يا أخي
حياة المرحوم أخي
الرسالة الأولى1
الرسالة الثانية1
الرسالة الثالثة1
الرسالة الرابعة1
الرسالة الخامسة1
الرسالة السادسة1
الرسالة السابعة1
الرسالة الثامنة1
الرسالة التاسعة1
الرسالة العاشرة1
الرسالة الحادية عشرة1
الرسالة الثانية عشرة1
الرسالة الثالثة عشرة1
الرسالة الرابعة عشرة1
الرسالة الخامسة عشرة1
الرسالة السادسة عشرة1
الرسالة السابعة عشرة1
الرسالة الثامنة عشرة1
الرسالة التاسعة عشرة1
الرسالة العشرون1
الرسالة الواحدة والعشرون1
الرسالة الثانية والعشرون1
الرسالة الثالثة والعشرون1
الرسالة الرابعة والعشرون1
الرسالة الخامسة والعشرون1
الرسالة السادسة والعشرون1
الرسالة السابعة والعشرون1
الرسالة الثامنة والعشرون1
الرسالة التاسعة والعشرون1
الرسالة الثلاثون1
الرسالة الواحدة والثلاثون1
الرسالة الثانية والثلاثون1
الرسالة الثالثة والثلاثون1
الرسالة الرابعة والثلاثون1
الرسالة الخامسة والثلاثون1
الرسالة السادسة والثلاثون1
الرسالة السابعة والثلاثون1
الرسالة الثامنة والثلاثون1
الرسالة التاسعة والثلاثون1
الرسالة الأربعون1
الرسالة الواحدة والأربعون1
الرسالة الثانية والأربعون1
الرسالة الثالثة والأربعون1
المراثي
يا أخي
حياة المرحوم أخي
الرسالة الأولى1
الرسالة الثانية1
الرسالة الثالثة1
الرسالة الرابعة1
الرسالة الخامسة1
الرسالة السادسة1
الرسالة السابعة1
الرسالة الثامنة1
الرسالة التاسعة1
الرسالة العاشرة1
الرسالة الحادية عشرة1
الرسالة الثانية عشرة1
الرسالة الثالثة عشرة1
الرسالة الرابعة عشرة1
الرسالة الخامسة عشرة1
الرسالة السادسة عشرة1
الرسالة السابعة عشرة1
الرسالة الثامنة عشرة1
الرسالة التاسعة عشرة1
الرسالة العشرون1
الرسالة الواحدة والعشرون1
الرسالة الثانية والعشرون1
الرسالة الثالثة والعشرون1
الرسالة الرابعة والعشرون1
الرسالة الخامسة والعشرون1
الرسالة السادسة والعشرون1
الرسالة السابعة والعشرون1
الرسالة الثامنة والعشرون1
الرسالة التاسعة والعشرون1
الرسالة الثلاثون1
الرسالة الواحدة والثلاثون1
الرسالة الثانية والثلاثون1
الرسالة الثالثة والثلاثون1
الرسالة الرابعة والثلاثون1
الرسالة الخامسة والثلاثون1
الرسالة السادسة والثلاثون1
الرسالة السابعة والثلاثون1
الرسالة الثامنة والثلاثون1
الرسالة التاسعة والثلاثون1
الرسالة الأربعون1
الرسالة الواحدة والأربعون1
الرسالة الثانية والأربعون1
الرسالة الثالثة والأربعون1
المراثي
من حي إلى ميت
من حي إلى ميت
إلى أخي
تأليف
توفيق حسن الشرتوني
كتبها المؤلف إلى روح المرحوم أخيه طانيوس المنتقل إلى رحمته تعالى في عاصمة المكسيك نهار الخميس الواقع في 6 حزيران سنة 1929 الساعة الأولى، والدقيقة الخامسة بعد الظهر.
يا أخي
أخاطبك الآن مبتدئا بهذه الكلمات التي كتبتها على بطاقة نعيك، ووضعتها في تابوتك ضمن زجاجة مختومة.
ووالدك الحزين، وأخوك المقصوص الجناح، وعقيلة أخيك، وشقيقتاك وولدي: رفيق وسلوى، كلهم يستمطرون على ضريحك الرحمة والرضوان، ويحملون في قلوبهم اسمك الطاهر المقرون بالعفة والوداعة ورقة الشعور.
فسلام الله عليك، وعلى الوالدة التي طوتها الأرض، كما طوتك الآن شابا في ميعان الشباب وزهوة العمر.
أخوك الحزين
توفيق
مكسيكو في 6 حزيران سنة 1929
رسم المؤلف توفيق حسن نادر الشرتوني.
رسم المرحوم طانيوس حسن نادر الشرتوني وهو في الحادية عشرة من عمره.
آخر رسم للمرحوم طانيوس حسن نادر الشرتوني وهو في الثامنة والعشرين من العمر.
حياة المرحوم أخي
طانيوس حسن نادر الشرتوني
مولده وحداثته
أبصر المرحوم أخي طانيوس النور في مدينة ليوبولدينا، من أعمال ولاية ميناس، التابعة لجمهورية البرازيل في الساعة السابعة من صباح الثلاثاء، الواقع في اليوم السابع من شهر آب سنة 1900.
وقد أخبرني أبي بأن الوالدة مرضت مرضا عضالا حينما كانت حاملا به، ولم تحصل على الشفاء التام إلا بعد ولادته، وربما كان هذا المرض قد أثر على مستقبل صحته.
وفي السنة الثالثة من عمره، جيء به من البرازيل إلى لبنان برفقة والديه، وعاش في البيت الأبوي في مسقط رأسنا شرتون، البلدة الواقعة في الجرد الجنوبي من قضاء الشوف.
كان - رحمه الله - العزيز الغالي على والديه وشقيقه وشقيقتيه؛ لأنه صغير العيلة، وكنارها المغرد، وحسونها الجميل.
في المدرسة
دخل مدرسة القرية في السنة السابعة من عمره، ولم أزل أذكر أن الوالدة كانت تأخذه إليها بنفسها كل يوم، وكثيرا ما حملته، لفرط حبها له.
وقد تعلم أصول القراءة والكتابة بسرعة فائقة، وأحب المدرسة حبا جما؛ حتى إنه لم يبرحها بلا سبب يوما واحدا.
حينما بلغ الحادية عشرة من عمره مرض بالحمى «التيفوس»، فاشتدت وطأتها عليه، وأوشكت أن تودي بحياته، ولكنه عوفي منها بعد عناء طويل، وعادت إليه صحته.
في عامه الثاني عشر دخل مدرسة الحكمة المارونية، وأظهر رغبة عظيمة في تحصيل العلم، واجتهادا خارقا في مثابرته على دروسه، وذكاء وقادا، وقوة كبرى في حافظته.
ولكنه لسوء الحظ لم يقم في مدرسة الحكمة إلا سنتين وبعض أشهر؛ لاستعار الحرب الكونية، وإقفال أبواب المدرسة في وجه طلابها.
ترك المدرسة مرغما في أواخر سنة 1914، وعاد إلى شرتون، ولشدة رغبته في العلم، كان أحيانا يؤم الصرح البطريركي الكاثوليكي في عين تراز؛ ليدرس على بعض الرهبان الأفاضل، ويتعلم منهم، ويمارس معهم التكلم باللغة الإفرنسية.
أقام مدة الحرب الكونية في البيت الأبوي، وبئس الذكرى ذكرى تلك الحرب المشئومة، التي كانت وبالا على لبنان وعلى الإنسانية جمعاء.
ولقد أخبرني أحد الثقات بأن أخي كان في ذلك الحين - رغما من صغره - يحنو على الفقراء ويؤاتيهم ، وكان يذهب بنفسه ويحمل قطعة من الخبز وصحفة من الحساء لجارة أنهكها المرض والجوع، وأقعداها عن العمل.
وحدثتني إحدى النسيبات أيضا - وهي لم تزل في قيد الحياة وقد عضها الجوع بنابه في أيام الحرب - بأن أخي كان دائما يزودها ببعض الأغذية لأولادها، ويعطيها كل ما تطلب منه.
نزوحه إلى المكسيك
عند انتهاء الحرب العالمية، كتب إلي إلى المكسيك بأنه يود السفر إلى حيث أنا نازل، أو الرجوع إلى المدرسة، فأجبته مشيرا عليه بأن يعود لإتمام دروسه، ثم خيرته بين طلب العلم أو السفر.
فأجابني مؤثرا السفر، وهذا ما قاله في إحدى رسائله:
يا أخي:
لا أرى بعد هذا السن من مسوغ للعودة إلى المدرسة؛ لأن موعد النزول إلى ساحة العالم قد حان، والعالم هو المدرسة الكبرى لمن بلغوا سني، وفضلا عن ذلك، كن على ثقة بأني سأساعدك في أشغالك مساعدة فعالة، وأتعلم منك ومن الناس الذين أعاشرهم ما ينقصني من العلم، هذه هي مقاصدي، سأقوم بها إن شاء المولى الكريم.
وقد قام بها فعلا خير قيام - رحمه الله.
في منتصف شهر آب من سنة 1919 غادر أخي لبنان قاصدا المكسيك، مرافقا لابن العم داود سليم الشرتوني.
وصل إلى العاصمة مكسيكو في أواخر شهر أيلول من تلك السنة، وكان عمره وقتئذ تسع عشرة سنة، وأما يوم التقائي به، فكان أبهج يوم عرفته في حياتي، كما أن يوم وفاته كان أشأم أيام عمري.
حياته التجارية
شرع منذ وصوله يشتغل معي في محلنا التجاري، ولم يمض عليه شهر واحد حتى أصبح يجيد التكلم باللغة الأسبانية، ويعرف البضائع الكثيرة المختلفة الأنواع والأشكال بأسمائها وأسعارها، فجعلته شريك النصف معي فورا دون أن أدقق في اختباره؛ لأني لم أر حاجة إلى ذلك، بحيث وجدته من أفضل الرجال سيرة وسريرة، ومن أنقاهم يدا، وأعفهم لسانا، ومن أكثرهم ثباتا في العمل، وأرجحهم في العقل وحسن التدبير.
وفاة الوالدة في الوطن وشدة التياعه عليها
في أوائل آذار من سنة 1923 تلقينا عن الوطن كتابا من الوالد الجليل، ينعي إلينا والدتنا الحنون ، التي اخترمتها المنية في 8 شباط من تلك السنة المشئومة، فوقع خبر وفاتها علينا وقع الصاعقة، خصوصا على أخي، الذي كان يحب أمه حبا يقرب من العبادة، ولا أزال أذكر أنه مرض مرضا شديدا من جراء فقدها، وشدة حزنه عليها، زد على ذلك، بقي كل حياته بعدها يردد هذه العبارة: «لقد ودعت صفو العيش بعدك يا أماه.»
