مضى هذا العصر كما مضى ذلك العصر، وأصبحنا نطمئن فيما بيننا وبين أنفسنا إلى أن الحضارة الأوروبية وإن كانت ضرورة من ضرورات حياتنا الفردية والاجتماعية؛ فإن لنا مقومات خاصة ليست حاجتنا إليها بأقل من حاجتنا إلى الحضارة الحديثة. وأخذنا نشعر منذ عهد غير قصير بأن المشكلة التي تواجهنا والتي يجب أن نجد لأنفسنا منها مخرجا ليست هي نقل الحضارة الأجنبية إلى وادي النيل، ولا إقرارها على ضفاف النيل، ولا التغلغل بها في أعماق الريف، وإنما هي الملاءمة بين هذه الحضارة التي نقلت بالفعل إلى مصر واستقرت فيها وبين أشياء أخرى لا بد لنا من أن نحتفظ بها لنكون أمة من حقها أن تطمع في الاستقلال وتطمح إليه، ولنكون أفرادا من حقهم أن يؤمنوا بأن لهم وجودا خليقا بهذا الاسم وشخصية خليقة أن يعترف بها الناس.
ولعل أول ما عنينا به من ذلك إنما هو الملاءمة بين ما في الحضارة الأجنبية من علم وأدب ومن فلسفة وفن، وبين ما لنا نحن من لغة عربية مصرية نحبها ونؤثرها ونحرص عليها أشد الحرص، فقد كنا في أواخر القرن الماضي وفي أوائل هذا القرن نلتمس العلم الأجنبي والأدب الأجنبي في لغة الأجانب وكتبهم؛ نقرأ ما نقرأ من ذلك، ونعي منه ما نعي، لا نكاد نشعر بالحاجة إلى أن نقرأ ذلك في لغتنا العربية، أو إلى أن يقرأ ذلك منا الذين لا يحسنون لغة أوروبية. وقد أعرضنا لأمر ما عن ذلك الجهد الخصب الذي بذله جماعة من المصريين في أول تاريخنا الحديث، وأقبلنا على لغات الأجانب نتعلمها وعلى علوم الأجانب وآدابهم ندرسها ونستظهرها دون أن نفكر في النقل والترجمة إلا قليلا فضلا عن أن نفكر في الإنشاء والتأليف، ثم اشتدت الحركة الوطنية بعض الشيء أول هذا القرن، فأخذنا نحس الحاجة إلى أن يظهر سلطان اللغة العربية واضحا جليا في التعليم ، وجاهدنا في ذلك حتى بلغنا منه حظا لا بأس به، وحتى أخذنا في تمصير أكثر ما يلقى على التلاميذ من العلم في المدارس الابتدائية والثانوية، ومضينا في ذلك موفقين أحيانا أخرى حتى انتهينا إلى تمصير كثير مما يلقى من العلم على الطلاب في الجامعة والمدارس العليا.
وكنا نشهد التمثيل الأجنبي في أوروبا ونحاول تقليده في مصر، فنمصره بعض الشيء حين نفرض عليه لغتنا فرضا، وحين نترجم قصصه ترجمة دقيقة أو مقاربة أو مباعدة للأصل. ثم اشتدت الحركة الوطنية فإذا نحن نريد أن يكون لنا تمثيل مصري يتخذ لغتنا كما يتخذ تفكيرنا وشعورنا، ويصور حياتنا المصرية الخاصة تصويرا صحيحا دقيقا، وقد وفقنا في ذلك إلى بعض الخير، ثم صرفنا عنه لأمور لست في حاجة إلى أن أبينها الآن.
وتستطيع أن تقول مثل هذا في فروع حياتنا العامة والخاصة كلها؛ فقد نقلنا عن الأوروبيين فنون الحكم والإدارة والقضاء، وكنا في هذا النقل مقلدين أول الأمر، ثم أخذنا نمصر هذه الفنون شيئا فشيئا حتى بلغنا من ذلك حظا لا بأس به. وكذلك قلدنا في التجارة والصناعة، ثم أخذنا نمصر التجارة والصناعة، وقلدنا في الأدب أو في بعض فنون الأدب، ثم أخذنا نمصر هذه الفنون. طبعي إذن أن نميل إلى التمصير ونجد فيه، وأن نضيق إذا أبطأت حركة التمصير في لون من ألوان المعرفة أو فن من فنون الحياة. ولكن هذا الميل نفسه كغيره من الميول قد يحتاج إلى شيء غير قليل من المراقبة والملاحظة، وقد يحتاج إلى شيء غير قليل من التحفظ والاحتياط. فنحن في حاجة إلى تمصير العلم، وإنما يتم تمصير العلم إذا أتقناه وتمثلناه وشاركنا فيه كما يشارك فيه أصحابه الأوروبيون. فأما إذا وقفنا عند الترجمة أو تجاوزنا الترجمة إلى تأليف هو إلى التقليد والمحاكاة أقرب منه إلى الابتكار والإبداع فنحن لا نمصر العلم، وإنما ننقله إلى بلادنا نقلا ونقره فيها كما يستقر الضيف.
