبون المال ويتوسلون به في حوائجهم، ويتمدحون ويمدحون به وهو مذمة. وأكثر الناس يهواه في سره ويذم في جهره. ويضرب المثل لعمر بن الخطاب محدثا؛ أي مخاطبة العقل الفعال تحقيقا لظاهرة التشكل الكاذب؛ فقدرة عمر على إدراك الوحي من الواقع تأكيد على وحدة التأويل والتنزيل، العقل والوحي والطبيعة. ويضرب المثل لتصور الأفضل بالمهدي، وللأوائل بأبي دلامة الشاعر؛ فعند كل واحد صورة روحانية للآخر تحركه؛ فصورة الشاعر تحرك المهدي إلى الراحة والضحك، وصورة المهدي تحرك أيضا دلامة إلى العبس والقوام، وصورة العبس والقوام أفضل من صورة اللهو والضحك؛ فبصورة الأعلى يصير الأدنى أعلى، وبصورة الأدنى يصير الأعلى أدنى.
36
ومن الجغرافيا يظهر لفظ العرب كقوم لوصف عاداتهم في وضع البول بجوار الإبل. وأحيانا يظهر التقابل بين العرب والبربر طبقا لعادة سكان المغرب في عادة رعاية الأولاد للمنازل. وتظهر البيئة الجغرافية العربية في الإشارة إلى مصر والنيل والفسطاط كمثال لصورة في الحس المشترك، الصور الروحانية دون مشاهدة في الواقع، وصدقها تطابقها مع الواقع، وإلا كانت كاذبة. أما الصور التي لم تمر بالحس المشترك، مثل يأجوج ومأجوج، فهي محض خيال.
37
وتظهر الموضوعات الدينية، لب الحضارة الإسلامية، في التأليف، نصارى ويهود ومسلمين؛ فما كانت العرب تحكيه عن زرقاء اليمامة وتأبط شرا كانت تحكيه عن النصارى عن قوم يبنون الهياكل بأسمائهم، مع أنهم قتلوا ثم أحيوا ثم أحرقوا ثم أحيوا تنفيذا لأمر إلهي، وهي معجزات البعث. ويشير إلى الزبور في قصد السمعة وكأننا مع إخوان الصفا. والحقيقة واحدة، هي الفلسفة الإشراقية. كل شيء في كل شيء، ووحدة الأديان. ويستعمل ابن باجه بعض مفاهيم الشريعة مثل الوضع. ويستشهد بآيتين قرآنيتين لتصور الذين أخلدوا إلى الأرض البعيدين عن الصور الروحانية، مثلهم مثل الكلب الذي يلهث مع صاحبه أو بدونه. ويستشهد بحديثين؛ الأول عن أن الأعمال بالنيات، والثاني عن كمال الخلق دون فخر أو امتنان .
38
وإذا كانت رسائل ابن باجه أقرب إلى التأليف، فإن «تدبير المتوحد» أقرب إلى الإبداع؛ فلم يعد فيه فرق بين الوافد والموروث، بل فكر واحد يتجه نحو الواقع من أجل الإبداع والتنظير المباشر له، فتجتمع الروافد الثلاث، الوافد والموروث والواقع، في التأليف الإبداعي؛ فقد كتب «تدبير المتوحد» عن ظروف تاريخية عصيبة. جاء المرابطون لإنقاذ الأندلس، إلا أن السلطة كانت في أيدى الفقهاء والمقلدين، ومن الطبيعي أن تقوى المحافظة والانعكاف على الذات في لحظات الخطر وفي حالة العجز عن المقاومة، وكان الغزالي ما زال مسيطرا على الحياة الثقافية في المغرب، وابن باجه ما زال شابا؛ ومن ثم استطاع كسر الطوق الذي فرضه فقهاء الأندلس في المغرب وسلطة الغزالي في المشرق.
39
والتدبير هو ترتيب أفعال نحو غاية مقصودة، وله معنيان؛ خاص لأفعال البدن، وعام لكل أفعال الإنسان. هو نظام عقلي خاص بالإنسان وحده؛ لأنه هو الذي يختص بالفكر والعقل، يخطئ ويصيب. التدبير عمل عقلي، انتقالا من العدل الإلهي عند المعتزلة إلى العدل السياسي. والعقلانية قدر يحظى البعض به أكثر منها اتجاها إنسانيا، هي أقرب إلى الاستعداد الفطري منها إلى النظام الاجتماعي. أما البيئة والعلم والتاريخ والدين والحضارة، فهي عوامل مساعدة في تكوين العقل؛ لذلك جاءت فلسفته إنسانية عامة مثل الفارابي، وليس تصورية حرفية مهنية. تقوم على وحدة العقل والمحرك الأول والواحد، وهو الله، في شكل هرمي تقليدي. ويخلد العقل بفيض الصور العقلانية عليه؛ فلا يوجد خلود جزئي للأفراد، بل خلود كلي للعقل، مثل ابن رشد فيما بعد. ويتصل الأنبياء بالعقل الفعال بالرغم من أن ابن باجه نادرا ما يشير إليهم، على عكس إخوان الصفا. يكتفي بمجرد إشارات غامضة نظرا لتفوق الفلاسفة على الأنبياء في الاتصال، ولا يتحدث عنهم إلا في صيغة الجمع، ونظرا لتطور النبوة واكتمالها دون أية أفضلية للاحق على السابق أو للمتأخر على المتقدم. ولا توجد ميزة خاصة لخاتم الأنبياء لشخصه، بل لاكتمال النبوة. كل مرحلة قد أدت دورها وتلك خاصيتها.
40
ومراحل الارتقاء الثلاث عند ابن باجه مشابهة لمراحل الصعود والارتقاء في التصوف؛ من الطبيعة إلى النفس إلى العقل عند ابن باجه، ومن الأخلاق إلى النفس إلى الفلسفة في التصوف.
ويقترب «تدبير المتوحد» من التوحيد بين الفلسفة والتصوف؛ فالتوحيد تأمل صوفي أو تصوف إسلامي، كرد فعل على الغزالي في «المنقذ من الضلال»، التصوف الخالص الخالي من التفلسف؛ فالمتوحد هو الحكيم، والتدبير هو الطريق، والتوحد هو الله؛ ومن ثم يأتي الإنسان المتوحد شبيها بالله؛ فلا فرق بين الله الأحد والإنسان المتوحد، الواحد والمتوحد، والأوحد والوحيد.
41
وبالرغم من تلقي المتوحد الفيض من العقل الفعال إلا أن ابن باجه ينقد الصوفية؛ لذلك جمع ابن باجه بين عقلانية أرسطو وروحانية أفلاطون، بين موضوعية أرسطو وذاتية أفلاطون، ومع ذلك كان أقرب إلى أفلاطونية أرسطو، في حين كان ابن رشد أقرب إلى أرسطو.
42
يظهر اتفاق العقل والوحي عند ابن سينا وابن طفيل، ويظهر اتفاق العقل والوحي والطبيعة عند ابن باجه وابن رشد.
التدبير طريق الصوفية الذي يتبعه الغزالي أيضا، ولكن ابن باجه يعتبر الغزالي من مفكري الدرجة الثانية رغم ادعائه الحصول على الحقيقة والوصول إليها؛ فالهجوم على الغزالي ورد الاعتبار للتصوف التأملي في «تدبير المتوحد» سابق على رد اعتبار ابن رشد للفلسفة في «تهافت التهافت». وإذا كان مشروع ابن باجه هو إحياء التراث الفلسفي في الأندلس خاصة، وفي الحضارة الإسلامية عامة، فإن «تدبير المتوحد» وإشراقياته العقلية خروج عن الموضوع، وتركيز على الصور الروحانية أكثر من التركيز على العلم المدني مثل إخوان الصفا. وهذا هو أحد أسباب عدم نجاح مشروع الإحياء الأندلسي، تصوف ابن باجه. وإذا كان ابن رشد استئنافا لمشروع الإحياء فإنه لم ينقد التصوف، واكتفى بالهجوم على الغزالي أشعريا؛ لأن الأشعرية سند التصوف؛ ربما لصحبته لابن عربي أو لتصوفه الخاص.
كما يبدو من العنوان «تدبير المتوحد» غلبة الجانب الفردي الصوفي على الجانب الاجتماعي السياسي؛ فإذا ما قسم ابن باجه المجتمعات فإن العقل هو مقياس التقسيم، أو الآراء بمعنى الفارابي؛ فالمجتمع الذي يسوده العقل هو المدينة الفاضلة، والنبي خارجها، والفلسفة مصدر السعادة فيها، والفيلسوف، وليس النبي هو المحقق لها، على عكس الفارابي وابن سينا اللذين جعلا النبي الفيلسوف أو الفيلسوف النبي رئيسا للمدينة. ولا يتساءل ابن باجه عن الشريعة أي النظام الاجتماعي، وعن السياسة أي عن السلطة السياسية. والمجتمعات التي لا يسودها العقل مدن بسيطة؛ فالبساطة هنا بمعنى قدحي، وهي أربعة: مجتمع المال الذي ذكره الفارابي وأفلاطون من قبل، ومجتمع الجماعية أي الشيوع والقبلية، ومجتمع التغلب أي التسلط، ومجتمع الإمامية أي محبة التقدم وليس الكهنوتية، مجتمع رجال الدين.
ومع ذلك يظل السؤال: هل موضوع «تدبير المتوحد» السياسة أم الأخلاق، المجتمع أو الفرد؟ هل استطاع ابن باجه استئناف مشروع الفارابي الاجتماعي في المدينة الفاضلة، أم أنه استأنف مشروعه المعرفي دون الاجتماعي؟ عند الفارابي الإنسان مدني بالطبع، ولكن عند ابن باجه متوحد بالطبع؛ وبهذا المعنى ربما يدل «تدبير المتوحد» على عدم نجاح الفلاسفة في السياسة العملية وبعد نظرتهم عن الواقع. قد يكون تراجعا مأساويا يعبر عن هزيمة التصوف التأملي بعيدا عن الواقع، والبداية بالنفس بدلا من المجتمع، وبالفرد بدلا من الجماعة، عودا من «المدينة الفاضلة» إلى «تدبير المتوحد». ربما أراد ابن باجه القيام بخطوة إلى الوراء من أجل التقدم إلى الأمام، العودة إلى الفرد من أجل التوجه نحو الجماعة، حتى تصبح المدينة الفاضلة ممكنة التحقيق. التدبير خطة العاقل في المجتمع الذي لا يسوده العقل، وهي المجتمعات الأربعة الناقصة، والتي لا يدين المتوحد لأي منها كرد فعل على الفشل السياسي ومحنة الأندلس. المتوحدون مثل النوابت، لا ينسحبون من المعركة، ولكن لا يدخلون إليها قبل الأوان. التوحد إعداد الذات وتربية المواطن قبل تأهيل الجماعة وبناء الوطن. المتوحد هو «العاكف على شأنه، الخبير بأهل زمانه». ومع ذلك يعكس العنوان التوحد ضد التجمع، التوحد أولا والتجمع ثانيا. ويبدو أن قبول الواقع والبداية به جعله ينعكس على ذاته ويرتد إلى نفسه صوفيا إشراقيا كنوع من المقاومة السلبية على المجتمع؛ فالمتوحد يذهب إلى المدنية بعقله، وإلى التصديق بقلبه، لا يهرب بجسده، بل بروحه؛ ومن ثم تتم المصالحة بين العقل والقلب، بين الفلسفة والحياة.
43
ومع ذلك يظل «تدبير المتوحد» أقرب إلى الفرد منه إلى الجماعة. الباب الأول في العلم المدني منذ البداية، وفي الباب الثاني تتحول السياسة إلى النفس، ويظل السؤال قائما: ماذا يعني «تدبير المتوحد»؟ هل هو الإنسان الطبيعي الذي أفسده المجتمع فيترك المدن الجاهلة حرصا على نقائه؟
44
وفي هذه الحالة كيف يتم تحقيق المدينة الفاضلة في الواقع؟ (ب) وفي «رسالة الوداع» يتصدر تمثل الوافد على تنظير الموروث، ويتصدر أرسطو الوافد، ثم أفلاطون وسقراط. ومن أسماء الفرق المفسرون المشاءون. ويحال إلى نيقوماخيا، ثم إلى الأخلاق والحيوان وفادون (أفلاطون)، ثم إلى السماع والسياسة والنفس.
45
ويفصل ابن باجه ما تركه أرسطو مهملا في الحادية عشرة من «الأخلاق»؛ لأنه لا يوضح دائما ما يريد إبطاله. وفي نفس الوقت يبين ابن باجه مواطن التطويل والإطناب في أرسطو وأفلاطون؛ فمهمة التأليف إجمال المفصل، وتفصيل المجمل، ومعرفة وجه إبطال أرسطو للشيء. يدرس ابن باجه موضوعا ثم يتحقق من صدق قول أرسطو أو الاستشهاد به، تأكيدا للإجماع الحضاري أو إجماع العقلاء، كما هو الحال في علم الأصول. كما يستشهد بأرسطو في السادسة من نيقوماخيا على أفعال العقل التي توجهها الحكمة، وبهرمس نموذج الفاضل في جميع الفضائل الشكلية. كما يحيل إلى كتاب الحيوان ارتباطا بالتراث السابق، وتفاديا لتكرار القديم، مع استمرار ظهور بعض المصطلحات الأولى منذ عصر الكندي، مثل «القنية». ولا يستأنف ابن باجه تحليله لما فعله أفلاطون في السياسة، وفي محاورة «فادون». ويستشهد بسقراط وسبب قوله بتناسخ الأرواح في المحاورة، ويقرؤها إسلاميا. ويستشهد بنار هرقليطس (أبوقليطس) وضوئها على ذهاب السن وانقضاء العمر، وأن لكل أجل كتابا، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون. ولا يهم إذا كان أبوقليطس هو هرقليطس؛ فليس المقصود هو التحقق التاريخي، بل المثل كحامل، وليس المهم المثل بل الممثول.
46
كما يشير إلى المفسرين دون تحديد الوافد أو الموروث، وهم أهل الاختصاص في علم النفس في موضوع حدوث صورة للنزوع الغريزي في الخيال.
47
ومن الموروث يتصدر الفارابي، ثم الغزالي قبل الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وصاحب الشريعة، وبعض أسماء الأعلام بين أمير وعالم وشاعر، والأماكن من البيئة المحلية، وأسماء الكتب والفرق.
48
ويمثل الفارابي بداية الوعي التاريخي الفلسفي؛ لذلك يرتبط ابن باجه به بالرغم من ندرة كتبه في الأندلس؛ مما يدل على فضل المشرق على المغرب.
49
كان ابن باجه حلقة اتصال بين المشرق والمغرب من خلال الفارابي وشروحه، مثل شرح نيقوماخيا، بل إن ابن باجه يقتبس من أبي نصر دعاء للتخفيف من ألم الشك في المعرفة وطلب اليقين.
50
ويأخذ ابن باجه نفس الموقف من الغزالي الذي أخذه في «تدبير المتوحد»، ولكن في سياق آخر؛ فيسميه «الرجل المعروف بأبي حامد الغزالي»، وكتابه الذي سماه «المنقذ من الضلال»، وقال إنه شاهد أمورا إلهية، وهي كلها ظنون ومثالات الحق وخيالاته؛ فهو رجل مغالط يدعي أن عجائب العالم العقلي أفضل من عجائب العالم المدني. ويمكن تصويب رأي الغزالي بما قيل في نيقوماخيا إن الأشرار متى خلوا إلى أنفسهم يتأملون، على عكس الأخيار، وكما هو الحال في المقالة الحادية عشرة. ما يقوله الغزالي في حاجة إلى برهان. كان هدفه التثبت فقط من صحة اعتقاده، وأنها لا عناد فيها. يدافع ابن باجه عن العالم العقلي، أما العالم الروحي عند الغزالي فمجرد خيال. يمكن إذن تصحيح تصوف الغزالي بأخلاق أرسطو. فإذا كان ابن باجه قد نقد الغزالي الصوفي لغياب البرهان، فإن ابن رشد قد نقده كأشعري لسوء البرهان. ومع ذلك ظل الغزالي صامدا على مدى ألف عام. كان ابن باجه يريد الجمع بين مشاهدات الصوفية وبراهين الحكماء، كما يروي عن اللقاء بين ابن عربي وابن رشد واقعا أم خيالا. الأول يشاهد ما يعلم الثاني، والثاني يعلم ما يشاهد الأول. ويضرب ابن باجه المثل بداود من بلاد بريطانيا المتقلب في الأديان، وتشوقه لاجتماعه به في مرسيه على معرفة الحق والالتذاذ بالعلم.
51
ويستعمل ابن باجه أسلوب الفقهاء في السؤال والجواب والاعتراض والرد عليه مسبقا. كما يستشهد بالشعر العربي على التشوق الفكري، تشوق الصواب الذي للإنسان خاصة؛ لذلك يقال: نزعتني نفسي، قلت لنفسي في خلاء ألومها، وقول قطري الشاعر. كما أن القوة الفكرية والقوة النزوعية يدل عليهما بالنفس كما قال المعري في شعره. فالتجربة الشعرية مصداق للتجربة الفلسفية.
52
كما يستعمل الأسلوب العربي، زيد وعمرو، كفاعل أو مبتدأ؛ مما يدل على التأليف والأسلوب غير المباشر. ويضرب المثل بعنقاء مغرب وعنز أيل على تصورات غير موجودة وغير مطابقة للواقع.
53
ويظهر أسلوب الكنى في مخاطبة القارئ، وتظهر الأندلس كبيئة جغرافية محلية، وليس الوافد؛ فكتب الفارابي كلها لم تصل إلى الأندلس.
54
وتظهر بعض الموضوعات الدينية؛ فيضرب ابن باجه أمثلة من علم العقائد على الزمان المتصل، مثل نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار، وأن عدم الله كان متصلا قبل خلق الله العالم. ويستشهد بآيتين قرآنيتين؛ الأولى عن الراسخين في العلم لإثبات حض الشريعة على العلم، والثانية عن خشية العلماء من الله؛ لأن من علم الله تقرب إليه. ويستشهد بحديثين نبويين؛ الأول عن أن خير الأمور الوسط، والثاني الحديث القدسي المشهور على أن أول ما خلق الله خلق العقل. ويضرب المثل على إهمال البدن بمحمد بن عبد السلام من بلنسيا، والمستظهر من بني أمية في الأندلس. كما يضرب المثل على الاعتناء بالبدن والخوف عليه بعلي ابن السلمي.
55
وتتميز رسالة الوداع بجمال الاسم وشجنه وطابعه العاطفي الذي يعبر عن هموم قصر العمر؛ فالإنسان قادم ومغادر، ويترك رسالة للأصحاب في اليوم الأخير في حياة سقراط الذي يحاور فيه تلاميذه عن خلود النفس، أو الليلة الأخيرة في حياة المسيح الذي يلتقي فيها بحوارييه، ويبلغهم أن نفسه حزينة حتى الموت. موضوعها علم النفس أو اللذة العقلية، أقرب إلى الموضوعات الفردية دون الاجتماعية. وتعتمد على تفضيل الفارابي العامل الجاهل على التارك العالم في «فصول المدني». كان العلم في ذلك الوقت العلم بكتب أرسطو. ويعتز ابن باجه بمعلمه الفارابي وبمكانته في العلم، بالرغم من ندرة كتبه في الأندلس، وإن وجدت فإنها قد يشوبها النقص الذي يكمله ابن باجه؛ فمسار الوعي الفلسفي من نقل الأصل الأرسطي إلى شرح الفارابي تحولا من النقل إلى الإبداع إلى إبداع ابن باجه وإعادة بناء الموضوع كله. ومع ذلك هناك قلق في التأليف؛ مما يدل على أن الإبداع لم يحكم بعد.
56 (ج) وفي «اتصال العقل بالإنسان» يحال إلى أرسطو، ثم أفلاطون، ثم سقراط وهرمس والإسكندر. ومن مؤلفات أرسطو يحال إلى كتاب «النفس»، ثم إلى «ما بعد الطبيعة»، ثم إلى باري أرمنياس والمقولات والحيوان ومنافع الأعضاء.
57
ويرفض ابن باجه نظرية المثل عند أفلاطون، مثل رفض أرسطو لها، ويبين ما ينتج عنها من محاولات؛ مما يكشف عن نزعة واقعية مشتركة بين الحضارة الإسلامية وأرسطو. ويشير إلى أسطورة الكهف عند أفلاطون، وهي ألغاز مناسبة لأحواله، ووصف السعداء الناظرين إلى الشمس. ويستشهد بقول الإسكندر إن المحرك هو المتحرك بعينه في كتاب الصور الروحانية، وإنه واحد بالعدد تأرجحا بين الفلسفة والتصوف. ويستشهد بقول سقراط في الصورة إنها الخير والجميل وليس المعنى، وهي قراءة أفلاطونية لسقراط؛ فأفلاطون يقول بالصورة في حين أن سقراط يقول بالمعنى.
58
ومن الموروث يحال إلى الفارابي وربيعة بن مكرم، ثم جرير وامرئ القيس، لا فرق بين الفلاسفة والشعراء. يحيل ابن باجه إلى معاني الواحد في ما بعد الطبيعة، والتي لخصها الفارابي في كتابه في الوحدة. كما يحيل إليه في القوة الناطقة التي تقال على الصورة الروحانية؛ لأنها تقبل العقل، كما تقال على العقل بالفعل؛ لذلك تشكك الفارابي عما إذا كانت موجودة في الطفل تمنعها الرطوبة أم توجد فيما بعد؛ فابن باجه يتعامل مع الوافد بعد أن أصبح موروثا. ويرفض قول أهل التناسخ في الصور الروحانية الواحدة، ووجود المعقولات في أجسام واحدة، وهو ما رفضه أهل التناسخ أنفسهم. ويستشهد ابن باجه بحذف الرابطة في القضية المحلية، والتي تشير إلى فعل الكينونة، على عكس باقي الألسنة، وهي القضية التي عالجها الفارابي.
59
ويضرب المثل بتاريخ الطبري على التأليف الواحد، وربيعة بن مكرم على الواحد بالعدد، مثل السعداء. كما يحيل إلى مؤلفاته هو، مثل كتاب التوحيد ورسالة الوداع والوحدة.
60
ويحيل من أسماء الفرق إلى المتصوفين، ثم إلى العرب وأهل التناسخ.
61 (د) وفي «الوقوف على العقل الفعال» يظهر الوافد عند جالينوس ثم الحكيم. ويحال إلى «حيلة البربر» وإلى «السماع».
62
وينقد ابن باجه جالينوس لأنه ظن أن البهائم تدرك الأنواع، وأخطأ في قوله إن الحمار يدرك الطريق الكلي خالطا بين العقل والخيال؛ وذلك بسبب قلة المراس وتعظيم الطب والمنطق في آن واحد. ويحيل إلى الثانية من «السماع» في التمييز بين الجسم الذي لا يتكون ولا يفسد، والجسم الذي يتكون ويفسد. ويستشهد بقول الحكيم عن العتبي إن آخر الفكرة أول العمل، وآخر العمل أول الفكرة، في موضوع الصلة بين النظر والعمل. وما زال لفظ الأسطقسات مستعملا. ومن الموروث يحال إلى أبي نصر وإلى البرهان في موضوع تحصيل الأصناف الثمانية.
63
سابعا: ابن زهر وابن رشد والعرضي
(1) ابن زهر
ولم ينقطع «تمثل الوافد وتنظير الموروث» على طول التاريخ، بل استمر إلى عصر متأخر بعد القرن الخامس، واستبعاد الغزالي الوافد لصالح الموروث. استمر ذلك عند ابن زهر وابن رشد في القرن السادس، في الطب وفي الحكمة وفي العلم وفي الفلسفة على حد سواء. ويعتبر كتاب «التيسير في المداواة والتدبير» لابن زهر (557ه) نموذجا لذلك.
1
وقد اعتبره ابن رشد أعظم طبيب بعد جالينوس. ألف الكتاب بناء على طلب عزيز من ابن رشد، وليس من السلطان كما هي العادة.
2
وله عدة مؤلفات أخرى يغلب عليها الطابع الإبداعي نظرا لنقده طريقة «الكنانيش» التي يجمع فيها الطبيب آراء السابقين دون أن يكون له رأي خاص أو مساهمة خاصة في تطوير العلم؛
3
لذلك ينقد التقليد والنقل والمذكرات والكتب المقررة، ولا يعتمد على المصادر إلا في الأدوية المركبة التي يذكر ابن زهر أهمها؛ فالعلم في جوهره تقدم من القدماء إلى المحدثين، وتحول من النقل إلى الإبداع، ليس فقط في حياة الحضارة، بل في حياة الفرد. وقد ينقد مؤلفاته السابقة، مثل «كتاب الزينة»، ويقوم بعملية النقد الذاتي على مراحل العمر لرؤية نضجه وتطوره من الشباب إلى الرجولة، وينقد الأصدقاء حتى ابن رشد.
4
غلب على الكتاب الطابع العملي العلاجي الدوائي. اكتفى ابن رشد بالكليات، وطلب منه كتابة الجزئيات. اختص ابن رشد بالحكمة، وابن زهر بالصنعة؛ لذلك أتى مختصرا عمليا، واضح الترتيب، دقيق العرض، سهل الأسلوب، تعليمي الإنشاء. وضع فيه من الذكريات والتجارب الشخصية كما يفعل الأطباء الأدباء. كما يعتمد على دراسة الحالة، كما هو الحال في الطب الغربي الحديث، إما حالة مروية من الجد والأب، أو حالة عرفها الحفيد في شبابه.
5
اعتمد منهج القياس والتجربة، العقل والطبيعة؛ لذلك حارب الخرافات والأباطيل، وكافح الدجالين والمنجمين، وحطم التقاليد، مثل ابن رشد في الفلسفة، وابن الهيثم في الرياضيات. وبالرغم من أنه جالينوسي المذهب إلا أن له شخصية مستقلة، وتميز عنه بأساليب التشخيص والمعالجة غير التي وضعها جالينوس. الطب علم نظري وعملي في آن واحد. يرتبط بالحكمة والصيدلة، ويرد العجز إلى الصدر للبحث عن الاتساق. وينبه على الخلط بين مصطلحات الطب ومصطلحات الكلام حتى لا يقع التباس بسبب الأسماء المشتركة.
ويبدو الوافد أكثر حضورا في العمق، وإن كان الموروث أكثر حضورا في الاتساع؛ فقد ذكر أربعة أعلام من اليونان، يتصدرهم جالينوس ثم أبقراط ثم أرسطو ثم بطليموس. ومن أسماء الفرق يذكر «الفيلسوف» و«المشاءون»؛
6
فجالينوس زعيم الأطباء جميعا بما فيهم ابن زهر تعبيرا عن تواضع العلماء، وتعلم المحدثين من القدماء، والتقدم بالشرف قبل أن يكون بالزمان. وهذا لا يمنع من تقدم العلم وإكمال ابن زهر بما تركه جالينوس ناقصا، ومراجعة أقوال جالينوس على العقل والتجربة، فما اتفق معهما كان علما، وما خالفهما كان في حاجة إلى مراجعة وتصحيح؛ فإذا ما تعارض النقل عن القدماء من ناحية مع العقل والتجربة من المحدثين من ناحية أخرى، فالأولوية للمحدثين على القدماء؛ لذلك كان من الضروري معرفة أنواع الأقاويل المنطقية؛ فإن الإقناع والسفسطة والتمثل والجدل لا يغني ذلك كله عن البرهان عنده وعند ابن رشد. ومن الضروري أيضا تحويل الطب النبوي النقلي إلى طب عقلي تجريبي؛ ففي العقل والتجربة يجتمع الوافد والموروث.
7
ومع ذلك يدرس ابن زهر، وجالينوس يؤكد النتائج كنوع من تحقيق المناط في فهم أقوال جالينوس، ليس من داخلها عن طريق اللغة، وكما هو الحال في استنباط العلة من الأصل عند الأصوليين، بل من خارجها بالتحقق من وجود العلة في الفرع، نتيجة دراسة الحالة.
8
ويقارن بين المذاهب الطبية، خاصة بين أرسطو والمشائين من ناحية وجالينوس من ناحية أخرى، وبين أبقراط وجالينوس، ويجده أقرب إلى أرسطو بناء على بنية المذهب الطبي، واعتمادا على العقل والتجربة. ويلجأ إلى تجربة العوام؛ أي إلى التجربة البشرية لمعرفة الطبيعة؛
9
فالعوام هنا عامل إيجابي، وليست عاملا سلبيا كما هو الحال في الكلام والفلسفة والتصوف، في إلجام العوام عن علم الكلام، وبعدهم عن التأويل، وعدم التصريح لهم بالحكمة.
10
لذلك تكثر تعبيرات «كما قال جالينوس»، «كلام جالينوس»؛ مما يدل مراجعة أقواله على العقل والتجربة. وكثيرا ما ترك جالينوس أقواله بلا تعليل أو برهان.
11
ويفرق ابن زهر بين الاسم والمسمى، وعينه عن المسمى دون الاسم؛ فالاختلاف أحيانا بين الأطباء يرجع إلى الأسماء أكثر مما يرجع إلى المسميات. وقد تختلف الأسماء من حضارة إلى حضارة بالرغم من اتفاق المسميات. كما يرفع ابن زهر التعارض بين أقوال جالينوس، كما هو الحال في علم الأصول في باب التعارض والتراجيح، والإضافة إلى أفعال القول نظير أفعال الاستعمال والعلاج والرؤية والإبداع؛ أي الأعمال الطبية.
12
كما يذكر بعض أفعال المعرفة، مثل أجمع وزعم أو كره، بالنسبة للأطباء؛ فلا فرق بين أفعال النظر وأفعال الشعور.
13
ويستعمل أسلوب الرد على الاعتراض مسبقا، كما هو الحال في الأسلوب الفلسفي الكلامي والفقهي. وبالرغم من تقطيع الناسخ النص وتقديمه بذكر صاحبه، فإن الأسلوب يذكر بما فات ويعلن عما هو آت؛ تأكيدا على وحدة العمل وضم الأجزاء إلى كل واحد. بالإضافة إلى مخاطبة القارئ؛ فالعمل العلمي مشروع مشترك بين المؤلف والقارئ. وكثيرا ما يتم التذكير بالعودة إلى الموضوع درءا للاستطراد.
14
أما الموروث فيأتي الأب في المقدمة، «أبي، رحمه الله»، ثم عبد الملك الجد، ثم أبو المطرف ابن وافد، ثم سفيان طبيب علي بن يوسف، ابن فضيل من الأطباء النائبة المبتدئين. ومن الأسماء يأتي الشقي علي بن يوسف والي قرطبة، ثم ولد الشقي علي، ثم ابن رزين أحد ثوار الأندلس، محمد بن عمر، أبو عبد الله ، ثم بواذودين، والثريا الجارية، وقمر المحظية، وابن الزهراء الشقي سنقور علي بن بدوينا، وابن فضيل، ويحيى بن يمور.
15
والعجيب عدم ذكر الكندي والرازي وابن سينا والبيروني وابن رشد، والاكتفاء بأبيه وجده عبد الملك؛ فالأب مصدر معلوماته الطبية، ومصدر إجابته عن تساؤلات نظرا لخبرته الطبية الموروثة. وبالإضافة إلى الموروث الطبي من الأب والجد تأتي تجربته الخاصة. ويظهر الأسلوب القرآني والنبوي المرسل من الذاكرة، مثل «فضلوا وأضلوا»، وسوء العاقبة. كما يظهر الأسلوب العربي في ضرب المثل بزيد أو عمرو. والطب دعوة إلى التقوى، والحفاظ على الصحة، والتنبيه على أخطار الانغماس في الحياة الدنيا، كما يفعل المترفون؛ فالأخلاق شرط الصحة. وتظهر بعض المصطلحات الطبية الأندلسية؛ مما قد يوحي ببعض التجاوز اللغوي نظرا لعدم التعود عليها في باقي الأمصار.
16
كما يظهر تاريخ الأندلس ومدنه، مثل إشبيليا، وبرشلونة، وسنتمرية، مراكش. كما يظهر سكان المدن، مثل «الطليطليون».
17
ومع العقل والتجربة دعامتي الوافد يضاف الوحي وعامة الموروث؛ نظرا لوحدة الوحي والعقل والطبيعة، فيظهر الله على أنه سبب العلل في الطبيعة؛ فقد أودع الله في الكائن الحي قوى تفعل في الجسم بالرغم من أن الشفاء من الله، وشرب الدواء بعد استخارة الله؛ مما يكشف عن أشعرية حتى النخاع. نجاح الطبيب في الشفاء بتوفيق من الله، وفشله من اجتهاده الخاص؛ فالخير من الله، والشر من النفس، تبرئة للآخر واتهاما للذات. وكل شيء بسابق علم الله وقدره، وعلمه لا تنتهي إليه عقول البشر؛ فالأسباب من البدن، والمسببات من الله، والشفاء بإذن الله.
18
وكما يبدأ بالبسملات ينتهي بالحمدلات والصلوات الطيبات على الرسول. وتختلف النهايات الإيمانية من ناسخ إلى آخر طبقا لانفعالاته الخاصة.
19 (2) ابن رشد
وبالرغم من أن ابن رشد «الشارح الأعظم» صاحب التقارير والتلخيصات والجوامع، إلا أن بعض أعماله تصب في تمثل الوافد تنظير الموروث. (أ) ويعتبر «الكليات» في الطب لابن رشد (595ه) من نفس النوع.
20
ومن العنوان يمكن استنباط المضمون؛ فالطب صناعة فاعلة من مبادئ صادقة، عمل يقوم على نظر، مجموعة من القوانين العامة تنتظم جميع الأبدان بلا فروق فردية بينها؛ فالطب علم طبيعي، وهو في نفس الوقت جزء من منظومة علوم الحكمة الثلاثية بعد المنطق وقبل الإلهيات. يقوم على النظر والمنطق، وفي نفس الوقت يستند إلى التجربة والمشاهدة، النظر في الأسباب والقيام بالمعالجات؛ فهو علم يجمع بين الكليات والجزئيات، بين البسيط والمركب، بين الأعلى والأدنى، وهي نفس الطريقة التي عرض بها بدن الإنسان في ترتيب الفصول من الأعلى إلى الأدنى طبقا لقيمة الموضوعات. يدرس ابن رشد التصورات الفلسفية في الطب، أي الكليات؛ ومن ثم يعتمد الطب على المنطق، والقسمة المنطقية. ويميز بين الأقاويل الجدلية والخطابية في الطب، ويحيلها إلى أقاويل برهانية؛ لذلك يرفض أن تكون أقوال الكنانيش مصدرا للطب، مجرد المنقول دون المعقول، وهي أقوال جزئية دون قوانين كلية. تدرس الأمراض في كلياتها، أي أمراض البدن وليست أمراض عضو عضو، الطب العام قبل التخصصات الجزئية؛ لذلك يكتب ابن رشد على سبيل الإيجاز والاقتصار مع تحقيق غرضه وقصده.
21
والقصد مزدوج، معرفة الصناعة، والتحقق من صدقها، ومراجعة أقوال القدماء كاستطراد ضروري يعود بعدها ابن رشد إلى الموضوع؛ لذلك تكثر أفعال البيان والتوضيح.
22
ونظرا لوحدة العمل تضم الأجزاء إلى الكل باستمرار بداية بالمنطق والقيمة.
23
والأساس الثاني الذي يقوم على الطب هو التجربة والمشاهدة والملاحظة؛ فالعقل والمنطق والقياس والبرهان لأحكام الخطاب الطبي في داخله، ولكن مادته تأتي من الطبيعة والتجربة؛ لذلك كان الطب جزءا من الطبيعيات التي تقوم على العلل والأسباب. والجسم موضوع مشترك بين الاثنين، علم الطبيعة وعلم الطب، وهو الطباع. وعالم الطبيعة هو الذي يعطي البرهان على المبادئ العامة لا الطبيب؛ فالجسم حالة خاصة في الطبيعة. وعن طريق معرفة العلل والأسباب يمكن التنبؤ بحالات المرض على ما هو معروف في تقدمة المعرفة؛ أي العلم المسبق بوقوع الأحداث. وإذا كانت صناعة الأدوية جزءا من علم الطب جمعا بين النظر والعمل، بين التشخيص والعلاج، ظهرت ضرورة التجربة مع القياس، والجزئيات مع الكليات. ولو أن ابن رشد اقتصر على الكليات وترك الجزئيات ليكتب فيها ابن زهر «التيسير» بناء على طلبه. وقد كان ابن رشد يود تأليف كتاب آخر يطبق فيه قوانينه في الكليات ضاما الأجزاء إلى كلياتها إذا ما أنسأ الله في العمر.
