نحن في فندق من فنادق نيس الكبرى، في غرفة المترفين، وهذه الغرفة تظل خالية حينا، ثم يقبل إليها اثنان: أحدهما رجل فرنسي أقرب إلى الشباب منه إلى الكهولة، شريف غني هو فرانسوا دي لارسان، والأخرى امرأة أمريكية نجمة من نجوم السينما - كما يقولون - جميلة بارعة الجمال فتانة الشكل واللفظ غريبة الأطوار، ولا يكاد هذان الشخصان يتحدثان حتى نحسن أن بينهما حبا ناشئا، ولكنه حاد عنيف قد صرف كلا منهما عن كل شيء إلا عن صاحبه، وهما يتراضيان ويتغاضبان، بينهما جد ومزاح، وقد اتفقا أو كادا على أن يسافرا معا من فرنسا إلى حيث تلعب هذه المرأة في بلد أجنبي، وهما في جدهما وهزلهما وإذا التليفون يدق، فتنصرف إليه المرأة ثم تنبئ صاحبها بأن زائرا قد أقبل يلتمسه، وهي كارهة لهذا الزائر وهو له أشد كرها.
وقد خلا الرجل حينا، وطرق عليه الباب فأذن فتدخل عليه امرأة هي إيليز كولريه، وهي صديقة قديمة له ولأسرته، أنكر مكانها، ثم تحدثا فنفهم أنها قد أقبلت تشفع عنده في خليلته بول فالير، ونفهم أن المودة اتصلت بين هذا الرجل وبين خليلته هذه منذ سنتين، واتصلت بفضل هذه الزائرة، ولأن هذه المرأة لم تكن سعيدة مع زوجها اللعوب، وإذ كان للحب كغيره مما يتصل بالناس آجال كآجال الناس فقد انقضى أجل هذا الحب سريعا في نفس هذا الرجل، فأخذ يخون خليلته، ويسرف في خيانتها، وأخذت هي تصبر على ذلك وتحتمله، وربما أنكرته على صاحبها في شدة وعنف أحيانا حتى ضاق بها فترك لها باريس، ولقي هذه الأميركية فشغف بها، وهو يريد أن يترك فرنسا كلها، وزائرته تستعطفه وتترضاه، ولكنه لا يريد عطفا ولا رضاء، والحوار بينهما طويل، فيه لين، وفيه عنف، ولكنه غير مجد.
وهما كذلك وإذا الباب يطرق، وإذا خليلته بول تدخل في هيئة المضطرب الموله، الذي أنفق أياما وليالي لم ينم إلا غرارا، وقضى في القطار يوما وبعض يوم، فهو متعب مكدور، وهو أشعث أغبر، سيئ الحال، وهو إلى هذا كله ضائع الرشد، أو كضائع الرشد، فإذا أقبلت خلت إلى صاحبها فيكون بينهما حوار قصير، ولكن فيه استعطافا وإباء، وترضيا وزجرا، ثم فيه بعد ذلك غيظ وحنق، ثم نذير ثم إباء، ثم إطلاق الرصاص، ثم ما يتبعه من إسراع الخدم، ودعوة الشرطة، والقبض على هذه المرأة مولهة ذاهلة، فقد فقدت الصواب أو كادت تفقده.
وأنا أعفيك من وصف هؤلاء الأشخاص الكثيرين الذين نراهم يضطربون طوال هذا الفصل على أن في هذا الوصف شيئا غير قليل من النفع، فهو يصور أخلاق الخدم، وأخلاق أصحاب الفنادق، وأخلاق الشرطة تصويرا لا يخلو من فكاهة وعبرة. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في باريس في دار بول، وقد مضى على ما قدمت لك تسعة أشهر، وكانت مرافعات حادة، وعناية من الصحف شديدة بهذه القصة، ثم براءة المتهمة.
ونحن نرى خادمها العجوز وصديقتها التي مر ذكرها تنتظرانها، وقد هيأتا دارها لاستقبالها، وهي واصلة بعد دقائق من نيس، وهما تتحدثان عن حالها قبل الإثم، وعما عسى أن تكون قد احتملت في السجن في أثناء المحاكمة، وعما ينتظرها من الألم بعد ذلك، ويخيل إلينا ونحن نقرأ هذا الحوار أن هاتين المرأتين لا تجدان ما تتحدثان فيه، أو أن الكاتب نفسه لا يجد ما يطلق به لسانهما.
