وكان هؤلاء الشبان الثلاثة قد اتفقوا على الضيق بالدرس الأزهري القديم، والابتهاج بما لم يكن مألوفا في بيئات الأزهر من درس الأدب والعناية به، وقراءة الصحف والإغراق فيها، ومن التطلع إلى ما كان يقوله ويأتيه المثقفون الممتازون، أولئك الذين كانوا يدبجون الفصول في الصحف، يمسون بها السياسة والأخلاق وشئون الاجتماع، وأولئك الذين كانوا يخطبون في المحافل والمجامع، ويتحدثون في الأندية، وتنشر الصحف خطبهم ومحاضراتهم، ويتناقل الناس أحاديثهم ومحاوراتهم، وتذكر أسماؤهم فتمتلئ بها الأفواه، وتبتسم لها الشفاه، وتشرق لها الوجوه، ويشتد بها الإعجاب، ويتخذ الشبان أصحابها مثلا عليا لما شئت مما يطمع فيه الشباب من بعد الذكر وارتفاع الشأن، والظفر بما يظفر به عظماء الرجال من الإكبار والإجلال. وكان هؤلاء الشبان الثلاثة إذا التقوا وفرغوا من قراءة في كتاب، أو استماع لدرس، أو إنشاد لشعر، أو نظروا أمامهم إلى هؤلاء العظماء المثقفين، فأجلوا وأكبروا، ونظروا من حولهم إلى شيوخهم الأزهريين فتفكهوا وتندروا، وأطلقوا ألسنتهم بالفكاهة والنادرة، ولعل من الناس من كان يجلس إليهم ويسمع منهم، ثم ينتقل فيذيع ما سمع، ويملأ به هذه الحلقات التي كانت تتحلق من حول الصحن، وعند القبلة القديمة أو القبلة الجديدة. وكانت أصداء ذلك ترد عليهم فيفرحون، وكان إنكار ذلك يبلغهم فلا يرتاعون، حتى أقبل ذلك اليوم الذي دار فيه الملاحظون في الأزهر، يجمعونهم من دروس الظهر جمعا، ويدفعونهم إلى مجلس الشيخ الأكبر دفعا، ثم يسألون، فمنهم من يجهر ومنهم من يجمجم، ثم ينهرون، فمنهم من يبسم ومنهم من يعبس، ثم يعلن الشيخ إليهم أنهم مطرودون، وأن درسهم الذي كانوا يحبونه موقوف ممنوع، وأن شيخهم الذي كانوا يكبرونه مكلف أن يدرس المغني لابن هشام بدل الكامل للمبرد، منفي من الرواق العباسي، مقرون إلى أسطوانة من هذا الأساطين داخل المسجد يختارها له (رضوان).
هنالك ضاق الشبان الثلاثة بعض الضيق، وفرقوا بعض التفريق، ثم لم يلبثوا أن استأنفوا الحياة ومضوا فيها باسمين، يطمحون إلى ما كانوا يطمحون إليه، ويسخرون مما كانوا يسخرون منه، حتى ضرب الدهر بينهم بضرباته، كما قال حافظ - رحمه الله - في ترجمة البؤساء، وقد كانوا يعجبون بهذه الجملة إعجابا شديدا، ويرددونها ترديدا متصلا. وهنالك مضى كل منهم في سبيله، وأخذوا لا يلتقون إلا من حين إلى حين، فإذا التقوا كانت ساعات اللقاء أضيق من أن تسع ما كان يضطرب في نفوسهم من الخواطر والآراء والأحاديث.