24
ويتقدم الوافد الموروث. وفي الوافد يتقدم جالينوس، ثم أبقراط، ثم أرسطو، ثم أركيغانس وأندروماخوس وبولس وأرسطراطيس. ومن أسماء البلاد بلاد اليونانيين وبلاد الروم .
25
والإحالة إلى الوافد استطراد خارج الموضوع نظرا لاعتماد الطب كعلم على الإبداع الداخلي دونما حاجة إلى النقل الخارجي، يظهر ويختفي طبقا للمواضع الفلسفية. ويدافع ابن رشد عن جالينوس طول الوقت ليس تقليدا له أو نقلا عنه، بل لأنه يمثل إجماع الأطباء. وفي نفس الوقت ينقد ابن رشد جالينوس في كتاب «المزاج»؛ لأن أقواليه غير برهانية، بعكس كتاب «الأسطقسات». ويدخل في ثنايا أقواله، ويعبر عن المسكوت عنه. ويدرس الواقع الطبي ويراجع عليه الأقوال.
26
يورد براهين جالينوس العلمية بلفظ القول وفي حالة الاتفاق معها، وبلفظ الزعم في حالة الاختلاف معها. ويدخل في مساره الفكري ليراجع براهينه. ويرى ابن رشد ما يراه جالينوس، ويصف مسار فكره للتحقق من صحة الاستدلال وصدق الرؤية؛ لذلك كثر استعمال ألفاظ نص، شهد، أدرج، حمد، قصد، وصف، أصبح، حكى، ظن، اعتاص، أنكر، حمد، رأى، صرح، اعترف.
27
ويحاول التوفيق بينه وبين أرسطو؛ فأرسطو فيلسوف طبيعي مثل جالينوس، اعتمادا على بعض مؤلفات أرسطو، مثل كتاب النفس، وعلى أرسطو راويا ومؤرخا للفلسفة اليونانية، كما يروي جالينوس أيضا عن الأطباء السابقين. يعتمد على أرسطو لتأكيد الطابع العملي للطب مع تعليل أقواله دون الاكتفاء بنقلها. ولا فرق بين أرسطو وجالينوس وأبقراط كفلاسفة للطبيعة على المبادئ العامة، إنما الخلاف في الأحكام الجزئية وفي أنواع الأقاويل.
28
ولا خلاف بين أبقراط وجالينوس إلا في التسمية أحيانا، والمسميات واحدة.
29
ومن الموروث يتصدر الرازي، ثم ابن مروان ابن زهر، ثم بنو زهر، ثم الكندي وابن سينا، ثم ابن وافد وأبو نصر.
30
ويذكر الرازي راويا وليس طبيبا، مصدرا للأخبار الطبية، وينقد الكندي طبيبا؛ لأنه ربط بين الطب والعدد والموسيقى، في حين يمدح ابن سينا، مع أن طب الكندي يمثل وحدة المعرفة نظرا لارتباط الطب الجسمي والطب النفسي حتى عند ابن رشد، ويمدح أسماء بني زهر. وتظهر موضوعات محلية، مثل اشتراك الاسم واختلاف الأسماء على نفس المسميات. كما يظهر التمايز بين الوافد والموروث، بين الأنا والآخر، في تعبيرات مثل «بلادنا»، «عندنا». وتظهر البيئة المحلية، مثل الصقلي والعربي والأرميني والصيني والفارسي واليهودي والهندي، في مقابل اليوناني والروماني. ويتحدث عن أمراض العرب والبربر والأكراد فيما يقرب بالجغرافيا الطبية أو الطب الجغرافي.
31
كما يتغير الطب من عصر إلى عصر، ومن زمن إلى زمن؛ لذلك تتكرر عبارة «حتى زماننا». هناك تطور للعلم من القدماء إلى المحدثين، ومن جالينوس إلى ابن رشد.
32
ويكاد يخلو الكتاب من العبارات الإيمانية العادية باستثناء المقدمة والخاتمة. كما لا تظهر آيات قرآنية وأحاديث نبوية ولا إنشائيات دينية، بل يغلب الأسلوب العلمي الدقيق الذي يقوم على اقتناص العلل والأسباب.
33 (ب) مقالات في المنطق والعلم الطبيعي. وقد ساهم ابن رشد في مقالاته في تمثل الوافد قبل تنظير الموروث؛ فمن ضمن المسائل المنطقية الخمسة عشرة، اثنا عشر مقالا في تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، وثلاث مقالات في تنظير الموروث، ومقالة واحدة إبداع خالص.
ويأتي أرسطو في المقدمة في عدد المقالات المذكور فيها، سواء باسمه أو بلقبه «الحكيم»، ثم الإسكندر وثامسطيوس، ثم ثاوفرسطس، ثم أوديموس، ثم أوميروش.
34
ومن الطبيعي أن يأتي أرسطو أولا؛ فهو واضع علم المنطق، ثم شراحه، ثم مادة الأمثلة. فالمنطق هو تحويل المادة الشعبية إلى أشكال صورية. ويأتي أيضا أرسطو في المقدمة من حيث تردد ذكره مع نفس الترتيب، الإسكندر ثم ثامسطيوس ثم ثاوفرسطس ثم أوديموس وأوميروش.
35
وأكثر كتب المنطق إحالة إليها القياس ثم البرهان ثم العبارة ثم المقولات؛ مما يبين أهمية القياس على البرهان؛ فالقياس وضع لأشكال الفكر أولا، والبرهان هو أكثرها يقينا. ولا يحال إلى إيساغوجي، وكأن ابن رشد ليس في حاجة إلى مدخل كما احتاج الفارابي من قبل. كما لا يحال إلى منطق الظن كله؛ الجدل والسفسطة، والخطابة والشعر؛ فلليقين الأولوية المطلقة على الظن.
36
ومن حيث الكم تتفاوت المقالات المنطقية بين أطولها مثل المقول على الكل ، وأصغرها مثل حد الشخص. وواضح أن ما يهم ابن رشد هو المنطق باعتباره علما شاملا. وفي مبدأ المقول على الكل تأتي كل أشكال القياس وأنواعه ونتائجه ومقدماته وعكسه، والحدود في النهاية.
37
ومن أسماء المجموعات يأتي المفسرون أولا، ثم المشاءون، ثم الأطباء، وأخيرا المتكلمون؛ مما يبين أولوية تمثل الوافد على تنظير الموروث.
38
ومن الموروث يأتي الفارابي في المقدمة باعتباره المعلم الثاني، والذي هذب المنطق، ثم ابن سينا الذي يعترف بأستاذية الفارابي، ثم ابن باجه وابن وهيب والفراء ومسيلمة ومحمد، فيلسوف ولغوي ومتنب ورسول؛ لارتباط اللغة بالمنطق، والمنطق بالوحي؛ فكلاهما معياريان يضعان قواعد تعصم من الخطأ على مستويين مختلفين؛ النظر والعمل.
39
للفارابي الأولوية على ابن سينا ثلاثة أضعاف؛ لأنه شارح أرسطو، وابن سينا منحرف عنه بأفلاطونيته وفلسفته المشرقية.
ولا يذكر ابن طفيل أستاذه ربما لإشراقياته، أو الكندي ربما لعدم وصوله للأندلس، وهو المنطقي الطبيعي مثل ابن رشد. ويحال إلى عدة كتب، مثل «البرهان» و«الموجودات المتغيرة» للفارابي، ثم شرح كتاب «القياس» وتلخيص كتاب «القياس» لابن رشد نفسه،
40
ثم «العبارة» و«السفسطة» و«التحليل» للفارابي، و«النجاة» و«الشفاء» لابن سينا، و«المسائل المنطقية» لابن رشد، وكتاب أبي عبد الله ملك بن وهيب وكتاب الفراء. ومن المجموعات يذكر المفسرون، ثم المشاءون، ثم الأطباء، وأخيرا المتكلمون.
41
ولا تذكر آية قرآنية واحدة أو حديث نبوي أو إشارة إلى الدين تقلل من طابع المقالات المنطقية التجريدية الصعبة على العامة ولا تحركها، على عكس ثلاثية ابن رشد الفلسفية «الفصل» و«المناهج» و«التهافت». كما لا توجد إحالات إلى العقيدة أو إلى الشريعة. هناك فقط إحالة إلى المتكلمين من أهل زماننا، وهناك أيضا تفسير عن الطبيعة بلغة القيمة، الأشرف والأكرم والأفضل. والقيمة تنظير العقيدة، والأخلاق أساس الدين؛ فالعقل كائن شريف، والطبيعة تتجه نحو الكمال والأشرف، وفي التعالي يتم الاتحاد بين الأخلاق والدين. ومن وجهة نظري العلم الطبيعي هذا خلاط بين العلمين، بين الموضوعية والذاتية، بين الطبيعة والأخلاق، بين الإخبار والإنشاء، بين العلم والدين. والحقيقة أن الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أسفل، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أعلى، ويتم التعبير عن كليهما بلغة إنسانية خالصة.
وبالنسبة للمقالات الطبيعية الثلاث، اثنان منها تمثل للوافد «في المزاج»، «في البذور والزروع»، وواحدة فقط في المقالة السابعة والثامنة من «السماع الطبيعي» لأرسطو في تمثل الوافد قبل تنظير الموروث. يأتي أرسطو أولا، ثم يحيى النحوي، ثم أفلاطون، ثم أبقراط وجالينوس.
42
ومن الموروث لا يظهر إلا الفارابي، ومن كتب أرسطو يحال إلى القياس ثم البرهان ثم الجدل ثم السماع الطبيعي والسماء والعالم، وشرح القياس لثامسطيوس. ويخطئ ابن رشد جالينوس ويصوب أرسطو. ومن الموروث لا يذكر إلا كتاب الموجودات المتغيرة للفارابي. ومن المجموعات يذكر القدماء، ثم الفلاسفة المفسرون، ومعهم المتكلمون «من أهل ملتنا».
وبمقارنة جدل الوافد والموروث في المقالات الثمانية عشرة يأتي الفارابي شارحا أرسطو قبل الإسكندر، ثم يأتي ابن سينا بعد الإسكندر، مع أن الانتقاد الأكثر لابن سينا. ومن حيث الإحالات إلى أسماء الكتب تأتي الإحالات إلى كتب أرسطو قبل الإحالات إلى كتب الفارابي، وكتب الفارابي قبل كتب ابن سينا، وكتب ابن سينا قبل كتب ثامسطيوس وأبى عبد الله ملك بن وهيب والفراء جالينوس. فالإحالات إلى أرسطو أولا، ثم إلى الفارابي ثانيا، ثم إلى ابن رشد ثالثا، ثم إلى ابن سينا رابعا، ثم إلى ثامسطيوس وجالينوس وابن وهيب والفراء خامسا.
43
وأهمية تحليل المضمون الكشف عن توجهات النص وكيفية الإشارة إلى أرسطو وبأي أفعال، القول أو البيان، كمؤشرات على مسار الفكر نحو الغاية والقصد. وميزة هذا التحليل الكمي الكيفي لمعرفة كيفية التحول من النقل إلى الإبداع بأسماء الحكماء، وتردد ذكرهم، وأسماء الكتب والمجموعات، وترددها أيضا. وتقع الحيرة في اختلاف المقاييس بين عدد الأسماء وعدد ترددها أيها أكثر دلالة؛ فقد تكون الأسماء أكثر وترددها ضعيف، وقد تكون أقل وتردها أكثر. وفي هذه الحالة يتم الجمع بين عديد من المؤشرات لإصدار الحكم العام حول جدل الوافد والموروث. ولا تدل كثرة ترداد الأسماء على التبعية؛ فقد تعني النقد والهجوم، كما هو الحال في ذكر ابن رشد لابن سينا. كما يدل الانتهاء إلى نفس النتيجة من قراءتين متباعدتين على صدقها.
وتمثل هذه المقالات المنطقية والطبيعية مرحلة أخرى للتحول من النقل إلى الإبداع، وهي تأليف صغير في موضوعات دقيقة لممارسة عملية تمثل الوافد قبل تنظير الموروث، وإحداث التقارب بين المحوي والحاوي، بين المادة والوعاء. وهو نوع أدبي جديد يشمل الأنواع السابقة؛ الشرح والتلخيص والجوامع والعرض والتأليف والتراكم. فيه «قال أرسطو» اعتمادا على النص، وفيها تجاوز أرسطو.
44
واختيار الموضوع له دلالته، المنطق والطبيعة دون الإلهيات، وهي الموضوعات التي يعتريها الشك وسوء التأويل من أجل التصحيح والعودة إلى الأصول.
ولا يمكن فهم هذه المقالات إلا في إطار المشروع الكلي لابن رشد، التفسير والتلخيص والجامع والعرض الجزئي والتأليف والتراكم، والمراحل من تمثل الوافد حتى الإبداع الخالص، وهي أقرب إلى الجوامع منها إلى الشروح التلخيصات. هو تأليف نقدي يتمثل الوافد قبل تنظير الموروث. هي دراسة على دراسة، مع عودة إلى الأصل ومعرفة الحق النقلي والعقلي والطبيعي. هو تأليف على تأليف، خطوة نحو التراكم الفلسفي، تعشيق الوافد في الموروث. لا يوجد «قال أرسطو» بقدر ما يوجد نقد الشراح السابقين. مهمة ابن رشد في كل الحالات تخليص النص مما علق به من شوائب الشراح والمتكلمين، والعودة إلى الأصول الأولى قبل انحرافها، وكما هو الحال في كل معركة إصلاحية تنقذ النص الأول من براثن الشراح. ويعيد المراجعة على مدى فترات حياته، كما راجع بداية المجتهد بعد عشرين عاما، وأضاف إليه كتاب «الحجج» (عام 584ه). كما اقتضى تلخيص القياس المراجعة، وكما تحيل الجوامع إلى التفسير الكبير.
وموضوعات المقالات في المنطق والطبيعيات تبدو علمية صرفة باردة مجردة لا حياة فيها، بالرغم من أنها تجارب حية عند ابن رشد، تعيش في وجدانه، وتظهر وحدة مشروعه، الوافد والموروث والواقع، بالرغم من المقالات الصغيرة المساندة في نقد التراث المنطقي والطبيعي، وتأويلات الشراح القدماء والمحدثين التي شوهت تعاليم أرسطو؛ لأنها لم تدرك مقاصده في تحديد النتائج المتولدة عن المقاييس المركبة من المقدمات الضرورية والمتعلقة والممكنة؛ لعدم فهم معنى المقدمات المطلقة والضرورية، وعدم تنبههم إلى أن الأمر يتعلق بوجود القضايا لا مادتها.
45
شروح ابن رشد دفاع عن صلة العقل بالنقل ضد الحشوية الذين يقولون بالنقل دون العقل، وضد الغزالي الذي ينكر على الحكمة استخدام العقل، وضد الشراح، يونان ومسلمين، الذين يسيئون تأويل أرسطو، وضد الباطنية الذين يقضون على النقل كلية لحساب التأويل الباطني؛ فصلة العقل بالنقل أو الحكمة بالشريعة وضرورة التأويل هو مفتاح ابن رشد.
ويغلب على المقالات المنطقية، وهي أكبرها، منطق البرهان، المقولات، والعبارة والقياس والبرهان، وليس منطق الظن؛ الجدل والسفسطة والخطابة والشعر. بالرغم من أن جمع مقالات المنطق والطبيعة مجرد عرض من صنع الناشر، إلا أن دلالته الفكرية أعمق في الصلة بين العقل والطبيعة، بين الذات والموضوع. وما الإلهيات إلا تطابق العقل والطبيعة حتى تظهر الوحدة بين النص والعقل والطبيعة بعيدا عن تشخيص الوحدة في الإلهيات، والقضاء على العقل باسم الوحي، وتدبير الطبيعة باسم الإرادة الإلهية.
ويغلب على المقالات الطابع النقدي؛ فتمثل الوافد لا يعني مجرد الاستيعاب وحسن الاستقبال، بل التمثل الإيجابي؛ رفض الصحيح ونقد سوء التأويل
46
ولا فرق في النقد بين الشراح اليونان والشراح المسلمين. وأغلب النقد موجه لابن سينا، في حين يبدو الفارابي أكثر فهما لأرسطو. يبدو واضحا لأنه هو الوسيلة إلى أرسطو والشارح له، وهو أقرب إلى ابن رشد لاعتماده كليا على العقل الصريح. وتكشف عناوين المقالات المنطقية الخمسة عشرة عن الخلاف بين أرسطو وشراحه، يونان ومسلمين؛ فالشرح تأويل، والتأويل اتصال وانقطاع. ويمكن معرفة ذلك بتحليل عناوين المقالات.
47
ونقد الداخل أكثر من الخارج، وإن الهدف من تمثل الوافد هو نقد الموروث. ونقد ابن سينا أكثر من الفارابي؛ إذ يظهر ابن سينا في عناوين ثلاث مقالات، والفارابي في مقالين، والفارابي والإسكندر في مقال، وثامسطيوس في مقال.
48
ويمكن إيجاز منهج ابن رشد في تمثل الوافد في عدة عناصر، مثل احترام القدماء، والإحساس بالوعي التاريخي بالانحراف عن المسار الأول وضرورة تصحيحه، وهو موقف تحليلي ظاهر، وكأن كل تفسير ليس قراءة، وكأن هناك المنطق الخام خارج عمليات التأويل والقراءة، وهو بعد الألفاظ، احترام العقل للاعتماد عليه وهو بعد المعاني، والأمر نفسه واللجوء إلى الأشياء ذاتها وهو بعد الموضوعات، والموازنة بين المتخاصمين، ومقارنة أدلة كل فريق، والتحقق من صدقها، ثم إصدار الحكم المبني على الحيثيات.
ويكشف تاريخ تأليف المقالات على انتشار التأليف على مدى واسع في حياة ابن رشد ضد التقسيم الأولي لحياته إلى ثلاث فترات، كل منها يختص بأحد أنواع الشروح، الأكبر والأوسط والأصغر. ومعرفة التواريخ ليست مقصودة بذاتها، بل للتعرف على مسار فكر الفيلسوف، والتحول من النقل إلى الإبداع في حياته.
49
وليس ابن رشد مؤرخا للفلسفة بمعنى الرصد الموضوعي لتاريخ الأفكار، بل هو يعيد قراءته مئولا أرسطو ومحافظا عليه. ولا فرق بين المؤلف والناسخ والقارئ والحامل، الكل ينتسب إلى النص باعتباره عملا حضاريا جماعيا، فيقدم الناسخ العمل ويطلب الرحمة للمؤلف. ولما كان الناسخ يكتب ما يفهم، فقد توجد بعض الأخطاء التاريخية في نسبة النص إلى صاحبه أو إلى موضوعه، وبطبيعة الحال تتفاوت نشرات النصوص بين النشرات غير المحققة في الهند، والنشرات المغالى في تحقيقها في المغرب.
50 (ج) وتبين كل رسالة على حدة أولوية تمثل الوافد على تنظير الموروث؛ ففي رسالة «في لزوم جهات النتائج من المقدمات» يتصدر الوافد على الموروث.
51
يأتي أرسطو أولا، ثم الإسكندر، ثم ثاوفرسطس وثامسطيوس، ثم أودميوس. وأسماء الفرق كلها من الوافد، ثم المفسرون المتأخرون، ثم المتقدمون. كما أن كل الإحالات من الوافد، مثل القياس والبرهان.
52
الموضوع هو تبعية النتائج إلى جهات المقدمات في القياس. والمفسرون فريقان؛ المتأخرون: الإسكندر وثامسطيوس وأبو نصر. والمتقدمون: ثاوفرسطس وأوديموس. وقد توهم المتأخرون في تحديد المقدمات الوجودية عند أرسطو في الزمان؛ أي المقدمة الموجودة بالفعل، بينما قال المتقدمون، مثل ثاوفرسطس، بوجود المحمول للموضوع بإطلاق، لا فرق بين الفردي والضروري والممكن. وقد اتفق المفسرون على ذلك، مع أن ظاهر كلام أرسطو يوحي بتحديد زمان للمقدمات لأنها مطلقة. وتطلق المقدمة الوجودية على الضروري والممكن معا، ومع ذلك أخطأ المفسرون، مثل الإسكندر والفارابي، في تحديد زمانها وأنواعها. يرى الإسكندر وتابعه في ذلك أبو نصر أن المقدمات توجد في زمان محدود ، وهو غير صحيح؛ فالمطلقة العامة ليست الوجودية المخصوصة. حجة الإسكندر أن شرط المقول على الكل أن يكون له مادة، وأن تكون بالضرورة أو بالإمكان أو بالفعل، وهو ما أوهم ابن رشد في شبابه، وجعله يعتقد شرط القول على الكل في المقدمة الضروري، أي الكبرى، على مذهب الإسكندر. وكما حل الإسكندر الشكوك على أرسطو بعد خمسة قرون، فقد حل ابن رشد شكوك الإسكندر بعد ألف عام. ويبدو أثر علم الحديث عند الشراح المسلمين في تحديد زمان الرسل وزمان النصوص، وكأن المقدمة المنطقية رواية لها زمانها وأجيالها المتعاقبة، والمطلقة ليست هي الوجودية المخصوصة بوقت. ويعتمد ابن رشد على الشراح المسلمين الفارابي وابن سينا في فهمهم لأرسطو، إن النتيجة تابعة للمقدمة الكبرى، وإن كانت في المختلطة تابعة لأخس المقدمتين، بل احتج ابن سينا لمذهب أرسطو بالمقول على الكل كشرط لإنتاج القياس. وداخل الفارابي شك؛ لأنه أراد أن ينتقل من صورة القياس إلى مادته في الإنتاج، فكيف يشترط أرسطو في إنتاج القياس من قبل صورته ما يوجد في مادته؟ أرسطو الصوري على حق في تبعية النتائج للمقدمات في القياس من حيث صورته. ويحيل ابن رشد إلى كتاب البرهان مفسرا الجزء بالكل، والقضية بالمذهب. ويبدد شكوك الشراح اليونان، مثل الإسكندر، وهو أن شرط المقول على الكل عند أرسطو هو أن تكون «أ» ضرورية، و«ب» ممكنة بالفعل. وقد شك أبو نصر أيضا في أن تكون المقدمة الكبرى ضرورية، والصغرى ممكنة، ولا يكون القياس باطلا؛ فالأولوية عند أرسطو للضروري على الممكن، وللوجودي بالفعل على الوجودي بالقوة، والأهم هو الكبرى لا الصغرى؛ لأن الكبرى هي التي تحدد جهة النتائج. ويبدو ذلك في الشكل الأول، وفي الشكلين الثاني والثالث بعد ردهما إلى الأول، وإعطاء الأولوية للأول على الثاني والثالث؛ لأن الأول أشرف فكر ديني مقنع، وإسقاط للقيمة على أشكال القياس الصورية. وهذا كله يبين لمن ارتاض هذه الصناعة. والحكم بين أرسطو وشراحه في حاجة إلى خبرة طويلة بصناعة المنطق. وقد فهم ابن رشد أرسطو أخيرا، فاكتملت الحكمة النقلية به عندما أوتيت له، كما اكتملت الحكمة النظرية والعملية بالكندي والفارابي وابن سينا.
ويعتمد ابن رشد في نقده للشراح دفاعا عن أرسطو على أرسطو نفسه بعد أن يكون قد درس الموضوع بنفسه حتى يحكم بين الخصمين، ويرفض اقتراح الشراح بوجود خطأ في النسخ كحل لحيرتهم وشكوكهم ما دام يمكن حل الشك عقلا بالعودة إلى نص أرسطو وحسن فهمه، وافتراض الصحة التاريخية وارد من علم الحديث وعلم أصول الفقه. يعرض حجج أرسطو وحجج الشراح، مسلمين ويونان، ثم يبين مدى اختلاف الشراح واتفاقهم مع مذهب أرسطو، ثم ينقد الشراح لمخالفاتهم للمذهب. ويبين أسباب سوء التأويل والفهم دفاعا عن المذهب بالرغم من اعتذار الكل بنص أرسطو تمحكا به. وينتهي ابن رشد إلى حسن الظن بأرسطو، ونهاية الشكوك والتأويلات الفاسدة من الشراح. وقد أتت هذه الشكوك إلى الشراح من جهة اشتراك الاسم، وهو أمر في غاية الخفاء لخفاء المعنى إذا لم يصرح أرسطو في كتاب «البرهان» بأن جهات النتائج تتبع جهات المقدمات الكبرى في مادتها وجهتها، بل من حيث صورتها فحسب. وقد أطلق أرسطو القول ونبه على ذلك.
53
مسار الفكر في التاريخ هو سوء الفهم والانحراف والخروج على الأصل الأول. وكلما توالت الأجيال فإن الجيل اللاحق يقلد الجيل السابق ويقع في أوهامه. هذا هو مصير أرسطو بين الشراح اليونان أولا والمسلمين ثانيا، من المتقدمين مثل ثاوفرسطس وأوديموس، ومن المتأخرين مثل الإسكندر وثامسطيوس وأبى نصر. ويقوم ابن رشد بمهمة تصحيح الانحراف وتصويب الخطأ، والتحول من الظن إلى اليقين، وتلك مهمة الأجيال، وفعل التقدم في التاريخ، من المتقدمين إلى المتأخرين بعد أن أضل المتقدمون المتأخرين. التاريخ قبل ابن رشد انهيار وتقليد، وبعده نهضة وإبداع. لقد أضل متقدمو الشراح، مثل ثاوفرسطس وأوديموس، المتأخرين، مثل ثامسطيوس وأبي نصر، وتابع المتأخرون وهم المتقدمين؛ فالتقليد يؤدي إلى الانهيار.
54
ويتجه ابن رشد مباشرة إلى الكشف عن غرض أرسطو وقصده مستعملا أفعال البيان. ويعاني مع أرسطو والشراح وكأنه الغزالي في «المنقذ من الضلال»، يبدأ بالشكوك، ويتحدث في ضمير المتكلم الجمع تعبيرا عن الأنا الحضاري. ويستعمل منهج التأويل لحل الشك بعد البداية بحسن الظن بأرسطو، وأن نظره أعلى من الكل. وينتهي إلى أن الغلط على الناس من جهة اشتراك الاسم طبقا لمبحث الألفاظ عند الأصوليين. كما يستعمل المنهج الرياضي في المطلوب إثباته؛ فرض المقدمات، ثم الاستدلال ، ثم النتيجة.
55
وقد خطأ فريق آخر من الشراح، مثل ثاوفرسطس وأوديموس وكثير من قدماء المشائين، أرسطو في جعله النتيجة تابعة لجهة المقدمة الكبرى في المقاييس المختلطة من الوجودية والضرورية، وأرادها تابعة لأخس المقدمتين. الخلاف في الرؤية بين أرسطو وشراحه في سلم القيم، القيمة الأعلى عند أرسطو، والأدنى عند الشراح، وكأن المنطق أيضا يخضع للقيمة.
وفي المورث يتقدم الفارابي ثم ابن سينا.
56
خالف الفارابي الشراح اليونان في جعل النتيجة تابعة لأخس المقدمتين وجعلها تابعة للأشرف. كما شارك الإسكندر في جعل المطلقة هي الوجودية المخصوصة في الوقت. وسبب خطئه عدم فهم معنى المقول على الكل عند أرسطو، وشكه عليه كيف يشترط أرسطو إنتاج القياس من جهة صورته ما يوجد في مادة دون مادة. ويستعمل ابن رشد برهان الخلف لتفنيد حجة الفارابي؛ فلو كان هذا من شرط المقول على الكل لما نتج القياس من الممكنين. إن شرط المقول على الكل عند أرسطو في الكبرى هو ما يقره الفارابي. خطأ الفارابي ليس في القصد الحضاري الكلي مثل خطأ ابن سينا، ولكن في الجزئيات والاستدلالات. خلاف ابن رشد مع الفارابي خلاف الصديقين، ومع ابن سينا خلاف العدوين. خطأ الفارابي من الداخل، وخطأ ابن سينا من الخارج؛ فقد أخطأ ابن سينا في استعمال حجج أرسطو لمخالفته في تبعية النتيجة لأشرف المقدمتين، وجعلها ابن سينا والشراح تابعة لأخس المقدمتين. وتغيب المقدمات والخواتيم الإيمانية من هذا المقال نظرا لطابعه المنطقي الصرف؛ لذلك يعيب ابن رشد على الشراح النصارى، مثل يحيى بن عدي، خلط أرسطو بالدين.
57 (د) وفي «المقول على الكل» يتصدر أرسطو، ثم الإسكندر، ثم ثاوفرسطس وثامسطيوس وأوديموس. ومن أسماء الفرق المشاءون والمفسرون، ثم المتفلسفون من النصارى والمفسرون من القدماء.
58
يحدد ابن رشد معنى المقول على الكل عند أرسطو تماما وبدقة، ويثبت خطأ المفسرين في اختلافاتهم عليه. الغرض موضوع أرسطو في إحدى كتبه، وليس أرسطو نفسه، وتحديد الموضوع بدقة متجاوزا الشخص إلى الموضوع وتحليله. يريد ابن رشد تخليص أرسطو من براثن الشراح، ويعيده إلى مساره الصحيح في التاريخ ، ودفع التهم عنه وتبرئته باعتباره قاضيا، لا فرق بين الشراح اليونان، مثل ثاوفرسطس والإسكندر، وبين الشراح المسلمين، الفارابي وابن سينا. لم يفهم المفسرون ما قاله أرسطو؛ لذلك لم يوافقوه في جهات نتائج المقاييس المختلفة.
59
لقد أجمع المفسرون على أن مذهب أرسطو هو لزوم جهات النتائج لجهات المقدمات. وخرج البعض منهم على هذا الإجماع اعتمادا على وهم بعض المتأخرين، مثل الإسكندر وثامسطيوس وأبي نصر، لا المتقدمين مثل ثاوفرسطس وأوديموس. ولم يوافق الشراح على ما يقوله أرسطو في جهات نتائج المقاييس المختلطة. ويعرض للشراح المسلمين مثل الفارابي وابن سينا، كما يعرض للشراح اليونان. وقد ظن ابن سينا أنه زاد على أرسطو ضروبا كثيرة من المقاييس. يذكر ابن رشد أرسطو بمناسبة تصحيح فهم ابن سينا له؛ أي بسبب صورة الوافد في الموروث، وليس تعاملا مع الوافد وحده. ويعيد تأويل الشراح، ويرده إلى أصله في أقوال أرسطو، فيضرب عصفورين بحجر واحد. عيب المفسرين إغماض الأمر حتى على فاهم أرسطو، والمعرفة عن طريق الوساطة دون الذهاب إلى أقوال أرسطو نفسه، مع أن دور الشراح هو المساعد على فهم النص الأصلي، ودور الشراح المتقدمين مساعدة الشراح المتأخرين؛
60
لذلك يعتمد ابن رشد في تصحيحه للشراح على أرسطو نفسه وعلى أقواله عودا إلى الأصل، وفي نفس الوقت يعتمد على الأمر نفسه؛ أي على الموضوع ذاته وهو أصل النص؛ فالأصل قول أو شيء، والقول الفصل قول ابن رشد الذي يتحد بالشيء في صيغة «فنحن نقول» تمايزا بين الأنا والآخر.
ويحتج الإسكندر بأن الأمثلة التي يستعملها أرسطو مقدمات طبيعية متوسطة بين الضروري والممكن. ظن الإسكندر أن الوجودية التي عاناها أرسطو في زمان ومكان معينين، وليست الموجودة في كل زمان ومكان؛ لأن الإطلاق عند أرسطو في المقدمة، متى وجد الموضوع وجد المحمول. وقد ذهب ذلك على سائر المفسرين القدماء، واختلفوا في المقدمة الوجودية. ويرى الشراح، ثاوفرسطس وأوديموس، أن الوجودية عند أرسطو تعم الضروري والممكن والموجود بالفعل، وعند الإسكندر الموجودة بالفعل في زمان معين فقط. وعند أوديموس وثاوفرسطس الوجودية تعم الضروري والممكن والموجود بالفعل، على عكس الإسكندر الذي يعني بالوجودية الموجودة بالفعل.
61
ويحيل ابن رشد إلى باقي مؤلفات أرسطو شارحا المنطق بما بعد الطبيعة؛ فالضرورة والإمكان مقولتان في المنطق وموضوعان في ما بعد الطبيعة، وأحيانا يرجع ابن رشد أخطاء الشراح إلى أخطاء مادية في النسخ التي قرأها الشراح أو في الأصل القديم؛ فالمعنى هو الذي يحكم النص، وهو ما وقع لأبي نصر في تأويله على أرسطو أنه متى كانت الكبرى ضرورية بالقوة في الشكلين الثاني والثالث كانت النتيجة ضرورية. وهو قول متناقض. وقد كان ذلك أيضا نفس اعتذار الفارابي لأرسطو.
62
ويعبر ابن رشد عن قصد أرسطو بطريقة معيارية، ما ينبغي أن يكون عليه المعنى؛ لأنه يعرف الموضوع بتحليله الخاص؛ ومن ثم يضبط معاني أقوال أرسطو من أعلى ومسبقا. لا تفهم أقوال أرسطو من الألفاظ إلى المعاني، بل من المعاني إلى الألفاظ. وما ينبغي أن يكون عليه المعنى ينبع أيضا من طبيعة العقل. ولما كان العقل هو الذي يجمع بين أرسطو وابن رشد سهل فهم المعنى واتفاق العقلاء عليه؛ فالمقدمة الكبرى هي التي تحدد الجهة في النتيجة، والمعنى المعياري هو الذي يمنع الشكوك ويقضي على سوء تأويل الشراح، وهو الحق في نفسه، الشيء في ذاته، ويتفق مع اللفظ. يختلف مع الشراح؛ ومن ثم يعارضون اللفظ والشيء في ذاته؛ لذلك لم يفهموا الأنواع الوجودية والمطلقة والضرورية. وعندما يجد الشارح نفسه مختلفا مع أرسطو فإنه يعتذر عنه ويئوله حتى يتفق مع قوله، وكأن ابن رشد هنا يقرأ الشرح بطريقة المتكلمين الذين يئولون النقل طبقا للعقل. وهذا ما فعله ثامسطيوس وأبو نصر.
63
يتحدث ابن رشد عن هذا الرجل ويقصد أرسطو دون تبجيل أو تعظيم بلقب الحكيم أو المعلم الأول، رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق دون تأليه أو تعظيم أو إعجاب. ويشعر ابن رشد بمسئولية جيله وزمانه في تبديد الشكوك. وضعف نظر الناس وقلة حكمتهم سبب التشكك عليه، ورد قوله بما يظهر لهم. ويزداد الضعف إذا لم يظهر للمتقدمين؛ وبالتالي يكون التاريخ جهلا مركبا، جيلا وراء جيل. وأسوأ شيء للمتأخر الاضطراب عن تعليم أرسطو وسلوك طريقة أخرى، وكأن ابن رشد يدافع عن نمطية الفكر في التاريخ دون بدائل. لقد انحرف الفارابي عن مسار أرسطو في المنطق كما انحرف عنه ابن سينا في الطبيعيات والإلهيات.
ويتبع ابن رشد مسار فكر أرسطو من البداية إلى النهاية مستدلا معه وبمنطقه لبيان اتساق الحجج وسلامة المنطق، وأن قول أرسطو واضح بذاته؛ فلم يرد أرسطو أن يكون القياس منتجا من سالبتين لا بالقوة ولا بالفعل. يبحث ابن رشد عن الوضوح وما هو بين بنفسه؛ فإن كان غامضا أظهره، يبين الاستدلال، ويضع المقدمات، ويستنبط النتائج. ومسار التاريخ من أرسطو إلى المشائين مسار من الوضوح إلى الغموض، ومن متقدمي المشائين إلى متأخريهم مسار من الغموض إلى الأكثر غموضا، مع أن المتقدم معين للمتأخر وليس سببا في حيرته، وعامل مساعد له لاستخراج الحق؛ فتاريخ الحقيقة سقوط وانهيار من الحق إلى الظن، ومن الصواب إلى الخطأ، ومن الحقيقة إلى الوهم. وتكون مهمة ابن رشد التاريخية هو العود من الغموض إلى الوضوح، ومن الظن إلى الحق، ومن الخطأ إلى الصواب، من الوهم إلى الحقيقة. ونادرا ما يخطئ ابن رشد أرسطو ويصوب الشراح. ويبين ابن رشد غرض أرسطو وقصده؛ أي اتجاه أقواله؛ فالقول ليس فقط لفظا أو معنى، بل هو اتجاه وقصد يجمع بين اللفظ والمعنى والشيء. ويصح قول ابن رشد إذا ما اتفق مع قصد أرسطو، ويصح قول أرسطو إذا ما اتفق مع قول ابن رشد. وتخطئ أقوال المفسرين إذا ما حادت عن قول أرسطو، ولكن لا يخطئ قول أرسطو إذا ما حاد عن قصد المفسرين؛ فالقول ليس خاصا فقط بأرسطو، بل إن ابن رشد أيضا يقول كما يقول السائل افتراضا. وبيان القصد بطبيعته يكون موجزا؛ لأنه يتجه إلى الكلي وليس إلى الأجزاء.