عودتي إلى الوطن، وإظهار مقدرته ونبوغه
في الخامس والعشرين من شهر تشرين الأول سنة 1923 غادرت المكسيك، قاصدا لبنان، إجابة لطلب الوالد الحنون، فودعت أخي بعد أن ألقيت على عاتقه مقاليد الأشغال كلها، فأخذ يدير بنفسه محلنا التجاري، ومعاملنا الواسعة، التي كانت تحوي ما يزيد على مائة وخمسين عاملا بدقة ونظام عجيب، مع كونه في ذلك الحين كان لم يتجاوز بعد الثالثة والعشرين ربيعا.
فشهد له المواطنون والأجانب بطول الباع في الإدارة، وحدة الذكاء، والثبات النادر في تسيير الأشغال التجارية على أحسن ما يرام، حتى أصبح ممدوحا بكل شفة ولسان، ومعدودا من أقدر رجال الأعمال، وأحسنهم تدبيرا بالنسبة إلى صغر سنه واقتداره.
رجوعي إلى المكسيك مصحوبا بعيلتي
في أوائل نيسان من سنة 1928 تلقيت كتابا من النسيب خليل أسعد نادر الذي كان مستخدما في محلنا التجاري، يلح علي بالعودة إلى المكسيك؛ لأن أخي معتل الصحة، لا يستطيع القيام بأعباء أشغالنا. ثم استلمت تحريرا من أخي ينبئني بأن الأطباء الذين فحصوه مدققا اتفقت كلمتهم على شفائه قريبا.
وأما أنا فلم يعد يهنأ لي عيش في بيروت، فودعت الوالد الحنون، وأبحرت إلى المكسيك في 16 نيسان سنة 1928 مصحوبا بعقيلتي وولدنا رفيق، الذي كان عمره حين ذاك سبعة أشهر لا غير.
وصلنا إلى مكسيكو في سبعة حزيران من السنة المذكورة، وكان استقبال أخي لنا استقبالا حافلا، وسروره بالتقائه بنا عظيما للغاية، وأما فرحه بولدنا رفيق كان لا يحد ولا يوصف، وهكذا كانت محبته له ولشقيقته سلوى، التي ولدت في مكسيكو.
كان - رحمه الله - يعطف عليهما كثيرا، ويرمقهما دائما بحنانه، وقد جاء على ذكرهما مرارا في ساعته الأخيرة.
بعد بضعة أيام من وصولنا ذهبت وإياه نستشير بعض نطس الأطباء عن صحته، وبعد أن فحصوه فحصا مدققا، ارتأوا أن يذهب إلى بلدة تواكان من أعمال ولاية بدابلا لأجل تغيير الهواء، والتماس الراحة التامة من عناء الأشغال، فذهب حالا مصحوبا بصديقه الحبيب ابن خالته عزيز، وبقي هناك شهرا كاملا، ثم عاد إلى العاصمة متمتعا بالصحة التامة.
مرضه الأخير - وفاته
في غرة شهر حزيران سنة 1929 شعر أخي برشح بسيط، فأعطاه طبيب العيلة مسهلا، وفي اليوم الثاني نزل إلى المحل التجاري، وقضى طيلة نهاره يشتغل فرحا مسرورا، لا يعلم ماذا تخبئ له الأقدار؛ لأنه أصبح في اليوم الثالث من شهر حزيران محموما، فجاء حالا طبيب العيلة، وبعد أن فحصه أشار علينا بوضع ممرضة له، ثم قال بأن مرضه بسيط جدا، وسيشفى قبل انتهاء الأسبوع.
وفي منتصف ليلة خامس حزيران طلبني إلى سريره، فذهبت إليه، ثم تبعني الطبيب، وبعض الأقارب الذين جاءوا للسؤال عنه؛ ولتمضية السهرة عندنا، فجلس في فراشه، وأخذ يودعني، ويودع الحاضرين قائلا لي: إن قوة إلهية أوحت إليه بأنه غدا يموت، مع كونه كان يتقدم إلى الصحة، فأخذنا نمازحه، ولم نعبأ بكلامه.
وفي اليوم الثاني - أعني في 6 حزيران - دهته نوبة قلبية أودت بحياته، فقضى مبكيا على شبابه وحميد خلاله، ليس فقط من أهله وذويه، بل من كل من عرفه، وسمع به.
وفي اليوم السابع من شهر حزيران سير بنعشه إلى المدفن الإفرنسي باحتفال مهيب، مشت وراءه الجالية اللبنانية السورية بأسرها، وشيعه جمهور غفير من المكسيكيين، وكبار رجال الأعمال الأجانب.
صفاته ورجاحة عقله وحبه للعلم
كان - رحمه الله رحمة واسعة - صادقا، أبي النفس، حرا، عفيفا، طاهر الذيل، لم يسئ إلى أحد في حياته.
وكان ذا عقل راجح، وأفكار سامية، ومبادئ قويمة.
وكان يحب العلم محبة عظيمة، ولو أمد الله بعمره لترك التجارة وانصرف بكليته لاقتباسه؛ لأنه صرح لي بهذا مرارا، وكان يقول دائما بأن أفضل الناس العلماء؛ لأنهم يضحون بنفوسهم لفائدة سواهم، وأما رجال المال فلا يضحون من أجل الناس بشيء مذكور بالنسبة إلى أولئك.
أسكنه الله فسيح جناته، وألهمنا من بعده الصبر الجميل.
الرسالة الأولى1
يا جناحي الوحيد
يا أخي:
منذ تسعة أشهر اخترمتك المنون يا أخي، وحتى الآن لم أقدر أن أكتب كلمة واحدة في رثائك.
إن الحزن الشديد الذي استحوذ علي من جراء فقدك قد أجهز على دماغي، وجعله مشتتا لا يقوى على التعبير عن شدة انفعالي، وتأثري لموتك.
يا جناحي الوحيد: كنت أؤمل أنك ترافقني في الحياة، وتغمض جفني عند الممات، وتكون عضدا لولدي؛ لما بيني وبينك من تفاوت في السن، ولكن الموت الذي لا يرحم كبيرا ولا صغيرا، قد قصف جناحي، ودك معالم آمالي وأحلامي.
إن دمعي الذي ينهمر عفوا عند ذكراك لهو أبلغ من قلمي في التعبير عن آلامي الجسدية، وجناني الذي يختلج اختلاجا عند التأمل بك لهو أفصح من لساني في وصف هواجسي النفسانية.
يا أخي:
يتجدد شجني كلما فكرت بأن الطبيعة كانت قاسية عليك؛ لأنها أردتك قبل أن يحمل ورد شبابك زهرا، وغصن حياتك ثمرا.
إن حكمها - وايم الحق - هو حكم القوة على الضعف، حكم يشمل في هذا الكون كل ذي الحياة.
إلى اللقاء يا أخي، إلى حيث تتجدد الأرواح والأجساد.
الرسالة الثانية1
أين أنت يا أخي؟
في صباحي ومسائي أسألك يا أخي، أين أنت؟!
سؤال مبتذل وجهه قبلي ملايين من الأحياء إلى ملايين من الأموات، ولم يجابوا.
لعمري يستحيل علينا - نحن الأحياء - مخاطبة الأموات؛ لأننا نجهل سر الموت.
وأما أنتم - أيها المنتقلون إلى رحمة الله، الذين امتحنوا الحياتين وعرفوا الدارين - لماذا لا ترشدونا إلى داركم، ولا ترسموا لنا سبل مناجاتكم، وكيفية الوصول إلى مخاطبتكم؟
ألا تحنون إلينا، كما نحن إليكم؟!
يا أخي:
لا أسألك الآن عن جثمانك، لأني أعلم أنه عاد إلى التراب الذي جبل منه، ولكني أطلب منك علما، أين هو ذلك الوجدان الذي كان يحوي رجاحة عقلك وسلامة ضميرك؟!
وأين هي تلك الشواعر الرقيقة التي كانت ترافقك في حياتك؟! وبكلمة وجيزة: أين هو ذلك الجوهر الذي كان ينير ذهنك، ويقودك إلى الصراط القويم؟!
إن جوهرك لم يمت يا أخي، فكما كنت حيا في الجوهر قبل أن ولدتك أمك، هكذا أنت لم تزل حيا بعد موتك.
ولكني لا أدري أين أنت؟!
يا أخي:
إذا لم تشأ مخاطبتي، وأنا مستملك حواسي، زرني في الليل ساعة رقادي، واكشف لي عن جوهر ذاتك، وعلمني كيف أناجيك.
انزع - إن استطعت - هذا الحائط الكثيف القائم سدا منيعا بين عالمك وعالمي، ثم تجل علي بروحك، وهبني معرفة الآخرة، وحقيقة الحياة بعد الموت.
أشرف لحظة من كوة سمائك، وقل لي - على الأقل - أين أنت؟
الرسالة الثالثة1
على فراش الموت
يا أخي:
إن قلبك الذي كان متغلبا على كل مصاعب الحياة ومساوئها، عجز عن مغالبة الداء الذي تغلغل في أحشائك، واستولى في مدة وجيزة على أسوار حياتك.
جاءك الموت على غرة، وانتزعك انتزاعا من أحضان أخيك؛ لأن الداء الذي انتابك لم يمهلك إلا ثلاثة أيام، وقد ظنه الأطباء عارضا بسيطا فكان قاتلا.
إنه - لعمري - كان داء خفيا، والأطباء في الأمراض الخفية يخبطون خبط عشواء، فكم مرة يداوون الكبد، والداء في المفاصل! ويعالجون الرئة، والداء في القلب!
ولهذا السبب لا أدري؛ هل استعجل موتك الطبيب في سوء طبابته، أو الضربة كانت قاضية عليك؟
يا أخي:
في إبان مرضك لم تظهر ضعفا ولا انتهاكا؛ ولهذا السبب لم يدر في خلدي قط أنك على خطر، وأما أنت فكنت عارفا مصيرك؛ لأنك ودعتني في مسائك الأخير، وفهت أمامي بكلمات خالدات سأدونها لذكراك في تحاريري الآتية.
اعذرني يا أخي، حيث لم أعر وداعك انتباها؛ لأني حسبته وداع خائف على نفسه، لا وداع رجل متثبت من حقيقة أمره.