فإذا لم نوفق إلى الابتكار والإبداع، ثم لم نوفق إلى الترجمة الصحيحة ولا إلى التقليد المستقيم ؛ فنحن لا نمصر ولا ننقل، ونحن لا نحسن إلى أنفسنا ولا إلى العلم الذي نريد تمصيره، ولا إلى الأوروبيين الذين نأخذ عنهم، وإنما نحن نمسخ العلم مسخا، ونسيء إلى عقولنا كما نسيء إلى الأوروبيين أيضا فنصورهم صورا لا تلائم الحق ولا ترضيهم ولا ترضينا نحن أيضا.
والأمر كذلك بالقياس إلى كل ما نريد أن نمصره من ألوان الحضارة الأوروبية. ولعلك تسألني إلى أين أريد أن أنتهي، وإلى أي شيء أعمد حين أسوق هذا الحديث الطويل وهذه المقدمات التي لا تريد أن تنقضي؟ ومن حقك أن تلقي علي هذا السؤال، ومن الحق علي أن أسرع إلى الرد عليه بعدما بسطت هذه المقدمات. إنما أريد أن أنتهي إلى تمصير التمثيل، وقد فكرت فيه حين شهدت قصة أو جزءا من قصة مثلت في ملعب الأوبرا؛ فقد انتهت إلي الدعوة إلى شهود هذه القصة تحمل عنوانا لها لم يدلني على شيء، كما أنه لم يحط به من التفسير والتعليق ما يدل على شيء. وحسبك أن تعلم أن عنوان القصة هو «السكرتير الفني».
وأظن أنك إذا سمعت هذا العنوان أو قرأته دون أن تسمع أو تقرأ معه أن القصة مترجمة ترجمة دقيقة أو مقاربة، أو أن القصة مبتكرة ابتكارا؛ لا تقدر إلا أنها قصة قد وضعت في مصر وضعا. وعلى هذا التقدير ذهبت إلى ملعب الأوبرا وأنا أعد نفسي في شيء من الغبطة بأني سأشهد مظهرا من مظاهر النشاط الفني المصري، وسأرى قصة تمثيلية جديدة، وسأرف إلى أي حد انتهى كتابنا من ترقية القصة التمثيلية، وإلى أي حد انتهى ممثلونا من ترقية التمثيل نفسه.
ويجب أن أعترف بأني لم أكد أسمع شطرا من الحوار حتى ضقت بالقصة وبالأوبرا ضيقا شديدا؛ فقد كان الحوار كله باللغة العامية، والناس يعلمون أني أضيق باللغة العامية حين تتخذ أداة للفن، وأكره أن يعتمد عليها الكتاب إلا أن تدعو إلى ذلك حاجة ملحة أو ضرورة ماسة. على أني قد أخذت نفسي منذ عهد بعيد بألا بد مما ليس منه بد ، وبأن الخير - كما يقول الفيلسوف القديم - إذا لم يكن ما أريد، أن أريد ما يكون. وإذن فقد صرفت عن نفسي ما كانت تجد من ضيق، واستقبلت التمثيل والممثلين بهذا النشاط الذي لا بد منه لأسمع منهم وأفهم عنهم وألهو مع اللاهين. وكان الممثلون مجيدين حقا، فلم أتردد في أني سأقضي ساعات ملهية مسلية في هذه الأيام التي تقل فيها التلهية والتسلية، ولكني لم أكد أنفق مع الممثلين لحظات حتى أحسست الغضب يملأ نفسي ويملك قلبي، وأحسست الحاجة الشديدة إلى أن أسلط إرادتي على نفسي تسليطا حتى لا أظهر من الغيظ والإنكار ما يحسن كتمانه في مثل هذه المواقف، وما قد يؤذي الناس الذين يجاورونني إن أحسوه أو ظهروا عليه؛ ذلك أني تبينت أن القصة فرنسية معروفة شائعة قد ترجمت في كثير من اللغات الأوروبية، ومثلت في كثير جدا من الملاعب، ثم تجاوزت الملعب إلى السينما فعرضت على الناس في أقطار الأرض المتحضرة كلها، وهي قصة «توباز» التي وضعها الكاتب الفرنسي المعروف بانيول.
وقد عمد الكاتب المصري إلى هذه القصة فمسخها مسخا وحرفها تحريفا، وذهب بما فيها من جمال فني رائع لا سبيل إلى الشك فيه مهما تختلف الآراء في تقديره. ولست أدري أأعلن الكاتب هذا أم لم يعلنه، بل أنا أريد أن أعتقد أنه أعلنه إعلانا وأنه استأذن صاحب القصة فيه. ولكني مع ذلك آسف أشد الأسف، بل أحزن أشد الحزن لما أصاب هذه القصة الجميلة من مسخ وتشويه.
القصة لم تكتب باللغة العامية في فرنسا، وإنما كتبت باللغة الفرنسية الفصحى إن صح هذا التعبير؛ فهي تترك في نفسك حين تشهدها أو تقرؤها ما تتركه الآيات الأدبية الرائعة من الأثر، فإذا شهدت القصة المصرية واستمعت لأشخاصها وهم يتحدثون لغة الشارع آنذاك هذا الاستماع وشق عليك هذا المسخ وآلمك هذا الابتذال.
Page inconnue