64
وربما كان ابن رشد قاسيا على الشراح ظانا أن الشرح هو المطابقة وليس القراءة، في حين أن الشرح هو قراءة للآخر من منظور الأنا، وإعادة كتابة للنص في بيئة ثقافية مخالفة ولأهداف مغايرة ؛ فلا يوجد فهم صحيح أو خاطئ، ولكن هناك تأويل في ظروف مغايرة، وهو بداية الإبداع؛ فما يسميه ابن رشد سوء تأويل ابن سينا أو غيره قد يكون قراءة له أو ابداعا منه.
65
وفي الموروث يتصدر الفارابي ثم ابن سينا. ويحال إلى كتاب القياس للفارابي.
66
يبدو الفارابي شارحا أرسطو؛ لأنه يأتي بعده مباشرة وقبل الإسكندر وابن سينا. والإحالة إلى قياس الفارابي تعادل الإحالة إلى قياس أرسطو. ويروي الفارابي عن الإسكندر سوء تأويل موقف أرسطو في المقول على الكل؛ فمعرفة ابن رشد بالإسكندر عن طريق رواية الفارابي، المعلم الثاني. والحقيقة أن كليهما، أبا نصر والإسكندر، يسيء تأويل أرسطو بطريقتين مختلفتين؛ فعند أرسطو يكون المحمول موجبا أو مسلوبا من كل ما هو جزء للموضوع أو يتصف بالموضوع، عند الإسكندر بالفعل، وعند الفارابي بالقوة وبالفعل. وقد ظن الإسكندر أن أرسطو أراد بالمطلقة الوجودية فقط، وأنها مطلقة من اللفظ لا من الضمير؛ ويعني بذلك المقدمات الكلية المخصوصة بالوجود في الزمان. وهذا كله سوء تأويل لأرسطو؛ فأرسطو يتحدث عن الأخلاق دون تحديد بزمان، ولكن طبيعة الذهن البشري ومسار التاريخ يؤديان إلى الانتقال من الصوري إلى المادي، ومن المطلق إلى المعين. لقد توهم الفارابي أن المقول على الكل ما وصف بالموضوع، وأنه معنى زائد على مفهوم المقدمة الكلية، بين الدلالة الأولى والدلالة الثانية، وهو في ذلك تابع لثاوفرسطس وأوديموس من القدماء، والإسكندر من المحدثين، مؤرخا لهم وراويا عنهم، وشارحا قول الإسكندر إن حذف الجهة دليل عليها. وهذا سائغ في اليونانية وليس في العربية دون إشارة صريحة إلى التمايز بين اللغتين. يعيد ابن رشد الوافد إلى الموروث، ويتمسك بظاهر اللفظ وبمنطق اللغة. وقد عني أرسطو بتقسيم المقدمات إلى ثلاثة أقسام بحسب انقسام طبيعة الموجودات، وليس فقط حسب طبيعة الاعتقاد؛ أي ما يوجد في النفس، توحيدا من أرسطو بين المنطق والوجود، وكأن ابن رشد يقرأ أرسطو قراءة هيجلية. وقد خالف الفارابي أرسطو. ويعتذر ابن رشد عن ذلك بسوء التأويل، وهو منهج إسلامي خالص في اتفاق النقل الصحيح مع العقل الصريح دونما حاجة إلى تأويل النقل حتى يتفق مع العقل. تأويل الفارابي تقول عليه، وخروج على ظاهر اللفظ وعلى الأمر نفسه. وقد توهم الفارابي أن الخطأ في القسمة حتى يشرع في التأويل. هنا يبدو ابن رشد ظاهريا.
67
لقد شرح الفارابي أرسطو ولخصه ابن رشد، وكان خطؤه أنه تصور أن الوجودية مخصوصة بزمان معين. أراد الفارابي تحويل المنطق الصوري إلى منطق مادي، وإدخال الوجود والموضوع والزمان في مادة القضايا، وذلك ليس خروجا على أرسطو، بل تطوير له وإبداع فيه. وتلك علاقة الخلف بالسلف، إبداعا لا تقليدا، وتطويرا لا تبعية، مثل علاقة المسيحية باليهودية، وعلاقة الإسلام بالمسيحية. ويبدو المنهج الإسلامي واضحا في المقالات؛ العودة إلى النص الأول لأرسطو تطهيرا له من سوء تأويل الشراح، مثل العودة إلى النص القرآني الأول تخليصا له من براثن المفسرين. كما أن منهج الحكم بين المتخاصمين، أرسطو وشراحه، ومقارنة أدلة كل فريق بأدلة الفريق الآخر، والتحقق من صحتها ثم إصدار حكم بالبراءة لأرسطو وإدانة الشراح، هو منهج أبي الوليد قاضي قضاة قرطبة. كما أن اللجوء إلى ظاهر قول أرسطو هو منهج القاضي الظاهري. وتبدو الأمثلة الفقهية مضحكة أحيانا كما هو الحال في الفقه الافتراضي، مثل «ولا مفكر واحد غراب» سالبة ضرورية لا وجودية. وربما تشير الوجودية إلى الإحساس بضرورة الواقعية في المنطق، وأهمية المواد مع الإشكال.
68
وقد أخطأ ابن سينا في معنى المقول على الكل، يشير إليه في بداية المقال وفي نهايته، وظن أن هناك مقاييس اقترانية غير الحملية والشرطية، وجعل عددها كالحملية أو قريبا منها، وإخراج الحملية مثل الشرطية، وألف منها أقاويل ثم خلط الحمليات بها، وظن أنه بذلك قد زاد على أرسطو، وقد اقتبسها من المتفلسفين من النصارى وليس من المشائين. ابن سينا سارق وليس مبدعا، سارق من النصارى المتفلسفين وليس من المشائين، وإن كان له إبداع فهو منحرف تابع للفروع وليس للأصول. وظل تشكيك ابن سينا وانحرافه حتى زمان ابن رشد. والزمان كفيل بحل الشكوك حتى من أضعف الناس حكمة وأقلهم نظرا. التاريخ هنا عنصر إيجابي لكشف الحقائق، انتقالا من الزيف إلى الصدق، ومن الخطأ إلى الصواب. كتب ابن سينا مملوءة بالتشكيك على أرسطو خاصة في المسائل الكبار، ومن أراد التعلم فعليه تجاوز كتب الفارابي المنطقية وكتب ابن سينا الطبيعية والإلهية.
69
ويضع ابن رشد تقابلا بين لسانهم ولساننا، بين اليونانية والعربية، إحساسا بالتباين اللغوي، فما يسوغ في لسان اليونان قد لا يسوغ في اللسان العربي، بل يكون مستكرها؛ فاللسان العربي هو أساس الذوق اللغوي، استحسانا أو استكراها. ويبدأ المقال بالبسملة والصلاة والسلام على محمد وآله، والدعوة بالتيسير والرحمة، مع تحديد وقت الفراغ من التأليف، أربعة أعوام قبل أن ينتقل إلى الرفيق الأعلى؛ مما يدل على أن التأليف كان على فترات متباعدة وغير مرتبط بفترة معينة من حياته.
70
والسؤال الآن: ما دلالة هذه القضية؛ معنى المقول على الكل، اتفاق جهات النتائج مع جهات المقدمات؟ وما أهميتها؟ هل العلم للعلم؛ لذلك فضل الفقهاء الانتقال إلى العلم النافع بالرغم من محاولات نقل المنطق من المستوى الصوري إلى المستوى المادي بالأمثلة الفقهية والقياس الشرعي؟ (ه) و«في المقاييس المختلطة» يتقدم أرسطو، ثم الإسكندر، ثم ثاوفرسطس. ويحال إلى كتاب القياس لأرسطو. والفرق كلها يونانية، مثل المفسرين وقدماء المشائين والمتأخرين.
71
يبدأ ابن رشد بفحص غرض أرسطو في المقال بداية بالموضوع، ثم يبين مخالفة المشائين المتقدمين له، ومخالفة المشائين المتأخرين لأرسطو وللمتقدمين، ويرجع إلى الأصل مبينا تطابق أرسطو مع الخلف، ومخالفة المتقدمين له أقل من مخالفة المتأخرين. يحلل ابن رشد الموضوع وأرسطو يتفق معه وليس العكس. ابن رشد هو المشروح، وأرسطو هو الشارح. ابن رشد هو الذي يقول وليس أرسطو، ثم يعلن اتفاق الأمر في نفسه، أي الموضوع، كما حلله مع أقوال أرسطو، ومخالفة أقوال الشراح له وللموضوع على السواء، وهو أن المقاييس المختلطة من الوجودية والضرورية غير تامة، وأن جهات النتائج فيها تابعة لجهات المقدمات. ولا يكتفي ابن رشد بإعلان الحكم النهائي مثل القاضي، بل يعطي الحيثيات؛ أي تعليل الحكم، وكل حكم يقوم على علة كما هو الحال في منطق الأصول، وبناء على مقياسين، أقوال أرسطو والأمر نفسه؛ أي الأصل والفرع. مهمة ابن رشد إيجاد العلة وتعدية الحكم. ويستعمل أحيانا في منطق الحكم برهان الخلف؛ أي افتراض صحة موقف الشارح، ثم بيان مناقضة أرسطو له كنوع من الجدل في افتراض صحة أقوال الخصوم. ويتحدث في ضمير المتكلم المفرد «أما أنا فلست أدري»؛ مما يدل على أن الموضوع معاش في وعيه وليس مجردا، حتى ولو كان موضوعا منطقيا. وأحيانا يأخذ تأويل أرسطو الخاطئ، ويستخرج نتيجتين مستحيلتين منه من موقف الشراح، يونان ومسلمين؛ مما يدل على معرفة ابن رشد ببناء المذهب دون أن يكون الشراح طول الوقت على خطأ، وأرسطو طول الوقت على صواب، مرة لهم ومرة عليهم؛ فالغاية الوصول إلى الحق الذي يراه ابن رشد.
72
ويهدف ابن رشد إلى التوضيح؛ يضع مقدمات الاستدلال وينتهي إلى نتائجه، ولا داعي للتكرار. ومقياس معرفة أرسطو هو ظاهر قوله، والأمر في نفسه اللفظ والشيء. يقوم ابن رشد بتوضيح المعنى، وهو الرابطة بينهما؛ فمستويات التحقق ثلاثة: اللفظ والمعنى والشيء. اللفظ أي النقل، والمعنى أي العقل، والشيء أي الطبيعة؛ نظرا لاتحاد الوحي والعقل والطبيعة. والقول ليس مقصورا على أرسطو، بل ممتد أيضا إلى ابن رشد.
73
واشترط الإسكندر في المقول على الكل شرط الفعل كي يكون موجبا. وقد يكون في ذلك معذورا؛ لأن أرسطو أتى برسمه في أول كتاب القياس. ويبدد ابن رشد هذا الشك ويجد للإسكندر مخرجا؛ فهو القاضي والحكم. ولم يتعد ثاوفرسطس الظن في حين وصل ابن رشد إلى اليقين، نفس يقين أرسطو في تطابق جهات النتائج مع جهات المقدمات. ونظرا لاتساق مذهب أرسطو وإحالة الأجزاء إلى الكل، فإن موضوع جهات النتائج في المقاييس المختلطة يحيل إلى موضوع المقول على الكل.
74
وفي الموروث يتصدر الفارابي، ويحال إلى كتاب القياس له أيضا دون الاكتفاء بمجرد السماع أو الشهرة؛
75
فإذا تعادلت الإحالات إلى المصادر بين أرسطو والفارابي فإن الفارابي يتصدر الإسكندر. وقد اعترض الفارابي على معنى المقول على الكل عند أرسطو بأن القياس المركب من مقدمتين ممكنتين غير بين الإنتاج، ويحاجج ابن رشد الفارابي على مستوى ظاهر قول أرسطو، وعلى مستوى الموضوع نفسه، بأن شرط الإنتاج غير شرط النتيجة. ويستعمل ابن رشد لفظ «اللهم» كتعبير أدبي. ويبدأ المقال بالبسملة وطلب العون من الله، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد، وينتهي بطلب التوفيق للصواب برحمة الله.
76 (و) و«في المقدمة الوجودية أو المطلقة» يتصدر أرسطو، ثم الإسكندر، ثم ثاوفرسطس، ثم ثامسطيوس، ثم أوديموس. ويحال إلى كتابي «البرهان» و«القياس» لأرسطو. والفرق كلها يونانية، المفسرون، ثم متأخرو المفسرين وقدماء المشائين.
77
مرة يبدأ ابن رشد بالخلاف مع الشارح الذي أساء تأويل أرسطو، ومرة يبين موقف أرسطو ثم الخلاف مع الشارح، مرة من الخصم ومرة من النفس، ومرة من الآخر ومرة من الأنا، مرة من المتهم ومرة من المتهم. يزعم كل مفسر أن مذهبه مذهب أرسطو، فوقع الخلط بين الفرع والأصل، بل تم استبدال الفرع بالأصل؛ ومن ثم يكون مقال ابن رشد عودا إلى الأصول، وهو الأصولي الفقيه. ويحتج كل مفسر على أرسطو إما من جهة الأمر نفسه أي الموضوع، أو من كلام أرسطو. ويعيد ابن رشد دراسة الموضوع وينتهي إلى نتيجة مخالفة للمفسر، ويعيد تفسير كلام أرسطو، ويثبت سوء تأويل المفسر له. مرة يتجه ابن رشد إلى الشيء ومرة إلى القول، مرة يصحح الرؤية ومرة يصحح الشرح مستشهدا بنص أرسطو الأصلي. يعرض حجج الشراح وينتقدها حجة حتى تظهر صحة قول أرسطو المتفق مع صحة الرؤية المباشرة للموضوع، وهو منهج علمي يقوم على التحقق من صحة الفروض، وهي في هذه الحالة أقوال الشراح ومطابقتها مرة على الأصل، وهو نص أرسطو، ومرة على الفرع وهو الأمر نفسه، مرة في القول ومرة في الشيء نفسه. ويبين ابن رشد أسباب خطأ الشراح ، إما سوء فهم ألفاظ أرسطو؛ لذلك يورد ابن رشد نص أرسطو بألفاظه، أو عادة أرسطو في الاستعمال والاستبدال والنقل بين أشكال القضايا، أو تبعية الشراح بعضهم لبعض، والنقل عن بعضهم البعض، كما نقلوا عن الإسكندر. وينتهي ابن رشد إلى كشف الحقيقة، حقيقة الموضوع كما رآه أرسطو، وحقيقة قوله المطابق لرؤيته، وخطأ تأويل الشراح لقوله؛ لأنهم لم يروا الموضوع، واعتمدوا على شرح القول دون رؤية الشيء على الحجج النقلية دون العقلية، والنقل دون العقل ظن؛ لأنه يعتمد على اللغة ومنطقها، في حين أن البرهان نظر في الأشياء. ويحيل ابن رشد الجزء إلى الكل، والقياس إلى البرهان؛ فلا يفهم الجزء إلا في إطار الكل كما هو الحال في النص والسياق.
78
ومع ذلك لا يبرئ ابن رشد أرسطو على طول الخط؛ إذ يكون أحيانا هو المسئول عما وقع فيه الشراح من خلط وسوء تأويل؛ فقد كان عليه أن يبين جهة من جهات الوجود، يذكر أحكامها في الإنتاج، وهي الوجودية خارج النفس، بل إن أرسطو يخلط أحيانا ف رؤيته للموضوع بين أنواع المطلقة كما خلط بين أنواع الممكنة. ومنهج ابن رشد في رفع الخلط وسوء التأويل من الشراح منهج معياري يقوم على معرفة الأمر في نفسه، أي رؤية الشيء، ثم مطابقة قول أرسطو به ومخالفة أقوال الشراح له؛ لذلك كان مذهب أرسطو باستمرار معروفا بنفسه؛ أي بديهيا مطابقا للعقل عاريا من الشكوك التي تلزم الشراح وحدهم. عرفه أوائل الشراح أكثر مما عرفه أواخرهم؛ فالسلف خير من الخلف، ومطابق للواقع؛ أي التجربة والمشاهدة، جمعا بين العقل والطبيعة. وهذه حكمة أتاها الله له؛ فالوحي والعقل والطبيعة نظام واحد.
79
معركة ابن رشد مع أرسطو، مشائين ومسلمين، مع الموروث الوافد والوافد الموروث، فلا فرق بينهما في الشرح ووضعه في سياقه التاريخي. ويتبع منهج القاضي بين المتخاصمين؛ يقارن بين أدلة كل من الطرفين ويتحقق منها، ثم يصدر الحكم القائم على الحيثيات؛ فهو ليس فقط قاضيا، قاضي قضاة قرطبة، ولكنه قاض بين متخاصمين فكريين في الفلسفة؛ بين الشراح من ناحية ، وبين الشراح وأرسطو من ناحية أخرى، لا ينحاز إلى فريق أو يميل لفريق آخر. ويتحقق من الأدلة على مستويات ثلاثة؛ الأول: تحديد معاني الألفاظ. والثاني: دقة المعاني. والثالث: الأمر نفسه. ويضع احتمال خطأ الشراح حتى يصح أرسطو في النهاية.
ويبين ابن رشد الغرض من المقال، وهو الفحص عن المقدمة الوجودية والمطلقة في حد ذاتها أولا، ثم معرفة أرسطو ثانيا، ثم اختلاف المفسرين ثالثا؛ فابن رشد هو المؤلف الأول، وأرسطو هو المؤلف الثاني الذي تطابق نتائجه نتائج المؤلف الأول، ثم الشراح الذين أساءوا تأويل المؤلف الثاني؛ لأنهم بدءوا من القول وليس من الشيء؛ ومن ثم يراجع ابن رشد تأويلاتهم على الأمر نفسه أولا، وعلى أقوال أرسطو ثانيا. والتفسير بالغرض جزء من المشروح كله عند ابن رشد، تحويل أرسطو إلى أغراض ومقاصد. كما يبحث ابن رشد عن الواضح بنفسه، ويستدل من المقدمات على النتائج، ويراجع ويتحقق على مستويات التحقق الثلاث، اللفظ والمعنى والشيء، وابن رشد هو الذي يقول مع أرسطو، وليس أرسطو.
ومن الموروث يتصدر الفارابي ثم ابن سينا، مع الإحالة إلى كتابين لابن سينا «الشفاء» و«النجاة»، وكتاب واحد للفارابي هو البرهان.
80
وهنا يصعب التفرقة بين الموروث والوافد؛ نظرا لأن الموروث خاصة الفارابي راو عن الوافد ومصنف لمذاهب الشراح اليونان؛ إذ يحكي أبو نصر أن مذاهب الشراح في المقدمة الوجودية متعددة متضاربة، مذهب أوديموس وثامسطيوس في مقابل مذهب الإسكندر. الأول المقدمة المطلقة والوجودية هي التي حذف منها جهة الإمكان وجهة الاضطرار. والمطلقة عند ثاوفرسطس ليس لها إلا وجود في الذهن، فتكون قوتها في ذوات الجهات إذا نسبت إليها قوة المهملة في ذوات الأسوار أو نسبت إليها. عند ثاوفرسطس وأوديموس الوجودية عند أرسطو تعم الضروري والممكن والموجود بالفعل، وعند الإسكندر الموجودة بالفعل في زمان معين فقط نظرا للتمييز بين عالم الأذهان وعالم الأعيان. وكالعادة يعرض ابن رشد حجج الشراح وموقف أرسطو على مستوى القول، ثم يعرض الأمر كما هو في نفسه، الأشياء ذاتها. وثامسطيوس راو في كتابه عن المفسرين شارحين أرسطو، وله رأي مخالف لرأي الإسكندر. مذهب الإسكندر أن المقدمة الوجودية هي المقدمة الممكنة إذا وجدت بالفعل في الزمان الحاضر. يعسر وجودها كلية، بل توجد بالاتفاق في الزمان. وهو المذهب الذي مال الفارابي إليه. ليست الوجودية هي الأقلية كما فهم الناس عن الإسكندر، بل ربما الأكثرية أو كلاهما معا. ويرجع الخطأ إلى احتمالين؛ الأول: أن الإسكندر لم يفهم معنى قول أرسطو، والذي يدركه ابن رشد جيدا. والثاني: أن الإسكندرانيين لم يفهموا ما فهم الإسكندر على وجه الصحة. ويرجح ابن رشد الاحتمال الثاني. يبدو الفارابي هنا راويا ومؤرخا للفلسفة بعد الكندي؛ مما يدل على ظهور الوعي التاريخي الفلسفي مبكرا. ويميل الفارابي إلى مذهب الإسكندر في المقدمة الوجودية بالفعل، أما المقدمة الممكنة في أقل الزمان والوجودية في أكثر الزمان؛ أي يوجد محمولا لكل موضوعها في أكثر الزمان، فإنها تستعمل في العلوم. ومنها المقدمات الضرورية وغير الضرورية.
81
وابن سينا له مذهب مستقل في الموضوع يقوم على الخلط ابتداء من تقسيمه الحمل الضروري على أنحاء خمسة طبقا للمقدمات. خطؤه في متابعة الإسكندر دون الرجوع إلى الأصل، وهو أرسطو، وهو منهج إسلامي يلجأ إلى الأصل دون الفرع، كما هو الحال في التفسير، وفي الأدلة الشرعية الأربعة. فخطأ المسلمين مزدوج بسبب فهم أرسطو من خلال شراحه. وقد ناقض ابن سينا نفسه بين «الشفاء» و«النجاة». اعتبر في «الشفاء» أن المطلقة هي التي محمولها موجود للموضوع ما دام المحمول موجودا رأي سخيف، ثم عاد في «النجاة» وجعل المطلقة تقال على الأربعة وعلى الثلاثة، وعلى هذا المعنى الذي سخفه من قبل ونسبه إلى الإسكندر. ويدل ذلك على وعي تاريخي عند ابن رشد، وفي نفس الوقت على ضرورة اتساق الحكيم. وقد يكون التناقض ظاهريا نظرا لتغيير السياق؛ فكل تحليل ابن وقته متسق مع نفسه، وليس مع تحليل في موقف سابق. هذا هو الخلاف بين موقف «الشفاء» وموقف «النجاة» دون افتراض تغيير الرأي وتطوره بالضرورة. ليس ابن سينا مؤرخا، وإنما هو الذي بنى الحكمة وقسمها في ثلاث؛ لذلك كان صامتا عن مصادره . المهم البنية لا التاريخ.
82
ويظهر الله كموضوع في قضية حملية يكون المحمول فيها وجود الموضوع دائما وضروريا وبإطلاق، مثل: الله حق، والفلك متحرك أو أزلي. فالله موضوع منطقي، كما أن صفاته تعزى إلى الطبيعة مثل الفلك أزلي. القضية الأولى طبيعيات مقلوبة إلى أعلى ، والثانية إلهيات مقلوبة إلى أسفل. ويبدأ المقال بالبسملة وطلب العون بلطف الله، والصلاة والسلام على محمد وآله، وينتهي بالحمد لله رب العالمين، والصلاة على محمد الكريم.
83 (ز) و«في جهات النتائج» في المقاييس المركبة يتصدر أرسطو والحكيم، ثم الإسكندر، ثم ثامسطيوس وثاوفرسطس، ثم أوديموس. ومن الفرق يتصدر القدماء، ثم قدماء المشائين، ثم المشاءون والمتأخرون.
84
يعرض ابن رشد القضية ثم يحاول التعرف على بنية المذاهب فيها. والقضية هي مذهب أرسطو في جهات النتائج الحادثة عن المقاييس المركبة من مقدمتين مختلطتين ذوات الجهات الثلاث، وهو المذهب الحق بالرغم من إمكانية نقده وتصحيح بعض دعاويه واستدلالاته. يحب ابن رشد أرسطو، ولكن حبه للحق أعظم، وهو مذهب يجعل نتائج المقاييس المركبة في الشكل الأول من الضرورية والوجودية تابعة في الجهة لجهة المقدمة الكبرى؛ فالإنتاج بحسب أشرف الجهتين. وخطأ الشراح أنهم جعلوه من جهة أحسن الجهتين، وكأن المنطق يخضع للقيمة، وأن أشكال القياس خاضع لسلم القيم. ويستقي ابن رشد مذهب أرسطو من مصادره الأولى، وليس من أقوال الشراح رجوعا إلى الأصل. يرفض تأويل الشراح ويعود إلى أصول أرسطو بلا تأويل. وهو موقف ظاهري يرفض التأويل، مع أن كل قراءة تأويل، سواء من الشراح لأرسطو أو من ابن رشد للشراح لأرسطو، في حين أن ابن رشد المتكلم الفيلسوف يقوم بالتأويل حتى تتفق النصوص مع اجتهادات الفلاسفة في قدم العالم وخلود النفس الكلية.
85
ويحدد ابن رشد قصد أرسطو عن طريق تعميم الخصوص وتخصيص العموم كما يفعل الأصولي، وهو صحة الإنتاج الذي يوجد فيه شرط المقول على الكل. ويحيل إلى مقاله الآخر في الموضوع. وقد صرح أرسطو نفسه بهذا القصد وهذا الشرط. غرض ابن رشد بيان أن مذهب أرسطو هو الحق، وهو مذهبه في جهات النتائج الحادثة عن المقاييس المركبة من حقيقتين مختلطتين من المقدمات ذوات الجهات الثلاث، لا ما توهم ثاوفرسطس وثامسطيوس وكثير من قدماء المشائين طبقا لظاهر قول أرسطو، لا على ما أوله الإسكندر أو أبو النصر تابعا له. يحدد ابن رشد الغرض من المقال، وهو إنقاذ مذهب أرسطو من سوء التأويل عائدا إلى قول أرسطو نفسه طبقا لظاهر قوله. ويبدو ظاهري النزعة ضد التأويل إن كان إخراجا للقول عن معناه الصحيح؛ وبالتالي فإن صحة مذهب ابن رشد ليست قطعية مبدئية، بل تعتمد على فهم ظاهر المقول وبناء على الأمر نفسه؛ أي تجريبيا. ويبحث عن الموضوع، ويستدل من المقدمات على النتائج، ويصف مسار فكر أرسطو موازيا لمسار فكره. يقيم السابقين ويصحح تأويلاتهم، ويبحث عن الصواب والخطأ، ويحكم بعد المداولة، مثل التحقق من الخصومة بين الفريقين. وابن رشد هو الذي يقول وليس أرسطو. يشرح نص الشراح شارحين نص أرسطو على مستوى القول، وفي نفس الوقت يرى الموضوع نفسه ويراجع عليه القولين السابقين على النحو الآتي:
والحكيم والحقيقة شيء واحد، أقواله حقيقة ونموذج ومعيار يقاس عليه أقوال الشراح؛ فالحكيم هو الحكم إذا اختلف الشراح فيما بينهم؛ ففي المقاييس المختلطة من الوجودي والضروري تتبع النتيجة المقدمة الكبرى؛ لأنها المقول على الكل. وإذا كانت المقدمات غير تامة فالنتائج كذلك. قد يتفق أقوال الشراح مع ظاهر كلام الحكيم أو تخرج عليه بدافع تأويل بعيد. والتأويل منهج موروث لدراسة علاقة أرسطو بالشراح، الأصل بالفرع، النص بالشرح. يعود ابن رشد إلى الأصل وإلى النص للحكيم على الفرع وعلى الشرح. كلام الحكيم هو الظاهر، وأقوال الشراح هو المئول، وكلاهما مقولتان أصوليتان. وأحيانا يئول ابن رشد كلام الحكيم حتى يتفق مع شرحه الصحيح. ويتصور ابن رشد اعتراض الخصم من أجل معرفة سبب الشبهة والدفاع عن فهم أرسطو الصحيح. يدخل في مسار فكر أرسطو ليتبع منطق استدلالاته؛ ومن ثم يكون ابن رشد هو الحكم بين المتخاصمين في أرسطو. ينقد الفارابي لسوء فهم أرسطو، وينقد أرسطو لسوء فهمه للحقيقة والواقع؛ أي الأمر في نفسه . ابن رشد هو المراجع والمحقق والدارس والعالم.
86
ويذكر ابن رشد ثامسطيوس وثاوفرسطس معا؛ الأول من متقدمي المشائين، والآخر من متأخريهم. ويقرن ثاوفرسطس بأوديموس أيضا من قدماء المشائين، والغرض الدفاع عن مذهب أرسطو في جهات النتائج ضد توهم ثامسطيوس وثاوفرسطس؛ فلثامسطيوس توهمات بالنسبة لموضوع جهات النتائج عند أرسطو. وخطأ أرسطو جعل النتائج تابعة للمقدمات في المقاييس المختلطة من الوجودية والضرورية، فظن الشراح في مقابل يقين أرسطو وابن رشد. ويصح فهم أرسطو إذا ما أخذ على ظاهره دون تأويل كما يفعل ابن رشد.
وكما أخطأ الإسكندر في التأويل وتبعه الفارابي في نفس الخطأ، يؤيد ابن رشد الإسكندر إذا فهم أرسطو على ظاهره؛ لأن كلام أرسطو لا يحتاج إلى تأويل، وينقده إذا ما أول أرسطو؛ لذلك أخطأ الإسكندر عندما فهم الوجودية عند أرسطو أنها الموجودة بالفعل. وقد أدرك الفارابي أن تأويل الإسكندر غير صحيح؛ فالشارح الإسلامي مرة يتبع الشارح اليوناني ومرة يستقل عنه طبقا لنص أرسطو أو طبقا للأمر نفسه. الشرط عند الإسكندر مادي، لا فرق بين وجودية وضرورية. شرط القول على الكل أن يكون الحد الأوسط موجودا بالفعل في المادة الوجودية والضرورية، لا في جميع المواد؛ وبالتالي يتبدد شك الفارابي عليه.
ولا يخطئ ابن رشد إلا الشراح المتقدمين على الإسكندر، ولا يصدر حكما واحدا على الشارح في كل الحالات، بل طبقا لكل حالة؛ فالشارح مرة يحسن الفهم ومرة يسيئوه، مرة يأخذ الكلام على ظاهره ومرة يئوله. مسار الشرح إذن من سيئ إلى أسوأ، من تأويل قريب من النص إلى تأويل بعيد عنه، من الأشرف إلى الأخس، توحيدا بين المنطق والقيمة. ويحاول ابن رشد العودة إلى الأصل في مسار معاكس من التاريخ إلى النص، ومن الشرح إلى الأصل، وكأنه أصولي بمعنيين، العودة إلى الأصول أي النص، وكما هو الحال في التيار الأصولي، والعودة إلى الأصول أي الأول في الزمان، كما هو الحال في التيار السلفي. والقدماء لفظ عام يوحي بالبعد التاريخي للفكر؛ فقد توهم القدماء وشكوا في كيفية جعل أرسطو النتيجة تابعة لجهة إحدى المقدمتين، وعدم التفرقة بين المقدمة الكلية والمقول على الكل، وكأن ابن رشد يفصل بين مرحلتين تاريخيتين؛ ما قبل القدماء وما بعد المحدثين.
87
ومن الموروث يتصدر الفارابي الشارح الأول لأرسطو قبل الإسكندر.
88
ولا توجد إحالة إلى مصادر إلا إلى شرح القياس. وقد تأول الفارابي أرسطو أيضا كما أوله ثاوفرسطس من قدماء المشائين، والإسكندر وثامسطيوس من محدثيهم، خروجا على مذهب أرسطو. لقد تابع الفارابي الإسكندر في تأويله لأرسطو في معنى الوجودية وجعله الموجودة بالفعل. والفارابي راو ومؤرخ للشراح خاصة الإسكندر. ومع ذلك خالفه في تأويل معنى المقول على الكل عند أرسطو، كما أنه حاد عن صحة بعض تأويلاته. شرط الفارابي في جميع المواد إنما يصدق في مادة واحدة هي الضرورية والوجودية، وهو ما قصده الإسكندر بوجود الحد الأوسط بين الكبرى والصغرى؛ ومن ثم لا يصح شك الفارابي على الإسكندر. يقوم ابن رشد هنا بدور القاضي الذي يحكم أحيانا لصالح الفارابي ضد الإسكندر، وأحيانا أخرى لصالح الإسكندر ضد الفارابي. ويبين ابن رشد شرط المقول على الكل الذي اختلف فيه المفسرون مراجعا التاريخ وعائدا به إلى أصوله الأولى عند أرسطو. وبالرغم من رفض الفارابي مذهب الإسكندر في المقول على الكل إلا أن ابن رشد يرفض رفض الفارابي استئنافا لعملية التطهير لنص أرسطو؛ إذ يسيء الفارابي أيضا تأويل أرسطو، وعذره رغبته تصحيح أرسطو بعد أن تحقق أن أمر المقول على الكل غير صحيح؛ لأنه كان سبب استبعاد بعض المقاييس غير التامة. ويستأنف ابن رشد تبرير الفارابي لأرسطو مصححا فهمه بأن المقول على الكل عنده بالمعنى العام.
89
ويبدو موقف أرسطو متفقا مع الفطرة الإسلامية؛ أي الفكر الطبيعي الذي يجعل الطبيعة قيمة. ويبدأ بالبسملة والصلاة على محمد وآله وصحبه، وينتهي بالدعوة إلى الله بالتوفيق للصواب سبحانه لا إله إلا هو وحده. وتختلف الدعوات والابتهالات والمقدمات الإيمانية بحسب الأمزجة والعادات. ويتم تحديد مكان النسخ وزمانه، إشبيليا والدعوة لها بأن يجيرها الله؛ مما يثير الأشجان والأوجاع ثمانية وعشرين عاما قبل رحيل ابن رشد؛ مما يدل على امتداد فترة التأليف على فترات حياته كلها. (ح) وفي «القياس الحملي والشرطي، ونقد القياس الاقتراني عند ابن سينا»، يتصدر أرسطو والحكيم، ثم ثامسطيوس. ويحال إلى القياس وأنالوطيقا الأول، ثم إلى الجدل. ومن الفرق يحال إلى المفسرين وحدهم.
90
ويؤلف ابن رشد في موضوعات أرسطو، حتى ولو لم يختلف عليها الشراح، من أجل تدعيمها وعرضها وفهمها وتنظيرها وبيان معقوليتها، مثل استحالة طلب مجهول أول بقياس شرطي منفصل أو متصل؛ ولهذا لم يثبته أرسطو في كتاب القياس محيلا الجزء إلى الكل. يبدأ ابن رشد بالفاعل «أرسطو» ثم بالفعل «يرى»، بالمؤلف الأول، أرسطو، وليس بالمؤلف الثاني، ابن رشد نفسه. عيبها أنها لا تتكون من ثلاثة حدود؛ لأنها ليست مقاييس حملية؛ لذلك لا تدخل تحت حد القياس المطلق، بل في كتاب الجدل. لا تسمى قياسا إلا باشتراك الاسم، ولا يطلب منها مجهول بالرغم من استعمال أرسطو في كتبه مقدمات جدلية بصيغ شرطية؛ فكل قياس إما حملي وإما شرطي وإما مركب منهما، وهو قياس الخلف. والصيغ الحملية هي الصيغ التقريرية الوصفية، في حين أن الصيغ الشرطية هي الصيغ الاحتمالية. وقد قدم أرسطو ذلك بناء على تحليله الأمر نفسه، أي الأشياء ذاتها، وليس بناء على رأي خاص أو وجهة نظر شخصية.
91
ويبحث ابن رشد عن الوضوح، ويستدل من المقدمات على النتائج، ويرفض الهذيان. وابن رشد يقول، وليس أرسطو وحده.