وهذا شخص ثالث قد أقبل هو زوج بول، فلعله يبعث في هذا الحوار شيئا من الحركة والحياة، ولكنه دون ذلك، فلا يكاد يدخل حتى تدهش الصديقة لمكانه، وحتى نعلم أنه كان شهما أمام القضاء حين أدى شهادته، فقد اعترف بأنه المسئول عما اقترفت زوجه من إثم؛ لأنه أهملها وخانها، وأسرف في الانصراف عنها، ولكنا نراه بعد ذك سخيفا فارغ القلب، معقود اللسان، لا يدري كيف يقول، وقد أقبل يريد أن يلقى زوجه بعد هذه المحنة لا لأنه يحبها أو يعطف عليها عطفا صادقا، بل هو نوع من المجاملة، ونوع من الغرور أيضا، وهو يتحدث إلى صديقة امرأته بأنه لم يخلق لزوجه، ولم تخلق زوجه له، وإنما هو رجل صاحب دعابة ولهو ينفق ليله في الحانات، ونهاره في العمل، وهو ضيق الصدر لأن امرأته لا تصل، وقد واعد صاحبة له، فهو يشفق أن يفوته الموعد.
ولكن امرأته قد أقبلت، فليلقاها زوجها، وتلقاها صديقتها في شيء من الاضطراب والتردد، ونحس نحن التناقض بين هؤلاء الناس جميعا، فأما الآثمة ففرحة مبتهجة؛ أليست قد برئت فأمنت الموت، وأفلتت من السجن، واسترددت الحرية! وأما زوجها وصديقتها فينكران فيما بينهما وبين أنفسهما هذا الابتهاج، لا يفهمانه وهما يحسان شيئا من خيبة الأمل، فقد كانا ينتظران أن يرياها مضطربة محزونة؛ ليعزياها، ويثبتا من جأشها، فلما أقبلت عليهما فرحة مسرورة أفلسا، ولم يعرفا كيف يقولان، وتنصرف صديقتها على أن تلقاها من الغد بعد أن تفهمنا أن لن تكون الصلة بينها وبين صاحبتها كما كانت من قبل؛ لأن الأوضاع الاجتماعية لا تسمح بذلك، وتخلو المرأة إلى زوجها حينا، فإذا كل سبب للحديث بينهما منقطع، ولكن الزوج قد استطاع على كل حال أن يفهم امرأته أنه ينكر بعض الشيء ما هي فيه من فرح وابتهاج بالحرية، فتحس هي أن الفرق عظيم بين ما يقتضيه الشعور الطبيعي وما تقتضيه الأوضاع الاجتماعية، فهي فيما بينها وبين نفسها سعيدة مغتبطة بحريتها، ولكن الأوضاع الاجتماعية تريدها على أن تقتصد في إظهار هذا الفرح، وعلى أن تصطنع لنفسها وجها يظهر عليه الحزن والضعف والكآبة.
وقد انصرف زوجها، وخلت إلى نفسها وإلى خادمها، وهنا تبدأ القصة الثانية.
خلت في حقيقة الأمر إلى نفسها وإلى خادمها؟ إنها تنظر من حولها فترى البيت كما تركته منذ أشهر لتلحق بصاحبها في نيس، لم يتغير فيه شيء، وتسمع من حولها فلا يصل إلى أذنها شيء، وإنما هو هذا الصدى الذي يضطرب في الأذن إذا سكن من حولك كل شيء، وتعكف على نفسها فترى أنها مملوءة بهذه الذكرى التي لم تفارقها بعد، وهي خائفة وجلة تدعو خادمها، ثم لا تستطيع أن تتحدث إليها بما تجد، فتتحدث إليها بأي شيء، وكلما همت الخادم أن تنصرف أمسكتها؛ لأنها تفزع من الخلوة إلى نفسها، ثم تتشجع شيئا فشيئا، فتطلب إلى الخادم أن تقضي الليل قريبا منها لأنها خائفة.
Page inconnue