De la transmission à la création
من النقل إلى الإبداع (المجلد الأول النقل): (١) التدوين: التاريخ – القراءة – الانتحال
Genres
وكنت قد ظننت تحت وهم مناهج التعليم ومقرراته في عصرنا وتبعيتها للاستشراق الغربي أن مؤلفات علماء الطبيعة والرياضة أدخل في تاريخ العلوم الطبيعية والرياضية منها في علوم الحكمة؛ فأعمال الكندي العلمية وكذلك رسائل الرازي وابن حيان والبيروني والحسن بن الهيثم وثابت بن قرة وأعمال حنين بن إسحاق الطبية وكذلك «القانون» في الطب لابن سينا و«الحاوي» للرازي، و«الكليات» لابن رشد، أقرب إلى تاريخ الطب عند العرب، وكذلك الأعمال الفلكية والموسيقية، كل ذلك أدخل في تاريخ العلوم عند العرب، والذي يبعد عن الحكمة الطبيعية التأملية الخالصة. وكان في مشروع «التراث والتجديد» في صياغته الأولى سيتم عرض هذه المادة في الجزء السادس من الجهة الأولى «موقفنا من التراث القديم» بعنوان «العقل والطبيعة» محاولة لإعادة بناء العلوم الرياضية والطبيعية. ثم أضيف إليها «الوحي» في عنوان ثلاثي الإيقاع: «الوحي والعقل والطبيعة» يخرج عن ثنائية الإيقاع المتبع في باقي الأجزاء. ثم جاء التردد نظرا لأنها أصبحت مهنة خاصة لها متخصصوها. أصبحت موضوعا لعلم خاص ومعاهد خاصة في تاريخ العلوم، كجزء من تاريخ العلم العام تحت بند «تاريخ العلوم عند العرب». يرث ما قبله عند اليونان والشرق القديم، ويرثه من بعده في تاريخ العلم الغربي الحديث. ثم تبدد هذا الوهم بعد دراسة الحكمة الطبيعية، وأنها تشمل كل هذه العلوم الرياضية، الحساب والهندسة والموسيقى والفلك والكيمياء، بل والجغرافيا باعتبارها علم طبقات الأرض، والتاريخ نظرا لسيادة النظرية الجغرافية على تفسير أمزجة وطبائع الشعوب. ولا عجب أن يضم «الشفاء» القسم الرياضي، وأن تضم رسائل إخوان الصفا القسم الرياضي كذلك. والعجيب أنه هو الجانب الذي به الإبداع الخالص دون الإحالة إلى الموروث أو الوافد والذي يتم فيه التركيز على العقل والطبيعة تنظيرا مباشرا للواقع دون رؤيته من خلال نص الأوائل أو الأواخر.
وهناك مؤلفات فلسفية أخرى لم يكتبها حكماء خلص مثل الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، بل كتبها مؤلفون موسوعيون مثل الغزالي، الذي كان متكلما مع المتكلمين في «الاقتصاد»، وحكيما مع الحكماء في «مقاصد الفلاسفة»، و«تهافت الفلاسفة»، ومنطقيا مع المنطقيين في «محك النظر» و«معيار العلم» و«القسطاس المستقيم». وهناك أيضا الرازي، الذي كتب «الحكمة المشرقية» جامعا بين الفلسفة والكلام، كما هو الحال في علم الكلام المتأخر. أما كتب المصطلحات فإنها جزء من علوم الحكم، مثل: «اصطلاحات المتكلمين والفلاسفة» للآمدي، و«التعريفات» للجرجاني، و«كشاف مصطلحات الفنون» للتهانوي، و«أبجد العلوم» لحسن صديق خان، و«دستور العلماء» للقاضي عبد الرسول؛ فهي قمة ما وصلت إليه علوم الحكمة من تجريد؛ فالفلسفة هي المصطلح، نشأة وتكوينا واكتمالا.
وهناك أعمال فلسفية نشأت في ثنايا الفلسفة الإسلامية، ولكن باسم الفلسفة اليهودية والمسيحية. كانت الفلسفة الإسلامية النموذج الذي بنيت عليه الفلسفتان الشقيقتان؛ فقبل اتصال اليهود والمسيحيين بالمسلمين لم تكن لديهما فلسفة عقلية. عرف اليهود الدراسات التوراتية، الشروح على التوراة والتلمود والمشناه. وغلب على علومهم النقل دون العقل، والتقليد دون التجديد، فلما اتصلوا باليونان ظهر فيلون، ولما اتصلوا بالمسلمين مرة ثانية ظهر سعيد بن يوسف الفيومي، وداود بن مروان المقمس، وباهيا بن باقوده، وسليمان بن جبرول، وموسى بن ميمون، وإبراهيم بن عزرا، وغيرهم من المتكلمين والفلاسفة العقليين اليهود الذين كتبوا أعمالها إما بالعربية، أو بالعربية بحروف عبرية، أو باللغة العبرية بناء على النسق الإسلامي أو الكلامي أو الفلسفي. ومنهم من تحول إلى الإسلام مثل ابن السموأل الذي كتب «بذل المجهود في إفحام اليهود» وأبو البركات البغدادي (ابن ملكا) صاحب «المعتبر في علوم الحكمة». ومنهم من تحول إلى الإسلام ثم ارتد إلى دين الآباء كما تنقل الروايات عن موسى بن ميمون صاحب «دلالة الحائرين». فهل تعتبر هذه الأعمال نصوصا في علوم الحكمة أم تظل أقرب إلى الفلسفة اليهودية؟ وهل يحلل «ينبوع الحياة» مثل «النجاة»، ويحل «دلالة الحائرين » مثل «فصل المقال»؟ وماذا عن باقي أعمال موسى بن ميمون في شروحه على التوراة والمشناه والوصايا العشر، هل هي أدخل في النموذج الإسلامي أم في التطبيق العبري؟ والحقيقة أن العامل الحاسم في ذلك هو مضمون النص بالإضافة إلى انتماء صاحبه الديني؛ فكتاب «المعتبر» داخل في علوم الحكمة لأن صاحبه اعتنق الإسلام وظل على اعتناقه، كما أن مضمونه في بنية ابن سينا الثلاثية لعلوم الحكمة. أما من ظل يهوديا مثل ابن جبرول أو من ارتد إلى اليهودية بعد أن اعتنق الإسلام فهو أقرب إلى الفلسفة اليهودية، حتى ولو كانت متبنية للنسق الإسلامي.