يا أخي:
أتمثلك دائما على فراش الموت، أتمثل شبابك الذاوي، الذي كان مثالا للجد والنشاط والحركة الدائمة، كيف أصبح من جراء الموت معدما خامدا؟!
أنا متعطش لمرآك، ولاستماع صوتك العذب، أفتش عنك في كل مكان، ولكن بلا جدوى، وأسأل هذه الطبيعة الجائرة: أين انتثرت ذرات جسدك؟!
تلك الذرات الحية التي كان مجموعها أنت.
أين ذهبت تلك الجواهر التي لا يقوى الموت على إبادتها ؟! هل اتخذ النسيم والماء العذب بعضها؟ وتوزع البعض الآخر بين الأزهار والأثمار والنبات؟
فإذا كان الأمر هكذا، فأنت إذن يا أخي في النسيم والماء، وفي الزهر والثمر، وفي كل مكان.
إن برد النسيم يحضن برد قلبك، وصفاء الماء يحمل صفاء ذهنك، وجمال الأزهار تنشر جمال خلقك وخلقك، وشذا الرياحين تعلن شذا أخلاقك وطيب أدبك، ولذة الأثمار تحوي طلاوة معشرك ولذة حديثك.
لقد غيبك الموت عني يا أخي، ولكني دائما أتخيلك أمامي في كل شيء حسن، وفي كل مكان جميل.
الرسالة الرابعة1
الليلة الأخيرة
يا أخي:
لا أنسى - ما حييت - ساعة شاهدتك في مسائك الأخير، متكئا على فراشك، وبين يديك رسم الأبوين، متذكرا طفولتك وأيام صبوتك، حين كنت ترتع هنيئا في البيت الأبوي بين أحضان والديك.
في تلك الساعة كان تنهدك عميقا، وكنت تارة تضع الرسم على فمك وتقبله بشوق وحنان زائدين، وطورا تحدق به متأملا ومستنزفا كل ما في جنانك من وجد وانعطاف نحو من كانا سبب وجودك.
في تلك الليلة كان الطبيب بقربك يواسيك، والممرضة تنفحك بعنايتها، وعقيلة أختك إزاءك ترمقك بحنوها وانعطافها، وأخوك بجانبك يشدد عزمك، ويملأ قلبك ثقة بالحياة.
في تلك الساعة حولت فجأة نظرك إلي، وخاطبتني والرسم بين يديك، قائلا: اذهب يا أخي إلى أبيك، وأما أنا فغدا أذهب إلى أحضان أمي، التي جاورت ربها منذ سبع سنوات.
إن قوة إلهية وهبتني معرفة مصيري.
لا أخاف الموت ، إن الموت حياة.
يا أخي:
قلت لي مرارا: إنك لم تنظر أحدا عن كثب يتخبط في دور نزاعه، قم الآن وشاهد نزاع أخيك.
مثل للناس كيف تزهق الروح، ويتلاشى النفس.
اكتب يا توفيق، لقد خلقت للكتابة.
صور نفسك تصويرا صحيحا.
دون أفكارك وسجل خواطرك وكل ما يكنه فؤادك من علم وأدب وفن.
ارسم أخلاقك ومبادئك، ولا تترك في صدرك شيئا مكتوما.
فإذا جاءك هادم اللذات، فلا يهدم إلا جثمانك، وأما وجدانك فيبقى مخلدا في صفحات الكتب، يقرؤه الناس إلى ما شاء الله.
وأما أنا فقد انتصر الموت على عواطفي وأفكاري ، كما انتصر على جثماني؛ لأني تركت معارفي مكتومة في طيات دماغي، وشواعري مخبوءة في حنايا صدري.
يا أخي:
لم أعش طويلا، ولكني عشت شريفا.
لم أعمل في حياتي عملا معيبا تستحيي منه.
قد حرمتني الطبيعة لذة الحياة الدنيا، ولكنها لم تقدر على حرماني تلك اللذة الروحية التي رافقتني طيلة عمري، ولم تزل ترافقني حتى الآن، رغما من شدة آلامي، ووقوفي على باب القبر.
وصيتي إليك بأن تأخذ رفاتي إلى الوطن، وتضعها في لحد أمي.
والآن أودعك الوداع الأخير، وأطلب منك ألا تحزن على فقدي.
الوداع يا أبي الحنون، ويا عزيزتي أغنس،
2
ويا حبيبي: رفيق، وسلوى.
3
الوداع يا شقيقتي العزيزتين.
الوداع يا وطني، يا مثوى الآباء والجدود.
الوداع يا أخي.
هذا كان حديثك الأخير دونته لك حرفيا ليقرأه الناس ويترحمون عليك، وليعلم أولادي ولو شيئا يسيرا عن مقدار شخصيتك البارزة، وأخلاقك النبيلة.
الرسالة الخامسة1
يا أخي اذهب إلى أبيك ودعني أذهب إلى أحضان أمي
يا أخي:
هذه هي العبارة الأولى التي كلمتني بها حينما شعرت بدنو الأجل، كأنك تريد أن توصيني بالعود سريعا إلى أحضان والدنا الشيخ، الذي لم يعد له من نصير غيري في هذه الحياة.
كن على ثقة أني قمت بوصيتك خير قيام؛ حيث لم أمكث في المكسيك بعد وفاتك سوى برهة وجيزة، صرفت في خلالها أشغالي التجارية بسرعة البرق، ولم أعبأ في الخسائر الباهظة التي لحقتني من جراء ذلك.
عدت وعيلتي إلى الوطن حالا، وشاهدت الوالد الحنون منطرحا على فراشه من هول الخطب الذي ألم به.
رأيته مثقلا بالهموم والهواجس، حاملا على منكبيه ثلاثة أعباء: عبء فقدك، وعبء الداء، وعبء الشيخوخة.
ومذ اكتحلت عينه بعيني بادرني فورا بالسؤال عنك، وعن مرضك الأخير، فعرفتك إليه تعريفا صحيحا، معربا له كيف عشت في بلاد المهجر شابا كاملا في خلقك وخلقك، وفي صدقك ورجاحة عقلك، وأخبرته عن شجاعتك النادرة التي أبديتها في إبان مرضك، وعن جرأتك الخالصة التي أظهرتها في استقبال الموت.
فعندئذ انتفض من ساعته، وقال: نعم مات ولدي، ولكنه عاش رجلا، ومات رجلا.
ثم التفت إلي والدمع ملء وجنتيه، وخاطبني بصوت أجش: أشكر الله على سلامتك، وسلامة عيلتك يا بني، وأكرر الشكر إليه تعالى؛ لأنه ترك لي عينا أنظر بها.
ثم قبلني، وقبل عقيلتي، وولدي بلهفة زائدة.
يا أخي:
كنت مصيبا حينما أوصيتني بالعود سريعا إلى أحضان الوالد الحنون؛ لأن جمرة الحزن التي وقعت على قلبه الأبوي من جراء وفاتك لم يخمدها غير حضوري.
إن ولدي: رفيق وسلوى، هما كانا بلسم جراحه، ومورد سلوانه وصبره.
يا أخي:
قلت لي إنك ذاهب إلى أحضان أمك. هل التقيتما في عالم الأبدية، وضمتك الوالدة إلى صدرها فرحة في لقائك، كما كانت تضمك في هذه الحياة؟
هل تصافحت روحك وروحها؟
هل تحدثتما عنا، وافتكرتما بنا، كما نتحدث دائما عنكما ونفتكر بكما؟
أو أنك لم تزل جادا وراءها، تتفقدها في عالم الأثير، ولم تصل حتى الآن إلى مقرها؟
أو أن الموت فتق لك علما جديدا موحيا إليك: أن الأبوة والأمومة تنحصران في الأجساد وحدها، وأما الأرواح فلا أمومة ولا أبوة لها.
فإذا كان الأمر هكذا فلا أمل لك بلقاء أمك؛ لأن جسديكما اللذين كانا يمثلان الأمومة والبنوة قد بليا، وأصبحا أثرا بعد عين.
يا أخي:
اعذرني لأني لا أكتب عن عالم الموت سوى ما أتخيله وأحلم به، لا ما يقره العلم الذي لم يزل عاجزا عن معرفة ما وراء القبر.
ولهذا السبب أكرر رجائي إليك، طالبا منك أن تفتح مغالق الموت، وتجعل منه للناس علما صحيحا.
شق كبد الفضاء، واظهر بروحك حاملا مشعال الحقيقة الناصعة.
أما حان الوقت أن تسقط الكهانة، ويتلاشى الضلال؟
الرسالة السادسة1
إن قوة إلهية وهبتني معرفة مصيري
يا أخي:
لم يزل صوتك يرن في أذني، حينما خاطبتني بإيمان راسخ قائلا لي إن قوة من العلا هبطت عليك وأولتك معرفة مصيرك.
والآن جئت أسألك: ما هي تلك القوة الخفية التي احتلت وجدانك، وقصفت زهرة شبابك؟!
ما سبب مجيئها في تلك الساعة الأليمة؟!
هل أرسلها المبدع خصوصا لتفتح أمامك طريق الموت، وترشدك إلى باب الخلد؟!
أو أن تلك القوة التي شعرت بها هي حياة جديدة دبت فيك، وقضت على حياتك الماضية، واحتلت أماكنها كما يحتل الجيش المنتصر أماكن الجيش المنكسر.
يا أخي:
إن الذرات الحية التي تتركب منها الأجساد على اختلاف أنواعها، نراها دائما تعبث في مركباتها، تحييها مدة ثم تميتها، ثم تعود إلى إحياء غيرها، ثم تبيدها ... وهكذا دواليك.
وبما أن الجسم البشري مفعول من مفاعيل تلك الذرات البسيطة، فلا قبل له سوى الخضوع لها، والجري على نواميسها.
إني لمؤمن أيضا أن حياة الكهارب لا تنتهي بانتهاء الأجساد، بل تتحول من شكل إلى شكل، ولا تفنى ولو فني الكون، وتفككت حلقات الطبيعة، وأصبحت هباء منثورا.
فعندئذ يلوح لي أن هذه الكهارب الصغيرة تصطنع لنفسها كونا جديدا، أو تحتل شهابا آخر، وتأخذ مجراها في عالم الحياة إلى ما شاء الله.
يا أخي:
يخيل إلي أن الحياة دائمة لا بدء لها ولا منتهى؛ لأني أرى الأكوان جميعها تتركب من ذرات صغيرة، تنبعث منها الحياة أشكالا وألوانا.
إن النور المنبعث من الشمس والأرض وما عليها، ليس هما بالحقيقة سوى حياة ولدها اتحاد الكهارب، أو الذرات والتصاق بعضها ببعض.