92
ويستغرب من تبعية الشراح للحكيم أحيانا دون التشكيك عليه حتى يثير الفكر، ويبرز الخلاف، ويحكم بين المتخاصمين؛ فإذا أجمع المفسرون على شيء واضطربوا في شيء آخر، فالإجماع حجة ودليل شرعي.
ومن الموروث يتصدى الفارابي ثم ابن سينا. ويحال إلى التحليل والبرهان للفارابي، وإلى المقدمات لابن سينا. ومن الأسماء يتصدر النبي ومحمد، ثم مسيلمة. ومن التعبيرات الدينية «يوحى إليه»؛ مما يدل على أن الموروث ليس الفلسفي وحده، بل أيضا الديني العام.
93
وقد شك الفارابي على أرسطو في القياس المطلق شاملا الحملي والشرطي معا، وشاركه ابن سينا في هذا الشك؛ إذ إن ابن سينا يخالفه أحيانا ويتفق معه أحيانا أخرى. وإذا كانت نسب أجزاء البراهين الشرطية مثل نسب ما ألف في الحملية إلا أن صيغة الشرطي تقتضي بذاتها الشك في المستثنى؛ مما يتطلب ألا يكون قياس شرطي ما كان المستثنى فيه بينا بنفسه. وبالرغم من موافقة ابن سينا على ذلك إلا أنه لا يرضى ببرهانه وتشكك فيه. ويحكم ابن رشد بينهما، ويرجح كفة الفارابي، ويعطي حيثيات الحكم. ويستشهد ابن رشد بنصوص أبي نصر وليس بنصوص أرسطو إلا من أجل التوفيق، ويؤيد الفارابي ويهاجم ابن سينا كرجل وشخصية، وليس فقط كأفكار.
94
ويتفق ابن سينا مع الفارابي في حد القياس المطلق الذي يشمل القياسين، ويتمايز ابن رشد عنهما بالرغم من أنه أقرب إلى موافقة الفارابي أولا ثم مخالفته ثانيا، في مقابل هذيان ابن سينا في «الشفاء». ويرفض ابن رشد اقتراح ابن سينا بوجود قياس اقتراني بالإضافة إلى الحملي والشرطي، وهو مأخوذ من النصارى المتفلسفين وليس إبداعا، خاصة وأن ابن سينا صامت عن مصادره؛ فنظرا لرغبة ابن سينا في التجميع ضم المتفلسفين النصارى ظانا أنه رد على أرسطو القياس الاقتراني، كما يعترف ابن سينا نفسه في «الشفاء»، وهو تناقص؛ لأنه يرى أن كل قياس حملي يمكن أن يتحول إلى قياس شرطي، وأن كل قياس شرطي يمكن أن يتحول إلى قياس حملي، ومع ذلك هما قياسان مختلفان. وأقيسة ابن سينا خارجة عن الطبع لا يمكن للعقل استعمالها، ولا تعبر عن الفكر الإنساني بالطبع كاستعمال الحملية؛ فكل أنواع الشرطيات المتصلة تعتمد على مقدمات خارج الطبع؛ لذلك يكثر منها ويملأ الشفاء بها، ويعترف أن صدقها بالاتفاق مع أن ما بالاتفاق غير متناه لا تنظر فيه أية صناعة؛ لأن مقدماته متعاندة. وصحيح يثير قياس الشفاء الدهشة من هذه الأشكال المتبعة، مصادرها وطرق إبداعها وأوجه استعمالها. ويحيل ابن رشد إلى كتاب ابن سينا «المقدمات»، ويعني به بارمنياس. ويستعمل بعض الأمثلة المحلية من الموروث قبل فعل «يوحى إليه»، وأسماء النبي محمد، ومسيلمة، في أشكال القضايا الحملية تقريبا للأفهام، بدلا من هوميروس والأمثال اليونانية. ويبدأ بالبسملة، ويطلب العون من الرب، والصلاة على محمد وآله، والحمد لله رب العالمين. (ط) وفي «كتاب الحد» يتصدر الإسكندر ثم أرسطو؛ أي الشارح على المشروح؛ مما يدل على أهمية تخليص أرسطو من براثن الشراح، ثم الإسكندرانيون ومتأخرو الإسكندرانيين إحساسا بالتاريخ، وأن السلف خير من الخلف، والأوائل أفضل من الأواخر، حيث أرسطو ما زال حيا في القلوب مثل النبوة قبل أن يصيبها التحريف والتغيير في الزمان، وقبل أن تتحول الخلافة إلى ملك عضود.
95
يبدأ أرسطو بالموضوع الأرسطي، تعريف الحد، ثم يبين تشويه الشراح اليونان والمسلمين له. وبعد المقارنة بين أقوال أرسطو وأقوال الشراح يبرئ أرسطو ويتهم الشراح. والصلة بين النص والشرح هي الصلة بين الأصل والفرع، بين الاستقامة والانحراف. ويستمر الانحراف كلما تقدم الزمان؛ فمتقدمو الشراح أفضل من متأخريهم نظرا لقربهم من النص، ومتأخرو الشراح أسوأ من متقدميهم نظرا لبعدهم عن النص. مسار التاريخ إذن من الكمال إلى النقص، ومن اليقين إلى الظن، ومن الوحدة إلى التعدد. يقوم ابن رشد بتصحيح المسار والعودة إلى الأصل والاستقامة واليقين والوحدة الأولى في النص الأرسطي.
يرجع ابن رشد التاريخ من المتأخر إلى المتقدم عودا إلى الأصول. يعيد متأخري الإسكندرانيين إلى متقدميهم، ومتقدمي الإسكندرانيين إلى الإسكندر، والإسكندر إلى أرسطو. ويظهر البريء أمام المتهمين الشراح على اختلاف أجيالهم. يظهر الإسكندرانيون أتباع الإسكندر، منهم المتقدمون والمتأخرون، إحساسا من ابن رشد بالزمان عكسيا؛ فالمتقدم خير من المتأخر، والسلف خير من الخلف. وبالرغم من اتهام الفارابي الإسكندرانيين بتحريف كلام الإسكندر إلا أنه يشارك في نفس التصور، أن الخلف انحراف عن السلف. لا خلاف في ذلك بين الشراح المسلمين والشراح اليونان. ولو أن الشراح المسلمين اتبعوا المتقدمين مثل الإسكندر أكثر من اتباعهم المتأخرين، فالسلف خير من الخلف، والأوائل أفضل من الأواخر. يدافع أبو نصر عن الإسكندر ضد الإسكندرانيين، وجعل ما طلبه الإسكندر شرطا يذهب أي شك في المقدمة. ويرفض ابن رشد زيادة الإسكندر العرضة للنقد؛ لأن رسم أرسطوطاليس ليس ناقصا كما رآه الإسكندر، بل كامل لا يحتاج إلى تمثيل؛ ومن ثم يكون حد أرسطو للحد حدا تاما لا ينقصه تمثيل كما توهم الإسكندر وأبو نصر، في حين أن زيادة الإسكندر فيها زيادة ونقص. يدافع ابن رشد عن الرسم التام عند أرسطو، وأنه ليس في حاجة إلى تمثيل كما يقول الشراح؛ فالمقدمة، وهو الحد، تنحل بالذات إلى الموضوع ومحمول دون حاجة إلى تمثيل. الموضوع هو أن اقتران الموضوع بالمحمول، وهو شرط المقدمة، ليس حدا عند الإسكندر.
ويتصدر الفارابي بمفرده. كما يظهر كلام العرب لإبراز الموروث اللغوي. يوافق الفارابي الإسكندر في سوء فهمه لأرسطو، ويتابع تحريف الإسكندرانيين، وكلاهما متوهمان. أما ابن رشد فإنه يعود إلى الأصل؛ فالأصل أصدق من الفرع، وهو مقياس أصولي لحل مشكلة التعارض والتراجيح؛ فحد أرسطو هو الحد التام لا ينقصه شيء، لا زيادة ولا تمثيل، كما توهم الإسكندر وأبو نصر.
96
ونص أرسطو قصير، وهو جوهر المسألة. يقوم ابن رشد بنقد الوافد والموروث عند الشراح المسلمين والموروث الوافد عند النصارى، ويحاول فض النزاع بين المتخاصمين كقاض عالم. لم يخطئ أرسطو الا نادرا، ويعود خطؤه إلى الشراح. وبالرغم من أنه يقول أحيانا «زعم» أرسطو، فإنه لا يعني تخطئته، بل تطهيره من سوء التأويل في الحضارتين اليونانية والإسلامية، كما طهر الإسلام العقائد المسيحية من الخلافات العقائدية، والعودة إلى الأصول الأولى، والوضوح العقلي، والأمر نفسه، إعادة دراسة الشراح نوع من عذر أرسطو، وإكمال الناقص أو الجمع بينه وبين أفلاطون كما فعل الفارابي، أو عذره بسبب اللغة اليونانية ونقلها إلى اللغة العربية.
ويحيل ابن رشد إلى كلام العرب حتى في مقالات المنطق، ولو بدرجة أقل من شروحه وتلخيصاته وجوامعه؛ لأنها أقرب إلى منطق العرب منها إلى منطق اليونان. مثال ذلك غياب الرابطة في القضية الحملية إلا الضمير، وهو الميدان الذي تألق فيه الفارابي.
97
وينتهي المقال بالدعوة إلى الله بالتوفيق للصواب، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه. (ي) وفي «كليات الجواهر وكليات الأعراض» يتصدر أرسطو وحده، ولا يظهر فعل القول إلا مرة واحدة في زمن المضارع تعبيرا عن حقيقة، وليس رواية لتاريخ قبل أن يرصد ابن رشد تأويلات الآخرين له، إبرازا للموضوع، جسم الجريمة قبل اتهام المئولين والدفاع عن أرسطو.
98
وكلام أرسطو أوضح وأبسط وأسهل من شروح مئوليه. يستعمل ابن رشد برهان الخلف في تفنيد التأويلات الخاطئة لأرسطو من أصل إثبات المحال الذي ينتج عنها، وينتهي إلى بعد غور أرسطو وفطرته الفائقة وقدرته على الوصول إلى الحق. والعمق والفطرة مقياسان إسلاميان، العمق والوضوح، الباطن والظاهر. يهدف ابن رشد إلى معرفة الشيء وتأويلاته القديمة عند اليونان والجديدة عند المسلمين، فيقوم بتصحيحها والعودة إلى أصل أرسطو.
والحقيقة أن الفارابي وابن سينا كانا يقومان بعمليات حضارية، النقل والاستيعاب، وابن رشد الفقيه يريد العودة إلى النص الأصلي في الفلسفة، مثل ابن حزم وابن تيمية في الكلام. وهذا انتصار لأرسطو لاتفاق قوله مع قول ابن رشد مع الأمر نفسه الذي تم اكتشافه في حضارتين مختلفتين وعبر عنه فيلسوفان.
ومن الموروث يتصدر الفارابي ثم ابن سينا؛ فالشارح أكبر من المشروح؛ ومن ثم يكون هذا المقال أقرب إلى تنظير الموروث قبل تمثل الوافد بفارق ضئيل. يئول الفارابي الكليات ويجعلها ضربين كمذهب ثان في مقابل المذهب الأول، والمذهب الثالث هو تأويل ابن سينا. ويجمع ابن رشد بين التأويلات الثلاثة، القديم والفارابي وابن سينا، ليفصل بينهما كما يفعل القاضي بين المتخاصمين، حتى لو اضطره ذلك إلى الدفاع عن ابن سينا بعد اكتشافه خلل الفارابي. وتأويل ابن سينا هو اعتبار المقول على الكل محمولا لا على كثيرين؛ وبالتالي يكون مفهوم القول على ضربين، الأول يشير إلى الموضوعات ذاتها، والثاني ليس في موضوع. كما يئول ابن رشد أرسطو عن طريق الخلف. لو أراد الشراح ما قاله أرسطو لذهب مذهب أبي نصر مفسرا الأصل باستحالة الفرع. ومناهج هذه القراءات المتداخلة والمتراكمة أهم من موضوعاتها؛ فالأزمة والحل في المنهج أكثر منها في الموضوع. وكما يبدأ المقال بالبسملة، وطلب العون من الله، والصلاة والسلام على محمد وآله، ينتهي بالدعوة إلى الله بالتوفيق. (ك) وفي «المقاييس الممكنة» يذكر الحكيم وأرسطو ثم ثامسطيوس. فالرمز له الأولوية على الشخص، والشارح يعادل المشروح. ويحال إلى كتاب السفسطة لأرسطو.
99
وابن رشد كالعادة ضد ثامسطيوس ومع أرسطو؛ فلما احتج ثامسطيوس على أرسطو مسيئا تأويله وعدم فهم موضعه، أظهر ابن رشد حجج أرسطو ضد شراحه اليونان والمسلمين؛ فبيان أرسطو كلي توهمه ثامسطيوس جزئيا، وكذلك شك الفارابي، ودون أن يحل شكه في قول أرسطو بأنه لا يكون قياس من ممكنتين في الشكل الثاني. ويتم الانتقال من الشخص إلى اللقب، ومن أرسطو إلى الحكيم. يخالف ثامسطيوس الحكيم في المقاييس الممكنة الصرفة في موضعين؛ الأول أن القياس الذي يتكون من مقدمتين سالبة وموجبة لا ينتج ممكنة سالبة ولا موجبة في رأي الحكيم، وللحكيم حجة في الإنتاج أو عدمه لهذا الشكل أو ذلك في هذه المادة أو تلك، مرة سالبة ضرورية، ومرة موجبة ضرورية. الحكيم هنا رمز للحقيقة، للأشياء ذاتها، والبرهان العقل. والحكيم يقظ ومنتبه وذكي، لا يرد عليه إلا من كان في منزلته من اليقظة والانتباه والذكاء، وكل رد عليه ممن هو أقل منه يكشف صحة أقوال الحكيم وخطأ أقوال نقاده؛ لأن أقوال الحكيم تتفق مع مجرى الطبع والعادة، بالإضافة إلى ما تقتضيه طبيعة البرهان. يعرض ابن رشد الموضوع الخلافي، ويتحقق من صدق الخصمين، ثم الانتصار لأرسطو دون الشراح، للأصل دون الفرع، حتى ولو كانت موضوعات الخصومة نظرية وليست عملية كما هو الحال في الفقه. وكثيرا ما تنتهي دراسة ابن رشد لننفس الموضوع الخلافي إلى نفس النتائج التي توصل إليها الحكيم نظرا لاتفاق الوحي والعقل والطبيعة. وقد خالف ثامسطيوس الحكيم في توهمه أن البيان الذي استعمله أرسطو جزئيا وليس كليا، وأرسطو بريء من هذا الاتهام. وثامسطيوس يعانده باحتجاجات لا تقنع. كان لدى القدماء صناعات غير برهانية مثل صناعة النحر والذبائح. يمثل القدماء مرحلة التفكير غير البرهاني، ولا فرق بين قدماء المشائين ومتأخريهم. ويحيل ابن رشد إلى السفسطة والخطابة دون تحديد هل يشيران إلى الكتاب أم إلى العلمين.
وفي الموروث يتصدر أبو النصر؛ فهو وحده الشارح وليس ابن سينا، ويحال إلى شرح القياس له أيضا، ويعادل الشارح الإسلامي أبو النصر الشارح اليوناني، بل والمشروح نفسه.
100
وقد أجاب أبو نصر على شك ثامسطيوس في المقاييس الممكنة في الشكلين الأول والثاني، ولكنه لم يجب على شك آخر أجاب عنه ابن رشد الذي يستمر في عملية التطهير التي بدأها الفارابي. وقد أجاب الفارابي بأن المقدمات الممكنة على التساوي يمكن استعمالها في الخطابة ، في حين أنه في الجدل قد يسأل سائل عن مقدمات سالبة أقلية، فإن سلم بها الخصم تتغلب عليه إذا ما تحولت إلى الأكثرية، وهي شبيهة بقياس الأولى عند الأصوليين. كما يبحث ابن رشد عن السبب كأصولي يبحث عن العلل، ويعد حجج العناد، ويبين أخطاء هذا الرجل وذاك، يونانيا مثل ثامسطيوس، أو إسلاميا مثل ابن سينا، وما وقعا فيه من تخليط وتشويش. وابن رشد هو الذي يقول، وليس أرسطو وحده. ويظهر العلم الإلهي كعامل محدد وللعلم الطبيعي، فإذا كان الممكن الأكثري معلوما بنفسه بفعل الأكثرية في مقدماته، فإن الممكن الأقلي يمكن أيضا أن يكون معلوما بنفسه اعتمادا على مقدمات أقلية، أو استنادا إلى معلوم بنفسه مثل العلم الإلهي الذي يعتمد على الأقل من الآيات الطبيعية لإتيان الأكثر وهو الله؛ فالممكن الأقلي يؤدي إلى الضروري الأكثري. وهنا يبدو أيضا أن المنطق إلهيات، منطق عقلي في الخارج، كما أن الإلهيات منطق عقلي في الداخل، كما أن الطبيعيات إلهيات مقلوبة إلى أعلى، والإلهيات طبيعيات مقلوبة إلى أسفل. هناك علم واحد، نسق واحد يظهر في الوحي والعقل والطبيعة، في المنطق والطبيعيات والإلهيات. (ل) وفي «القول محمولات البراهين» يتصدر أرسطو والحكيم تحولا من الشخص إلى الرمز، ويغيب الشراح اليونان الثلاث. ويحال إلى البرهان لأرسطو.
101
يعيد ابن رشد عرض منطق أرسطو بمصطلحات الأصول؛ فقد أعطى أرسطو في أول كتاب البرهان السبارات التي تسير بها المحمولات، والسبر مصطلح أصولي؛ أي التعرف على مواطن التعليل في منهج السبر والتقسيم. ويشرح ابن رشد أقوال الحكيم للشراح بتحليل الأمر في نفسه ورؤية الأشياء ذاتها إذا ما سأله أحد على طريقة أحكام السؤال والجواب، والمفتي والمستفتي في علم الأصول مثل السؤال حول اشتراط الحكيم في البراهين أن تكون محمولاتها أولية، أو قوله إن المحمولات في أكثر الأمر أعم من الموضوعات. ويستدل ابن رشد من المقدمات على النتائج، ويبحث عن العلل والأسباب كأصولي يبحث عن العلل، وهو ما يربط النتائج بالمقدمات كالحدود الوسطى في الأقيسة. وابن رشد هو الذي يقول أيضا، وليس أرسطو وحده. كما يحيل إلى كتبه، مثل البرهان والمسائل المنطقية؛ مما يدل على وحدة الرؤية ودخول الأجزاء في كل واحد.
ومن الموروث يتصدر أبو النصر وحده معادلا لأرسطو.
102
ظن أبو نصر أن الجوهر يتبرهن لأن الأجناس تتبرهن بالفصول مع أن الجوهر لا يتبرهن، ويظن أنه يكفي في البراهين أن يكون الحد الأوسط سبب الطرفين أو لأحدهما، وهو غير صحيح؛ لأن السبب يقتضي وجود الشيء. يبدو الفارابي منطقيا يريد البرهنة على كل شيء، وابن رشد عالما طبيعيا يبحث عن علل الأشياء. ويبدأ الكتاب كالعادة بالبسملة، وطلب العون من الرب، والصلاة والسلام على محمد وآله، وينتهي بالحمدلة والصلاة على محمد. (م) وفي «من كتاب العبارة» يتصدر الحكيم النموذج لا الشخص، ثم أوميروش، ويغيب الشراح اليونان. ومن الفرق يأتي المفسرون ثم المشاءون. ومن الكتب يحال إلى سوفسطيقي والسفسطة لأرسطو.
103
والحكيم والحقيقة شيء واحد. إذا اجتمعت المحمولات المفردة أو تفرقت فإنها تصدق مجموعة أو مفردة، والمحمولات المجموعة مركبة، وهي صنفان؛ المحمول بالعرض والمحمول بالذات؛ فالحقيقة مستقلة عن أرسطو. الحقيقة هي الحكمة بعد أن يتحول الشخص إلى الرمز، وأرسطو إلى الحكيم، والرمز إلى الحقيقة، والحكيم إلى الحكمة. وفي كل الحالات ابن رشد هو الذي يدرس ويستشهد بقول الحكيم. وأحيانا يتفق الشراح فيما بينهم على قول الحكيم، بينما يتأول البعض مثل ابن سينا على معنى آخر. وابن رشد يعرض قصد الحكيم لإثبات انحراف الشراح عنه. وقد يكون إثبات كذب مفهوم من جهة الاستعمال أو العادة، وليس من جهة الأمر في نفسه. وذلك لا يمنع من توجيه بعض الشكوك إلى الحكيم وإلى الشراح من بعده، بشرط أن تفهم أقواله فهما صحيحا دون تأويلها. ويبحث ابن رشد عن الوضوح، ويستدل من المقدمات على النتائج، ويبدد الشكوك ، ويكشف الكذب والوهم والغلط. وابن رشد يقول أيضا، وليس أرسطو وحده.
ومن الموروث يتصدر ابن سينا ثم أبو نصر. ويحال إلى كتاب السفسطة للفارابي.
104
وابن سينا أكثر حضورا من الفارابي؛ لأنه موضوع النقد. والمقال كله نقد لابن سينا بالرغم من غموض العنوان؛ هل هو كتاب العبارة لأرسطو أم للفارابي أم لابن سينا؟ والأرجح أنه لأرسطو؛ فالمقالات كلها في تمثل الوافد قبل تنظير الموروث. وقد شك ابن سينا على أرسطو وعلى جميع الشراح ووبخهم، واعتقد أنه إذا كان المفهوم من اللفظ في الإفراد، وهو المفهوم بعينه في التركيب، كان المفهوم من الإفراد صادقا حقا، وذهب عليه أنه ليس بإفراد، بل هو تركيب بالقوة؛ لذلك تكذب بعض المقدمات بالضرورة إذا أطلقت بطبيعة الإطلاق، لا من قبل الوهم والعادة كما ظن ابن سينا. يقتضي الحل والتركيب بذاته نقلة الفهم من الإطلاق إلى التقييد، ومن التقييد إلى الإطلاق، ومن الوحدة إلى الكثرة، ومن الكثرة إلى الوحدة، وليس لأن المفهوم واحد أو مغاير كما اعتقد ابن سينا نقلة بالعرض. عيب ابن سينا هو حسن ظنه بنفسه، والثقة الزائدة بها دون شك أو ارتياب؛ وبالتالي يستعمل تحليل الشخصية في النقد. والعيب كله من المفسرين لأرسطو مثل ابن سينا نقلا عن الفارابي من كتاب السفسطة. والحقيقة أن الفارابي وابن سينا كانا يقومان بعمليات التمثل لدرء أخطاء الوافد، وابن رشد يقوم بعملية أخرى بعد التمثل، وهي النقد التاريخي دفاعا عن أرسطو ضد الشراح المسلمين. ويقوم بدور القاضي بين المتخاصمين على تركة أرسطو. كان الشراح اليونان يمثلون الموروث الوافد، بينما كان الشراح المسلمون يمثلون الوافد الموروث. ويشك ابن سينا شكا على المشائين يتوجه إلى أرسطو نفسه، وإلى من أتى بعده من المفسرين. لم يكن ابن سينا مشائيا تابعا، بل هو مشائي مبدع. ويدرك ابن رشد مدى اتصاله وانفصاله عن المشائين. وقد أجمع المفسرون على مذهب الحكيم رواية عن ابن سينا وشرحا من الفارابي. ويستعمل ابن رشد بعض الأمثلة العربية للتوضيح، مثل: «زيد طبيب». ويبدأ المقال بالبسملة، وطلب العون من الله، والصلاة والسلام على محمد وآله. (ن) وفي «السابعة والثامنة من السماع الطبيعي» يتصدر أرسطو، ثم يحيى النحوي، ثم أفلاطون، ثم أبقراط. فشارح أرسطو هو يحيى النحوي، وليس الإسكندر أو ثامسطيوس. وظهر أفلاطون حتى تكتمل الصورة الأفلاطونية؛ فالشراح أحد أسباب الانحراف عن أرسطو ، وأيضا علماء اليونان مثل أبقراط. ويحال إلى السماء والعالم لأرسطو «مرة واحدة»، كما يحيل ابن رشد إلى باقي أجزاء الكتاب إلى المقالتين الثانية والثالثة تفسيرا للجزء بالكل نظرا لوحدة الموضوع ووحدة العمل.
105
ومن الموروث يحال إلى الفارابي، ثم إلى كتابه «الموجودات المتغيرة»، ثم إلى المتكلمين من أهل ملتنا، مع ذكر إشبيليا مكان التأليف.
106
والسؤال هو: لماذا كتب ابن رشد فقط مقالا في السابعة والثامنة من السماع الطبيعي؟ وما سبب الاختيار، الموضوع الدقيق أم الإشكال الخاص، كل متحرك له محرك، وهو أساس البرهان على وجود الله في الفكر الديني ولتصحيح فهمه حتى يقوم الفكر الديني الكلامي أو الفلسفي على أساس عقلي متين؟ يثبت ابن رشد التمايز بين المطلوبين في السابعة والثامنة دون تحديد المطلوب. والغرض من التمييز رفع الخلط، وإحكام الاشتباه، وبيان المجمل، كما هو معروف في منطق الأصول.
يعرض ابن رشد مقدمات أرسطو، ويستنبط معه نتائجه، ويصف مقاصده، ويستأنف استدلالاته لبيان صحة قول أرسطو، واتساق مقدماته مع نتائجه. كل شيء له محرك، والمحرك الأول لا يتحرك. ولا يوجد «قال أرسطو»؛ لأن التأليف معالجة للموضوع نفسه وإعادة دراسته، سواء اتفق أو اختلف مع أرسطو بعد أن أصبح غامضا بفعل الشراح المسلمين، مثل أبي نصر، والنصارى مثل يحيى النحوي، الذين أسرعوا بالتشبث بالموضوع من أجل الإسراع في تبرير الخلق وتمرير وجود الله؛ فالمهم ليس أرسطو بل الدين، ليس الوسيلة بل الغاية، والغاية تبرر الوسيلة. وتظهر أيضا أفعال الشعور، مثل الفهم والبيان والفحص، ومسار الفكر البداية والنهاية، ووضع المقدمات واستنباط النتائج، ومراجعة فهم المفسرين ومقتضيات المنطق المعياري. ويكشف ابن رشد نقد البداية عن الغرض من قول أرسطو إن كل متحرك له محرك في السابعة والثامنة ومقارنة القولين؛ فبالرغم من التمايز بينهما إلا أنهما يشتركان في نفس الموضوع، فلا زيادة عند أرسطو ولا تكرار، لا ترويد ولا تحصيل حاصل. كما يبحث ابن رشد عن الوضوح. وهو الذي يقول، وليس أرسطو وحده. وينقد ابن رشد الشراح بأرسطو دفاعا عن أرسطو، وشارحا أرسطو بأرسطو مثل شرح القرآن بالقرآن. ولا يشير ابن رشد إلا إلى المفسرين مرة واحدة لبيان عدم فهمهم أمر الثقيل والخفيف وحركتهما من غيرهما.
وطريقة ابن رشد هو نفس طريقة أرسطو في فهم الحركة، لا طريقة الفارابي أو يحيى النحوي؛ فقد فهم أبو النصر أن القوة على الحركة تنقصها بالزمان، ولا تتسلسل المحركات بعضها عن بعض إلى ما لا نهاية، في حين أن ابن رشد يثبت أزلية الحركة كما هو الحال عند أرسطو. وخطأ الفارابي أنه ظن أن أرسطو يحدد الحركة بالزمان. وكذلك عارض يحيى النحوي أرسطو بحركة الأسطقسات من ذاتها في مقابل قول أرسطو بأزلية الحركة؛ فالقوة التي تتقدم الحركة توجد في الجسم وليس خارجة عنه. وقد فهم يحيى النحوي بطريقة مخالفة لفهم ابن رشد لأرسطو، وتابعه أبو نصر، وهي أن القوة على الحركة تتقدم الحركة بالزمان، وعارض أزلية الحركة عند أرسطو. وقد تعرض ابن رشد ليحيى النحوي في الطبيعيات وليس في المنطقيات. يؤيد الفارابي أزلية الحركة، ولكنه يسيء تأويل أرسطو، ويعارضها يحيى النحوي؛ فالشارح الإسلامي أكثر التزاما بأرسطو من الشارح النصراني، وأكثر قدرة على التمييز بين العقل والنقل، بين الوسيلة والغاية باسم الوحي، في حين أن يحيى النحوي ضحى بالعقل في سبيل الإيمان، وبالوسيلة من أجل الغاية. ويقوم ابن رشد بدور القاضي بين الاثنين، الفارابي الذي يسيء تأويل أرسطو لإثباته أزلية الحركة بارتباطها بالزمان، ويحيى النحوي الذي يثبت نهايتها، ويعود إلى أرسطو؛ أي إلى الموضوع ذاته. وأقوى شك ليحيى النحوي على أرسطو صاغه في قياس من ثلاث مقدمات ونهايته على النحو الآتي:
كل جسم متناه،
والسماء جسم،
وكيف يقبل السماء قوة غير متناهية؟ ∴
إما أن السماء أزلي، وإما
وفي القياس التقليدي من قياسين على النحو الآتي :
كل جسم متناه، السماء متناه،
السماء جسم، والمتناهي لا يقبل قوة غيرمتناهية، ∴
السماء
∴
السماء لا يقبل
ولم يصرح أرسطو بهذا الظهور، ولكن الشراح هم الذين جعلوا الواضح غامضا. أرسطو إذن بين يدي الشراح اثنان: أرسطو الإشراقي الأفلاطوني الذي روج له يحيى النحوي وأبو نصر والمتكلمون من أهل ملتنا، وأرسطو الطبيعي كما هو عليه وكما فهمه ابن رشد. لذلك يميز ابن رشد بين تيارين في فهم أرسطو؛ الأول: التيار الإشراقي الأفلاطوني، وهو تيار يحيى النحوي والفارابي. والثاني: التيار الطبيعي، وهو تيار ابن رشد. ويفصل ابن رشد صراع الفارابي ضد يحيى النحوي، الأزلية ضد الحدوث، كأن الفارابي المسلم أقرب إلى أرسطو الذي يقول بقدم العالم من يحيى النحوي النصراني الذي يقول بالحدوث إثباتا للخلق. الفارابي أكثر التزاما بالفلسفة منه بالدين الشعبي، في حين أن يحيى النحوي أكثر دفاعا عن الدين ضد الفلسفة. وكتاب «الموجودات المتغيرة» للفارابي الذي يحيل إليه ابن رشد مفقود.
ولا يحيل ابن رشد إلى أصل الموروث في الكتاب والسنة أو إلى العقائد الكلامية إلا أن القيمة تعقيل للعقيدة؛ إذ تدل ألفاظ الشرف في مقابل الخسة والكرم في مقابل الوضاعة، كما تدل أفعال التفضيل، مثل «أكرم» و«أفضل» و«أشرف»، على هذا التعالي في الشعور. القيمة تعقيل للعقيدة، والأخلاق أساس الدين. للقيمة وجود في الطبيعة، والطبيعة قيمة تتجه نحو الأشرف.
وقد ظن أفلاطون أنه لا يمكن أن تكون حركة قبلها حركة لإثبات المحرك الأول، وهو قول صحيح إن وضع بالذات، وكاذب إن وضع بالعرض. والخطأ أخذ ما بالعرض على أنه بالذات؛ لأن الحركة الأزلية لا أول لها بالذات، وتعرض الشكوك إذا أخذ بالعرض؛ لذلك اتجه شراح أرسطو اتجاهين؛ الأول: التفسير الإشراقي عند أفلاطون ويحيى النحوي والفارابي والمتكلمين من أهل ملتنا. والثاني: التفسير العقلي الطبيعي عند ابن رشد وأرسطو على حقيقته. وبالرغم من أن موضوع الحركة موضوع طبيعي إلا أن دلالته إلهية؛ مما يدل على أن العلمين الطبيعي والإلهي علم واحد، مرة إلى أسفل ومرة إلى أعلى. ويثبت ابن رشد ضرورة أن يكون المحرك الأول بسيطا؛ لأن المركب يقبل التغير، والإنسان يألم لأنه مركب، ولو كان بسيطا لما تألم؛ ومن ثم تثبت بساطة الله بإثبات تركيب الإنسان؛ مما يدل على أن الإلهيات إنسانيات مسقطة إلى أعلى، وأن الإنسانيات إلهيات مسقطة إلى أسفل. ويكشف تعبير «المتكلمون من أهل ملتنا» تبعيتهم إلى أفلاطون في تصورهم للحركة، مثل يوحنا النحوي كتيار مضاد للتيار الأرسطي الطبيعي. المتكلمون في مقابل الحكماء، واللاهوتيون في مقابل الطبائعيين، والدين في مقابل العلم. يثبت المتكلمون الحركة بإرادة، والمحرك بإرادة، حركة أولى ليس قبلها حركة، لا في ذاته ولا في المتحرك، وهو أمر مستحيل عند ابن رشد الذي يدافع عن أزلية الحركة؛ فالمتحرك من ذاته لا يتحرك إلا وتتقدمه حركة أخرى، إما في جسمه وإما في نفسه. وهذا هو الصراع بين نمطين من التفكير، الديني الكلامي الطولي الذي في حاجة إلى محرك أول بذاته، والعلمي الدائري الذي يقول بقدم الحركة. وما زال لفظ «الأسطقسات» معربا. ويختلف تعريب يحيى النحوي، مرة يحيى ومرة يوحنا. ويذكر الناسخ مكان النسخ إشبيليا؛ مما يثير أشجان النفس، يا زمان الوصل بالأندلس، ثلاث سنوات قبل رحيل ابن رشد. ويبدأ المقال بالبسملة، وطلب العون من الله الرب، والصلاة والسلام على محمد وآله. (3) العرضي
وفي كتاب «الهيئة» لمؤيد الدين العرضي (664ه)، استمر هذا النوع الأدبي، تمثل الوافد حتى تنظير الموروث إلى فترة متأخرة، القرن السابع. وله ألقاب كثيرة؛ مما يدل على عظمة المؤلف وقدرته وقدره وصورته في تاريخ العلم. وبالإضافة إلى لقب الشيخ يضاف «قدس الله روحه».
107
وتطول أسماء الفصول ودون ترقيم. وللعرضي مذهب خاص يراجع على أساسه الوافد والموروث، وكان لديه إحساس بالإبداع والابتكار، ويطالب الآخرين بالمراجعة والتحقق من صدق تحليلاته. ويبدو ارتباط الفلك بالجغرافيا كارتباط السماء بالأرض.
108
وتسبق أفعال البيان أفعال القول لأن الهيئة موضوع للتوضيح والشرح والبيان، وليس نقلا لأقوال السابقين، تتلوها أفعال الاستدلال مع باقي أفعال الشعور المعرفي. ويتصدر أفعال القول صيغة «نقول» المتكلم المفرد؛ مما يدل على أن المؤلف هو الذي يتكلم ولا ينقل أقوال غيره.
109
ويتصدر الوافد الموروث. من الوافد يظهر بطليموس، ثم كتاباه «المجسطي» و«الاقتصاص»، ثم أبرخس، ثم أرشميدس، وأوميروس، وكتاب الأصول لإقليدس، ثم أوطولوقوس، وأرسطوطاليس، وأبلينوس، وثاون، وماطن، وأنطليمن، وأراطس الحكيم، وثاودسيوس صاحب الأكر. ويحال إلى الكل باعتباره جزءا من التراث العلمي. ويأخذ أبرخس وبطليموس لقب الفاضل.
110
وهذا لا يمنع من نقد بطليموس أحيانا بالقول الخطابي، ومراجعة أعماله، والتحقق من صدق نظرياته. ومن أسماء الفرق والمجموعات المتأخرون ثم القدماء.
111
وهناك إحساس بتطور العلم ومساهمة العصر «في زماننا»،
112
وهناك حرص على الإيجاز دون التطويل، وإحالة السابق إلى اللاحق، واللاحق إلى السابق. وتظهر ألفاظ الاستدلال، ومقياس الاتساق ورفض التناقض، «وهذا خلف».
113
ومن الموروث يذكر الحرفي صاحب التبصرة، ثم كوشيار، الزرقالة المغربي، ثم ابن الهيثم،
114
في معرض النقد؛ فقد غلطه في حد وسط الشمس وتعديلها جماعة ممن يظن بهم الفضل من المتأخرين، وعابوا على بطليموس حده.
115
ومن الأقوام والأماكن والخلفاء العرب، ثم المغرب، ثم الإسكندرية والشرقيون والمأمون ومكة، شرفها الله. ويظهر الأسلوب العربي الإنشائي أحيانا، مثل: «ولعمري».