86
كما ظهر الأدب المسيحي الشرقي في حضن المسلمين؛ فهو جزء من تاريخ الفلسفة الإسلامية باعتبارها النموذج الذي تمت عليه صياغة الفلسفة المسيحية منذ يحيى بن عدي ونصارى الشام الأوائل حتى بولس الأنطاكي وفلاسفة الشرق المسيحيين، بل إن الفلسفة المسيحية في العصر الوسيط المتأخر تعتبر امتدادا للفلسفة الإسلامية لاعتبارها النموذج العقلي للإيمان عند أبيلار وغيرهم من الفلاسفة العقليين منذ القرن الحادي عشر حتى القرن الرابع عشر الميلادي.
فهل تشمل علوم الحكمة النمط الفكري السائد بصرف النظر عن العقيدة؟ لو كان الرد بالإيجاب لدخلت الفلسفة اليهودية ضمن الفلسفة الإسلامية. فلا فرق بين ما يقوله موسى بن ميمون وبين ما يقوله ابن رشد، ولا فرق بين ما يقوله سعيد بن يوسف الفيومي وبين ما يقوله الفارابي في الغالب. والقراءون خير نموذج للفلاسفة اليهود المسلمين، وكذلك كل أنصار النزعة العامة في الفكر اليهودي.
87
ولا فرق بين ما يقوله الفلاسفة النصارى الذين عاشوا بين المسلمين وبين ما يقوله المسلمون منذ إنجيل المصريين، وإنجيل توما، وإنجيل برنابه، حتى فلاسفة الكنيسة الشرقية وفرقها مثل اليعاقبة مرورا بآريوس الذي يقول بوحدة الأقنوم في طبيعة السيد المسيح، ويؤكدون بشريته. فالاشتراك في الحضارة يجب العقيدة. ومع ذلك تم استبعاد هذه النصوص من أجل دراسات مستقلة عن الفلسفة اليهودية العربية والفلسفة المسيحية العربية التي تشارك الفلسفة الإسلامية في نفس النسق الفلسفي والنموذج الحضاري بالرغم من محاولات الغرب المعاصرة لضمها للفلسفة الغربية في العصر الوسيط.
وهناك أيضا تدوين علوم الحكمة في كتب التاريخ والطبقات مثل «الفهرست» لابن النديم، «إخبار العلماء بأخبار الحكماء» لابن أبي أصيبعة، «طبقات الأطباء» للقفطي، «طبقات الأمم» لصاعد الأندلسي، «وفيات الأعيان» لابن خلكان، «تتمة صوان الحكمة» للبيهقي، «نزهة الأرواح» للشهرزوري، وغير ذلك من المصادر القديمة. وأهميتها في تدوين علوم الحكمة كما هي عند أهلها وفي حضارتها. وقد تكون هذه الصورة أدق من صورتها عند المحدثين، مستشرقين غربيين وباحثين عرب. والحقيقة أن هؤلاء المؤرخين ومؤلفي الطبقات ليسوا مؤرخين، بل فلاسفة حضارة، ينظرون إلى العلوم كمكونات حضارية، يحددون من خلالها رؤية حضارية بعيدا عن النزعة التاريخية في القرن التاسع عشر الأوروبي، بل إن الأخطاء التاريخية، سواء في تواريخ الميلاد والوفاة للحكماء، والنسبة الخاطئة للمؤلفات من الوافد والموروث لغير أصحابها، والنوادر المختلفة، كل ذلك له دلالاته الحضارية على الإبداع التاريخي. ولما كان «من النقل إلى الإبداع» يهدف أيضا إلى إعادة بناء علوم الحكمة من داخل الحضارة وليس من خارجها، فإن صورة هذه العلوم داخل الحضارة كما تصورها القدماء قد تساعد على إحكام صورتها الجديدة عند المحدثين. وتغني هذه المصادر عن كتب التاريخ خارج علوم الحكمة التي يتم منها عادة وضع إطار مادي للعلوم. في حين أن علوم الحكمة قد دونت تاريخها، وقرأت الآخر من منظور الأنا، بل وانتحلت نصوصا ناقصة في حضارة الآخر. فكيف لا يراسل الإسكندر أستاذه أرسطو أو أمه؟ وكيف لا يكتب أرسطو إلهيات إشراقية؟ وكيف لا يكتب اليونان فلسفة باطنية؟ وكيف لا يكتب سقراط عهدا قبل أن يموت؟
88
Page inconnue