فكما أن الفنان يرسم ألوان الحياة ومظاهر الطبيعة أشكالا، والموسيقي الماهر يعزف على قيثارته من الأنغام أنواعا، والمخترع يصب في معمله من الآلات أجناسا، هكذا الذرات الحية فهي خليقة أن تعمل في اتحادها من الشموس والكواكب أنواعا لا تعد، وأن توجد من ضروب الحياة أشكالا لا تحصى.
إنها - لعمري - تفعل في آن واحد فعل العازف والفنان والمخترع، وتعمل عمل الكل؛ لأنها الكل بالكل.
الرسالة السابعة1
لا أخاف الموت، إن الموت حياة
يا أخي:
ذكرت لي قبل وداعك الحياة أنك لا تخاف الموت؛ لأن الموت حياة.
ومن يتعمق قليلا في درس الطبيعة يرى كل الحق بيدك.
هذه سنابل القمح المكدسة على البيادر في أيام الحصاد، لا تظهر للناظر إليها غير يبسها، وعدم وجود ماء الحياة في عروقها، ولكنها بالحقيقة لم تمت؛ لأن الحياة لم تزل كامنة في جوهر الحب، الذي يعود متى حان الأوان إلى تجديد انتعاشه، وإحياء نضارته. وهكذا - نحن البشر - نموت لنحيا.
يا أخي:
أنا واثق أنك بالحقيقة لم تمت، بل خلعت ثوبك فقط، وأخفيت في ذاتك جوهر حياتك.
والآن، جاء الربيع وانتعشت الأزهار بعد موتها، وقامت تجدد حياتها، أفلا تستيقظ من سباتك، وتنتعش مثلها لتجديد حياتك.
أو أنك - بالأحرى - بعثت منذ وفاتك، ومنحت عالما جديدا أفضل من عالمنا، وحياة جديدة أشد بهجة وأكثر كمالا من حياتك التي فقدتها.
يا أخي:
لا أحد يعلم في هذا الكون، من الفائز في معترك الحياة؟ هل البالغ الثمانين، أو المائة من العمر، أو المائت في عهد الطفولية وأوائل الشباب؟!
وأما أنا فيلوح لي أن المسرع في عدوه يبلغ ضالة الحياة عاجلا، وأما البطيء السير فلا يبلغها إلا بعد عجز وعناء جزيل.
إني أتمثل الحياة كالماء، تزداد في تجديدها صفاء، وفي تكريرها نقاء.
والكمال وحده محجة الحياة، والاتحاد بالمبدع نهاية سبيلها.
الرسالة الثامنة1
يا توفيق أنت لم تنظر أحدا يتخبط في دور نزاعه، قم الآن وشاهد نزاع أخيك
يا أخي:
لقد خاطبتك مرة، حين كنا نتحدث عن الموت أني لم أشاهد امرءا محتضرا أمامي، فتمثل ذلك الحديث أمام ذهنك ساعة احتضارك، وقمت تردده على مسامعي بوضوح تام.
إن صوتك المتقطع الذي لفظت به هذه العبارة: «يا توفيق، أنت لم تنظر أحدا يتخبط في دور نزاعه، قم الآن وشاهد نزاع أخيك.» كان صوتا روحانيا، خرج من أعماق نفسك ليبلغ أعماق نفسي، وهجر كيانك ليستقر بكياني.
هو حي في أشعر به دائما، يهمس نبراته في ذهني، وينفث زفراته في جناني.
يا أخي:
لم أزل حتى الآن أرتجف ارتجافا حين أتذكر ساعة فاجأتك النوبة القلبية، ودعاني طبيب العائلة إلى مخدعك، وقال لي: إن أخاك بحالة الخطر.
فنظرتك يائسا، وهرولت مسرعا إلى الأطباء أستنجدهم؛ لينقذوك من غائلة الموت الذي أصبح على قيد باع منك.
ثم عدت والأطباء، وكان الموت ببضع ثوان سبقنا جميعا.
رأيتك - ويا لهول ما رأيت - جثة هامدة، لا حراك فيها، والأطباء حولك يتشاورون في سبب موتك.
وأما أنا ففي بادئ الأمر لم أصدق ما حل بك، وأخذت أناديك بأعلى صوتي، وألتمس منك جوابا، ولكن عبثا حاولت ذلك؛ لأنك كنت رهين المنون.
لم أنظرك يا أخي ساعة احتضارك، ولكن عقيلتي التي كانت تمسح عن جبينك عرق الشدة، أخبرتني كيف أسلمت روحك كالبرق، وانطفأ سراج حياتك، كما تنطفئ الشمعة في الهواء.
يا أخي:
لم تظهر ألما شديدا في ساعة نزاعك، ولا وجلت أمام الموت، ولا تأوهت على خسران حياتك، مع أني أعهدك تحب الحياة حبا جما، وتحافظ على كيانك محافظة شديدة، فكيف بك وقد أظهرت كرها للعيش، وازدريت بدنياك، وما فيها من جمال ومال، دون أن تعتد بهما.
كنت جميلا في الموت بقدر ما كنت جميلا في الحياة، وكان العواد جميعهم يرونك كالنائم نوما هنيئا لا كالفاقد الأجل.
نظرتك النظرة الأخيرة على باب القبر، هناك فتحت التابوت بيدي، وقبلتك قبلة الوداع، وكان وجهك لم يزل جميلا مع أن القضاء كان قد حل بك منذ أكثر من ثلاثين ساعة.
وضعك الحفارون في قبرك بعد أن أغلقوا تابوتك جيدا، ثم ابتدأ المؤبنون يتسابقون على تأبينك، معددين مناقبك، وجميل سجاياك، وما أن انتهوا حتى أخذ الحفارون يهيلون التراب عليك، وأنا واقف بقرب رمسك، ذاهل العقل، مكسور القلب والجناح، وحولي جمع غفير من المشيعين الذين كانوا واقفين مثلي حاسري الرءوس، وخاشعين أمام ضريحك.
أودعتك الثرى، وعدت وجمهور المشيعين إلى البيت، ولكن فكري لم يعد معي، بل بقي الليل بطوله يجول فوق ضريحك، ثم عاد إلي في الصباح برهة، ثم رجع إلى مقرك، ولم يزل حتى الآن، يذهب إليك ويعود إلي.
لقد أقمت فكري رسولا بينك وبيني، ولكنه لسوء الحظ رسول خائب، لا فائدة منه، ما زال يقرع بابك ولا تفتح له، ويناجيك ولا تناجيه، ويستجيبك ولا تستجيبه.
الرسالة التاسعة1
اكتب يا توفيق، لقد خلقت للكتابة
يا أخي:
أخالك حين قلت لي قبل وداعك الحياة: «اكتب يا توفيق، لقد خلقت للكتابة.» قد أردت أن تنشلني من عالم المادة إلى عالم الروح، وأحببت أن تحررني من رق التجارة وعبودية المال؛ لأنك منذ قرأت كتابي «الحياة في لبنان» توسمت في التبريز في حلبة العلم وصناعة الأدب. وقد أظهرت لي مرارا إعجابك في بنات أفكاري، وولوعك في طريقتي الكتابية.
والآن أعلمك أني قيام بوصيتك، تركت التجارة منذ وفاتك، ولم أعد أحفل في كسب المال، بل في اكتساب صناعة الأدب، تلك الصناعة التي ابتغيتها لي.
ابتدأت باسمك أجر يراعي، وأخط هذه الرسائل أناجيك بها لأستمد منك علما وعرفانا، ولأظهر لك كيف أصبحت بعدك مهيض الجناح، بلا أخ يأخذ بيدي في الملمات، ولا رفيق أستعين به على الطوارئ.
اعذرني؛ لأني أبعث إليك برسائلي مفتوحة، لجهلي عنوانك ومحل إقامتك، وسأزاول مواصلتك حتى أيأس من جوابك، فعندئذ. أعتقد أنك لم تستلم رسائلي، ولم تسمع نجواي لوجودك في قارة بعيدة، لا هاتف فيها، ولا أثر للمواصلات بيننا وبينها.
يا أخي:
يخال إلي أن الوصول إلى عالم الزهرة والمريخ، واكتشاف ما فيها من عجائب المخلوقات وأنواع الحياة، أهون علينا من اكتشاف عالمك.
ولكن ما العمل، وأنت العزيز الغالي علي؟! أعلل النفس بالوصول إليك تعليلا، ولو كان هذا الأمر مستحيلا.
يا أخي:
كنت أعهدك تكره التعقيد والخفايا، وتحب الحقيقة واضحة كالشمس، فما لي أراك أمسيت في ضمير التراب سرا مطويا؟! لا تعلمني كيف حالك، ولا تثبت لي وجودك.
لقد أمسيت بعدك ولا عزاء لي سوى في صرير اليراع وصفحات الكتب؛ ولهذا السبب كرست حياتي الباقية للدرس والتنقيب؛ لعلي أحل عقدة من عقد الكائنات، أو أكتشف سرا من أسرار الحياة، وسأتخصص في علم النفس، وفي درس طبائع البشر، ربما أصل إلى نتيجة حاسمة أستعين بها للقضاء على مساوئ الإنسانية وخزعبلاتها.
سأعمل في حقل العلم بلا ملل ولا كلل، وجل ما أبتغيه أن أكون كالشمعة تحرق نفسها لتعطي النور لغيرها.
أريد أن أكون عضوا مفيدا لأبناء الحياة قبل أن أغادر الحياة.
الرسالة العاشرة1
تركت معارفي مكتومة في طيات دماغي وشواعري مخبوءة في حنايا صدري
يا أخي:
أظهرت لي شدة أسفك لمغادرتك الحياة دون أن تترك أثرا أدبيا يذكره الناس بعدك فيترحمون عليك، ولكن لست وحدك قضيت هكذا، بل كثيرون مثلك قضوا نحبهم دون إظهار نبوغهم.
الحق أقول لك: إذا استترت مواهبك عن الناس، فإنها غير مستترة عن تلك القوة المبدعة، التي لا يفوتها علم عن دخائل مبدعاتها.
فكما يعلم الكيماوي بدقة جميع أجزاء مركباته، هكذا هي عليمة بخفايا قلبك، ودخائل ذهنك.
إن خلودك تجاه المبدع أبقى لك من الخلود في أذهان البشر، وفي صفحات الكتب، وعظمة نفسك المستمدة من نبلك، وحسن سجاياك أبعد أثرا من كل عظمة وأثر.