116
وهناك إحساس باختلاف المصطلحات باختلاف اللغات، مثل البيابانية والفارسية واشتقاق اسم الفلاة.
117
وبالرغم من غياب القرآن والحديث إلا أن التوجه القرآني حاضر؛ فالمصنوع دلالة على الصانع
فتبارك الله أحسن الخالقين ، وكل شيء في العالم أراده الله لحكمة. وتظهر بعض العبارات الإيمانية، مثل: «إن شاء الله». ويبدأ الكتاب بالبسملة، رب تمم بالخير، والحمدلة والشكر لله لكمال صفاته التي تدل عليها جميع مصنوعاته، والصلاة على أنبيائه وصفوته وخلقه والصالحين من عباده، وعلى نبيه محمد، والمنتمين الطاهرين. وهي صياغة تدل على تشيع المؤلف. وينتهي الكتاب بدعوات الناسخ أن يغفر الله ذنوبه، وتاريخ النسخ 671ه.
118
الفصل الثالث: تمثل الوافد مع تنظير الموروث
أولا: يحيى بن عدي، والعامري، ومسكويه، وابن سينا
«تمثل الوافد مع تنظير الموروث» نوع أدبي ثالث، حالة افتراضية خالصة لا وجود لها إحصائيا من حيث التعادل الكمي بين نتائج تحليل المضمون للوافد وتحليل المضمون للموروث. هذا التعادل الإحصائي الكمي الدقيق لا وجود له تجريبيا، هذا النوع مجرد معبر بين نوعين أدبيين متقابلين، تمثل الوافد قبل تنظير الموروث (الفصل الثاني)، وتنظير الموروث قبل تمثل الوافد، وهو الفصل الأول من بداية التراكم الفلسفي (الباب الثالث). ولا يعني التعادل التساوي الكمي المطلق، بل هو في الغالب أولوية تمثل الوافد من حيث العمق؛ أي من حيث تردد بعض الأسماء، مثل ديسقوريدس أو جالينوس، وأولوية تنظير الموروث من حيث الاتساع؛ أي عدد الأعلام المذكورة. تمثل الوافد عن طريق أسماء وأعلام قليلة، وترداد الأول منها كثير، وتنظير الموروث عن طريق عدد أسماء أعلام كثيرة، وترداد الأول منها قليل. وكان من الأفضل وضع حرف العطف «مع» أفضل من «و» بالرغم من إفادة كل من الحرفين معنى التعادل دون أولوية أحدهما على الآخر. وقد يكون «مع» أكثر دلالة من «و» حتى يتفق مع استعمالات حروف العطف الأخرى مثل «قبل» في «تمثيل الوافد قبل تنظير الموروث» (الفصل الثاني)، أو تنظير المورث قبل تمثل الوافد (الفصل الأول من الباب الثالث). ولم يستعمل حرف «بعد»؛ لأن الأولوية باستمرار للقبل على البعد في النوع الرابع تنظير الموروث قبل تمثل الوافد (الفصل الأول من الباب الثالث). وليس تمثل الوافد بعد تنظير الموروث حتى لا يكون المعيار باستمرار هو الوافد، سواء كان قبلا أو بعدا.
وقد يدل عدم التناسب الكمي بين الأنواع الأدبية الست على مراحل التحول من النقل إلى الإبداع؛ فبينما يبدو «تمثل الوافد» (الفصل الأول) صغيرا نسبيا، فإن «تمثل الوافد قبل تنظير الموروث» (الفصل الثاني) يبدو ضعفه؛ نظرا لأنه يتعامل مع مصدري الفكر، الوافد والموروث، وليس مع مصدر واحد. ويعود «تمثل الوافد مع تنظير الموروث» إلى الصغر النسبي؛ لأنه مجرد حالة افتراضية لا وجود لها إحصائيا، مجرد ممر أو انتقال من «تمثل الوافد قبل تنظير الموروث» (الفصل الثاني في التأليف) إلى تنظير الموروث قبل تمثل الوافد (الفصل الأول في التراكم).
وبطبيعة الحال ألا يظهر هذا التعادل بين تمثل الوافد وتنظير الموروث قبل القرن الرابع الهجري؛ نظرا لانشغال المترجمين والفلاسفة الأوائل إما بتمثل الوافد (الفصل الأول) أو بتمثل الوافد قبل تنظير الموروث (الفصل الثاني)؛ فالتعادل بين المصدرين يحتاج إلى معرفة متساوية للاثنين، وهو ما تم عند العامري ومسكويه وابن سينا في القرن الرابع الهجري. (1) يحيى بن عدي
ويبدو «تمثل الوافد مع تنظير الموروث» أيضا عند المترجمين؛ مما يدل على أن الترجمة ليست فقط تمثلا للوافد قبل تنظير الموروث، بل إن تمثلها للوافد يعادل تنظيرها للموروث؛ لأنها تعمل بين ثقافتين، تنقل النص من ثقافة الوافد إلى ثقافة الموروث.
فمن رسائل يحيى بن عدي (364ه) «جواب عن كتاب أبي الجيش النحوي فيما ظنه أن العدد غير متناه»، يظهر تعادل الوافد، فيثاغورس، مع الموروث، أبو الجيش النحوي.
1
يعتمد يحيى بن عدي على برهان فيثاغورس لإثبات أن العدد متناه، سواء كان عن طريق الاتصال أو الانفصال، ثم يضيف دليلا جديدا يقوم على إثبات تناهي الكمية. والعدد كمي؛ فهو إذن منتاه. ويضيف دليلا ثانيا يقوم على قسمة العدد إلى زوج وفرد، وكلاهما نوع متناه. فالموروث يسأل والوافد يجيب. الواقع يثير الشكوك، والوافد يعطي اليقين دون الاكتفاء بالنقل، بل بزيادة براهين العقل؛ فالعقل هو الجامع بين الوافد والموروث. (2) العامري
في «الأمد على الأبد» للعامري (381ه) يتصدر الوافد على الموروث في العمق، بينما يتصدر الموروث على الوافد في الاتساع؛ فمن الوافد يتصدر ذو القرنين أو الإسكندر، ثم فيثاغورس وأفلاطون وأرسطو، ثم سقراط، ثم أرشميدس وديوجانس الكلبي وديمقراطيس الطبيعي وأوميروس وجالينوس وإقليدس وسقراط الطيب وبرقلس الدهري ويحيى النحوي، حوالي خمسة عشر علما. ومن الكتب يذكر فادن وطيماوس، ومن أسماء الشعوب يذكر اليونان ثم رومي.
2
فالرسالة بهذا المعنى جمع بين أفلاطون وأرسطو ربما لصالح أفلاطون نظرا لذكر محاورتين له، وفيثاغورث مؤسس المدرسة الأفلاطونية. ويتضح من العنوان أيضا نفس الشيء الرغبة في الجمع بين الأمد والأبد؛ أي بين أرسطو الذي يمثل الزمان وأفلاطون الذي يمثل الأبدية أو الخلود. وهي أيضا رسالة في فلسفة التاريخ التي تبزغ من تمثل الوافد مع تنظير الموروث جمعا بين الفلسفة والكلام، تحاول الجمع بين التاريخ والبنية، فالتاريخ هو الأمد ، والبنية هي الأبد، بل إنها أقرب إلى البنية منها إلى التاريخ؛ إذ لا يتجاوز التاريخ ثلاثة فصول من عشرين فصلا. كما يبدأ التنظير المباشر للواقع في الظهور، ويتضخم على حساب الإقلال من الوافد في الاتساع ومن الموروث في العمق. وتقسم عناوين العامري بهذا الإيقاع الثنائي الذي يدل على بداية الإبداع وأولويته على العرض والتأليف،
3
مثل: الآبار والأشجار، الإفصاح والإيضاح، العناية والدراسة. ويحيل العامري إلى باقي أعماله تأكيدا على وحدة المذهب، الإبصار والمبصر.
4
وأحيانا يكون حرف العطف «و» حرف جر «عن»، مثل الأبحاث عن الأحداث. وأحيانا يتكون الجزء الثاني من إيقاعين جزئيين، مثل: الإبانة عن علل الديانة، «الإعلام بمناقب الإسلام»، الإرشاد لتصحيح الاعتقاد، الإتمام لفضائل الأنام، التقدير لأرجح التقدير، التبصير لأوجه التعبير. وأحيانا يتكون الجزء الأول والثاني من إيقاعين، مثل: النسك العقلي والتصوف الملي، إنقاذ البشر من الجبر والقدر، الفصول البرهانية للمباحث النفسانية، فصول التأدب وفضول التحبب، تحصيل السلامة من الحصر والأسر. وتتميز عناوين برجسون أيضا بهذا الإيقاع الثنائي، مثل: المادة والذاكرة، الفكر والمحرك، الطاقة الروحية، منبعا الأخلاق والدين، المعطيات البديهية للوجدان، الديمومة والمعية.
وحكماء اليونان خمسة؛ أبنادفليس تلميذ لقمان، ولكنه لم يأخذ المعاد، قال بالمحبة والغلبة، وله مذهب في صفات الباري، وكأنه متكلم أو فيلسوف، واختلط عليه أمر المعاد. وفيثاغورس حكيم أخذ من لقمان، وأتى إلى مصر فأخذ الحكمة من أصحاب سليمان، وتعلم الهندسة ونقلها مخلوطة بالطبائع والدين إلى اليونان، وادعى أنه استفادها من النبوة. ويتفق العامري مع فيثاغورس باستثناء أن الحكمة قبل الحق، كما خالفه في شأن المعاد. وأضاف العالم أربعة عشر قسما، أربعة أرضية (العناصر) وثمانية علوية. وأخذ سقراط الحكمة من فيثاغورس، وهو زاهد خالف اليونان وحاججهم وقتل. وزاد على فيثاغورس أن كل إنسان شريف بالحكمة. كما يتفق العامري مع سقراط إلا في موضوعين، أن الله حكيم؛ أي إن الله حق، وأن السماء تصير بالكواكب في النشأة الثانية. وأخذ أفلاطون الحكمة من فيثاغورس. جمع بين الإلهيات والطبيعيات والرياضيات. العالم أبدي، مثل برقلس الدهري الذي ألف في أزلية العالم ، ونقضه يحيى النحوي. وسبب اشتغاله بالهندسة ظهور وباء على الأرض، فتضرع الناس إلى الله، وسألوا أحد أنبياء بني إسرائيل، فأوحى له الله بناء مذبح على شكل مكعب فزاد الوباء لأنهم لم يضعفوه، فقرر أفلاطون دراسة الهندسة. والمشهور عنه أن معرفة الشيء مشروطة بمعرفة الله. وأرسطو معلم الإسكندر الذي حارب الشرك دفاعا عن التوحيد، وهو تلميذ أفلاطون، فحسن قوله ورفع التناقضات فيها؛ فقد قال أفلاطون في «النواميس» إن للعالم مدبرا. وقال في «قيدون» إن النفس لا تموت، وفي «طيماوس» إنها تموت. أوضح حقيقة الصواب في الصلة بين الحكمة والحق، بين فيثاغورس وسقراط، أيهما أصل وأيهما فرع؟ له منطق وطبيعيات وإلهيات، ولكن كتبهم محشورة بالرموز والألغاز حماية للناس منها، وإبعاد الكسالى عنها، وتشحيذا للطبع. والمشهور عن أرسطو أنه قال إنه كان قبل اليوم يشرب ويظمأ، فلما عرف الله، عز وجل، روي بلا شرب. هؤلاء الخمسة لا يحترمون من لا يقر بالصانع، ولا يوقن بالثواب، ويعتبرونه ملحدا. عيبهم خلافهم مع الملة الإسلامية، ولا يعترفون بالبعث والنشور، ولا يؤمنون إلا بخلود الأرواح؛ لذلك حكم الإسلام عليهم بالبغي والضلال، ولكنهم آمنوا وبرهنوا على إثبات الصانع ووحدانيته، ونفي الند والضد عنه. والطب والهندسة والتنجيم والموسيقى لعمارة البلاد، ترجمتها الألسنة. والبعض أصحاب صنعة وليسوا حكماء، مثل: أبقراط الطبيب، هوميروس الشاعر، أرشميدس المهندس، ديوجانس الكلبي، ديمقريطس الطبيعي. وليس كل من قرأ إقليدس يصبح حكيما. أما جالينوس فطبيب وحكيم، ولكنه يشك في حدوث العالم والمعاد وخلود النفس. أما أوساخ الزنادقة فيصطادون ضعاف العقول، ويوهمونهم بأنه لو كان الله موجودا لعرفتهم هذه العقول. ويتهم الجدليون بالتعطيل والإلحاد. النية صادقة، ولكن اتهامهم بالتعطيل قد يؤدي إلى تزيين الإلحاد وتفخيم الزندقة؛ مما يقوي حيل البرية على الضعاف من البرية.
5
وهذا كله «أسلمة» لليونان، ورؤية الآخر من منظور الأنا، وحكماء اليونان ما هم إلا تلاميذ أنبياء بني إسرائيل؛ مما يجعل العامري تقليدي الاتجاه؛ فالعقيدة أساس الحكمة.
ومن الموروث تتصدر آيات القرآن والأحاديث، ثم الأنبياء، آدم ثم موسى ثم سليمان ثم المسيح ولقمان ثم الرسول وعيسى وإدريس (هرمس) ونوح وداود، والعذراء البتول وإبراهيم وهود وأخنوخ. ومن تاريخ الأنبياء عاد وآدم وثمود.
6
فآدم يأتي أولا، وهو الأصل الذي اجتمعت فيه البشرية والنبوية؛ فلا بشرية دون نبوة، ولا نبوة دون بشرية. وموسى هو النبي والقائد. وسليمان هو الحكيم. ولقمان أول الحكماء، أخذ من الباطنية. ويؤسس العامري فلسفة للتاريخ ابتداء من قصص الأنبياء، وهم في الغالب أنبياء بني إسرائيل. ولا يذكر من الحكماء إلا الكندي والرازي الطبيب والبلخي وأبا معشر المنجم.
7
وينقد وصف الرازي بأنه حكيم مع أنه صاحب صنعة الطب. يقول بالقدماء الخمسة. وكان أحمد بن سهل البلخي يرفض تسمية حكيم من يخرج على العقائد، وهو الموقف السلفي الذي يتعاطف معه العامري. ولا يذكر الفارابي وهو الإشراقي. ومن الفرق يذكر المعتزلة، وأصحاب الرأي، وأصحاب الحديث، والشيعة، والخوارج.
8
ويقول أهل الإسلام بالبعث والنشور والجنة، إلا المعتزلة التي ترى أن النفوس الناطقة لا وجود لها بالحقيقة، والفلاسفة يهولون بها على العامة، وأنه ليس للإنسان إلا ما يشاهده، وأن الحياة عرض، والموت ضدها، وأن البدن بعد انحلاله لا حياة فيه ولا موت. والله يجمع البدن في النشأة الأخرى، ويخلق فيه الحياة، جنة أو نارا. وهو رأي جمهور الإسلام أصحاب الرأي والحديث، والشيعة والخوارج. الأرواح البشرية يتوفاها ملك الموت، تفارق الجسد، وتحاسب ثوابا أو عقابا.
ويظهر تاريخ الأمم السابقة، اليهود والنصارى،
9
أنبياء التوراة وشخصياتها، وغزو نبختنصر البابلي.
10
كما تذكر أسماء البقاع المحلية، مثل الشام ومصر، ثم بيت المقدس، ثم القلزم وفلسطين.
11
وتظهر الثقافة الفارسية الشرقية أيضا، مثل فارس، ثم يزدجر بن شهريار، ثم دارا وكيومرت وهرمزروز ومزوردين وزرادشت والمجوس،
12
بل تذكر الهند؛ فالغالب على الدهماء فيها أن الأجساد متى حرقت بالنيران تخلصت الأرواح من المذلة والهواية. وتبدأ الرسالة كما تنتهي بالحمدلات والبسملات.
13 (3) مسكويه
وفي «اللذات والآلام» لمسكويه (421ه) يتساوى تقريبا الوافد والموروث. من الوافد يذكر الحكماء والطبيعيون دون تحديد لاسم بعينه؛ فالتأليف يمكن دون أرسطو. ومن الموروث فليسوف الإسلام علي بن أبي طالب؛ مما يدل على تشيع مسكويه، وآية قرآنية واحدة، وعمار بن ياسر يخاطب عليا.
14
وهو موضوع أخلاقي مثل موضوعات الرازي دون إحالة إلى الفارابي، وهو فيلسوف الإنسان. وليس سؤالا فقهيا كما هو الحال في «النفس والعقل»، بل تأليف مباشر. عند الحكماء الطبيعة عالم الآلام؛ لأنه عالم الحركة، في حين أن عالم العقل هو عالم اللذات؛ لأنه عالم السكون؛ فالحركات آلام، والسكنات لذات. كما قالت الحكماء إن لذة الخالق بذاته وفرحه وسروره بها لا تقارنها لذة أخرى أو فرح آخر، ولذة الفضلاء هي الثواب الموعود، والمقام المحمود في دار الخلود التي دعا إليها الأنبياء وأثبتها الحكماء. وعند الطبيعيين اللذة رجوع إلى الحالة الطبيعية، ولا تصح في الأمور النفسية أو الإلهية.
15
ومن الموروث يستشهد مسكويه بقولين لفيلسوف الإسلام علي بن أبي طالب؛ الأول: أن اللذات خادعة؛ لأنها ليست طريقا إلى الله، وفي الأمور الطبيعية خدعة للحيوان، مثل السفسطة والدواء المر المحلي للصبيان؛ فتزين المرأة أحسن شيء فيها وهو وجهها، وتريد أقبح شيء فيها وهو فرجها. والثاني: أن لذات الدنيا خمس؛ مأكول، وأفضله العسل، وهو في ذبابة. ومشروب، وأفضله الماء، وهو أهون موجود. وملبوس، وأفضله الديباج، وهو لعاب دود. ومشموم، وأفضله المسك، وهو دم فارة. ومنكوح، وأفضله مبال في مبال. أما المبصرات والمسموعات فهي من ملذات الآخرة، تعرف في الدنيا تشوقا لها في الآخرة. ولكن ألم تصور الجنة أيضا على أنها لذات حسية من المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح والمشموم؟ أليس المسموع والمرئي من محرمات الدنيا والموسيقى والرقص؟ وماذا عمن لا يذوق العسل ولا يحبه؟ ولماذا الماء أهون موجود وهو ينحت الجبال ويولد الطاقة؟ ولماذا احتقار الدنيا إلى هذا الحد؟ وهل يمكن أن يقال ذلك للفقراء؟ ومن الموروث تذكر آية قرآنية واحدة عن لذة المعرفة الإلهية
في مقعد صدق عند مليك مقتدر ، بالذوق المباشر، بالتخلي عن العلائق، والانقطاع عن الدنيا، والتوجه نحو الكمال والغاية. وتبدأ الرسالة بالبسملة، وتنتهي بالحمدلة والصلاة والسلام على محمد النبي وآله.
وآليات الإبداع في «اللذات والآلام» بسيطة،
16
تقوم على القدرة على رؤية الأمور بعين الوحدة، والذهاب إلى ما وراء الألفاظ بعد عرض الآراء المختلفة كما فعل الفارابي في «الجمع بين رأيي الحكيمين»، وفي نفس الوقت القدرة على تصور الحياة، ارتقاء، ونشأة، وتطورا، واكتمالا، بداية بعالم الكون والفساد والحركة، وتوسطا بعالم الشهوة والنزاع والمحبة والعشق، ووصولا إلى عالم اللذة والكمال، اثنان فأربعة فاثنان. عالم الطبيعة هو عالم كمال الآلام، وعالم العقل هو عالم اللذات. والموجود بالنسبة للمعشوق ثلاث مراتب: ما لا يعطى، وهو الجماد والنبات والحيوان. وما يعطى بالقوة، وهو الإنسان. وما يعطى بالفعل، وهو الملاك. والرسالة كلها خطاب في البيان.
17 (4) ابن سينا (أ) وفي رسالة «إثبات النبوات وتأويل رموزهم وأمثالهم» لابن سينا (428ه)، يذكر أرسطو، ثم أفلاطون، ثم فيثاغورس وسقراط والإسكندر. فقد عذل أفلاطون أرسطو لإذاعته الحكمة وإظهاره العلم، حتى قال: اعترف أرسطو أنه بالرغم من أعماله العديدة إلا أنه ترك فيها مهاوي كثيرة لا يقف عليها إلا الخاصة من العلماء والعقلاء. وهو ما قاله الفارابي من قبل في الجمع بين رأيي الحكيمين. ولا تهم الحقيقة التاريخية؛ فأفلاطون سابق على أرسطو؛ وبالتالي يستحيل تعذيله وتوبيخه لإذاعته الحكمة، بل تهم الدلالة، وهي أن الحكمة لا يقدر عليها إلا الخاصة دون العامة، كما صرح الغزالي من قبل في «المضنون به على غير أهله»، و«إلجام العوام عن علم الكلام»، بل هو إجماع العلوم الإسلامية كلها، الكلام والفلسفة والتصوف والأصول، هي علوم للخاصة وليست للعامة، علوم التنزيه في الكلام، والتأويل في الفلسفة، والذوق في التصوف، والاستدلال في الأصول. ويذكر أفلاطون وفيثاغورس وسقراط وفلاسفة يونان في هذا السياق؛ فقد قال أفلاطون في كتاب «النواميس» بضرورة تأويل رموز الرسل حتي ينال الملكوت الإلهي. وقد استعمل فلاسفة يونان وأنبياؤهم المراميز والإشارات. وهنا يوسع ابن سينا مفهوم الفلسفة ليشمل النبوة، ويضم الأنبياء إلى فلاسفة يونان، قراءة للنفس في الآخر، وإكمالا للآخر بالنفس. ويميز ابن سينا بين كتاب «النواميس» الرمزي الإشاري الصوفي النبوي، وكتاب «السياسة»؛ أي «الجمهورية» لأفلاطون.
18
الأول للخاصة والثاني للعامة. الأول أقرب إلى الموروث، فيتم تعشيق الاثنين فيه، والثاني أقرب إلى الوافد. ويظهر المصطلح الفلسفي الجديد مثل المراميز جمعا لرمز. واعتبر فلاسفة اليونان وحكماؤهم، مثل فيثاغورث وسقراط وأفلاطون، أقرب إلى الأنبياء والرسل لما في أقاويلهم من رموز وإشارات. كما يستشهد بأرسطو لشرح اسم النور الذاتي وليس المستعار؛ أي أرسطو العالم الطبيعي، والمستعار من اللغة العربية. ويدافع عن أرسطو ضد سوء تأويل الإسكندر الأفروديسي بجعل العقل الكلي الإله الحق الأول. كما يستشهد بأرسطو في آخر كتاب «سمع الكيان»، أن نهاية الموجودات الجسمانية الفلك التاسع، فلك الأفلاك، وأن الله هناك وعليه لا على حلول. ففي موضوع موروث مثل الألوهية والنبوة يظهر اليونان؛ إذ إنهم يمثلون ثقافة العصر واستعمالها من أجل موضوع موروث، كما تستعمل الآن ثقافة العصر في العلوم السياسية من أجل علم الكلام السياسي والشريعة والقانون والاجتماع والعلوم الإنسانية بوجه عام.
19
ومن الموروث يتصدر القرآن والحديث القدسي، ثم اسم محمد والنبي.
20
ولا يظهر متكلم أو فيلسوف أو صوفي أو أصولي أو فقيه أو مفسر أو محدث. يتعامل ابن سينا مع الأصول الأولى وحدها لتنظيرها وكأنها موضوعات، وكأن علوم الحكمة أصبحت بديلا عن علوم التفسير. الآية الأولى هي آية المشكاة
الله نور السموات والأرض ، يستعملها الصوفية، ويفسرها الغزالي، ويمكن من خلالها عرض نظرية المعرفة الإشراقية، شرح كلمة كلمة وعبارة عبارة.
21
والآية الثانية
ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية . وتتضمن صورا فنية لموضوع غيبي قريب الشبه بموضوع الاستواء في علم الكلام؛ فالعرش نهاية الموجودات المبدعة الجسمانية، وليس كما يقول أنصار التشبيه من المتشرعين، أي الفقهاء، من حلول الله فيه وجلوسه عليه. نهاية الموجودات الجسمانية الفلك التاسع، فلك الأفلاك؛ ومن ثم فلا حلول كما بين أرسطو. وهنا يستعمل أرسطو دفاعا عن التنزيه. أما الحكماء الفقهاء فقد أجمعوا على أن العرش هو هذا الجرم، وأن الفلك يتحرك بالنفس حركة شوقية؛ لأن الحركات إما ذاتية وإما غير ذاتية، والذاتية إما طبيعية وإما نفسية؛ فنفسه ناطق كامل فعال، والأفلاك لا تفنى ولا تتغير، كما ذاع في الشرع أن الملائكة أحياء، فهي مثل الأفلاك؛ ومن ثم صح أن العرش محمول على الأفلاك الثمانية. والحمل نوعان؛ بشري من حامل ومحمول، وطبيعي كحمل الماء على الأرض والنار على الهواء، وهو المقصود بحمل العرش دون التماس. وتحديد الحمل بالساعة والقيامة لأن من مات قامت قيامته. ولما كانت النفس الإنسانية مفارقة ارتبطت بوقت المفارقة، الوعد والوعيد. يحول ابن سينا الكلام إلى الفلسفة، والشرعيات إلى كونيات ، ويفسر الاستواء على العرش بالأفلاك، ويعتمد على النقل والعقل مفسرا الشرع بالشرع، والنص بالنص، والكتاب بالسنة. وفي نفس الوقت يثبت المعاد، الوعد والوعيد والثواب والعقاب. يؤكد على الزمان في «يومئذ»، ويهرب من المكان في «فوقهم». لم يتخل ابن سينا عن التصور المكاني كلية؛ فالعرض نهاية الموجودات المبدعة الجسمانية، فهل هو أول الخلق أم آخره؟ مخلوق أم غير مخلوق؟ وأين كان الله يستوي قبل الخلق؟ وإذا كان العرش قديما فهل يوجد قديمان؟ وهي مسائل نظرية لا حل لها إلا في التأويل المجازي كما قال المعتزلة، أو في الصورة الفنية والتخييل كما قال الحكماء دون الوقوع في تأسيس علم كلام فلسفي جديد، بالرغم من السخرية من علم الكلام القديم عند المتشبهة والمتشرعة.
22
ويفسر ابن سينا الآية الثالثة
عليها تسعة عشر
بأن الجحيم هي النفس الحيوانية، باقية دائمة في جهنم، وهي قسمان: إدراكية وعملية. والعملية قسمان: شوقية وغضبية. وهي تصورات الخيال، المحسوسات بالحواس الظاهرة الستة عشرة، والقوة الوهمية حاكمة على تلك الصور حكما غير واجب، واحدة ذاتيا فيكون المجموع تسعة عشر. يحاول ابن سينا إيجاد التجارب الإنسانية المقابلة للأعداد، سواء الثمانية السابقة أو التسعة عشرة الحالية. تصف الآية واقعا إنسانيا كما هو الحال في تحقيق المناط عند الأصوليين. يلجأ ابن سينا إلى هذه الموضوعات الغيبية التي تسمح بالتأويل الفلسفي كما تفعل الصوفية. الجحيم هو الجهل، والنعيم هو العلم. وهو تأويل يفيد مجتمعات الجهل التي تريد أن تتحول إلى مجتمعات العلم. أما الملائكة، فهي القوة اللطيفة غير المحسوسة، صورة فنية للتعبير والتأثير. ويبدأ ابن سينا الآية بأنها ما بلغ النبي محمدا عن ربه، ثم يئولها تأويلا إنسانيا؛ فالإلهي إنساني على مستوى التبليغ والفهم كما يقول المعاصرون؛ لذلك يذكر اسم النبي محمد، ويصلي ويسلم عليه في التبليغ، وصحة دعوته للعاقل، وفي إيصال رسالته إلى العرب الأجلاف.
23
والحديث القدسي الأول «إن للنار سبعة أبواب وللجنة ثمانية أبواب» تبليغ من الله إلى النبي؛ فالأشياء المدركة إما مدركة للجزئيات، الحواس الخمس الظاهرة، ثم إدراك الصور مع المواد أو بدون المواد في خزانة الحواس، وهو الخيال، وقوة حاكمة عليها حكما غير واجب وهو الوهم، وقوة حاكمة عليها حكما واجبا هو العقل؛ فهذه ثمانية إذا اجتمعت أدت إلى السعادة السرمدية والدخول في الجنة، وإن نقصت إحداها أدت إلى الشقاوة السرمدية والدخول في النار. وفي اللغة المؤدي إلى الشيء يسمى بابا؛ لذلك سميت أبوابا، السبعة المؤدية إلى النار والثامنة المؤدية إلى الجنة. وإذا كان العدد الرمزي سبعة، فلماذا زيد واحد في الجنة؟ ولماذا أخذ ابن سينا ثلاث حواس باطنية فقط ولم يأخذ الخمسة كلها مثل التذكر والحس المشترك؟ وهو أيضا موضوع غيبي يمارس فيه ابن سينا منهجه في التأويل بتحويله إلى دلالات إنسانية قياسا للغائب على الشاهد. لقد استطاع ابن سينا تحويل النصوص إلى تجارب إنسانية ومعاني عقلية على أوسع نطاق من العمومية والشمول، ولكن ظل التأويل مرتبطا بثقافة العصر، علم الفلك القديم، وعلم النفس، وطرق المعرفة القديمة. فإذا ما تغيرت ثقافة العصر تغير التأويل. وهل يمكن تجاوز تشخيص الطبيعة إلى الإنسانيات مباشرة وإعطاء تأويل إنساني عام لكل العصور، أم أن التأويل بطبيعته فهم للنصوص في ثقافة كل عصر؟
ويئول ابن سينا الحديث القدسي الثاني «إن على النار صراطا صفته أنه أحد من السيف وأدق من الشعر، ولن يدخل أحد الجنة حتى يجوز عليه؛ فمن جاز عليه نجا، ومن سقط عنه خسر» كمناسبة لتحويل الغيبيات إلى مشاهدات، والوحي إلى تجارب إنسانية.
24
وهي صورة فنية للعقاب ودون فهم العقاب أولا. وبدون التجربة الإنسانية لا يمكن فهم الصورة الفنية المتضمنة في النص. الصورة الفنية وسيط بين الوعي والنص، بها من الوعي الشعور أو الخيال، وبها من النص الحروف والكلمات. الثواب هو البقاء في العناية الإلهية الأولى، ولا يحصل إلا بعد الكمال العلمي والعملي، وذلك عن طريق مجاهدة النفس الحيوانية في أفعالها العملية وإدراكاتها العلمية. ويكون الهلاك بمطابقة الوهم للقوى الحيوانية في غيبة الحواس، وتكون النجاة بمطابقة العقل للصور العقلية الشريفة. ويمكن على هذا الأساس فهم الجنة والنار؛ فالعوالم ثلاث: عالم حسي، وعالم خيالي ووهمي، وعالم عقلي. العالم العقلي هو المقام في الجنة، والعالم الخيالي الوهمي هو الحطب، والعالم الحسي هو القبور. ولما كان العقل في حاجة إلى استقراء الكليات من الجزئيات، فإنه يحتاج إلى الحس الظاهر الذي يقدم المحسوسات إلى الخيال والوهم. وهذا هو طريق جهنم، الصراط الدقيق. فإذا توقف الإنسان ولم يتجاوز الوهم والخيال إلى العقل وقف على الجحيم وسكن في جهنم. يحول ابن سينا الأخرويات من مستوى الكونيات إلى مستوى المعرفة؛ فالصراط ليس شعرة حسية، بل طريق للمعرفة يؤدي إلى الوهم أي إلى النار، أو إلى العقل أي إلى الجنة. التأويل إذن هو إرجاع الخارج إلى الداخل، والموضوع إلى التراث، والشيء إلى المعنى، والواقع إلى الفكر.
25
لقد توجهت علوم الحكمة إلى السمعيات كي تحيلها إلى عقليات متجاوزة علم الكلام، محولة الصور الفنية إلى علوم نظرية وسلوك عملي، ومتجاوزة المصادفة والسير على الصراط عندما تتكافأ الأدلة، وكأن المؤمن بهلوان تساعده الملائكة كي يقع في الجنة أو تدفعه الشياطين كي يقع في النار. وقد اختار ابن سينا الآيات القرآنية والأحاديث القدسية من نفس النوع الغيبي الأخروي الذي يسمح له بالتأويل الإشراقي، وليس الآيات والأحاديث العملية التي تنفع الناس في الدنيا، وكما نحتاج هذه الأيام في مجتمعات الضلال والتخلف. حول ابن سينا الأخرويات إلى إنسانيات، الثواب والعقاب، السعادة والشقاء. (ب) وفي «سر القدر» ذكر الحكيم تحولا من الشخص إلى الرمز، وأفلاطون في المقدمة الثالثة، إثبات المعاد للنفوس وليس في المقدمتين الأوليين، نظام العالم وحديث الثواب والعقاب. ينكر الحكيم وجود الشر القصدي في العالم على عكس الخير؛ فالشر إعدام وليس وجودا. وهي نظرة متفائلة تشبه نظرة الإسلام، على عكس أفلاطون الذي يرى أن الشر والخير مقصودان استشهادا بالآية القرآنية
يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضية
كمقدمة نقلية؛ فالموروث وعاء للوافد، والوافد مادة للموروث ومضمون لها. ولا يستشهد بالقرآن إلا في المقدمة الثالثة بعد الأولى في نظام العالم، والثانية حديث الثواب والعقاب، إثبات المعاد للنفوس؛ فالمعاد دعوة للنفس المطمئنة. ويعود ابن سينا إلى المسألة الصوفية التي سئل عنها «من عرف سر القدر فقد ألحد» إلى الأصل في الحديث «القدر سر الله، ولا تظهروا سر الله»، بصرف النظر عن صحة السند أو المتن، مع أن صيغة «ما روي»، وليس حديث الرسول أو قال الرسول، تشكك فيه. والأقوال الثلاثة المنسوبة إلى علي تحتمل الشك أيضا؛ إذ إنها تدور حول نفس المعنى بصياغات أدبية متعددة مما قد يكشف عن الإبداع الذاتي، الفكرة التي تخلق صورها. وقد يدل استشهاده بعلي ثلاث مرات على تشيعه. كما يستشهد بحديث أو قول مأثور «اعملوا فكل ميسر لما خلق الله». وتظهر بعض التعبيرات القرآنية تعبر عن المخزون الأدبي لابن سينا، كما تظهر العبارات القرآنية وأساليبه في الخطاب مثل الشراب الطهور، وضرب الأمثال، ولا يسأل عما يفعل، وكل شيء هالك إلا وجهه.
26
ثانيا: ابن باجه
(1) الرسائل
ويقع كثير من رسائل ابن باجه في هذا النوع، التعادل بين تمثل الوافد وتنظير الموروث، مثل: (أ) «ومن كلامه ما بعث به لأبي جعفر بن يوسف بن حسداي»؛
1
فقد ذكر من الوافد بطليموس، ثم أرسطو والإسكندر، ثم ثامسطيوس. ومن الكتب يحال إلى السماع الطبيعي والكون والفساد. ومن أسماء الفرق يذكر المفسرين.
2
ويرد ابن باجه على من زعم أن ما أتى به أرسطو في الحركة والمحرك ليس برهانا، كما يضع ابن باجه نسقا لأرسطو كله في موضوع واحد غير مؤلفات أرسطو، كما فعل في حد الأضداد الفاعلة والمنفعلة. وتبدو أهمية السابعة والثامنة في السماع أن بها نظرية الحركة والمحرك، خاصة المحرك الأول الذي لم يرد أرسطو بيانه بإطلاق كما توهم المفسرون، بل المحرك الأول بالإضافة إلى حركة مفروضة. يستشهد ابن باجه بأرسطو بعد الدراسة وليس قبلها؛ تدعيما لموقفه وليس نقلا عنه. لم يكن غرض أرسطو ذكر المحرك بإطلاق؛ أي إن غرضه لم يكن الإلهيات، بل الطبيعيات. وأكمله المسلمون كعلم مستقل لدرجة اعتبرها المفسرون خارج العلم، وهو ما صرح به ابن باجه في المقالتين السابعة والثامنة ونقد ثامسطيوس وجالينوس في خلطهما معنى المحرك عند أرسطو. وهو نفس موقف ابن رشد فيما بعد مع اختلاف التفاصيل.