وكانوا في حياتهم تلك، كما كانت الشعوب الأولى في حياتها، أصحاب حس وشعور، وأصحاب قلوب تتأثر، ونفوس تتغنى، وكانت عقولهم غافلة أو كالغافلة، فكانوا ينشئون الشعر وينشدونه، وقلما يفكرون في النثر، فإن فكروا فيه فقلما يحاولونه، فإن حاولوه فقلما يجيدون. وكانوا لا يخطر لهم موضوع إلا تناولوه مسرعين، فنظموا فيه الشعر وتنافسوا في الإجادة، ولم يتحرجوا من أن ينقد بعضهم بعضا. وكانوا يبلغون من ذلك ما يريدون. يجيدون قليلا، ويسيئون كثيرا، ويرضون دائما. وكانوا يحسون أنهم ضعاف في النثر، وأنهم في حاجة إلى أن يأخذوا منه بحظ، وكان الزيات يحاول أن يقوم من صاحبيه مقام الأستاذ؛ لأنه كان أحب منهما للصحف، وأكثر منهما عكوفا عليها وإغراقا في قراءتها، ويجب أن نعترف بالحق، فقد كان أوسع منهما صدرا للتجديد، يحب الكتاب المحدثين وما كانوا يحدثون من الآداب، على حين كان صاحباه يكلفان من الأدب بقديمه، بل بأقدمه. كان الزيات يكلف بالمتنبي، ويكرهان أن يسمعا له حين ينشد شعره البديع. كان الزيات يقرأ المثل السائر، وكان صاحباه لا يعترفان بمن بعد الجاحظ من الكتاب. كان الزيات يؤثر شوقي، وكان صاحباه يؤثران حافظا، ويتعصبان للبارودي، ويسرفان في تقديم الكاظمي عليهم جميعا. كان الزيات إذن يقيم نفسه من صاحبيه مقام الأستاذ في النثر، وكانا لا يتحرجان من أن يقرا له بهذه الأستاذية، فإذا أراد أن يزعمها لنفسه في الشعر كان الجدال والنضال، وكان تذاكر الغرزمة وآثار الغرزمة، وكان انتحال الشعر الرديء وحمله عليه وإضافته إليه، وكان انتحاله هو للشعر الرديء وحمله على صاحبيه وإضافته إليهما، وكان إنشاد لمثل هذين البيتين:
بموسم عاشوراء قد عمت البشرى
وضاءت لنا الأكوان مذ علت الذكرى
ونادى المنادي أيها الناس يمموا
ضريح الحسين الشهم تنجوا من الأخرى
ولست أدري أي الثلاثة قال هذا الشعر الرائع، أو لعله شائع بينهم جميعا. ولعل ثالثهم محمودا أن يكون قد حفظ هذا الشعر فيما حفظ من آثار هذا العصر، فقد كان إليه تخليد هذه الآثار التي لم تكن تستحق أقل من الخلود.
وفي ذات يوم أقبل الزيات يقترح على صاحبيه التفكير فيما ينبغي لهم من العناية بالنثر، ويبين لهما ولنفسه أسباب هذه العناية ومذاهبها، ويرى أن ليس إلى ذلك من سبيل إلا أن يفعل الثلاثة كما يفعل الطلاب في المدارس، حين يعالجون الإنشاء، ويعرض عليهما وعلى نفسه هذين الموضوعين: (الحالة الحاضرة)، و(مصر في الصباح). وكان يقول ذلك جادا كل الجد، مؤمنا كل الإيمان، وكان صاحباه يسمعان له في موقف بين الجد والهزل، يريدان أن يكتبا ويعلمان أنهما لن يستطيعا، فيقدمان ثم يضطران إلى الإحجام ويستران ضعفهما بالهزل والعبث، ثم يفزعان إلى الشعر فينظمان منه ما شاء الله لهما أن ينظما بين الجيد والسخيف. وكانت الأيام تمضي وتمضي، والأصدقاء يلتقون ويتحدثون في النثر، والزيات يقترح الكتابة في الحالة الحاضرة ومصر في الصباح، وصاحباه يسألانه عن الحالة الحاضرة ما هي؟ وما عسى أن تكون؟ فلا يحير جوابا، وصاحباه يسألانه عن مصر في الصباح كيف هي؟ وماذا يقول فيها؟ فلا يحير جوابا، فيتمثل ثالثنا بهذا البيت الذي كان يغيظ الزيات ويحفظه:
شيخ لنا من ربيعة الفرس
Page inconnue