وفضلا عن ذلك: إن أخاك الذي عاشرك طيلة حياتك، وامتزج بك امتزاجا أدبيا، وسبر غور ذهنك، ودرس خفايا قلبك وحسن نيتك، لا ينفك يكتب عنك كتابة حقة، ويعرفك إلى الناس تعريفا صحيحا.
يا أخي:
أنا عالم أنك بغنى عن كتابتي وتعريفي، ولا حاجة لك، ولا نفع بكل ما يخطه يراعي؛ لأن الدنيا كلها أصبحت في نظرك خرقة بالية، لا مقام لها في نفسك، ولا شأن لذكرها في ضميرك.
ولكني أنا أخوك المفجوع بك، أكتب عنك ما أكتبه تهدئة لعواطفي، وإرضاء لنفسي؛ لأن عزائي قائم في إحياء ذكرك، وسلواي في التحدث عنك.
الرسالة الحادية عشرة1
صور نفسك تصويرا صحيحا
يا أخي:
نصحتني قبل وفاتك أن أزاول الكتابة، ولكنك شرطت علي أن أصور نفسي تصويرا صحيحا؛ لأنك تريد أن أكتب حقيقة شعوري وصحة اعتقادي، بلا مصانعة ولا مواربة.
وطالما انتقدت أمامي الشعراء والمنشئين، الذين لم يصوروا حقيقة وجدانهم في منشورهم ومنظومهم، فجاءت مؤلفاتهم سقيمة لا يأبه لها الناس، ولا يعيرونها التفاتا.
يا أخي:
أعاهدك وأقسم لك أني لا أمسك اليراع إلا لأخط ما أشعر به، وما أعتقده صوابا.
لقد أعلنت استقلالي عن الناس، كي لا أتأثر من مذاهبهم وبيئاتهم، وجردت نفسي عن محيطهم؛ لأكتب مجردا عن مجامعهم وأهوائهم.
وها قد حطمت قيود الأجيال التي كانت تقيد عنقي، ونزعت غل الأجداد الذي كان يشدد النكير علي، وأخذت أمشي في عالم الفكر حرا طليقا، أدون ما أختبره بنفسي صحيحا، وأكتب ما أرتئيه بذهني صريحا.
أقول الحق ولا أخشى لومة لائم.
ليس من مبدئي الوقوف عند معرفة الأسلاف، ولا من مذهبي التقيد في نواميسهم وقوانينهم.
إن مبدئي ينحصر في إطلاق الفكر من عقاله، ومواصلة البحث والتنقيب في درس الحياة، واكتشاف أسرار الكائنات؛ لأننا لم نزل - حتى الآن - في معرفة الكون أطفالا، لا ندرك غير اليسير من أخباره وأسراره.
لا مشاحة أن الأجداد اشتغلوا في درس حقائق الكون، وتركوا لنا من علومهم ومعارفهم تراثا جديرا بالاعتبار، ولكنهم كانوا في مناحي شعورهم أقرب إلى عالم الخيال منهم إلى عالم الحقيقة.
ولهذا السبب بنت لنا مخيلتهم في عالم الخيال بناء فسيحا، وأما بناء عقولهم في عالم الحقيقة فكان ضيقا ضئيلا.
وجاء العلم في هذا العصر ينقض أبنية الخيال؛ ليضع مكانها حجر الزاوية لبناء هيكل الحقيقة.
سأشتغل طيلة عمري عاملا من عمال هذا الهيكل؛ رجاء أن أشيد صفا من صفوفه، أو على الأقل حجرا من حجارته. وإذا لم أستطع بناء، فأقوم جهدي في خدمة بنائه.
يا أخي:
لا يهمني في التشيع للحق رضا السلطات وعدم رضاها، ولا اضطهاد الجهال، وازدراء المتعيشين والمتزلفين.
وفضلا عن ذلك؛ لا أدعي العصمة في كتابتي، فإذا أخطأت في بعضها، فصراحتي تشفع بي أمام الناس الذين خبروني، وتجاه المبدع الذي يعلم نيتي.
الرسالة الثانية عشرة1
لم أعش طويلا، ولكني عشت شريفا
يا أخي:
هذه العبارة الحكيمة التي اتخذتها عنوانا لرسالتي الآن، هي من بعض حكمك، التي زودتني بها قبل توديعك الحياة.
تلك الحياة التي لا تقاس بطولها وقصرها، بل بما تذخره من جليل الأعمال وشريف المآثر.
يا أخي:
أشهد فيك شهادة حق، أنك بلغت في حياتك القصيرة مركزا هاما في عالم التجارة، وأدركت ما لا يدركه المعمرون من طيب الأحدوثة ومضاء العزيمة؛ لأنك قضيت عمرك محبا للصدق والعمل، أبيا شريفا لم تلوث حياتك بالإثم، ولم تدنس شبابك بالمساوئ.
لم تكن عالما، ولا فنانا، ولا مخترعا، لم تكن عظيما كما يفهم الناس العظمة، ولكنك بالحقيقة كنت نابغا في تنظيم أعمالك، ومثالا صالحا في نزاهتك ومبادئك القويمة.
وليس على المرء أن يكون عبقريا ليعد عظيما، بل هو عظيم - في نظري - كل من أحب عمله وأتقنه، وكان فاضلا؛ لأن غاية الحياة حب العمل والفضيلة.
الرسالة الثالثة عشرة1
لم أعمل في حياتي عملا معيبا تستحيي منه
يا أخي:
أخالك قبل أن كلمتني بهذه العبارة قد استعرضت سني حياتك منذ طفولتك إلى يومك الأخير، وامتحنت نفسك امتحانا كليا، فلم تجد شيئا معيبا صدر منك، ولا وصمة تافهة تؤاخذ عليها.
يا أخي:
لقد بلوتك كما بلوت نفسي، وعلمت دخائلك كما أعلم دخائلي؛ لأنك قضيت معظم حياتك بجانبي.
فلم أر - وايم الحق - حياة ترمز إلى المثل الأعلى أفضل من حياتك، ولا قلبا أطهر من قلبك.
كلما شئت أن أراك أستنجد مخيلتي فتعيد إلي ملامح طفولتك، ورسم صبوتك وشبابك.
وكلما أردت أن أقرأ تاريخ حياتك أفتح كتاب ذهني، وأتصفحه صفحة صفحة، فأحيط علما عنك منذ ولادتك إلى يوم وفاتك.
الحق أقول لك: إنك مثلت رواية الحياة أحسن تمثيل، وحزت قصب السبق في جميع أدوارها.
فلم يكن أودع منك في الطفولة، ولا أبر في الصبوة، ولا أكمل في الشباب، ولا أشجع في الموت.
لم تأت في حياتك أمرا فريا؛ لأنك كنت حكيما جدا، تنظر إلى عواقب الأمور قبل إتيانها، وكان شعارك دائما هذه العبارة: «لا نجاح بلا حكمة، ولا حكمة بلا تفكير وترو.»
ولا أزال أذكر بعض أحاديثك التي تنم عن روائع حكمتك، منها: أنك سمعتني مرة أشكو لبعض الناس هما نزل بي، وكنت لا تثق بهم، فهمست بأذني قائلا: يا أخي: لا تشكو همك لمن لا يحبك، ولا تظهر ضعفك لمن يجب أن تظهر له مقدرتك.
وفي ذات يوم كنا نتحدث عن التضحية فقلت لي: جميلة هي التضحية التي يبشر بها الأولياء، ولكنها اسم لغير مسمى؛ لأن الناس مطبوعون على حفظ كيانهم، ولا تضحية مع حفظ الكيان.
وسمعتك مرة تقول: إن جميع المصاعب التي تحصل لنا في معترك الحياة ناتجة بالأكثر عن جهلنا طريق الحياة الأمينة لنعيش بمعزل عن المتاعب والمصاعب.
ثم أردفت هذه العبارة: ومن عرف أن يمهد مصاعب نفسه يجب عليه أن يسعى لتمهيد مصاعب الآخرين؛ لأن أفضل الناس أنفعهم للناس.
هذا مثال من أحاديثك، التي كانت تدل على سمو فكرك وكمال عقلك، ولم تكن أعمالك سوى نتيجة أحاديثك وتفكيرك العميق.
الرسالة الرابعة عشرة1
خذ رفاتي إلى الوطن وضعها في لحد أمي
يا أخي:
أوصيتني بنقل رفاتك إلى الوطن، وحتمت علي أن أضع بقاياك في اللحد الذي يضم بقايا الوالدة، التي قامت بمهمة تربيتنا أفضل قيام.
لم أزل أذكر أن موت الوالدة أثر بك تأثيرا عظيما؛ لأنك كنت تتمني أن يمد الله بعمرها لتراك شابا كما رأتني، قائما بواجباتك نحوها، شأن كل ولد بر، يحترم أبويه ويعطف عليهما.
أما وقد ماتت قبل أوانها، واستحالت عليك مجاورتها في الحياة، فأحببت أن تجاورها ولو في أحشاء الأرض لتختلط عظامك بعظامها، وتتحد ذراتك بذارتها؛ لعل الأرض التي هي أم كل ذي حياة ينفخها المبدع من روحه، فتتمخض بكما، وتعيدكما إلى الحياة، كما كنتما خير أم لخير ولد.
يا أخي:
لقد تعذر علي نقل رفاتك إلى الوطن حالا؛ لأن الحكومة المكسيكية لم تسمح بذلك إلا بعد مرور سبعة أعوام على وفاتك؛ ولهذا السبب لم تزل حتى الآن مستقرا في ضريحك، تحضنك تراب العاصمة التي أحببتها كثيرا، وتحنو عليك عن أخيك أشجارها، وتنوح فوق رمسك عن أبيك وعقيلة أخيك وشقيقتيك حمامها وسائر أطيارها.
نم مطمئنا في لحدك، فمتي حان الأوان أستجلب رفاتك، لا لأضعها فقط في لحد أمك، بل في جوف تابوتها وبين عظامها. وإذا لم أبق حيا تقوم عيلتي مقامي؛ لأن كل ما يتوجب علي قضاؤه يتوجب عليها.
الرسالة الخامسة عشرة1
لا تحزن على فقدي
يا أخي:
أوصيتني ألا أحزن على فقدك، وهذه هي الوصية الوحيدة التي لم أقم بها حسب مشيئتك وإرادتك؛ لأني كلما تأملت في شدة محبتك لي التي لا تعدلها محبة، وكلما فكرت كيف كنت - حتى في أشد ساعاتك ضيقا - غير حافل بالداء الذي كان يلتهمك التهاما، ولا بالألم الذي كان يطويك طيا، بقدر احتفالك بي، والتفاتك إلي، تنهمر دموعي عفوا بالرغم مني، وأصبح - ولا إرادة لي - مستسلما بكليتي إلى لواعج الحزن وبوارح الأسى.