3
وقد دافع الإسكندر عن أرسطو، وزعم الناس أنه في الحركة والمحرك لم يأت ببرهان؛ لأن البرهان منطقي؛ أي أن تكون أجزاء القياس، أي الحدود الوسطى، بالعرض. وينقد ابن باجه الإسكندر، ويجعل الحد الأوسط ذاتيا. ويحيل إلى «السماع الطبيعي» بعد أن تحول الكتاب إلى موضوع مستقل عن صاحبه، وبعد أن تحول إلى علم دون كتاب، والعلم مشاع بين الجميع. ويحيل إليه مسألتين رئيسيتين تؤخذ منهما المسائل الأخرى، حد الأضداد الفاعلة والمنفعلة، وحد أرسطو لها حدودا متأخرة في الكون والفساد، كما يحلل ابن رشد الموضوعات بالإحالة إلى كل طبيعيات أرسطو. ويشير ابن باجه إلى الموروث الناقد للوافد، مثل الشكوك على بطليموس لابن الهيثم، استئنافا للتراكم الفلسفي.
ويظهر الموروث في اسم الرسالة، حسداي؛ فاليهود جزء من الأمة.
4
وتدل المراسلة مع ابن حسداي على التعايش السلمي بين المسلمين واليهود في الأندلس، والصداقة بين الفيلسوفين في مجتمع ديني يقوم على الوحي بلا تمييز بين مراحله، بل ويقدر تراث المجتمع الوثني الديني السابق، وهو في حد ذاته موقف إبداعي. ويتصدر الزرقالة، ثم ابن حسداي وابن الهيثم وأبو نصر. ويحال إلى كتاب الشكوك على بطليموس لابن الهيثم، وإلى مكان تأليف الرسالة، إشبيليا.
5
والزرقالة بطليطلة معروف بولد الزرقيان أو ولد الزرقيال في الأرصاد والكواكب والأفلاك والآلات النجومية. وله صحيفة الزرقيال التي لم يفهمها المشرق. وينقد ابن باجه نقد الزرقالي وابن الهيثم لبطليموس. والموضوع علمي يضع فيه ابن باجه تجاربه الشخصية، وهو على وعي بمنظوره، وينقسم إلى موضوعات متقطعة انعكست على طريقة التأليف في فقرات متقطعة.
6
ويصرح ابن باجه بأنه تعلم عن الفارابي المنطقي ضروب البرهان. وقد تعلم منه ذلك متأخرا بعد الرياضيات والفلك والموسيقى. وينقد ابن باجه الزرقالة إبراهيم بن يحيى الأندلسي بأنه لم يكن من أهل صناعة الهيئة، بل كان يقول فيها بحسب سوانحه ولوائحه؛ فتضطرب أقواله، ويكثر الكلام فيما لا معنى له؛ لذلك ناقض بطليموس. فالزرقالة نموذج البعيد عن الصناعة بالرغم من كتابته مقالا يبطل فيها طريق بطليموس في استخراج البعد الأبعد لعطارد. فهو نموذج الهاوي في العلم لا المتخصص. ينقد ابن باجه الموروث قدر تعامله مع الوافد. الزرقالة غير عميق في الفلك، ذاتي غير موضوعي، ذو كلام مضطرب، كثير الكلام بلا دلالة، يذهب عليه بعض معاني العلم، ويناقض بطليموس. ويدافع ابن باجه عن بطليموس في حين أن ابن رشد ينتصر لأرسطو وينتقد بطليموس في مقالة اللام. يطهر ابن رشد الأصل الوافد، ويطهر ابن باجه العلم الوافد؛ فالعلم ليس الإشراق، ومع ذلك يوضح الإشراق العلم. العلم من الذات لا من الموضوع، من الداخل لا من الخارج. العلم تصوف العلم. يعيد ابن باجه تأويل العلم الطبيعي في الأندلس تأويلا صوفيا، فكيف يقال إن مشروع الغرب الإسلامي كان عقلانيا وفيه ابن باجه وابن عربي ومدرسة ابن مسرة و«زهر» في التصوف اليهودي؟ وخطأ الزرقالة هو خطأ ابن الهيثم، بل إن ابن الهيثم أسوأ من الزرقالة وأبعد عن صناعة الفلك. ينقد ابن باجه موقف ابن الهيثم من بطليموس. ابن الهيثم مثل الزرقالي في نقده لبطليموس، مع أن الهيثم أوضح والزرقالي مشوش. لم يقرأ ابن الهيثم الصناعة إلا من أسهل الطرق، بل إنه أبعد منها عن الزرقالة؛ ربما لأنه بصري وليس فلكيا. ربما لم يكن لديه وقت أو نقله عن غيره، وكأن ابن باجه يجد له الأعذار. المهم هو تحليل التراكم التاريخي الفلسفي والعلمي، ووضع الوافد والموروث في وعي تاريخي واحد، ولا يوجد هجوم مماثل على الداخل على الأشعرية والكلام والإشراق عند ابن سينا. وتظهر البيئة الجغرافية المحلية، مثل إشبيليا مدينة تعلم صناعة الموسيقى. (ب) وفي «من كلامه على إبانة فضل عبد الرحمن بن سيد المهندس» يظهر من الوافد أبولونيوس مع كتابه في المخروطات ، وإقليدس وليس أرسطو.
7
ويقارن ابن باجه بين توليد القطوع عن ابن سيد والمخروط عند إقليدس في آخر المقالة العاشرة من كتابه، بين الموروث العلمي والوافد العلمي. كما ينقد أبولونيوس؛ لأن البرهان بين أن التماس لا يكون بإحدى الجهتين اللتين ذكرهما أبولونيوس. ويذكر ابن باجه محيلا إلى المقالة الأولى من «المخروطات» دون ذكر اسم مؤلفه أن كل سطح يلقى بسيط مخروط ولا يمر برأسه يقطعه، وغير ذلك من المسائل الرياضية.
ومن الموروث يذكر ابن سيد، ثم ابن الإمام وابن الصائغ وابن النضر، مع ذكر مكان إشبيليا. ويحكم ابن باجه على الداخل مع احترام كامل للآخرين دون إزاحتهم كما يفعل المغاربة المعاصرون. وهو موضوع رياضي ينتمي إلى المرحلة الأولى، ويتضح ذلك من المرسل إليه، وهو من أهل بلنسيا، عالم بالحساب والعدد والهندسة. ويستأنف ابن باجه ما قام به ابن سيد المهندس من قبل بعد أن استأنف ابن سيد نفسه تراث المهندسين قبله، ولكنه كان أقرب إلى الاتصال معهم دون أن يطور الموضوع وينقله نوعيا ربما لعوائق عصره، أو لعمله بمفرده مما يحتاج إلى تطوير وإكمال. ومع ذلك استطاع ابن سيد أن يختص بشيء جديد بالإضافة إلى تراث القدماء، وهنا يدخل ابن باجه لاستئناف الجديد، فالتراكم التاريخي شرط الإبداع. (ج) وفيما «كتب - رضي الله عنه - إلى الوزير أبي الحسن ابن الإمام» يبدو الوافد أولا في إقليدس، ثم ثامسطيوس وأرسطو والإسكندر وأبولونيوس وشاعر اليونان. ومن الكتب يحال إلى نيقوماخيا والبرهان وبارمنياس.
8
والموضوع بين الرياضيات والمنطق. وذكر ابن باجه السياق التاريخي له؛ مما يدل على أنه يدرس موضوعا ولا يشرح قولا. وتبدو أهمية العلة الغائية، كما تظهر القيمة في المنطق. ويبين ابن باجه كيف لخص أرسطو موضوع الروية والاستعداد، نشأتها وكمالها في السادسة من نيقوماخيا بالرغم من صعوبة وجود صناعة محدودة للارتياض، أو إيجاد أسماء للأفعال الرياضية والتجريب من أصنافها. ويرى ابن باجه أن وجود الفكرة البرهانية والروية في كل إنسان لم تلحقه آفته وله قوة على قبولها، وهي بالاكتساب. ويستشهد بثامسطيوس أنها قد توجد لبعض الناس بالطبع في القياس في ذوي الفطر الفائقة. ويستشهد بتسمية الإسكندر القياس الصادق البرهان المنطقي، وهو الذي يستلزم الحد الأوسط، ويكون ما به قوامه، وإلا كان القياس مجرد دليل ليس ما به قوامه. ويضرب المثل من إقليدس على أن الأقاويل الهندسية أمور بالعرض سهوا وتسامحا من المهندس، مثل أن ضلع المسدس إذا اتصل بضلع المعشر انقسم الخط على نسبة ذات ونسبة طرفين. وهو قلما يوجد في كتب المهندس، إنما تسامح إقليدس في ذلك أو فات عليه لتلازم وجود ضلع المسدس ونصف القطر بالتكافؤ لزوم الموجود؛ فإقليدس موضع نقد، قد يخطئ عن قصد أو عن غير قصد. ويبين ابن باجه حد الخطوط الصم، وهو الموضوع الذي يتعرض له إقليدس في المقالة العاشرة من كتابه. كما يبين القطاع الثلاثة كما فعل أبولونيوس في أول كتابه عن المخروطات لأن الحدين لم يكونا واضحين. مهمة ابن باجه إذن توضيح الوافد العلمي؛ فهو الدارس، والوافد المدروس. وهو على علم بمطالب الموروث وبمكانه في الوافد على وجه الدقة، وليس فقط بالإحالة إلى مقالات الكتاب.
ويبرز ابن باجه الطابع المحلي اليوناني للوافد في ضرب الأمثلة على أن المهندس الذي ليست له القوة على صنعة براهينها، واقتصر على حفظها، يصبح مثل الكتاب المبسوط كما قال شاعر اليونان على طريق التشبيه. ويحيل الموضوع إلى كتاب البرهان وإلى كتاب بارمنياس، وكأنهما مرجعان سابقان وتراث سابق يحال إليه دون تكراره.
ويظهر الموروث في العنوان بالإضافة إلى ابن سيد وأبي نصر وامرئ القيس، والإحالة إلى أشعار العرب ونحويي العرب وشرح الخطابة من الوافد الموروث عند الفارابي.
9
يكشف ابن باجه حقيقة الظنون التي قيلت عن الفارابي، مثل أن الأقاويل الرياضية بلاغية، ويكشف عن سوء تأويل شرح الفارابي كما يفعل ابن رشد مع شراح أرسطو. وكان ابن سيد قد استخرج بعض البراهين من نوع هندسي لم يشعر بها أحد من قبله دون أن يدونها، بل لقنها شفاها لاثنين؛ الأول استشهد في الجهاد، والثاني ابن باجه الذي استخرجها وزاد عليها، وأضاف إليها مسائل برهن عليها وهو في السجن للمرة الثانية. وكتب عنها إلى الوزير دون تفصيل إتماما لابن سيد واعترافا بفضله؛ فالمحرك الأول له الفضل على المحرك الثاني. ويكشف السياق عن اشتراك العلماء في الجهاد ضد الأعداء في الخارج حتى الاستشهاد، وضد الأمراء في الداخل حتى السجن والاعتقال، وعن الأمانة العلمية لابن باجه في الاعتراف بفضل القدماء ونسبة الحق إليهم دون نسبته إلى نفسه، واستعمال مصطلح المحرك الأول، وهو تصور ديني، كتشبيهات في تحليل الحركة في الطبيعيات. ويظهر الشعر العربي كمادة محلية موروثة؛ فنسبة المنطق إلى الرياضة كنسبة النحو إلى الشعر والخطابة. المنطق نحو الفكر، والنحو منطق اللغة؛ لذلك يروض النحاة المتعلمين بإعراب أشعار العرب، كشعر امرئ القيس وغيره. (د) وفي «النفس النزوعية» من الوافد يذكر أرسطو، ويحال إلى الثامنة من السماع الطبيعي، ثم إلى السماء والعالم والحيوان.
10
والموضوع رياضي طبيعي استبعادا للإلهيات وكأنها انحراف عن المنطق والطبيعة. ويعود ابن باجه إلى الكندي متجاوزا إشراقيات الفارابي وابن سينا؛ مما ساعد مهمة ابن رشد في العودة إلى العقل والطبيعة أساسا للوحي. المشروع الفلسفي في المشرق العربي عند الكندي هو نفسه المشروع الفلسفي في المغرب العربي عند ابن باجه وابن رشد، حصارا لإشراقيات الفارابي وابن سينا في الشرق، وابن طفيل في الغرب.
وابن باجه هو الدارس للشيء والرائي له، والاستشهاد بأرسطو هو إرجاع قوله إلى الشيء المرئي عند ابن باجه. الموروث يوضح الوافد ويؤكده. ويحيل إلى الثامنة، ويفهم أنها من السماع الطبيعي؛ فقد أصبح كل مقال موضوعا توخيا للدقة وتمييزا للموضوعات عن الكتب. لكل متحرك محرك، ومحركه غيره؛ ومن ثم تتوالى أجناس المحرك. ويحيل إلى السادسة في أن الحركة لا أجزاء لها. كما يحيل إلى الثامنة في أن الجمادات ليست تفعل بل تنفعل. ويحيل إلى الخامسة وإلى الأولى من السماء والعالم وإلى الحيوان. ابن باجه هو الدارس، ثم يتبين قول أرسطو بإظهار ابن باجه الشيء المدروس.
ومن الموروث يحال إلى أبي نصر وكتاب الموجودات المتغيرة، كيف يصير ما بالقوة الطبيعية أسفلا أسفلا بالفعل، وكيف يتحرك بحركة محركة؟ فالحكمة مشروع متكامل بين المشرق والمغرب، بين الفارابي وابن باجه. كما يحال إلى لغة العرب لبيان خصوصية اللغة. ويحاول إيجاد أسماء عربية للمعاني الفلسفية، مثل النقلة للحركة في المكان. وإذا قيلت على باقي أصنافه تسمى الانتقال. ويستعمل الأسلوب العربي في زيد وعمرو للإشارة إلى الفاعل أو المبتدأ في النحو، أو الموضوع والمحمول في المنطق.
11 (ه) وفي «النزوعية» يظهر من الوافد أرسطو. ويحال إلى «السماء»، ثم إلى «الكون والفساد»، ثم إلى «الآثار العلوية» و«قاطيغورياس». ومن الفرق يحال إلى المفسرين. ومن الموروث يذكر أبو نصر والمنصور، ثم عبد الله بن علي. كما تذكر العربية والعرب والشرع والسنن؛ مما يدل على أولوية الفارابي وظهور بعض المصطلحات الموروثة.
12
ومن مؤلفات ابن باجه يحال إلى رسالة «الوداع» تأكيدا على وحدة المذهب. ويضرب ابن باجه المثل بقتل المنصور عبد الله بن علي، وإن لم يفعل ذلك بيده، على أن الآلة قد تكون متصلة بالفاعل وقد تكون منفصلة. (و) وفي «المتحرك» من الوافد يذكر سقراط أولا، ثم أفلاطون. ويحال إلى السماع الطبيعي.
13
وسقراط هو نموذج الشهيد في الوعي الإسلامي، خلود الروح وفناء البدن. ويضرب ابن باجه المثل بأفلاطون في الحركة والمتحرك في ذم المحرك القريب أو مدحه بدلا من زيد وعمرو. والمتقدمون عند ابن باجه أفضل من المتأخرين طبقا لتصور أهل السلف. ويحال إلى «السماع الطبيعي» في أن الحركة تكون أكثر من محرك واحد، وإلى الثامنة في أن المحرك الأول الحقيقي هو محرك الحركة السرمدية من خلال حركات الكائنات الفاسدة بالعرض لا بالذات، وإلى كتاب «الحيوان» وكتاب «النفس» في أن المحرك الأول في الحيوان هو النفس. وواضح كثرة الإحالة إلى الطبيعيات، والإحالة إلى الوافد ضمن نظرية عامة في الإيضاح والإثبات عن طريق اللجوء إلى الأدبيات السابقة تأكيدا للقول بإرجاعه إلى الشيء، وإثباتا للشيء بإبداع السابقين.
ومن الموروث يحال إلى أبي مسلم والمنصور، ثم إلى جعفر والرشيد. ومن الألفاظ الموروثة تظهر الشريعة.
14
ويحال إلى أعمال ابن باجه تأكيدا على وحدة المشروع الفكري، إما إلى الشرح مثل الحيوان والنفس، أو إلى التأليف مثل رسالة «الوداع» و«سيرة المتوحد». والموضوع هو الله المحرك الأول تعشيقا للوافد في الموروث طبقا لظاهر التشكل الكاذب. ويظهر الأسلوب العربي الديني في لفظ «اللهم»، كما تظهر بعض الموضوعات الدينية. وينقل ابن باجه مستوى التحليل الطبيعي للحركة إلى المستوى الإنساني الشرعي؛ ومن ثم تصبح الأفعال خاضعة للوم والحمد على ما حرك بالعرض. وفرق في العقاب بين القتل الخطأ والقتل العمد. ويضرب ابن باجه المثل بقتل الرشيد جعفرا، أو قتل المنصور أبا مسلم، على اتصال الحركة وانفصالها وعلاقة اليد بالآلة. (ز) وفي «الوحدة والواحد» من الوافد يذكر أرسطو أولا، ثم أفلاطون، ثم الإسكندر. ومن المؤلفات يحال إلى ما بعد الطبيعة أو الحروف أو الفلسفة الأولى، وكلها أسماء لكتاب واحد، مرة مترجما، ومرة معربا، ومرة معبرا عن مضمونه «الفلسفة الأولى»، وإلى كتاب الحروف للإسكندر. والموضوع أفلوطيني في الظاهر، إسلامي في الباطن، التوحيد. ولا توجد فلسفة إلا وتتناول الواحد والوحدانية تنظيرا للتوحيد. ويضرب ابن باجه المثل بأرسطو والفارابي على الوحدة والواحد؛ مما يكشف عن حضور شعوري للوافد والموروث على حد سواء كتجارب حية في الوعي الفلسفي التاريخي. كما يستحسن تشبيه أفلاطون وأرسطو، وليس أرسطو وحده. كما ذكر أرسطو الكامل مجملا في ما بعد الطبيعة، مرسلا دون تفصيل في المقالة الأولى من «الفلسفة الأولى». ويظهر مصطلح المرسل من علم الحديث. ويفصل ابن باجه الموضوع الذي شبهه أفلاطون بالدوائر اللولبية، وأرسطو بانحناء الخط المستقيم. ويضرب المثل بالإسكندر على الصور الروحانية مثل زيد وعمرو، وبقوم تبع المذكورين في القرآن.
ومن الموروث يحال إلى الفارابي، ويذكر قوم تبع ولسان العرب. والدلالة على المعقولات غير معروفة في لسان العرب، وربما في باقي الألسنة، وهو المعنى الكلي الذي يقال على كثيرين؛ فالمنطق مرتبط باللغة، واللغة العربية إطار مرجعي ومقياس للفكر. هناك خصائص للمنطق العربي نظرا لارتباطه باللسان العربي في مقابل المنطق اليوناني وارتباطه باللسان اليوناني. ويستعمل ابن باجه الأسلوب العربي، مثل زيد وعمرو، للدلالة على الفاعل والمبتدأ والخبر في النحو، أو المحمول والموضوع في المنطق.
15 (ح) وفي «المعرفة النظرية والكمال الإنساني أو في الاتصال بالعقل الفعال» يذكر من الوافد أرسطو والإسكندر.
16
وأرسطو هو نموذج العقل الكامل مثل الأولياء، نموذج الإشراقي الكامل، وليس المنطقي الطبيعي، قراءة للوافد بألفاظ الموروث. ويستعير ابن باجه لوصف حالة كون الفعل في ذاته وبذاته تشبيه الإسكندر للكامل ورجوع ذاته بذاته، الراجع والمرجوع، الذات والموضوع؛ فيكون روحانيا لا جسمانيا، ولا يحتاج في وجوده إلى جسم ولا قوة جسمانية.
ومن الموروث يحال إلى أبي نصر والغزالي، ومن المؤلفات إلى كتاب الملة، ومن الفرق إلى الصوفية.
17
وصورة الفارابي عند ابن باجه أنه شيخ يدعو إلى تصفية النفس بذكر الله وتعظيمه في كتاب «الملة». ويؤيد ابن باجه الغزالي بالرغم من نقده له في «تدبير المتوحد» وفي «رسالة الوداع»؛ فطريق الصوفية، طريق الغزالي، موصل إلى المعرفة والسعادة ومأخوذ من النبي. ولا يوجد نقد لهم مع أن ابن باجه نقدهم من قبل مع الغزالي؛ فهو طريق قاصر على بلوغ الصور الروحانية. ويستشهد بقول بعض رؤساء المتصوفين: «ولو وصلوا ما رجعوا.» ومن ثم يغيب البرهان وإيصال الحقائق للناس. وقد أفرط الصوفية في وصف هذه الحالة، الخيالات التي توجد في نفوسهم حسب الظن دون التيقن من صدقها أو كذبها، مجرد نفس نزوعية لا تتصل إلا بالنفس الوهمية، ولا يتحقق من الصدق والكذب بالنزوعي المنطقي الذي يصيب النفس بحالة الفرح. أما النزوعية فهي أقرب إلى البهيمية.
وتظهر بعض الموضوعات الدينية، مثل الوحي والكهانة والرؤيا والفيض والملائكة والرسل والكتب، وهي موضوعات موروثة خالصة. قد تكون الرؤيا الصادقة بالوحي أو بالكهانة، ولا حرج من الاعتراف بأشكال النبوءات الأخرى. كما يتم العلم بالفيض على الملائكة، ومن الملائكة على عقول الإنسان طبقا لاستعداده، كما هو الحال عند الصالحين المخلصين المؤمنين بملائكته وكتبه ورسله، وعملوا بما يرضيه، فيفيض الله عليهم بواسطة ملائكته في الرؤيا وحوادث العالم العجيبة. كل ذلك في موضوع النبوة وتركيب نظرية الاتصال عليها، والخيال في موضوع «بين العقل والقوة المتخيلة واتصال العقل الإنساني بالأول» على النحو التالي:
هناك إذن علاقة متبادلة بين العقل والخيال، كل منهما مصدر للآخر. وهو خليط إشراقي من الصوفية والغزالي وأبي نصر مع الاتصال مع الوحي. (ط) وفي «الفطر الفائقة والتراتب المعرفي» يظهر من الوافد أرسطو وحده، نموذجا للمتدين الكامل الإشراقي، وتوارى أرسطو المنطقي الطبيعي.
18
ولا يظهر من الموروث إلا آية قرآنية واحدة. والفطر الفائقة المعدة لقبول الكمال الإنساني معدة لقبول العقل الإنساني؛ فالكمال هو العقل، قبول العقل الإلهي المستفاد من الله، وهي الفطر التي تعلم الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والسعادة والبقاء والسرور. والعلم رؤية ببصيرة النفس، موهبة من الله. ويؤدي بلوغ الكمال الإنساني إلى العلم الإلهي والكمال العقلي، وهما أيضا بصيرة للأشياء؛ فلا فرق بين العلم النازل والعلم الصاعد، بين التنزيل والتأويل. ويتفاضل الناس في هذه الموهبة التي هي بصائر القلوب، وأعظمها بصائر الأنبياء، يعلمون بها الله ومخلوقاته دون تعلم أو اكتساب، علما كليا بالله وملائكته، ثم يأتي الأولياء بعد الأنبياء. يأخذ أصحاب الفطر الفائقة علمهم من الأشياء، ما يوصلهم إلى العلم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والسعادة القصوى. ويظلون كذلك حتى يروا العلم بأنفسهم، ويرونه ببصائرهم حسب درجات الموهبة من الله؛ فيأنسون بالعلم، ويلتذون بالفكر، وينعمون بذكر الله، سواء نطقت بذلك ألسنتهم أم لم تنطق. يفيض الله عليهم بحسب الرؤيا جزءا يسيرا مما وهبه الله للأشياء من الاطلاع على المعنيات. ومن الأولياء صحابة النبي، وكل من أخلص وصدق. وبعد الأولياء طائفة وهبهم الله بصائر يتحققون بها تدريجيا حتى يصلوا إلى اليقين بالمخلوقات والعلم بالله وملائكته وكتبه ورسله والدار الآخرة. تبرءوا من البدن، وحصل لهم الكمال، وهي السعادة القصوى، بقاء بلا فناء، وعز بلا ذل. يدرك الإنسان أجل مطلوباته، وهو العلم بالله والالتذاذ به، يرضى به ولا يحاكيه. وبفطرته وبصيرته يهتدي إلى علم الأنبياء، فيصل إلى العلم الواحد من طريقين. ويفسر سورة الفاتحة، فيجعل المنعمين عليهم الذين وهبهم الله المعرفة، والمغضوب عليهم الذين وهبهم الله الموهبة ولكن يتبعون هواهم، والضالين الذين عدموا الموهبة.
والرسالة كلها خطاب ديني مطعم بآية قرآنية، سورة الفاتحة ، بالإضافة إلى آيات مرسلة حتى أصبح موضوع الرسالة الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، مضمونها الفقهي. تتأرجح بين الفطرة والاكتساب كما هو الحال في الأشعرية؛ لذلك كان الصوفية أدق عندما جعلوا الأحوال مواهب والمقامات مكاسب. كما تتأرجح بين المعرفة والوجود، بين العلم بالغيب والعلم بالواقع والمشاهد، بين الإيمان التعليمي والاستدلال الفعلي كما هو الحال في حكمة الإشراق. تجعل قدرات الأنبياء نظرية أكثر منها عملية، فهل الأمر لذة المعرفة أم شقاء الجهاد؟ ويتصور ابن باجه مدينة إلهية قمتها الأنبياء ثم الأولياء ثم فلاسفة الإشراق والصحابة والأولياء، ويستعمل مصطلحات الصوفية مثل الفناء والبقاء، ولغة اللذة والعشق، حرمانا من الدنيا وإشباعا في الآخرة، تطهر وثنائية مانوية وكأننا في «رسالة الطير» لابن سينا، أو رسائل إخوان الصفا. يفسر الفاتحة تفسيرا صوفيا صرفا، والوحي على نحو إشراقي، والسؤال: كيف يكون هذا الظن والفلسفة يقينا وبرهانا؟ وتبدأ الرسالة بالفطرة الفائقة المعدة لقبول الكمال الإنساني المعدة لقبول العقل الإنساني، ثم العقل الإلهي، وهو عقل مستفاد من الله. وتنتهي بالمعقولات الأولى التي يعملها الله للإنسان المعد لأن يعلم بها بالموهبة من الله. وهو دور منطقي، لا يعلم الإنسان الله إلا بالموهبة التي يعطيها الله له، وكأن الله هو المهيئ للمعرفة وموضوع المعرفة، وأن الإنسان ليس له دور إلا السير في الطريق المرسوم له. (ي) وفي «الفيض والعقل الإنساني والعلم الإلهي»، من الوافد لا يحال إلا إلى اسم كتاب «إيضاح الخير» دون مؤلفه، وهو منحول على أفلوطين أو برقلس؛ فالمهم الموضوع لا الشخص، حتى ولو لم يتم التعرف عليه تاريخيا ونسبته إلى صاحبه. ومن الموروث لا يحال إلا إلى عيون المسائل للفارابي دون ذكر اسمه، مقارنا بالغزالي في تأويل الكتاب واتفاقهما في الفيض من العلم الإلهي إلى العقل الإنساني، وهو موضوع أقرب إلى روح أفلوطين الإشراقي منه إلى روح أرسطو المنطقي الطبيعي. الرسالة كلها وثنية الطابع. إذ يفيض الله من علمه على موجوداته ومخلوقاته العلم والعمل، فيتقبل كل موجود حسب مرتبته من كمال الوجود. والعقول تقبل من العلم حسب مراتبها، وكذلك الأجرام تقبل الأشكال والصور النفسانية حسب مراتبها، ومراتبها حسب أمكنتها. ولكل جرم سماوي خاضع للكون والفساد عقل ونفس. بالنفس يفعل الأفعال الجزئية المحسوسة على جهة التخيل، وبالعقل يعلم الإنسان العلوم المنزلة عليه من الله ما يتعلق بالماضي وبالمستقبل وما لم يشاهده بالعيان، غيب لا يطلع عليه إلا من يشاء من عباده بواسطة الملائكة. ويحدث العمل عنه في الأجرام بواسطتها؛ لأن أعماله بذاته عن علمه أو بتوسط عقلي أعلى من الإنسان؛ فالعمل فيض من الله مثل العلم، وفيض على العقول والأجرام، وليس على الإنسان جهد أو إبداع؛ ونتيجة لذلك سينشأ الإيمان بالقضاء والقدر. الرسالة كلها تصرف ودعاء ودعوات. تحولت من المنطق الطبيعي إلى الفلسفة الإشراقية والمواعظ الأخلاقية. لا فرق بين برقلس والغزالي والفارابي وابن باجه. وفي البداية يحيل ابن باجه إلى القضاء والقدر لتقدير الفيض والعلم، وفي النهاية يتحسر على الضلال، ويأسف للشغل بالأحوال والأهل، ويدعو القارئ إلى اغتنام التفرغ حيث لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
19 (2) آليات الإبداع
ويمكن جمع آليات الإبداع في رسائل ابن باجه كلها في منطق واحد. يظهر فعل القول كعادة متبعة في أسلوب التأليف، الأقل منها لأرسطو، والأكثر للمؤلف أو للرد على الاعتراض مسبقا «فإن قيل ... قلنا». المؤلف هو الذي يقول أساسا بضمير المفرد أو الجمع، وليس فقط الآخر الفعلي أو الآخر المتوهم في الاعتراض المسبق. وهو قول موجز، وليس شرحا أو إسهابا. الإسهاب نقل، والإيجاز إبداع. وكثيرا ما يذكر القول بمفرده دون نسبته إلى أحد، الأنا أو الآخر. وقد يفهم أنه قول الأنا وليس قول الآخر من السياق وإضافة ضمير المتكلم المفرد أو الجمع لاسم فعل آخر. وقد يستعمل فعل القول كمبني للمجهول؛ فالمهم ما يقال وليس من قال. وقد يخلو مقال بأكمله من فعل القول ومشتقاته، مثل «تدبير المتوحد»؛ لأنه لا يوجد فيه حوار بين الأنا والآخر، بل تعامل مع الواقع المباشر.
20
وقد يقصد المؤلف القول، ويكون للعبارة قوة «أقول» مع فعل آخر، مثل: قصد، فرغ، وقف . ويظهر القصد والغرض باعتباره موضوع الفكر. لا يتعامل الفيلسوف مع القول، بل مع القصد، والغرض من القول؛ لذلك يظهر فعل «قصد» واسم «غرض» كثيرا. وقد يضاف إلى القصد ضمير المتكلم المفرد أو الجمع. وقد يعبر عن القصد أو الغرض سلبا بأنه ليس كذا. ويتضح بالتأمل حتى تظهر المعاني القصدية .
21
وتستعمل أفعال البيان في الأزمنة الثلاثة لإظهار القصد، وكذلك تستعمل أفعال الظهور والكشف؛ فغاية البيان الظهور.
ويبدو المسار الفكري وكأنه نظرية في الإيضاح في مشتقات لفظ البيان اسما أو فعلا، في الأزمنة الثلاثة تأكيدا على تواصل المسار الفكري. وقد يكتفي بالجمع بين زمانين الماضي والمستقبل لما كان الحاضر مجرد ممر من الأول إلى الثاني. تكشف كثير من التعبيرات عن المسار الفكري لابن باجه، وعن وحدة مشروعه الفكري. يحيل الموضوع إلى موضوع آخر لمزيد من الإيضاح والتفصيل، يحيل إلى موضوع سابق أو لاحق. ويمكن تصنيف هذه التعبيرات طبقا للزمان أو الموضوع أو العموم والخصوص. وأغلب الإحالات إلى الكتب المعينة في الماضي. ويدل المستقبل على تأجيل تفصيل الموضوع إلى وقت لاحق. ويبدو من المسار الفكري استنباط النتائج من المقدمات في استدلال منطقي. ونظرا لطول العبارة استبدل بها المهندسون العلامات. وتظهر أنماط الاعتقاد من شك وظن ويقين.
22
وتتم الإحالة في الماضي إما إلى مواضيع عامة سابقة، أو إلى كتاب من الكتب المؤلفة سابقا، أو إلى علم من العلوم التي تم التأليف فيها سابقا، أو إلى الموضوع إجمالا أو تفصيلا. وقد تكون الإحالة إلى الماضي في صيغة المبني للمعلوم لأحد مشتقات فعل القول أو بصيغة المبني للمجهول. وأحيانا يظهر أحد مشتقات فعل البديان، وهنا ترتبط الإحالة بنظرية الإيضاح. وتكشف الإحالات إلى أعمال أخرى عن وحدة العمل كله، أو وحدة المذهب الذي يميل إليه ابن باجه في باقي أعماله لمزيد من البيان والإيضاح؛ مما يدل على وجود مشروع فكري عام متكامل لابن باجه. وأكثر ما يحال إليه تدبير المتوحد، ثم رسالة الوداع، ثم كتاب النفس، ثم المقولات والحيوان والنبات. وقد يشير إلى العلم مثل العلم المدني .
23
والإحالة إلى كتاب النفس تأليفا وليس شرحا لأرسطو، فتحول الكتاب من أرسطو إلى الشراح إلى الموضوع أو العلم هو تحول من النقل إلى الإبداع. تكون الإحالة من كتاب النفس إلى النفس انتقالا من الكتاب إلى الموضوع، خطوة في التحول من النقل إلى الإبداع. ويتم نفس التحول عند ابن باجه انتقالا من «كتاب التوحد» إلى «تدبير المتوحد». ويمكن عن طريق الإحالة إلى المؤلفات معرفة ترتيبها الزماني. وواضح أن الإحالات إلى المتأخرة كثيرة ومعتدة. وتدبير المتوحد من أواخر الكتب.
24
ومؤلفات ابن باجه لا تنفصل عن حياته؛ فكره قدره، وعلمه تجاربه، ولا يقتصر ذلك عليه وحده، بل هي سمة عامة عند الحكماء منذ الكندي حتى ابن رشد. الحديث عن النفس، والعلم تجربة. التعاليم الشفاهية بجوار المصادر المدونة، ليس استعراضا ذاتيا أو خروجا عن الموضوعية، بل بيان لنشأة العلم وتكوينه في الشعور. ويكشف التطور الفكري لابن باجه عن اشتغاله أولا بالموسيقى ثم بالفلك. والموسيقى علم رياضي، وكذلك الفلك والهندسة. ويذكر إشبيليا مدينة الموسيقى والغناء؛ مما يدل على الطابع الموروث المحلي للعلم والثقافة والفن، ثم اشتغل بالعلم الطبيعي قدر اشتغاله بالمنطق اعتمادا على الفارابي. وتشمل التجارب الأسفار والأماكن والزيارات؛ فقد كانت المعرفة تأتي من الواقع المباشر في مرحلة التأليف كما أتت من النص في مرحلة النقل، وأتت من العقل الخالص في مرحلة الإبداع. كما ينقد ابن باجه سابقيه ومعاصريه؛ فهو مرحلة من وعي تاريخي، وليس فقط من وعي اجتماعي. يحاور الماضي كما يحاور الحاضر، ويتجاوز الأمر مجرد الطابع الشخصي في التأليف، رسالة إلى صديق أو إلى فيلسوف، الكندي والمعتصم، ابن رشد والأمير، ابن باجه والوزير، ابن سينا والبلخي. يتحد الموضوع بالذات، والذات بالموضوع، والعلم بالتجربة، والتجربة بالعلم. ولا يعيب ذلك البداية الموضوعية بالعلم؛ فالعلم تجربة وحياة، هم بين قصر العمر وطوله. وأهم شيء في السلوك البشري هو الغاية. وهي التي وضعها الحكماء السابقون وأكد عليها أبو نصر. ومع ذلك منعت ندرة كتبه في الأندلس من الاطلاع عليها؛ لذلك يستأنف ابن باجه التأليف، إبداعا لا نقلا ، وذاتيا لا موضوعيا. وإن ما تركه أرسطو في الحادية عشرة من الأخلاق مجمل جدا لا يكفي، وهذا هو دافع التأليف، استكمال ما بدأه القدماء، الوافد أو الموروث، ويشتد هذا الشجن، اللقاء والوداع، في رسالة الوداع. ولا ينفي ابن باجه تعلمه على أيدي المشارقة بالرغم من بعد المشرق؛ فالعلم يتجاوز المناطق والجهات، وإن لم يصبح المشرق رمزا كما هو الحال عند ابن سينا في «منطق المشرقيين»، وابن طفيل في «أسرار الحكمة المشرقية»، أو ابن عربي في «عنقاء مغرب». والفيلسوف موقف معرض للمخاطر. البدن رقيق، والإنسان وصحبه يستطيع به الأسفار والتحرك واللقاء. ومع ذلك، الأخطار محدقة، أخطار سياسية واجتماعية، وإغراءات دنيوية.