يا أخي:
أنا بشر كما تعهدني، والطبيعة البشرية كثيرة الضعف، وكل ضعف يتطلب معينا، ومن خسر معينه يتفاقم خطبه وتكثر بلواه.
أجل، إن فلسفة العقل تقضي على المرء الذي يخسر معينه بأن يرضخ لأحكام القضاء التي لا مرد لها، فإذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون، ولكن فلسفة الشعور هي غير فلسفة العقل.
والشعور نوعان: شعور مادي، وشعور أدبي. هذا دواؤه من نفسه، وذاك دواؤه من غيره، فمن يشعر بالجوع أو العطش - وشعوره مادي صرف - فليس من دواء سوى الغذاء أو الماء.
وأما من يشعر بوطأة الحزن القاتل - وشعوره أدبي بحت - فماذا يكون دواؤه؟
يقولون: إن أنجع الأدوية الصبر وتناسي المصيبة، وأما أنا فأقول مناقضا: إن الحزن دواؤه الناجع التعمق في الحزن، والمصيبة دواؤها الشافي التفكر في المصيبة.
كنت قبل أن فقدتك يا أخي لا أغشي المدافن دون أن أشعر برهبة وانقباض في نفسي، وأما اليوم فقد زال جزع الموت عني، وأصبحت أشعر بارتياح كلي حينما أرافق جنازة إلى مقرها الأخير، وأقف خاشعا بين القبور متأملا بقايا أناس كانوا مثلي ممتلئين صحة وحياة، فأمسوا في ضمير التراب ترابا.
إن القبور تلقي علي وعلى الأحياء جميعهم عظة لا لغة لها، ولكنها من أبلغ المواعظ، يفهمها الناس على اختلاف لغاتهم وأجناسهم.
تلك هي عظة الموت - عظة الرجوع إلى أحضان أمنا الطبيعة.
يا أخي:
إن الحزن الشديد الذي استحوذ علي من جراء فقدك بدلا من أن يضيرني وينهك قواي - كما كان منتظرا - أصبح لي مفيدا جد الفائدة؛ لأنه أيقظ حواسي، وروض ذهني، ووهبني مناعة روحية ليس فوقها مناعة، فأمسيت أقوى على احتمال مكاره الحياة، مهما كان خطبها جسيما وألمها عظيما.
لم أنتصر على الحزن إلا بعد أن دخلت صميمه، فعندئذ بان لي أن الرجل الذي يدركه اليأس هو ذاك الذي يريد أن يهرب من الحزن فيقتله الحزن.
وأما الرجل الذي يستقبل خطبه غير هائب، ويستوعب حزنه غير واجل، فهو ذاك الذي يوجد لنفسه من الخطب راحة، ومن الحزن حياة.
وأنا هو ذلك الرجل.
الرسالة السادسة عشرة1
الوداع يا أبي الحنون، ويا عزيزتي أغنس، ويا حبيبي رفيق وسلوى، الوداع يا شقيقتي العزيزتين
يا أخي:
مثلما كنت تصعد أنفاسك نفسا إثر نفس، هكذا قمت تودعنا فردا إثر فرد، ولم تنس أحدا من أنسبائك، ولا من أصدقائك ومعارفك، كأننا جميعا كنا حاضرين في ذهنك حين حضرتك الوفاة.
ابتدأت بوداع والدنا الشيخ، ثم بوداع عقيلتي وولدي: رفيق وسلوى، ثم بوداع الشقيقتين، وسائر الأنسباء والأصدقاء.
والآن، ماذا أقول لك عن الوالد الحنون؟ لقد أمسي يؤثر الموت على الحياة، وكم كان يعد نفسه سعيدا لو قضي نحبه قبل أن يتجرع كأس حزنه عليك، وهكذا الشقيقتان لا تنشف لهما دمعة، ولا ينضب لهما جفن.
وأما عقيلتي فقد ودعت صفو العيش بعد وداعك، وهي دائما تلهج بذكراك، وفي كل صباح تأخذ ولديها أمام رسمك، وتقول لهما: هذا عمكما الحنون طانيوس الذي اصطفاه الله إليه، قولا له: عم صباحا «مامو»،
2
فيحييانك مرارا قبل أن يبدآ باللعب في أفناء الدار.
وقد أصبحا اليوم كلما عن لهما مرآك يذهبان وحدهما إلى حيث رسمك، ويلفظان اسمك بأجلى بيان.
وأما ابن أخيك رفيق الذي كان عمره عقب وفاتك دون العامين، فبقي مدة طويلة يسأل عنك بإلحاح كلي، ويقرع باب غرفتك صائحا: «مامو مامو».
وفي ذات يوم لشدة صياحه فتحت له باب حجرتك فولجها، ثم ذهب توا إلى فراشك، وأخذ يناديك على عادته، ثم التفت يمنة ويسرة فرأى معطفك لم يزل معلقا قرب سريرك، فهرول إليه وقبله كما كان يقبلك، ثم نظر إلي وأشار إلى المعطف، وصاح بملء فيه: «مامو مامو».
وهكذا كان على المائدة يذهب إلى مكانك، ويضع يده على كرسيك طالبا حضورك بإلحاح تام.
وفي اليوم الذي غادرت به عاصمة المكسيك ذهبت وعقيلتي لزيارة قبرك، واصطحبنا رفيقا معنا، وكانت زيارتنا تلك زيارة الوداع.
هناك خاطبت الطفل رفيقا الذي كان متكئا على حائط لحدك قائلا له : يا ولدي، هنا يرقد - بسلام - عمك الحنون طانيوس «هنا مامو، هنا مامو».
فعندئذ انحنى الطفل على قبرك يناديك، ثم قبل الرخامة المحفورة اسمك عليها، ثم رفعته بيدي إلى الصليب القائم فوق حجرتك فقبله مرارا، ثم بكى معنا بكاء مرا، ولفظ مثلنا كلمة الوداع وانصرفنا.
فإذا كانت هكذا حالة ولدنا رفيق من بعدك - يا أخي - رغم طفولته، وعدم تقديره عظم مصابك، وجليل خسارتك، فكيف تكون حالتنا نحن الذين خبرناك وعرفناك؟ إنها - لعمري - حالة يأس وحزن شديد.
الرسالة السابعة عشرة1
الوداع يا وطني، يا مثوى الآباء والأجداد، الوداع يا أخي
يا أخي:
هذه هي عبارتك الأخيرة التي لفظتها قبل وفاتك، كأن لبنان في تلك الساعة الرهيبة قد تجلى أمامك، فشعرت أنك غريب عن ديارك، وكافة أهلك.
فعز عليك كثيرا دنو أجلك في منآك، ووددت أن يغمض الله جفنك في لبنان؛ ليثوي جثمانك تحت صخرة من صخوره، أو قرب شجرة من أشجاره.
وجل قصدك أن يمسي هيكلك الذي كان يحمل نفسك الكبيرة جزءا غير منفصل عن تراب الوطن الذي احتضنك صغيرا، وهو يحضن الآن بقايا آبائك وأجدادك، الذين أمسوا ترابا ممزوجا بترابه، وكيانه متحدا بكيانه.
يا أخي:
لا أنسى - ما زلت حيا - كلمتك الأخيرة «الوداع يا أخي»، تلك الكلمة التي ودعت الكلام حين ودعتني بها.
لا أنسى أبدا كيف تحركت عند لفظها شفتاك، ثم أطبقتا إطباق الموت، ولا أنسى كيف نطقها لسانك، ثم خرس إلى الأبد، وكيف حدقت طرفك بي، ونظرتني بعيني عقلك وبصرك، ثم ابتدأت تتقزز عيناك، ثم جمدتا، وبعد هنيهة أطفئ نورهما إلى الأبد.
الرسالة الثامنة عشرة1
يوم الموت
يا أخي:
دخلت في هذا الصباح إلى مكتبي، وبعد أن حييت رسمك كعادتي أجلت نظري في الروزنامة المعلقة أمامي، فقرأت على صفحاتها تاريخ اليوم.
هذا اليوم الواقع في السادس من حزيران والموافق منذ عام ليوم وفاتك.
إنه - لعمري - أشد الأيام هولا علي؛ ولهذا السبب دعوته بحق: يوم الموت.
أنا الآن جالس إلى مكتبي في مدينة بيروت، ولكن مخيلتي لم تجلس معي، بل طارت بذهني إلى عاصمة المكسيك، إلى المحل التجاري الذي كنا نشتغل فيه معا، إلى البيت الذي كنا نسكنه، إلى مخدعك، إلى تشخيص مرضك الأخير، إلى ساعة نزاعك، إلى يوم مأتمك.
إن سني حياتك في المكسيك مرت كلها أمامي، كما تمر الصور المشبحة على لوحة «السينما»، وكانت مخيلتي هي الآلة السينمائية التي مثلت جميع أدوار حياتك.
والآن ماذا أقول لك عن يوم مأتمك، وهو اليوم الذي مثلت فيه رواية الموت؟ إنه - وايم الحق - لا يغرب عن بالي، ولا يجلو عن ذهني.
إن خبر وفاتك وقع على أصحابك ومعارفك وقوع الصاعقة، وجاءوا من كل فج وصوب، يشاطرونني العزاء أفواجا أفواجا، وهم يبكون بحرقة شبابك الغض، وأدبك الجم.
لقد غص البيت على رحبه بقوافل الباكين والمعزين، وامتزج الخادم والمخدوم في مأتمك؛ لأنك كنت صديقا للأوفياء والمخلصين من أي طبقة كانوا، لا لذوي النفوذ المستبدين، ولا للأغنياء المتعجرفين.
يا أخي:
لم تزل نصب عيني تلك الساعة الرهيبة التي وضعت بها في تابوتك، وتلك الآونة التي بها انحنيت ألثمك بكل قواي، ويداي تطوقان التابوت الذي أعد لك فراشا وغطاء، ليس فقط منذ صنعه الإنسان، بل منذ تمخضت الطبيعة بخلق مواده الأولية.
كان مأتمك فخما للغاية، مشى فيه الكبير والصغير، والغني والفقير، وكان المشيعون يزيدون على الألف، وهم يمثلون أمما عديدة، من أميركان وإنكليز وإفرنسيس وإسبنيول وخلافهم.