ولأن العلم تجربة حية يخاطب المؤلف القارئ؛ فالتأليف عمل مشترك، رسالة متبادلة بين المعطي والمستقبل. وفي مخاطبة القارئ يظهر قول المؤلف كما تظهر غايته وقصده حتى البيان والإيضاح، وهو القارئ العادي، دعوة له للمشاركة في نفس التجارب والتأمل في النفس للانتهاء إلى نفس النتائج مع غاية الأدب والاحترام له، وكأن ابن باجه يعبر عقليا عن آية
وفي الأرض آيات للموقنين * وفي أنفسكم أفلا تبصرون .
25
ويقوم الفن الشعبي أيضا على تجربة مشتركة بين الفنان والمشاهد، مثل قراءة القرآن، كتجربة جمالية مشتركة بين المقرئ والمستمع. ويترك للقارئ الاختيار بين طريقين؛ طريق الكمال المادي بالآلات واليسار، وهو كمال العبيد حتى ولو كان الإنسان حرا، وهو كمال وهمي وإن بدا في الظاهر كمال الصحة، هو كمال الفضائل الشكلية التي يخضع فيها الإنسان لمدبر آخر سواه، فيخرج عن مرتبة الإنسانية إلى مرتبة أشرف الحيوان غير الناطق، كالأسد في الجرأة. وقد يحدث الكمال بالصناعات العملية لخدمة إنسان آخر بتوسط مثل الأعداد للخيل، أو دون توسط كالكلب. والأفضل الكمال النفسي وبالذات، وهو أشرف مراتب الكمال، عندما تستمد الذات وجودها من ذاتها. وهذا هو طريق الحكماء السابقين واللاحقين في وعي تاريخي متصل، من الأنبياء إلى الحكماء، دون تجريح للقدماء أو غلق باب الاجتهاد على القادمين. هو خطاب لمن هو أهل له، اعتراف من حكيم إلى حكيم، وتوجيه من شيخ إلى مريد. وينتهي الخطاب بآية قرآنية مرسلة عن هذا الوعي التاريخي من السلف إلى الخلف، من رضي الله عنهم ورضوا عنه، وفازوا بالفوز العظيم، طريق التأمل متصل قبل ابن باجه ومعه وبعده. يشير ابن باجه إلى معاصريه ولمن لديهم الفطرة على السير فيه. قد يكون القارئ متميزا، وزيرا مثلا ، ومريدا طالب الحكمة مع الدعاء له بطول العمر والبقاء والعزة والعافية. يخاطب المؤلف القارئ، ويجعله طرفا في عملية الفكر في تجربة حضارية مشتركة، ومشاركة المؤلف القارئ ودعوته له تجعل القارئ يكتشف الحقيقة بنفسه استجابة لدعوة المحبة والود والدعوة لطلب الكمال واقتناء الفضائل. وأفضل علم ما تم نقله شفاهيا من الشيخ إلى المريد؛ فإن تعذر لقاء الأبدان يكون لقاء الأرواح عن طريق التدوين. إذا عزت الأذن حضرت العين. وأحيانا يكون العلم استيضاح المدون، سواء من المؤلف أو القارئ؛ مما يتطلب تغيير ترتيب العبارة والأسلوب على نحو أفصح؛ لذلك يشرح المؤلف لمزيد من الإفهام، ويرسل إلى القارئ المدون نفسه؛ فالعلم تبادل، بل إن المؤلف يسمح للقارئ بأن يحسن العبارة ويجعلها أكثر فصاحة وأنصع أسلوبا؛ فالقضية واحدة، والهدف مشترك. العلم إذن على ضربين؛ صناعي وطبيعي. الصناعي ما يتعلمه المتعلم من الآخرين، والطبيعي ما يكتشفه المعلم بنفسه. الأول داخل للنقل، والثاني خارج للإبداع. والعلم مشقة ومعاناة، ممكن بالرغم من زحمة الحياة وضيق الوقت وقصر العمر. العلم هداية من الله وتوفيق منه. فالمتعلم ليس فقط في حاجة إلى الصدق الإلهي لأن العلم كله من الله، وهو أسلوب التأليف منذ الكندي بالرغم مما في الأسلوبين من عجمة لغوية وألفاظ عربية قديمة لم تستمر؛ ربما لأنه أول فيلسوف بالمغرب، مثل الكندي أول فيلسوف في المشرق.
ولا يقل دور الناسخ عن دور القارئ في صياغة النص؛ فالناسخ هو الذي يقدم النص، ويقطعه إلى فقرات، كل منها مسبوق بقال فلان بكنيته أو بلقبه.
26 «قال» «يقول» عادة من الناسخ؛ لأنه جزء من الحضارة، وينتمي إلى النص، ويعتبر نفسه مسئولا عنه مسئولية المؤلف. يتم ذلك مع الموروث والوافد. تعبير «قال أرسطو» لا يدل على تبعية لأرسطو أو تقليد لأقواله، بل هي عادة تقطيع النص إلى وحدات صغرى طبقا للموضوعات. هو عمل إبداعي يدل على فهم تفصيلات الموضوع بتعبير المغاربة المحدثين. وقد يقوم الناسخ بإضافة مقدمة أو خاتمة قبل فعل القول. ويشعر الناسخ بأن ابن باجه مفكر مسلم ينتمي إلى الحضارة الإسلامية ، فيطلب رضا الله عنه. وهو يقطع كلامه في بداية المقال وفي نهايته مع البداية بالبسملة، والدعوة بالتوفيق من الله، والنهاية بالحمدلة والترحم عليه.
ثالثا: المجوسي، وابن البيطار، والطوسي، والفارسي، وابن الألعاني
(1) المجوسي
كامل الصناعة الطبية، ويسمى أيضا «الملكي»؛ لأنه مهدي لعضد الدولة كما هي العادة في أمهات التآليف.
1
وللمؤلف عدة ألقاب، ومع ذلك فهو المتطبب؛ أي الذي يمارس الطب دون أن يكون بالضرورة حكيما؛ فالطب فرع من الطبيعيات من علوم الحكمة.
2
ويتكون من جزأين؛ الأول في الطب النظري، والثاني في الطب العملي. الأول في فلسفة الطب باعتباره من الطبيعيات؛ لذلك تتضمن مقالاته العشر المفاهيم الطبية الرئيسية، مثل القوى والأفعال والأرواح والعلل والعلاقات والتمييز بين ما هو طبيعي وما هو خارج عن الطبيعي، وطرق الاستدلال.
3
والثاني في الطب العملي؛ أي في العلاج والأدوية. وهنا تتغلب الأدوية المحلية العراقية والفارسية والهندية والبابلية، كما تقل الإحالة إلى أسماء الأعلام من الموروث أو الوافد، وهو أكبر من الأول من حيث الكم؛ لأنه تجميع أكثر منه تنظيرا.
4
وبالرغم من الطابع الشمولي للكتاب وتفصيلاته الشديدة إلا أنه يحيل إلى السابق ويذكر به، ويعد باللاحق ويوعد به.
5
ويغلب زمن الماضي على الحاضر والمستقبل. وأيضا يبين الفكر نفسه بغية الوضوح؛ لذلك تكثر أمثال عبارة «وقد بينا» و«قد شرحنا».
6
كما تستعمل أفعال القول في ضمير المتكلم «فنقول»، «فأقول»، «قلنا»، في أقل القليل. ومعظم الفقرات تبدأ بالأشياء، العلل والأسباب.
7
ويعتمد الملكي على بعض الاقتباسات تنتهي بعبارة «انتهى» التي تعادل قفل القوسين عند المحدثين.
8
ويخاطب القارئ من المتخصصين في صيغة «اعلم ذلك»، وتكثر في الطب النظري عن الطب العملي، أو في صيغة «افهم».
9
وفي التصدير يصف المجوسي الحالة الراهنة للطب في عصره؛ فأبقراط إمام الصناعة، حوى كل شيء في كتاب «الفصول» إلا أنه سلك طريق الإيجاز حتى غمض كثير من معاني كلامه مما يحتاج إلى تفسير. وجالينوس مقدم فاضل وضع كتبا كثير، ولكنه طول وكرر وجادل وعارض؛ مما يحتاج إلى اختصار وتركيز في كتاب واحد يوفي بغرض الصناعة. ولا يوجد كتاب وسط بين التفريط والإفراط إلا «الملكي». وأوريناسيوس قصر في كتابيه لابنيه ولعوام الناس؛ فلم يذكر شيئا من الأمور الطبيعية والأسباب، وكذلك لم يذكر قوليوس في كتابه من الأمور الطبيعية إلا اليسير، وبالغ في بيان الأسباب والعلامات وأنواع المداواة والعلاج باليد، دون أن يتبع طريق التعليم. هذا في الوافد.
وأما المحدثون، أي في الموروث، فلا يوجد إلا كتاب هارون الذي وضع فيه كل شيء، ولكن على طريق الإيجاز من غير شرح واضح. وترجمته سيئة تعمي على القارئ كثيرا من المعاني، خاصة من لم ينظر في ترجمة حنين؛ فكتاب هارون وافد أصبح موروثا. ولم يذكر سرابيون في كتابه إلا المداواة والتدبير، وأسقط العلاج باليد، وترك كثيرا من العلل، ووضع مسيح كتابا مثل هارون، ونحا نحوه في قلة شرح الأمور الطبيعية وغير الطبيعية، مع سوء وقلة معرفته بالكتب السابقة. وهذه مرحلة متوسطة بين النقل والإبداع، مرحلة تأليف الأطباء السريان باليونانية أو السريانية.
ثم بدأت مرحلة التأليف عند الرازي في كتابة «المنصوري» حاويا كل شيء، إلا أنه لم يستقص شرح ما ذكره، واستعمل طريقة الإيجاز والاختصار، ووضع في «الحاوي» كل شيء إلا أنه لم يذكر شيئا من الأمور الطبيعية ولا وجوه التعاليم. وتعني الأمور الطبيعية المسائل النظرية كالأمزجة والأخلاط والأسطقسات، ونقصه الترتيب إلى جمل وأبواب وفصول، ولا أورد ما يوجبه القياس. وجاء عائق الموت قبل إتمامه، مع أنه طول فيه بغير حاجة، جمع فيه ما قاله الأطباء، قدماء ومحدثين.
10
وكرد فعل على هذه الحالة الراهنة للتأليف الطبي في عصره بين الإطناب والإيجاز، وبين النظرية والممارسة، وبين الوضوح والغموض، أتى «الملكي» جمعا بين الطرفين، بالإضافة إلى الاعتماد على الطب المحلي في العراق وفارس، وليس فقط على طب اليونان.
11
ويحدد «الملكي» مناهج البحث الطبي، أي النحو التعليمي، عن طريق القسمة؛ لأن أنحاء التعليم خمسة: التحليل بالعكس، التركيب، الحد، الرسم، ثم القسمة. فالتحليل بالعكس يقوم على وصف الشيء في الوهم من أوله إلى آخره، وهو التحليل، ثم من آخره إلى أوله، وهو العكس. والتركيب هو إعادة جمع الأشياء التي تم تحليلها في الطريق الأول. والحد هو تصور الشيء ووضعه في أجناسه وأنواعه وفصوله. والرسم هو وصف الشيء من أعراضه دون جوهره؛ أي من كيفياته دون ذاته. أما طريق القسمة فهو قسمة الشيء إلى سبع جهات، قسمة الجنس إلى أنواع، وقسمة النوع إلى أشخاص، وقسمة الكل إلى الأجزاء، وقسمة الاسم المشترك إلى معان مختلفة، وقسمة الجواهر إلى أعراض، وقسمة الأعراض إلى جواهر، وقسمة الأعراض إلى أعراض.
12
وتتم مخاطبة القارئ بصيغة «اعلم» لمشاركته في العلم؛ فهو يكتب للمتخصصين. وتتخلل الكتاب بعض الرسوم التوضيحية للآلات الطبية، مزيدا في الإيضاح.
13
ويتعادل فيه تمثل الوافد مع تنظير الموروث؛ ففي الوافد يتصدر أبقراط، ثم جالينوس، ثم أوريناسيوس، ثم فولس وأنطات وقولبيوس وأرسطو. ومن الشرق أنوشروان.
14
وغالبا ما ترد أسماء الوافد في التسميات والمصطلحات، وكأن المجوسي يعرف المسميات ويريد فقط إطلاق الأسماء عليها. ولما كانت الأسماء والمصطلحات في الغالب يونانية عند أطباء اليونان تمت الإحالة إليهم؛ فالكتاب تأليف في الموضوع أي الطب، وليس شرحا أو تلخيصا أو جوامع لطب اليونان. ومع ذلك تظل الأسماء قليلة بالنسبة لحجم الكتاب، وكأنه أقرب إلى الإبداع منه إلى التأليف.
ومن المؤلفات يذكر كتاب «الفصول» و«حفظ الصحة»، ولأبقراط كتاب «تقدمة المعرفة». ويحال إلى «القدماء من الأطباء» إحساسا بتطور علم الطب من القدماء إلى المحدثين. ولا يذكر ديسقوريدس لأنه لم يكن قد تمت ترجمته بعد. ويستشهد بكسرى أنوشروان على أهمية العلم. فإذا كان النقل من الغرب اليوناني، فالوجدان في الشرق الفارسي.
15
ومن الموروث يتصدر بطبيعة الحال اسم المؤلف على ابن العباسي المجوسي، ثم أستاذه أبو ماهر موسى المجوسي، ثم عضد الدولة الذي كتب له المجوسي كتابه «الملكي»، والكندي وهارون ، ثم حنين بن إسحاق، وإسحاق بن حنين، ويوحنا بن سرابيون، ومسيح، والرازي، ويحيى النحوي، ومحمد، عليه السلام.
16
وواضح أن الأطباء السريان كانوا مرحلة متوسطة بين النقل والإبداع بالتأليف في المنقول باليونانية أو السريانية أو العربية. ولا يذكر الكندي إلا في العلاج، وكأنه ليست له نظريات في الطب.
17
ويظهر الموروث أكثر في تصور العالم أكثر من أسماء الأعلام؛ فالطبيعة من خلق الله، وعلم الطب هو الكاشف عن الخلق، كما أن علم الطبيعة في الكلام هو الكاشف عن حدوث العالم. ويبدو الخلق في التصور الوظيفي للأعضاء؛ فكل شيء في البدن من أجل وظيفة، والوظيفة هي الغاية، وهو ما يسميه علم الكلام العناية؛
18
لذلك كان الطب أكرم صناعة كرم الله بها - عز وجل - خلقه؛ فقد خلق ما خلق من أجل الإنسان؛ لذلك تكثر تعبيرات «الله أعلم»، «الله تعالى أعلم»، خاصة في الطب النظري، وتعبيرات «بإذن الله تعالى» في الطب العملي.
19
ويبدأ الكتاب بحمد الله والثناء عليه والشكر له، خالق الخلق بقدرته، وباسط الرزق بحكمته، والمنان على عباده بفضله، والمعطي لهم ما يقدرون به على إصلاح معايشهم في الدنيا والفوز في الآخرة. هو العقل سبب كل خير، ومفتاح كل نفع، والسبيل إلى النجاة، وفضله على سائر ما خلق من نبات وحيوان.
20
وتنتهي كل مقالة ب «حمد الله وعونه»، و«الله الموفق للصواب»، وغيرها من العبارات الإيمانية التي قد تطول وتقصر. وتغلب الإيمانيات أيضا على المصحح، وذكر التاريخ الهجري. وتظهر البسملة وسط الكتاب في بداية بعض المقالات.
21
وهو أيضا مهدى إلى السلطان لدرجة تسمية الكتاب الملكي.
22
والسلطان والعالم قديما الذي يشجع العلم والعلماء زينة البلاط خير من السلطان الجاهل حديثا الذي يزين مجلسه بضباط الجيش والشرطة. (2) ابن البيطار
واستمر تمثل الوافد مع تنظير الموروث في القرون المتأخرة، السابع والثامن، في الطب والرياضيات. مثال ذلك «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية» لابن البيطار (646ه).
23
وغرض الكتاب استيعاب القول في الأدوية المفردة والأغذية المستعجلة في الاحتياج، وإسناد الأقوال لأصحابها، وإثبات صحة النقل فيما ذكره الأقدمون والمتأخرون، وتصحيح ذلك بالمشاهدة ، كما سيكرر ذلك ابن خلدون في التحقق من روايات السابقين في أول «المقدمة»، واستبعاد التكرار إلا عند ضرورة البيان، والترتيب الأبجدي لسهولة المعرفة، والتنبيه على الأغلاط في الدواء والمراجعة والتصحيح، وذكر أسماء الأدوية بسائر اللغات وأماكنها، بالبربرية واللاتينية، وهي أعجمية الأندلس المشهورة عند العرب، وموجودة في الكتب، وتشكيل الأسماء منعا للخطأ؛
24
لذلك سمي «الجامع» بين الدواء والغذاء. جمع فأوعى، واختصر فاستقصى. وهو مجرد قاموس طبقا للحروف الأبجدية، مثل تفسيره للأدوية المفردة لجالينوس. وقد تختلط أسماء الأدوية وأسماء الأعلام نظرا لأن كثيرا من أسماء الأدوية منسوبة إلى أصحابها. واسم المؤلف نفسه مشتق من اسم المهنة، البيطار من البيطرة. ونظرا لكثرة التعريب يصعب التمييز بين اسم الدواء واسم الطبيب؛ فكلاهما يوناني. ويستمر الكتاب على وتيرة واحدة كالقاموس لا يقرأ كليا، بل يستفاد منه جزئيا وحين الحاجة.
ويحيل ابن البيطار إلى مؤلفه الآخر؛ مما يوحي بوحدة عمله.
25
ولا تظهر في الكتاب أفعال القول كثيرا؛ لأن المادة العلمية، خاصة أسماء الأدوية، لا يقولها أحد. ويذكر الموروث راويا للوافد في رواية مزدوجة كما هو الحال في التناص في الأدب، مثل «قال الرازي قال جالينوس».
26
وقد بدأت في القرن السابع حركة تأليف الموسوعات وتجميع المعلومات؛ فالذاكرة تنشط عندما يهن العقل؛ لذلك غلب على الكتاب التجميع في عصر المدونات والموسوعات في الأندلس وقت الضياع، كما حدث في المشرق إبان الحكم العثماني.
وللتجميع مصادر متعددة مدونة وشفاهية مع بعض الاقتباسات لتعريف أسماء الأدوية دون تحليل.
27
وأحيانا لا يذكر المصدر ويكتفي بفعل القول في المبني للمجهول «قيل». وتذكر بعض كتب الرحلات العلمية، مثل «الرحلة المشرقية».
28
وأحيانا يذكر الكتاب، وأحيانا الكتاب وصاحبه، وأحيانا المؤلف فقط؛ ما يدل على التأرجح بين العمل وصاحبه.
لذلك غابت الدلالة وقل الفكر؛ نظرا لأن التيارات الفكرية كحركة في التاريخ قد ضعفت أو توقفت. العلم هو تجميع المعلومات، وفي الطب بوجه عام، مع بعض التصحيحات والزيادات بناء على التجربة والقياس. ومن كثرة التجميع لا يكاد يظهر تعليق على منقول. و«كتاب التجربتين» مشهور في عصره.
والوافد في العمق، والموروث في الاتساع؛ فمن الوافد يتصدر ديسقوريدس، ثم جالينوس، ثم أرسطو، ثم بديقورس، ثم أبقراط، ثم بولس، ثم روفس، ثم هرمس، من مجموع ثمانية وعشرين علما يونانيا.
29
ومن أسماء الكتب يحال إلى عشرات.
30
ويذكر اليونانيون واليونان واللغة اليونانية، ثم اللاتينية والرومية، ثم أنطاليا، ثم لينوس، وعشرات من البلدان من البيئة اليونانية.
31
أما الموروث، فيتصدر الرازي مع بعض كتبه، مثل «الحاوي» و«المنصوري» و«دفع مضار الأغذية»، ثم الغافقي، ثم ابن سينا، ثم الشريف الإدريسي، ثم إسحاق بن عمران، ثم أبو حنيفة الدينوري، ثم ابن ماسويه، ثم عيسى بن ماسة، ثم التميمي، ثم علي بن ربن الطبري، ثم حبيش، من حوالي سبعين اسما.
32
ومن أسماء الكتب العشرات.
33
وفي البيئة الجغرافية تأتي الأندلس، ثم الهند، ثم مصر وفارس، ثم المغرب وأفريقيا، ثم الصين، ثم البربر وفلسطين والترك، ثم قبرص وعشرات من الأماكن الصغرى.
34
ولا يوجد إحساس قوي بالتمايز بين الوافد والموروث بعد أن أصبح الوافد موروثا، كلاهما علم يتم تجميعه بصرف النظر عن مصدره ونشأته. وأحيانا تظهر بعض الأسماء التي كانت معروفة في عصرها ولكن شهرتها لم تستمر مثل باقي الأطباء الكبار، وأحيانا يذكر اللقب دون الاسم تحولا من العالم إلى العلم.
من الوافد يمدح حنين بن إسحاق لأنه كان مدققا في علمه بلغة اليونانيين، وهو من أفضل النقلة فيها، إلا أنه لم يثبت في هذا الموضع، فزل بذلك جميع من أتى بعده من علماء عصره. وتكثر أعلام الوافد والموروث لدرجة أنه تقل عدد الصفحات الخالية منها. وأحيانا يذكر اسم العلم واحدا مثل مسيح، وأحيانا كاملا مثل مسيح بن الحكم. وقد ذكر أرسطو راويا عن آخرين.
35
ويظهر هرمس في الطب وليس فقط في الحكمة، وكأنه شخص حقيقي؛ مما يدل على التحول من الأسطورة إلى الشخص، ومن الشخص إلى الأسطورة.
36
ويكثر حضور مصر والمشرق في المغرب على عكس المغاربة المحدثين أنصار القطيعة المعرفية، ومصر هي حلقة الاتصال بين المشرق والمغرب. كما يكثر حضور آسيا بالرغم من بعدها. ويعظم حضور الهند وفارس الجناح الشرقي للحضارة الإسلامية.
كما يحضر الجنوب، أفريقيا، ويكثر الحديث عن البربر، كما هو الحال عند ابن زهر وابن خلدون دون أدنى حرج كما هو الحال في هذه الأيام. كل ذلك يؤكد وحدة العالم الإسلامي كحضارة، وفي نفس الوقت ظهور الخصوصيات الإقليمية في الطب الجغرافي أو الجغرافيا الطبية. علم مرتبط بالواقع البيئي المحلي، سواء في الوافد أو في الموروث. وقد يظهر ذلك سلبا، مثل غياب الدواء في منطقة جغرافية بعينها مثل المغرب أو الأندلس، ويتم الحديث عن الفلاحة الفارسية، وهو غير الفلاحة النبطية.
37
ولا يظهر ابن رشد كثيرا إما لنكبته وضياع كتبه ولأنه لم يعش في التراث التالي له، وإما لأن هذا هو أثره الفعلي في التاريخ، وإن تضخيم دور ابن رشد إنما كان من أثر الرشدية اللاتينية والفكر العربي المعاصر تبعية للاستشراق وهجوما على الجماعات الإسلامية المعاصرة باسم التنوير.
38
والعجيب أن ابن زهر أكثر ذكرا منه، وهو الذي قدمه ابن رشد وطلب منه تأليف كتابه «التيسير».
وأحيانا يقع التقابل بين الأنا والآخر، بين نحن وهم،
39
هو يقول وأنا أقول. وهناك إحساس بتطور العلم وتغير الزمان من الطب القديم إلى الطب الحديث،
40
بل يتطور المؤلف نفسه من مرحلة الشباب إلى مرحلة الكهولة، ويذكر الكندي الذي يكاد يتوارى في التراكم الفلسفي.
41
وقد تغير الوافد القديم من اليونان إلى الوافد الحديث من الغرب؛ أي الإفرنج إيطاليا وفرنسا شمال العالم الإسلامي. فيتحدث ابن البيطار عن بلاد الإفرنج كما سيتحدث ابن خلدون فيما بعد؛ فقد بدأت الحروب الصليبية، وعرف السلمون حضارة الشمال.
42
ويذكر ابن البيطار أسماء المدارس الطبية المختلفة، مثل أصحاب القياس وأصحاب التجربة، وعلى أساسها يقوم تصحيح الأقوال التي تبدأ بلفظ «زعم»؛ لذلك يقول بعد وصف الدواء: «وهو مجرب.» وربما ترجع أخطاء الأقوال عن المفسرين والشراح اللغويين غير الأطباء.
43
بالإضافة إلى ذلك هناك أيضا دراسة الحالة التي تقوم على مشاهدة؛ لذلك يقول: «ورأيته بحد البصر.»
ومن ثم يقوم ابن البيطار بتحليل الموضوع، وهو الأدوية، على مستويات ستة: الدواء، واسمه معرب أو منقول، ولغته يونانية أو لاتينية، وآثاره، أي علاجه، وطرق معرفته التجربة أم النقل، وأماكن وجوده في الشرق أو المغرب أو في بلاد الإفرنج.
وبطبيعة الحال تبدو بعض العبارات الإيمانية من خلال الكتاب بالرغم من قلتها بالنسبة لهذا العصر المتأخر الذي تزداد فيه نظرا لتغلغل الأشعرية والتصوف في الثقافة الشعبية، وربما لأنه مجرد قاموس. تبدأ الأجزاء بالبسملات وتنتهي بالحمدلات. ويستعمل أسلوب القرآن الحر، مثل: لقد جئت شيئا فريا. ويتدخل الله كعلة فاعلة للأمراض والعلاج والشفاء؛ فهو الذي خلق بنية الإنسان، وسخر له ما في الأرض من جماد وحيوان ونبات، وجعلها أسبابا لحفظ الصحة وشقاء الدار. وبعض الأدوية تم الإرشاد إليها في المنام. وكل شيء بمشيئته وإذنه. وقد ذكر الله البقل في القرآن، وأشاد به الشعراء. وتعرف الخليل بن أحمد على الموز في القرآن. وتتم دعوة الله أن يحفظ البلاد،
44
الأندلس، ويعيدها إلى الإسلام بكرمه،
45
إما الجزيرة كلها أو ما ضاع منها في الشرق؛ فالكتاب يحمل «هموم الفكر والوطن». ويخاطب القارئ؛ فالعلم تجربة مشتركة بين المؤلف والقارئ. ولا يمنع ذلك من طلب التأليف بأمر من السلطان.
46 (3) الطوسي
وفي القرن السابع الذي حمل لواءه الفكر الشيعي في العلوم الطبيعية والرياضية والأخلاقية، يمثل «التذكرة في علم الهيئة» لنصير الدين طوسي (672ه) نموذج التعادل بين الوافد في العمق والموروث في الاتساع؛
47
فمن الوافد يتصدر بطليموس، ثم أرشميدس وإقليدس فحسب. ومن الكتب يتصدر المجسطي، ثم السماء والعالم.
48
ويبدو ارتباط الطوسي ببطليموس شارحا مسار فكره، يدخل فيه ويعلل اختياره أحد الاحتمالين، ثم يتجاوزه إلى ابن الهيثم المتمم له. والحقيقة أن بطليموس هو شارح السيوطي، وارتباط السيوطي به مجرد ارتباط الجديد بالقديم، مثل ارتباط الإسلام بالمراحل السابقة للوحي، المسيحية واليهودية، تطويرا وإتماما لها.
49
ولما ارتبط الفلك بالهندسة تم الاعتماد على أرشميدس ومصادراته لبيان مساحة الدوائر بالتقريب وعلى إقليدس لبيان نسبة الكر إلى الكره، هدفه تنقيح بطليموس من سوء الترجمة والشروح، و«المجسطي» نفسه مجرد رواية عن الفلك القديم في حاجة إلى برهان.
50
لم يتوقف شرح الوافد والتأليف فيه في هذا العصر المتأخر، بل ظهر في نوع أدبي جديد هو التحرير؛ أي إعادة الكتابة والعرض.
51
ومن الموروث يتصدر ابن سينا وابن الهيثم، ثم البيروني والرازي الطبيب والمأمون. ومن البلدان جزائر الخالدات، ثم الحبشة والمغرب ومكة، ثم الأندلس وبرية سنجار والشام ومصر. ومن البحار والخلجان البحر الغربي، ثم البحر النوبي وبحر خوارزم وبحر طبرستان وبحر درنك والخليج الأخضر والخليج الأحمر والخليج البربري وخليج فارس. ويبين الخلاف بين ابن سينا والرازي تطويرا للتراث الفلكي الموروث، ويستأنف أحكامهم مثل حكم ابن سينا على بقعة بأنها من عزل البقاع، وتفسير الرازي ذلك بأنه تشابه الأحوال لأنها في خط الاستواء. كما يعتمد على ابن الهيثم ومؤلفاته، وعلى البيروني وطرقه في معرفة مساحة الأرض. ويذكر طائفة من الحكماء في عهد المأمون.
52
وفي نفس الوقت ينقد علم التنجيم وخرافات المنجمين وأهل الطلسمات ومزاعمهم وإسقاطاتهم البشرية على الأفلاك: الدب والتنين والهواء والدجاجة والعقاب والأرنب والكلب والغراب والسبع والحية والفرس.
53
وقد يكون الدافع على تأسيس علم الهيئة هو التوجه القرآني نحو الطبيعة
تبارك الذي جعل في السماء بروجا ، والتأمل في السماء والأرض؛ فعلم الهيئة مرقاة منصوبة إلى السماء العليا. كما يرتبط في تطوره بالفقه ومعرفة مواقيت الصلاة والصيام والحج. وقد يكون الدافع على الإبداع فيه الرغبة في التنبؤ بحوادث المستقبل، وتحويل التنجيم إلى فلسفة في التاريخ من أجل التنبؤ بقيام الدول وسقوطها. كما تظهر صفات الله مستمدة من علم الهيئة، مثل فاطر السماوات والأرض فوق الأرضين. ويبدأ النص بالبسملة وينتهي بالحمدلة لله مفيض الخير وملهم الصواب، والصلوات على محمد المبعوث بفصل الخطاب، وعلى آله خير آل، وأصحابه خير أصحاب. ويذكر علم الهيئة لبعض الأحباب، ويدعو لهم بتمام التوفيق وحسن المآب.
وقد ارتبط الطوسي بهولاكو، وانقسم إلى حاشيته، كما ارتبط ابن خلدون بتيمورلنك. وأسس له هولاكو مرصد مراغة، ولم يكتف بمجرد الدعوة لله والسلطان. (4) الفارسي
ومع الطب ازدهر الحساب في إيران عند الشيعة في القرون المتأخرة التي ظن أهل السنة أن الفلسفة قد انتهت عند ابن رشد في الأندلس. مثال ذلك «أساس القواعد في أصول الفوائد» لكمال الدين الفارسي (718ه)، مع شرح ابن الخوام البغدادي من نفس القرن،
54
وهي موسوعة رياضية مثل طابع الموسوعات في هذا العصر حفاظا على التراث وتدوينه من الذاكرة. تتضمن علم الحساب في العاملات وقوانين البيوعات، وفي أنواع المساحات للسطوح والمجسمات وعلم الجبر والمقابلة وكيفية استخراج المسائل به. من شرح الوافد يتصدر إقليدس، ثم أرشميدس المجسطي، وتاوذوسيوس، وفيثاغورس.
55
ففي كتاب إقليدس عن الأصول ومبادئ براهينها حوالي مائتي شكل ورسوم توضيحية، جعل مبدأ العدد الوافد. بين وسمى ووضح ما يعرف الطوسي. ويذكر اسم قشا، وهو مهندس أراد معرفة مساحة أحد الأشكال. وقال بالكسور. وتستعمل أفعال البيان مع أرشميدس. وتذكر أكر تاوذوسيوس. وقد وصل العرض إلى درجة عالية من التجريد والتجميع تكشف عن فقد الدافع الحيوي في الإبداع بالرغم من وضوح مسار الفكر، ومخاطبة القارئ، وشرح الغامض، وإضافة كثير من الجداول التوضيحية، واستعمال أفعال البيان في الأزمنة الثلاثة.
56
ويتم استعمال القياس؛ أي النظر والاستدلال، ولا يأتي الاستقراء إلا استثناء من القاعدة.
ومن الموروث تذكر الآيات، ثم بنو موسى، ثم الرسول، ثم الكرجي، ثم علمان، أبو طالب، وعشرات آخرون.
57
وتدل الآيات على الحساب الدقيق من الله وتأسيس علم الحساب بتوجه قرآني.
58
وكلها في سياق واحد، الحساب الدقيق فعل إلهي. وعرضه علي بن أبي طالب بداهة. ويستعمل الموروث مثل أبي موسى في كتاب «معرفة الأشكال البسيطة والكرية» لشرح الوافد، ومعه الكرخي في كتابه «الكافي في مساحة ذوي الأضلاع الكثيرة»، وأبو يونس الموصلي والمسعودي، وهناك أيضا نقد متبادل في الموروث، مثل نقد الموصلي الكرخي بأنه أخذ أمرا جزئيا واستعمله مكان أمر كلي، واستعمل الشعر كوسيلة للتعبير عن الحساب عودا إلى المخزون العربي القديم.
59
ويستلهم السري الرفاء والسموءل وعروة بن الورد والمتنبي وآخرين. ويتصف الله بصفات حسابية؛ فهو الذي لا يعده عد أو الطبيعة، وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده، وتظهر الصور القرآنية في الأسلوب، مثل
آنست نارا . وبالرغم من الطابع التجريدي للنص إلا أنه يكشف عن حياة المؤلف ومراحل عمره؛ فالعلم في القلب والروح. وكما بدأ النص بالبسملة فإنه ينتهي بالحمدلة والصلوات على الرسول.
60 (5) ابن الألعاني
وفي القرن الثامن يمثل «غنية اللبيب عند غيبة الطبيب» للألعاني (749ه) عودا إلى الطب.
61
من الوافد يتصدر أبقراط كبير الأطباء، ثم جالينوس فاضل الأطباء، ولا يوجد موروث إلا التصور الديني للخلق؛ فقد خلق الله الإنسان في أحسن تقويم، وخلق بدن الإنسان من أعضاء متوازنة وأمشاج متعادلة وقوى ظاهرة وباطنة، وخص كل واحد بما لم يخص الآخر بناء على مبدأ التفرد الشخصي. والعلاج قوة أودعها الله البدن في حال صحته، كافية شافية في دفع المرض؛ لأن الأدوية لا تعالج الأمراض، بل تساعد الطبيعة. وإذا ظهرت للطبيعة حركة إلى جهة قصد نحوها كما هو معروف في العلاج الطبيعي. ويبدأ النص بالبسملة وينتهي بالحمدلة، وكل شيء بهدى الله وتوفيقه، والصلاة والسلام على من بشر به المسيح بعد الكليم.
62
رابعا: داود الأنطاكي، والقليوبي، والمنذري
(1) داود الأنطاكي
وقد استمر هذا النوع الأدبي حتى القرن العاشر في: (أ) «تذكرة أولي الألباب والجامع للعجب العجاب» لداود الأنطاكي (1008ه)، والمشهور باسم «تذكرة داود»، والذي أصبح في الثقافة الشعبية دليلا على الشفاء، وفي الثقافة العالمة مؤشرا على الجهل والخرافات والطب غير العلمي والوصفات الشعبية، مع أنه صورته في التاريخ هو الحكيم الفيلسوف الماهر الفريد، الطبيب الحاذق الوحيد جالينوس، أو أنه وأبقراط زمانه، العالم الكامل، الهمام الفاضل الشيخ داود الضرير الأنطاكي، «نفعنا الله بمؤلفاته، آمين».
1
فهو الجامع بين الموروث والوافد، وهو طبيب ضرير. الجزء الثالث من عمل تلاميذه كتعليق، وهو المملوء بالطب النبوي والطلاسم، والذي طغى على جزئي الأستاذ لما فيه من إغراء شعبي وإغواء للناس.