وكانت الجالية اللبنانية السورية بأسرها.
وكان من المكسيكان جمع لا يستهان به.
وأما تابوتك فكان جميلا جدا، ولكنه لا يوازي جزءا من جمال شبابك، ولا من جمال نفسك، كان مصنوعا من البرونز الخالص، ومبطنا بأجمل الحرائر وأفخر النفائس.
كنت مسجى في جوفه كأنك ملك نائم وسط عرشه، والشموع مضاءة فوق رأسك، وتحت أخمص قدميك، والناس حولك خاشعون كأنهم من بطانتك ورجال ملكك.
إن عرشك كان عرش الموت، وعرش الموت هو عرش الحياة.
فكما أن الشجرة لا تنبت إلا بعد اضمحلال نواتها، والقمح لا ينضج إلا بعد انفلاق بذاره، هكذا أنت لم تنتقل من حياة إلى حياة إلا بعد موتك.
ولا فرق عندي الآن، إذا حصل انتقالك على لغة الدين أو على لغة الطبيعة.
أقول هكذا؛ لأن الانتقال بلغة الدين محصور بالإنسان وحده، وأما الانتقال بلغة الطبيعة فيشمل المخلوقات جميعها والكائنات بأسرها.
إذا ذبلت أوراق الزهرة، وتلاشت براعمها، فأريجها الذي يعطر الفضاء - ويدعوه الكيماويون كهارب الحياة - لا يدركه الزوال، بل يعود إلى الحياة، ويكون لنفسه براعم جديدة، يحوكها من شعاع الشمس وخيوط الهواء وسماد الأرض.
وهكذا أمنا الطبيعة، فمتى حان حينها تتفكك حلقاتها، وتصبح سديما كما تصبح ترابا، ثم تتحد بأمها اللانهائية كما نتحد بها.
ثم تكون لنفسها بعد اندثارها حياة جديدة، كما تكون النواة جذوع شجرتها العتيدة.
إن التعاون يبدو جليا في الحياة والموت، فكما تتعاون الذرات، وتتحد كيماويا لتؤلف جسدا حيا، هكذا تتعاون أيضا لإتلاف هذا الجسد وإعدامه.
إن الكهارب الصغيرة التي يتألف منها الكون بأسره، هي بحد ذاتها معامل هدم ومعامل بناء.
فكما تنتج هذه المعامل أصغر المخلوقات حجما، هكذا تصنع أعظم الشموس نورا وأضخم الكواكب جرما، ثم تتلف أدنى مخلوقاتها، كما تهصر أسطع شموسها.
كل جسد مهما كان صغيرا هو معمل حق، ولكنه جزء مصغر من معامل الكون التي لا نفاد لها.
تشتغل معامل الكون بلا انقطاع ولا إبطاء، تبني أجسادا ثم تهدمها، وهكذا هي تبني وتهدم إلى ما شاء الله.
يا أخي:
بمثل هذه الفلسفات وجدت عزاء لنفسي بعد وفاتك؛ لأني لم أكتف بفلسفة الدين الذي يؤمن خلودك، فذهبت إلى أبعد من ذلك، وأخذت أدرس الكون مادة مادة؛ لأثبت خلودك بالمادة كخلودك بالروح، ثم تناولت فلسفة الحياة والموت، وأشبعتهما بحثا وتنقيبا، فبان لي أن الفناء لا أثر له البتة، وأن الموت هو مبعث الحياة كما أن الحياة هي مبعث الموت.
وظهر لي أيضا أن الأجساد المتنوعة والأكوان المنفصلة بعضها عن بعض، ما هي بالحقيقة سوى مجموع كون واحد فقط، كما أن القوات الكهربائية التي تحرك معامل الكون وتدير نظامه العجيب ليست هي بالحقيقة سوى مجموع قوة واحدة، هي قوة الله.
الرسالة التاسعة عشرة1
خبر عن صحف الحياة
يا أخي:
كما ينشر الموت صحفه، معلنا في كل لحظة ضحاياه، هكذا تنشر الحياة في كل آونة أخبارها، معلنة مواليدها الجديدة.
ومن مواليدها الآن مولود يهمك معرفته؛ لأنه يمت بنسبه إلى أقرب الناس إليك وأحبهم إلى قلبك، كيف لا وهو ابن أخيك، وسليل أبيك وجدك؟!
جاء العالم في هذا اليوم، يوم الجمعة الواقع في العشرين من حزيران سنة 1930 الساعة الحادية عشرة ونصف ساعة مساء.
جاء من العالم المجهول إلى هذا العالم، ودعوناه باسمك منذ مجيئه؛ لأنه يشبهك جد الشبه، عيناه تشعان نورا وجمالا كعينيك، ووجهه مستدير وجذاب كوجهك، ولونه حنطي كلونك.
بكى منذ أبصر النور، ولا أدري لماذا استقبل الحياة باكيا؟
هل هو يؤثر الظلام على النور، أو الموت على الحياة؟
أو بالأحرى بكى لانفراط عقده عن أمه؛ حيث كان في أحشائها متصلا بها، فأصبح منذ أبصر النور منفصلا عنها.
هو من مواليد اليوم، ولكنه ليس ابن يومه؛ لأن ولادته الآن ليست بدء حياته الحاضرة، بل هو بحق يدعى ابن اليوم الذي به انفرط عقده عن أبيه، وتصور في أحشاء أمه.
هل بكى ساعة انبثقت حياته في جوف الرحم، كما بكى الآن إثر ولادته؟
لا أدري، فربما بكى ولم أشعر ببكائه، وتألم ولم أحس بألمه.
يا أخي:
يخيل إلي أن بكاء الطفل ساعة ولادته ينم عن شعور فطري يوحي إليه أنه ودع حياة سابقة لحياته، ووجودا سابقا لوجوده.
فكما يشعر النازح جديدا عن وطنه بألم الغربة ومضض الفراق، هكذا يشعر المولود عندما يبصر النور، فيبكي لاغترابه عن محيط ألفه، ويتألم لوداعه حياة سبر غورها، واتخاذه حياة جديدة لا يدرك كنهها.
وبعد قليل ينسى الطفل حياته الماضية، كما ينسى ساعة ولادته، ومتى شب ينسى طفولته بتمامها، ويشعر بوجوده كأنه لم يكن طفلا قط.
ولكن نسيانه لا ينفي مطلقا مروره على ساعة ولادته، وعلى أيام طفولته.
هكذا حياته الماضية، لا ينفي نسيانه لها وجودها.
إن الأجيال المقبلة التي سترث الأرض بعدنا، هي بالواقع موجودة حقا في هذا الكون، ولكننا لا ندري الآن أين تمرح؟ ولا ماذا تعمل تلك الذرات والكهارب التي ستتركب منها أجساد أمم الغد؟
كما أننا أيضا لا نعلم، أين هي تلك الذرات التي منها كانت تتألف أجساد الأمم الغابرة وبقايا القرون الدارسة.
إن عدم معرفة الشيء لا ينفي وجوده.
ألم نكن - بشر اليوم - منذ جيل في عالم الغيب، فصرنا في عالم الحياة. ولا شك غدا نكون في عالم الموت.
هكذا الأجيال كلها ستقفوا أثرنا، وتتعاقب جيلا بعد جيل.
إن العالم الألماني أينستين قام في هذا العصر يبشر بالنظرية النسبية، التي تقول بحدود الكون وبرجوع الأشياء إلى محلها، كما أن الأرض تدور دورتها حول الشمس، ثم تعود إلى مكانها، ثم تستأنف دورانها.
هكذا أيضا يلوح لي أن الوقت يدور دورته، ثم يعود إلى مكانه كجميع العوامل الكونية. فكما يصبح الحاضر ماضيا، والمستقبل يمسي حاضرا، هكذا يعود الماضي مستقبلا، ثم حاضرا، ثم ماضيا ... وهكذا دواليك.
إن الكائنات والحياة والأوقات كلها تدور دورتها، ثم تعود إلى مكانها، ثم تستأنف دورانها إلى ما شاء الله.
يا أخي:
يتراءى لي أن الكون حركة دائمة، وما الحياة والموت سوى نتيجة تلك الحركة.
الرسالة العشرون1
خبر عن صحف الموت
يا أخي:
مات بعدك كثيرون، ونشرت صحف الموت أخبارهم.
مات عدد من رجال الحسب والنسب، ورهط من رجال السياسة والحرب.
فقام الناس وقعدوا لهؤلاء وأولئك بالسواء.
نعاهم الراديو إلى العواصم وأمهات المدن، ونقلت أسلاك البرق خبر وفاتهم إلى جميع أنحاء المعمورة.
أثبتت رسومهم جرائد الأمم، وكتبت عنهم الفصول الطويلة، معددة تاريخ حياتهم، وجليل مآثرهم، ونصب لمعظمهم التماثيل الفخمة والقبور الثمينة.
إن موتهم أشغل العالم قاطبة، مع كونهم لا يتجاوزون المائة عدا.
وأما غيرهم الذين ماتوا في هذا العهد، وكانوا ألوفا مؤلفة، فلم يشغلوا غير جزء يسير من محيطهم؛ حيث لم يشعر بموتهم غير أقربائهم الأدنين وأصدقائهم المخلصين.
إن حياتهم كانت كحياة الأشجار، لم يشعر بوجودها غير أصحابها ومن جاورها وعابر الطريق.
ولكن لا بأس، فبين هؤلاء المنسيين من عالمهم من كانوا قدوة صالحة في سمو أخلاقهم، وأنموذجا حسنا في استقامتهم وتهذيبهم.
وفضلا عن ذلك، ليس كل من خفق ذكره في الآفاق هو من خيرة الرجال، ولا كل من عاش ومات منسيا هو من الخاملين.
فكم مغرور بعد صيته! وأفاك انتشر اسمه في الخافقين!
وكم شهم فاضل كان من أكمل الرجال أدبا وخلقا، عاش ومات بلا ضجة عالمية لعدم اكتراثه للأباطيل الدنيوية!
فإذا كان هذا العالم يؤثر أناسا على أناس، وينسى بعضهم وينتبه إلى البعض الآخر، فالموت لا يعتوره النسيان، ولا يفرق شخصا على شخص، ولا إنسانا على حيوان، ولا نباتا على جماد، فهو يطوي كل من حان حينه في كتابه، وينشره جميعا بلا تمييز في صحفه.
فمن لم تذكر صحف العالم خبر ولادته فقد اعتاض عنها بصحف الحياة، ومن فاته أن تنشر تلك الصحف نعيه فلا تفوته صحف الموت.