2
والدافع على التأليف الجمع والإحصاء والحفظ والتدوين في عصر الموسوعات في القرون المتأخرة، وفي نفس الوقت إعطاء مختصر وليس مطولا طبقا لهموم قصر العمر.
3
وقد يكون الدافع هو الوطن، ووضع الطب بين أيدي المسلمين بعد أن كان بأيدي اليهود، وهو أشبه بالقاموس مثل «القانون في الطب» لابن سينا، «في الأدوية المفردة والحشائش» لديسقوريدس، و«جامع مفردات الأدوية» «لابن البيطار». وتذكر أحيانا المصادر التي يتم منها التجميع، مثل الفلاحة النبطية، وإرشاد اللبيب، جمعا بين رجوع الشيخ إلى صباه، شرح الأسباب، شرح القانون، ويضم أربعة أبواب معظمها يبحث في الكليات والقوانين، القانون لابن سينا، والكليات لابن رشد. الأول كليات العلم، والمدخل إليه لتصنيف العلوم، والثاني قوانين الإفراد والتركيب، والثالث المفردات والمركبات، والرابع الأمراض وعلاجها، وهو أكبر الأبواب، والخاتمة نكت وغرائب ولطائف وعجائب للتشويق، والتي طورها التلاميذ. وهو أفضل النصوص المتأخرة في علم المتقدمين. ومن هنا أتت شهرته عند العلماء، وكل مسألة عملية لها مقدمة نظرية. هناك البنية قبل الأبجدية.
4
وتنقسم العلوم طبقا لمناهجها إلى قسمين؛ الأول بالفيض والإلهام، والثاني بالتجربة والقياس. والطب من النوع الثاني. كما تتقسم من حيث تعلمها إلى ضرورية ومكتسبة، والطب من النوع الثاني. فالطب جزء من نسق عام للعلم، مرتبط بعلم النجوم والجغرافيا والأخلاق، يقوم على مقدمات نظرية فلسفية كلامية أولى قبل أن يكون علما عمليا للممارسة والعلاج؛ لذلك ارتبط الطب بالفلسفة الأولى.
وهو ينقد أطباء العصر وينعتهم بالجهل، ويقيم الطب على التجربة والقياس؛ لذلك يكثر تعبير «ومن المجربات». ويقيم طب السابقين مثل الرازي، يقبل ما هو أصح عنده ويرفض استدلالات إذا كانت صورة القياس باطلة. ومع ذلك سادته بعض الخرافات للربط بين الطب والفلك في صورة التنجيم، خاصة لو كانت البداية بنظرية الفيض. والاعتماد على الأفلاك للشفاء عجز عن فهم الأمراض وعللها وأدويتها، بالرغم من أن الربط بين الطب والجغرافيا في الطب الجغرافي أو الجغرافيا الطبية تيار علمي. وفي العصور المتأخرة عندما توقف الإبداع وتم اكتشاف الأصول الأولى، النبوة وما قبلها في الشعر، ظهر الطب النبوي إما بمفرده أو بالتوفيق بينه وبين الطب العلمي، بل إن أرشميدس هو أول من أسس علم الطلسمات ربطا للحاضر بالماضي، وللموروث بالوافد، مع كثير من الرسوم التوضيحية.
ويظهر الوافد في العمق والموروث على الاتساع؛
5
فمن الوافد يتصدر جالينوس، ثم أبقراط مع الأستاذ، ثم المعلم الأول والمعلم والحكيم، ثم أفلاطون، ثم هرمس وديسقوريدس اليوناني وأندروماخوس، ثم إقليدس، ثم ديمقريطس وآل إسقلبيوس والإسكندر وفيثاغورس وحوالي عشرين آخرين.
6
ومن الصفات يتصدر اليوناني مذكرا ومؤنثا، ثم الروم، ثم السريان خاصة باللسان أو القوم. ومن الفرق الحكماء، ثم الصقالبة، ثم القدماء والأطباء والفلاسفة وحكماء النصارى وبعض الأطباء وحكماء مصر والأقباط. ومن الأسماء المعربة الأرتماطيقي، جوماطريا، قاطيغورياس. ويدل تحليل الألقاب، مثل الفاضل لأبقراط وجالينوس، على مدى تعظيم القدماء. والبعض منهم أشبه بالرسل، عليهم السلام، مثل آل إسقليبوس وهرمس عليهما السلام. ويذكر الوافد البابلي، حكيم من بابل يسمى دويدرس البابلي. ويبدو أن آدم تراث قومي عند الكلدانيين، وكما ظهر عند البيروني.
ويظهر الوافد في أسماء الدواء من الشمال والجنوب والشرق والغرب على النحو الآتي:
ومن الموروث يتصدر ابن سينا والشيخ، ثم بختيشوع، ثم الرازي وأبو الفرج، ثم النفيس، ثم ابن التلميذ، ثم ابن رشد والكندي، وابن ماسون (ابن النفيس) وابن البيطار وأبو البركات الطبيب والشريف والترمذي وابن عباس والحاكم وإدريس في المرتبة السادسة، ثم عشرات الأطباء الآخرين والصحابة والفقهاء والمؤرخين والحكماء والخلفاء وزوجات الرسول والأنبياء الأقل تكرارا.
7
ومن أسماء الأماكن يتصدر الهندي، ثم الفارسي، ثم العربية، ثم الشام، ثم العراق، ثم المغرب، ثم البربري، ثم أرمينيا والعبرية، ثم الزنجي والحجاز والأندلس وسرنديب، ثم بغداد والقدس، ثم أفريقيا وعشرات آخرون من الأماكن الأقل تكرارا.
8
ويتصدر الحديث القرآن، وكلها في الطب النبوي، تتعلق بالخلق والحكمة والحمى والمرض والعدوى ووسائل العلاج والاتكال على الله،
9
ومنها حديث بالفارسية «اشلم درد»، ومعناه وجع البطن.
10
ويبدو مسار الفكر حتى في التجميع، الإحالة إلى السابق. وكما يبدأ الكتاب بالبسملة ينتهي بالحمدلة، ويعطي صفات للذات تتعلق بالطب، مثل مبدع مواد الكائنات بلا مثال سبق، ومخترع صور الموجودات في أكمل نظام ونسق، ومنوع أجناس المزاج الثاني نتائج الأوائل، ومقسم فصوله المميزة على حساب الفواعل والقوابل، والمجرب المعيشي. وكل شيء بحمد الله وتوفيقه وبمشيئته، له الحكم في كل شيء، وهو الشاهد، لا ضرر ولا نفع إلا بقضائه، وهو أعلم من العلماء.
11
ويمتلئ التذييل لبعض التلاميذ كنموذج للعمل الجماعي الذي يكشف عن الوعي الجمعي بالثقافة بالرسوم التوضيحية والمعادلات والصور للملائكة، والجداول الإحصائية وحساب القوى الطبيعية وجداول طبائع الحروف وتراكيبها وجداول الأفلاك وجداول الكلمات وأشكال الأحجية ورسوم هندسية وصور حيوانات. ويضيف الرقي والطلسمات والفلقطاريات والموسيقى والسيمياء كأجزاء من الطب مع بيان الدلالة السحرية لأعضاء الجسم، اعتمادا على علم النفس الإيهامي والصوفية ومشايخ الطرق وعلم الأسرار والحروف ونماذج من الدعوات والأحجبة والصلوات للشفاء مع إضافة القرآن. كل شيء له حجاب، مثل كل شيخ وله طريقة؛ مما يكشف عن صراع مكتوم بين الخرافة والعلم.
12
ومن الوافد يتقدم جالينوس، ثم أبقراط، ثم فرفوريوس وأفلاطون، ثم فيثاغورث وأركيغانس وسكافيلوس. ومن أسماء الفرق يأتي الحكماء، ثم الفلاسفة، ثم حكماء اليونان. ويذكر الفرنجة إحساسا بالشمال الناهض وباليونانية. ومن الكتب يذكر السماع والطبيعيات.
13
ومن الموروث يتقدم الشيخ (ابن سينا)، ثم الإمام الشافعي، ثم الرازي والمعلم الثاني (الفارابي)، ثم الشيخ محمد زيتون، ثم السهروردي والشيخ الفاضل أبو الفرج المالطي، ثم الغزالي وذو النون المصري والبهلول وعبد الله بن هلال والحكيم أبو بكر والحلاج والطرطوسي والشيخ علي المقدسي وسليمان ونوح.
14
وواضح سيادة الصوفية على الحكماء.
15
كما تكثر الأسماء الخرافية السحرية، مثل شمهورش في الثقافة الشعبية. ويتم الشفاء بآيات القرآن والأحاديث المكررة، وكما تطور الطب النبوي إلى الطب العلمي بفضل الوافد يتحول الآن الطب العلمي إلى الطب النبوي «مؤسلما» الوافد. تكثر آيات القرآن في الأحجية.
16
ومن الأماكن تذكر الهند وحكماء الهند ومصر والعرب، ثم الحجاز والصين.
17
ويحال إلى بعض المصادر الموروثة.
18
وتزداد العبارات الإيمانية في البداية والنهاية وألقاب التشايخ والتنبيه على أن المنفعة والضرر من الله، وأن الأدوية ليس في قوتها ما ينفع ولا يضر، إنما هي عادة. ويقتصر ذلك على المسلمين وحدهم، وكأن الجسم يتحدد طبقا للملة. وكل شيء بقدرة الله ومشيئته وإذنه، وكله من عجائب الحكمة الإلهية. والشفاء لا يتم إلا بالقرآن كتابة وقراءة. (ب) ولداود الأنطاكي أيضا «النزهة المبهجة في تشحيذ الأذهان وتعديل الأمزجة» على هامش «التذكرة»،
19
وهو آخر ما ألف؛ مما يكشف عن نضجه العقلي ورؤيته الفلسفية، وعن تجاوز التجميع من الكتب السابقة إلى التفكير وضم المعقول إلى المنقول. مصادر التأليف عقلية أكثر منها نقلية، مثل الحكميات والفلسفة، وإرجاع المركب إلى البسيط، ووضع الجواهر في الألفاظ؛ مما يدل على غلبة التفكير على التدوين، والداخل على الخارج. ويقوم ذلك كله على مسلمة تطابق العقل والوجود، الذات والموضوع؛ ومن ثم يعود الطب إلى أصله في واجب الوجود. ليس الغرض تكرار المادة الطبية ، بل تأسيسها على نحو عقلي، وهو على هذا النحو أقرب إلى الإبداع الخالص بالرغم من ظهور الوافد والموروث؛ فالكتاب في فلسفة الطب أكثر منه في الطب؛
20
لذلك تقل الرسوم التوضيحية، ويختفي الترتيب الأبجدي نظرا للاعتماد على العقل الخالص. تظهر روح إخوان الصفا من جديد، الكل في الكل. ويكثر تقييم التراث الطبي السابق، والحكم بالصحة والبطلان والصواب والخطأ. ويظهر التمايز بين الأنا والآخر في أفعال القول، «أنا أقول».
21
وكما بدأ الفارابي بإحصاء العلوم ينهي داود أيضا بتصنيف العلوم ووضع الطب فيه؛ فالطب جزء من العلوم الطبيعية كالصيدلة والكيمياء والنبات والحيوان والطبيعة، وعلى صلة بالعلوم الرياضية كالحساب والفلك والهندسة والموسيقى، وكلاهما على صلة بالعلوم الإنسانية كالجغرافيا والتاريخ، بل وبالعلوم الشرعية، مثل علوم الحكمة الإلهية الكلامية والفقهية، العقيدة والشريعة، النظر والعمل، على النحو الآتي:
ويتضح من ذلك أهمية الفلك وأثره على العلوم الطبيعية كالطب والصيدلة والطبيعة والكيمياء، بل وعلى الموسيقى، وأهمية الحساب للجغرافيا والتاريخ. والأعلى هو الذي يؤثر في الأدنى؛ مما يعطي الأولوية للعلوم الرياضية على الطبيعية والإنسانية. كما ترتبط العلوم الرياضية بعضها بالبعض مثل الفلك والموسيقى؛ فالكون نغم، والنغم روح. الطبيعة والروح لغة واحدة. شرف العلم طبقا لمرتبته؛ أي لشرف الموضوع، وهو الأعلى الذي يجمع بين المراتب الثلاث، أو لجمعه بين مرتبتين، أو لمدى الحاجة إليه في مرتبة واحدة، وهو المستوى الإنساني.
22
ويحتاج الطبيب إلى كل هذه العلوم؛ فهو من علوم الحكمة، البداية من أعلى، كل علم يؤدي إلى الآخر في نسق استنباطي واحد. الشريعة قاموس إلهي، وجزء من نسق العلم؛ فالشريعة سياسة الأرواح، كما أن الطب سياسة الأبدان. ولا فرق بين العلوم العقلية الرياضية والطبيعية والإنسانية والعلوم النقلية. والنبوة جزء من منظومة العلوم.
ويتضح ذلك النسق في مقدمة الكتاب وتبويبه؛ إذ تشمل على استنباط الطب من الحكمة، ثم تعالج الأبواب الثمانية الكليات، والأسباب، والأحوال والعلامات، والقوانين والوصايا، وهي كلها أمور حكمية. وأخيرا يظهر علم الطب الخاص في الأمراض الباطنة عضوا عضوا، من الرأس إلى القدم، من أعلى إلى أدنى، وفي الأمراض الظاهرة.
23
وداود مثل ابن سينا الرئاسة في القلب، على عكس أبقراط وجالينوس حيث الرئاسة الدماغ؛ مما يعبر عن جوهر حضارتين، القلب والعقل. ويرتبط علم النفس بعلم الطب لوضع علم الطب النفسي أو علم النفس الطبي، أو علم نفس الحواس.
24
وهنا يدخل السحر لأنه من أثر العالم العلوي على العالم السفلي، والفراسة جزء من الطب، معرفة الأمراض عن طريق قوانينها الحسية، معرفة الداخل عن طريق الخارج.
ويعتمد على القياس والتجربة لبيان وحدة الوحي والعقل والطبيعة. ولا ريب من القياس والتجربة على الحيوانات من أجل معرفة شخصية الإنسان؛ لذلك تكثر عبارات «وهذا من مجرباتنا»، «ومن المجرب فيها» ... إلخ. وتظهر العبارات الدالة على مسار الفكر في هذه المرحلة المتأخرة؛ مما يدل على أن الفكر لم يتوقف حتى في عصر الشروح والملخصات، وهي العبارات الدالة على ما يتم وما سيتم.
25
والعمل وحدة واحدة بالرغم من قلة الإحالات إلى مصادر أخرى، مثل «كتاب البلدان». ويظهر أسلوب الاعتراض والرد عليه مسبقا أسوة بالعلوم العقلية، وفي نفس الوقت يخاطب القارئ لمشاركته في الفكر والاستدلال.
26
ومن الوافد يتصدر جالينوس، ثم أبقراط، ثم المعلم والحكيم باللقب وليس بالاسم، ثم فيثاغورس وفوفوريوس، ثم بطليموس وأفلاطون وديمقريطس وديسقوريدس وأندروماخوس ورودس وأنبادقليس وسقراط وخطافورس.
27
كما تظهر صفة يونانية كثيرا؛ مما يدل على التمايز بين الوافد والموروث. ويشار إلى بعض الكتب مثل أسطرنوميا، وأرثماطيقي، وكتب السماع. ومن أسماء الفرق يظهر الحكماء على الإطلاق دون تحديد وافد أو موروث، ثم الفلاسفة. كما تظهر أسماء أماكن مثل رومية والإفرنج. وما زالت بعض الألفاظ اليونانية المعربة حتى هذا العصر المتأخر، مثل أسطغورياس؛ أي المنزل ولوازمه. ولم يعد لفظة الحكمة يشير إلى الوافد ، بل الحكمة ذاتها دون تمايز بين الوافد والموروث. ونظرا للبعد عن الوافد يتم التعريف بالبعض؛ فإن أندروماخوس من المشائين، وفوطاغورس يعني صاحب المرتبة أتى بعد أرسطو، وتنقل بعض النصوص المترجمة، بل قد يختفي اللفظ الوافد ولا يبقى إلا الموروث قبل السياسة الملكية والسلطانية. وعندما يشار إلى جالينوس فليس المقصود بداية الوافد عند اليونان، بل استمرار تراثه عند المتأخرين، من حضارة إلى حضارة.
28
ومن الموروث يتصدر الشيخ، ثم أبو الفرج المالطي، ثم المسيحي، ثم الرازي وصاحب الحاوي والكامل، ثم الصابي، ثم المعلم الثاني.
29
والشيخ ابن سينا من أتباع المعلم الأول، وهو معلم الطب، وتذكر أقواله في الشفاء. والرازي والمعلم الثاني أهم من ابن رشد. وتذكر الألقاب قبل الأسماء في الموروث أيضا مثل الصابي، المالطي، وليس في الوافد فقط. ولا تظهر أعلام أخرى مثل ابن النفيس. ويوصف الرازي بأنه من الإسلاميين إحساسا بالتمايز بين الموروث والوافد، كما أن جالينوس من اليونانيين. ومن أسماء البلدان يظهر العود الهندي، ثم الدار صيني، ثم الفارسي، ثم الرومي، ثم مصر والأرمني، ثم الحبشة والعرب والحجاز والشام وصفا للأدوية ومصادرها. ومن الفرق يذكر حكماء الهند وحكماء النصارى وأهل الشرع والمتأخرون وأهل الطبيعة ومحققو الفلاسفة. وتظهر بعض الموضوعات الكلامية، مثل الآجال والأرزاق. وتستعمل بعض المفاهيم الأصولية مثل عموم البلوى.
ويظهر اتفاق العلم والدين، القرآن والطب، الحديث والعلاج، في هذه النصوص المتأخرة. الله حكيم وضع الحكمة في الطبيعة، وهي أصول الطب؛ فكل ما يحدث في الطبيعة من تغير يفتقر إلى الإيجاد الإلهي، وفي ظواهرها عجائب الحكمة الإلهية، وحوادثها من مقتضيات عناية الحكيم.
30
يساعد الطب على الإيمان كما يساعد الإيمان على الطب. التوفيق بين الدين والعلم ممكن، والخلاف بينهما في الإيجاب؛ أي في الضرورة. في العلم موجباته الأسباب، وفي الإيمان موجباته الحكمة الإلهية؛ فإذا قال أهل الشرع إن ما يحدث في الطبيعة بقدرة الله وألطافه وصناعته فذلك لا يناقض العلم، وإنما الخلاف في الإيجاب. فإذا رأى الرسول الغيب فإن ذلك يعتبر نقدا للحسيين الذين يقصرون المعارف على الحس. وكان أول ما يعتبر به الحكماء التشريح؛ لأنه يزيد الإيمان بالصانع الحكيم، ويرشد إلى مواقع الحكمة كما لاحظ ابن سينا.
وتظهر الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتفسير الطب أو ليفسرها الطب، وذلك مثل آية التطور
ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ، وهو ما عادل التفسير العلمي للقرآن الآن. ومثل آية
فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر ، فلا خلاف بين التطور والشرع. وإذا نهى الشرع عن البحث في الروح
قل الروح من أمر ربي ؛ فإن الغاية من هذا الزجر حب الاستطلاع؛ وبالتالي الحث على العلم، والنفس مولعة بالبحث عما نهيت عنه. وقد يكون الهدف هو البحث في البدن؛ فالطب هو علم الأبدان، كما أن الدين هو علم الأرواح. وقد أشار القرآن إلى علم الفراسة في آية
إن في ذلك لآيات للمتوسمين ، وفي الحديث: «إن خلق أحدكم ليجمع في بطن أمه أربعين يوما.» مما يدل على التطور في الزمان قبل الولادة وبعدها. الطب مصداق للحديث.
31
وفي الحديث: «تداووا فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء»، «الدواء من الداء». فالله هو سبب المرض والعلاج.
32
وفي البسملات والحمدلات تظهر وحدة الحكمة الإلهية مع الحكمة الطبيعية؛ فالأجرام تسجد لله صاغرة، والأخلاط تمتزج بحكمته خادمة له متصاغرة، وأنعم الله على الأعضاء ببعث الأرواح، وجعل الأفعال غايات القوى، واستمداد العصمة والتوفيق من واهب العقل. والله أعلم بحقائق الأمور، وكل شيء يتم بمشيئته وبإذنه، والله الموفق للصواب، وإليه المرجع والمآب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وهو نعم الوكيل، والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه. ويتوارى مدح السلطان إلى مدح الشيخ، سلطان العلم، بشعر ركيك لمدح مذموم.
33 (2) القليوبي
وتجمع «تذكرة القليوبي في الطب والحكمة» للعالم العلامة والبحر الفهامة الشيخ أحمد القليوبي من علماء القرن الحادي عشر، بين الطب والحكمة؛ لبيان أن الطب جزء من الحكمة الطبيعية بصرف النظر عن ألقاب التعظيم والتبجيل التي تغلب على طريقة العصر.
34
وهو أقرب إلى الإبداع الخالص في هذا العصر المتأخر؛ إذ لا تتجاوز الإحالات إلى الوافد جالينوس، ولا يتعدى الموروث حكاية ظرفية عن ضعف بصر أحد الأولياء، فرأى النبي وشكا له، فأمره بالاكتحال بحروق قشر اللوز الحلو. كما يذكر العود الهندي والهندبا وطاعون مصر والشب اليماني وغيره.
35
يعتمد النص على الأقل الخالص، وفي نفس الوقت يجمع ما تفرق من تصانيف ويغني عنها كالسهل الممتنع. ويصنف الأمراض من أعلى إلى أدنى في البدن. وفي البسملة والحمدلة تظهر العبارات الدينية الطبية، مثل الحمد لله الذي جعل نوع الإنسان أكمل الأنواع، وميزه بالنطق والإدراك والاختراع، وجعل صحة بدنه وعقله سبب وجوده، والصلاة على محمد الذي اعتدل في الجسم والأخلاق والطباع، وعلى آله وصحبه الأتباع. لا دواء ولا داء إلا بمشيئة الحكيم الأقدس، وهو الأعلم والملهم للصواب. وتتدخل الخرافات برسم ما ينفع الطاعون من الطلاسم تكتب فيها البسملة وآية
أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ، أو
ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا ، وعدد آخر من الآيات، مع بعض الأسماء الحسنى، مثل: فرد، حي، قيوم، حكم، عدل، قدوس، في شكل رباعي، إلى آخر ما هو معروف من الطب السحري الخرافي. ويخاطب القارئ؛ فالقارئ جزء من الخطاب حتى هذا العصر المتأخر.
رقيب
مقتدر
خلاق
عليم (3) المنذري
وكعادة كل الأشكال الأدبية في صلة الوافد بالموروث، تنتهي كلها في القرون المتأخرة بسيادة الموروث الخرافي الشعبي، سواء في الطب أو في الفلك، في بدن الإنسان أو في بدن الكون، في العالم الأصغر أو في العالم الأكبر؛ فإذا كانت «تذكرة داود» أو القليوبي هو النموذج للطب الشعبي، فإن «كشف الأسرار الخفية في علم الأجرام السماوية والرقوم الحرفية» للعلامة عمر بن مسعود بن ساعد المنذري (1160ه) يعتبر نموذج الفلك الشعبي، والتحول من علم الهيئة أو علم النجوم إلى علم التنجيم.
36
وفي هذه الحالة تقل دلالة الموروث والوافد، العنصرين المكونين للإبداع الفلسفي لصالح الواقع النفسي والاجتماعي للعلوم الإسلامية التقليدية. ويتضخم هذا المكون الثالث لدرجة احتوائه للمكونين الأولين؛ فالموروث هو الموروث الخرافي الأسطوري الموضوع، والوافد هو الوافد الخرافي الشعبي المنحول. يصبح الإبداع غير مشروط بمكوناته الأولى وتعبيرا عن الخيال الحر، فيتحول العلم إلى خرافة، والواقع إلى أسطورة، والعقل إلى خيال.
تظهر أسماء الأعلام في الجزء الأول، وتقل تباعا حتى تختفي كلية الجزء السادس. البداية بالتاريخ، والنهاية خارج التاريخ. كما يقل عالم الحروف الرقمية في الجزء الأول، ويكثر تباعا حتى يسود كلية الجزء السادس. البداية بعالم الأشياء، والنهاية بعالم الرموز.
يتضمن الجزء الأول «في تقرير أصول علم النجوم والاضطرار إليه، وفيما يخص كل برج وينسب إليه» واحدا وأربعين بابا تبين فضل علم الحكمة والنجوم والبحث عن الأسرار وأثر عالم النجوم والسحر المبني على تصفية النفس، وكلها بإذن الله.
37
وكلها إسقاطات من النفس على الطبيعة، والإنشاء على الخبر.
والجزء الثاني «في أحوال الكواكب السبعة السيارة، ومعرفة طبائعها وما يعرض لها من السعادة والنحوسة، وفيما يضاف لها وينسب إليها، وفي قوتها وضعفها ودلالتها» يتضمن ثمانين بابا تختلط فيها الطبيعة بالإنسان، ويتداخل فيها الموضوع بالذات، ويظهر فيها أثر الكواكب في مصائر البشر سعادة وشقاء، وإسقاط العالم الإنساني على العالم الطبيعي في قسمة الكواكب إلى مذكر ومؤنث، وتفاوتها في مراتب الشرف، والصداقة والعداوة، وشقائها وتعسها، ويقينها وحيرتها، وربط الكواكب وحركاتها على أفعال البشر؛ مما يسلب حرية الإنسان وقدراته الطبيعية، وقضاء حوائجه أو وقفها؛ فهي عالم إنساني من الاستعلاء والقوة والفاعلية والكمال.
38
والجزء الثالث «في تسخير الكواكب، وفيما ينسب إلى كل كوكب مكنها من الأعمال والمطالب في ساعاتها»، ويضم ثمانية وعشرين بابا، تدور معظمها حول مفهوم التسخير، تسخير الكواكب في حياة الإنسان عن طريق السحر، كوكبا كوكبا، القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل، ودفع مضارها وكيفية الاستعانة بها وحمدها، وأثرها في زرع المحبة والكراهية في نفوس البشر، وطرق عمل الطلسمات في مختلف ساعات النهار.
39
والجزء الرابع «في علم الحروف المرقومة وما يخصها من الأسرار المكتوبة» يعرض سر حرف حرف من الحروف الأبجدية بلا فصول أو أبواب مثل باقي الأجزاء، ضاربا المثل بمعنى البسملة كما هو الحال عند ابن عربي، وتقابلها مع تاريخ النبوة؛ فلكل نبي حرف ورقم وما يقابله من الطبائع. ويبدو أن تتبع الحروف الثمانية والعشرين ابتداء من الألف حتى الياء أغنى عن تقسيم هذا الجزء الرابع إلى أبواب وفصول. وحروف أوائل السور جزء من النظرية العامة في الحروف الرقمية. وكل حرف له شكل ومضمون يميلان إلى درجة المعرفة ومرتبة الوجود. والحروف ليست مرتبة أبجديا، بل يتغير ترتيبها وفقا لنسق خاص.
والجزء الخامس «في علم التكسير وحزب الأوفاق واستخراج الأسماء والأقسام وإظهار الأرواح النورانية»، ويضم ثلاثين فصلا حول أثر أفعال الأفلاك في العالم الإنساني، ويغلب عليها موضوع الحروف، طبائعها ومراتبها، وتصرفها، وأنواعها، وأسرارها، ومعانيها، واستخراج الحقائق منها، والأصول اللازمة لها، وطرق تكسيرها، ووجودها في أم الكتاب، وطبائعها، سعدها ونحسها، منافعها ومضارها، وما ينسب إلى الأيام السبعة من الكواكب والآيات والملائكة العلوية والسفلية والعرشية، وكيفية العمل في كل يوم، وتسبيح الملائكة، وتجريد النفس، وشرح تركيب الغزالي وفق زحل، وصفة الأقلام، وآداب الدعاء وأوقاته وفضله وشروطه وآدابه.
40
والجزء السادس «إغاثة اللهفان في علم تسخير الروحانية والجان» أشبه بكتاب مستقل خاتمة للكتاب نفسه. ولا ينقسم أيضا إلى أبواب أو فصول؛ فالتصوف يرى العالم بعين الوحدة المطلقة. وتنكشف الأسرار المخفية في الأحجية والطلسمات.
ولما كان «تمثل الوافد مع تنظير الموروث» حالة افتراضية صرفة، فالتعادل ليس وسطا حسابيا، بل هو تعادل نسبي. قد يزيد الوافد على الموروث، وهو الاحتمال الأقل. وقد يتضخم الموروث على حساب الوافد، وهو الأغلب. ويقل الوافد والموروث تباعا، يظهران في المجلد الأول، ويقلان في المجلد الثاني، ويكاد يختفيان في المجلد الثالث. ما زالا يمثلان نقطة بداية في التاريخ، تاريخ الآخر اليوناني وتاريخ الأنا العربي الإسلامي، ثم يتحول النقل التاريخي إلى إبداع خارج التاريخ.
ويتداخل الوافد الشرقي مع الوافد الغربي؛ فالشرق موطن السحر، والغرب السحري أثر من آثار الشرق. ويتصدر الوافد البابلي مثل تنكوشا المذكور عند ابن وحشية في «الفلاحة النبطية».
41
ويذكر أيضا أبوراطيس البابلي وأسماء أخرى شبه هندية يونانية، مثل بهرماطوس، سمهياطس. ويذكر الكلدانيون باعتبارهم رواد علم الفلك الأوائل والعالمين بأسرار النجوم. وهم في نفس المنطقة الجغرافية التي نشأت فيها الصابئة عبدة الكواكب، دين قوم إبراهيم. ويذكر كسرى من الموروث الفارسي.
ومن الوافد اليوناني يذكر أرسطاليس وهرمس، ثم بنداغوس والإسكندر وبطليموس وأسطالينوس، ثم سقراط وأبقراط. وأرسطو هو المنحول الإشراقي الصوفي، وكذلك كل فلاسفة اليونان. أما هرمس فهو زعيم السحرة، وهو إدريس النبي.
42
وبالرغم من ظهور أسماء بعض الفرق مثل الحكماء والفلاسفة والقدماء والمشايخ القدماء والحكماء الفلسفيين، وهو ما يشير عادة إلى حكماء اليونان، إلا أنه يشار إلى فرق شرقية أخرى، ليس فقط المعروفة منها مثل الكسدانيين وهم الكلدانيون، بل أيضا غير المعروفة، مثل الأنوسيين والزماطرة.
والموروث الغالب هو القرآن والحديث. والغالب على الآيات، آيات المعجزات والسحر وغرائب الطبيعة وعجائب الكون، أو آيات النور والإشراق والإيمان، أو آيات الكون، الخلق والبعث، أو آيات المعاد؛ فلا فرق في الكون بين الدنيا والآخرة. ويتحول القرآن إلى آيات سحر ومعجزات لشفاء الأمراض بكتابتها في الأحجية والطلسمات. ويتحول التنجيم إلى الطب. ومعظم الأحاديث موضوعية عن الحروف والأرقام والكتب المنزلة. وتدخل الإسرائيليات، ليس فقط أنبياء بني إسرائيل، آصف بن برخيا، وسليمان وموسى، بل كل الأنبياء الذين كانت لهم علاقة بالخوارق والمعجزات؛ فالدين واحد.
ومن الموروث يذكر أبو معشر البلخي، ثم أبو العباس البوني وقسطا بن لوقا وعلي بن أبي طالب، ثم ابن سينا والخازن والأصفهاني وابن سبار والجمعيني والقمي والخياط والغزالي وجابر بن حيان الصوفي والكوفي والحامدي وأبو سعيدي. وواضح تداخل الفلاسفة مع الصوفية والعلماء والصحابة في رؤية واحدة، العلمية الصوفية.
43
وأسماء البقاع كلها عربية لا يونانية. وتكثر البسملات والحمدلات، وكأن الإيمان الديني قادر على فك أسرار الطبيعة. كما تتردد عبارة «الله أعلم» مما يوحي بالأسرار، وباتساع محيط العلم.
وهو كتاب تجميعي شامل، يبدأ بالفلك وينتهي بالطب والكيمياء. يعتمد على نصوص سابقة يعاد توظيفها واستخدامها في الهدف الجديد الذي يعبر عنه العنوان، كشف الأسرار الخفية في علم الأجرام السماوية. وقد يساهم الناسخ في التجميع؛ فالهدف هو ملء القالب وليس المادة. ويبدو ذلك في الجزء الرابع عن الحروف الرقمية المقتبس من كتب أخرى لنفس المؤلف، مثل كتاب الاقتباس.
تغيب عنه البنية، ويخلو من الأبواب والفصول، بل يخلو من ترقيم الصفحات، مكتوب بخط اليد، بالأسود والأحمر، وعلى ورق مطرز محشي بالزخارف، مملوء بالرسوم التوضيحية والجداول بالحروف والأرقام. وتتخلله عبارات غامضة مثل عبارات «شمهورش » في الثقافة الشعبية لتوحي بعالم الأسرار وحديث الجن. ويعتمد على أسرار الحروف. وهو ما يوحي به الجزء الأخير من العنوان «والرقوم الحرفية»، والتقابل بين أسرار الحروف وأسرار الأرقام.
ولا يخلو الكتاب من سجال ضد علم النجوم كعلم طبيعي ينكر أن تكون الأفلاك كائنات حية ناطقة. لم يستمر من الفلسفة القديمة المنطق، بل من أضعف أجزاء الطبيعيات، وهو علم التنجيم، بالرغم من تفرقة الفارابي في البداية بين العلمين، ونقد علم التنجيم في «ما يصح وما لا يصح من أحكام النجوم». ولا يظهر من موضوعات الفلسفة القديمة إلا فيما ندر، ودون أساس علمي أو فلسفي، مثل علم الله بالجزئيات.
ويخاطب المؤلف القارئ على عادة المؤلفين المسلمين، خاصة إخوان الصفا، من أجل تجنيده للدعوة؛ فليس الهدف هو المعرفة النظرية، بل الإرشاد العلمي.
ويحال إلى أعمال أخرى مشابهة؛ مما يدل على أن «كشف الأسرار المخفية» ليس حالة فريدة أو مؤلفا واحدا، بل يدل على تيار عام في القرون المتأخرة، في الفترة الثانية من تطور الحضارة الإسلامية ما بعد ابن خلدون التي حلت فيها الذاكرة محل العقل، والشرح محل المتن، والخيال بدل الواقع، والخرافة بدل العلم.
44
وكما بدأ العرب شعراء، ثم أصبحوا مفكرين وعلماء، انتهوا إلى شعراء؛ فغلب الشعر على العلم، ووجد العرب في ثقافتهم الأولى هويتهم الأخيرة، وكأن العلوم القديمة التي نشأت في الفترة الأولى للحضارة الإسلامية كانت مجرد قوسين كبيرين.
الهدف منه السيطرة على عالم الأفلاك والكواكب من أجل إعادة السيطرة على العالم عن طريق أثر الأعلى في الأدنى، وعالم السماء في عالم الأرض، والروح في البدن؛ فالعجز عن تأسيس العلم الطبيعي والسيطرة على العالم يتحول إلى التأثير فيه عن طريق السحر من خلال الكواكب والأفلاك، والملائكة والأرواح، والجن والشياطين، كما هو الحال في قراءة الطالع، والسعود والنحوس، طبقا للأبراج في الثقافة الشعبية؛ لذلك تظهر لغة الملوك والسلاطين والرؤساء كما هو الحال عند الصوفية وألقاب الأقطاب والأبدال؛ فمنهم تنشأ السلطة وتصدر الأوامر، وما على الناس إلا السمع والطاعة. ويكثر استعمال لفظ «التسخير»، وهو مفهوم قرآني، تسخير الله الطبيعة لصالح البشر عن طريق العلم بقوانين الطبيعة، وهنا عن طريق السحر وتأثير القوى الروحانية في مسار الطبيعة وأحداث الواقع والتاريخ.
كلها إسقاطات إنسانية. غياب الواقع وحضور الوهم. لا فرق بين الدنيا والآخرة، بين الخلق والبعث، بين المادة والروح، بين التنزيل والتأويل، بين الذهاب والإياب في إطار حركة كونية روحية للخلاص؛ مما يأذن بنهاية الفترة الثانية في تطور الحضارة الإسلامية وبداية فترة ثالثة في أعقاب التحرر من الاستعمار الحديث والصلة بالوافد الغربي الجديد.
Page inconnue