إن للحياة والموت كتبا وصحفا لا يعتورها الفناء؛ لأنها منشورة على جبين الأزل، وأما صحف الناس وكتبهم فكلها زائلة؛ لأنها مطبوعة على صفحات الزوال.
فإذن إلى البقاء ما تنشره صحف الحياة والموت، وإلى الفناء ما تنشره صحف الناس.
يا أخي:
مات بعدك من الذين يهمك أمرهم، يوسف ابن العم سليمان.
ولد في بلدة إسترادا نوفا، التابعة ولاية الريو من أعمال جمهورية البرازيل، وقضى نحبه هناك في مستهل شبابه.
لم يسعدك الحظ بأن تتعرف إليه في هذه الحياة الدنيا؛ لأنك سكنت بلادا وسكن غيرها، وكان بينكما بعد شاسع، وبين بلاديكما بحار وقفار وممالك عديدة.
وأما الآن وقد انتقلتما إلى عالم الموت، فهل التقيت به في طريقك، وتعرفت روحك إلى روحه، أو بالأحرى يوجد في عالم الموت فواصل تفصل الأرواح عن معرفة بعضها بعضا كفواصل هذا الكون.
وهل كل فئة من الأرواح تستعمر ناحية من العالم الآخر وتستقل بها، كما استعمر الناس هذا العالم، واستقلت كل فئة من البشر في بقعة من بقاعه؟!
لا أدري، قد تعرف الأرواح - متى تحررت من المادة - بعضها بعضا، وربما لا تعلم سوى محيطها، ومن تخالطه ويخالطها.
ولكن مهما كان الأمر، فإني أتمنى من صميم الفؤاد أن تكون وابن عمك ووالدتك، وكل من تحبه، راتعا وإياهم، هنيئا في دائرة واحدة من دوائر الخلود.
الرسالة الواحدة والعشرون1
عن بلدة الآباء والأجداد
يا أخي:
أبعث إليك بهذه الرسالة عن شرتون، التي هي بلدة آبائك وأجدادك، ومرتع طفولتك وصبوتك.
جئتها البارحة برفقة عيلتي، وكان الوالد الحنون قد سبقنا إليها منذ بضعة أيام.
إن أزقة هذه البلدة وساحتها ومدرستها، ودار كنيستها وبيوتها وحقولها كلها تحمل تذكارات حداثتك، ومعظم سني حياتك في لبنان.
ولهذا السبب تراني الآن أتخيلك أمامي أنى توجهت، وكيفما حللت.
أتمثلك تارة حدثا صغيرا جالسا مع أترابك في مدرسة القرية، تتعلم أصول الهجاء، وطورا تبدو أمامي كأنك لم تزل تلعب معهم في أزقة البلدة ودار كنيستها.
ثم أتخيلك، وقد بلغت رشدك، وانبلج فجر شبابك، متنزها برفقة فتيان القرية وفتياتها، قاطعا هضابها، ومتنقلا في بساتينها وحقولها.
كنت في ذلك العهد تستقبل نسيم الفجر، فتبدو كأنك فجر يستقبل فجرا، أو نسيم يداعب نسيما. وكنت في الحقل تجني الأقمار، فتظهر فيه كأنك قمر يجني قمرا.
في مطلع شبابك، ما كان الورد أفضل منك لونا، ولا كان النسيم أخف منك روحا، ولا أرق لطفا.
والبيت، ماذا أقول لك عن البيت؟! كان عشنا في الصغر، في كنفه درجنا، وفي ظل الأبوين وتحت رعايتهما ربينا.
دخلته البارحة وفي القلب غصة، وفي العين دمعة، جلت فيه، وكل ما فيه يذكرني بك يا أخي.
هذه غرفتك، تحوي سريرك وكتبك وبعض أمتعتك، وهذه رسومك العديدة التي تمثلك منذ صغرك إلى يوم وفاتك معلقة كلها في الدار وفي البهو، وفي كل ناحية من نواحي البيت.
وأما تحاريرك التي كتبتها لي وللوالد الحنون، فلم تزل كلها محفوظة بين كتبك، تلوتها البارحة رسالة رسالة، فشعرت كأن وجدانك متجسم في تلك الأوراق، وكأن روحك مستترة بها، وسأعيد تلاوتها كل يوم، حيث أخال نفسي كأني أستعيد في قراءتها أيام حياتك.
خرجت من البيت إلى الحديقة، التي كنت ترمقها بعنايتك، وجلست إزاء شجرة من أشجارها، ثم أخذت أمتع نظري، تارة في شجر البلوط الباسق، وطورا في الأزهار اليانعة والأشجار المثمرة.
في هذه الحديقة خاطبت نفسي قائلا لها: هنا تحت ظلال البلوط، كان يلعب أخي في صغره، ويتنزه في صبوته.
هذه شجيرات التفاح والمشمش والرمان وما جاورها، قد كان يأكل من ثمارها، ويتعهدها بعنايته.
وتلك مغارس الأزهار والرياحين، قد كان يقطف من أقمارها، ويرمقها بالتفاته.
ثم حولت نظري إلى الأعالي، فشاهدت الكرمة المشرفة على البيت، فصعدت إليها وكان العنب لم يزل حصرما، فاكتفيت بأن أستظل الدوالي، وأن أتمثلك - يا أخي - آتيا من كرمة الرب إلى كرمة العنب؛ لتجلس في ظلها إزائي.
أجل تخيلتك في الكرمة كأنك حقيقة بجانبي، ضممتك إلى صدري، وحنوت عليك بكل قواي، وخاطبتك بلساني، وناجيتك بنفسي، معربا لك عن شدة شوقي إليك، وفرحي بلقائك.
ثم انتفضت، فزال الحلم عني، فوجدت نفسي وحيدا في الكرمة، وبعيدا عنك بعد الحياة عن الموت.
يا أخي، إن جلوسك بجانبي كان حلما، ولقاؤك سرابا.
الرسالة الثانية والعشرون1
ما هي الحياة الروحية؟
يا أخي:
حينما كنت في قيد الحياة كنا نتكلم كثيرا عما وراء القبر، ولم أزل أذكر ليلة من الليالي سهرنا بها معا إلى مطلع الفجر، وكان محور حديثنا عن الحياة الروحية.
جئنا مرارا على ذكر أساطير الأجداد الأولين، وأديانهم الوثنية المتنوعة، واعتقاداتهم المختلفة في حياة الأرواح بعد فناء أجسادهم.
فلم تكن تروي تلك الأساطير ولا تلك الأديان غليلنا، مع أن واضعيها هم الذين وضعوا أيضا، وعلى لغة العلم اكتشفوا أساس الإيمان بالحياة الروحية.
ثم انتقلنا إلى أدياننا الحديثة، تلك الأديان التي نعتقد بكمالها، وبأنها منزلة من لدن الله - جل جلاله - أو موحاة منه - تعالى - إلى رسله وأنبيائه.
فتصفحنا تلك الكتب المنزلة صفحة صفحة، وأشبعناها درسا وتمحيصا، فلم نتبين في آياتها ومعجزاتها عن حياة الأرواح أكثر مما كان يتخيله الآباء والأجداد الأولون؛ لأن كل ما تقوله الكتب المقدسة في هذا الموضوع ينحصر بهذه العبارة: «إن الأرواح الصالحة تعيش في النعيم، وهي تسبح الله، وتمجده في ملكوته إلى الأبد، وأما الأرواح الطالحة فإنها تقيم على الدوام معذبة في نار أبدية القرار.»
يا أخي:
يظهر لي أن الحياة الروحية لم تزل سرا مكنونا عن مدارك العقل البشري، وفضلا عن ذلك، لقد آمن الناس بوجودها في عصر همجيتهم، كما في عصر مدنيتهم، وفي عهد أديانهم المشركة، كما في عهد أديانهم الموحدة؛ لأنهم استدلوا على صحة وجود الأرواح بوجدانهم قبل أن يستدلوا بعقولهم.
وشعور الوجدان يسبق شعور العقل.
والآن جئت أسألك: ما هي الحياة الروحية؟ ماذا تعمل النفس بعد مفارفتها الجسد، سواء كانت صالحة أم طالحة؟ وهل تبقى الطالحة - كما يقول الكتاب - معذبة بنار الجحيم إلى الأبد، والصالحة تسبح الله وتمجده على الدوام.
فإذا كانت الأنفس في النعيم لا عمل لها غير التسبيح والتمجيد فقط، فأنت إذن غير مغتبط في نعيمك؛ لأنك كنت في حياتك رجل عمل وبر، وكنت بهما تمجده تعالى، لا في تكرار الصلوات، وكثرة التسابيح والأدعية.
والأنفس الطالحة، ألا يصفح الله عنها بعد أن تكفر عن آثامها! أليست الكلمة «إلى الأبد» رجاء ردع الأشرار عن غيهم، كي لا يعمهون في ضلالهم، متكلين على عفوه تعالى.
يا أخي، يخيل إلي أن الأنفس سواء كانت محررة من المادة أو مقيدة بها، تعمل على الدوام مجدة وراء رقيها وكمالها.
تعثر تارة، وتنهض أحيانا، ولا تنفك متجهة نحو غايتها، وما غايتها سوى رجوعها إلى أصلها؛ لأنها فرع، وكل فرع يعود إلى أصله.
فكما يحمل السحاب مياه البحر، ويقذفها فوق الجبال والسهول والأودية، ثم تعود المياه بحكم الطبيعة إلى البحر، هكذا إلى مصدر الروح ترجع الروح، وإلى منبع الحياة ترجع الحياة.
إني أتمثل النفس كالكهرباء، تشتغل مقيدة وبلا قيد، وكالرائحة العطرية تعمل في الفضاء، وفي قلب الزهرة على السواء.
فكما أن الأرض لا تهدأ دورتها، والكهارب لا تقف حركتها، هكذا الأنفس لا يبطل عملها.
وجمال الحياة العمل.
الرسالة الثالثة والعشرون1
هل تفتكر بنا وبجثمانك البالي
يا أخي:
حلمت في الليلة الماضية أني عدت إلى عاصمة المكسيك، وذهبت توا إلى حديقة تشبولتباك، تلك الحديقة التي كنت تؤثرها على كل حدائق العاصمة ومتنزهاتها.
هناك طفقت أمشي بين رياضها الغناء وأشجارها الباسقة، متأملا بك - يا أخي - وبالأيام الماضية، التي صرفناها تحت سماء المكسيك؛ حيث كنا نرتاد هذا الفردوس الأرضي معا.
جلست إلى ضفاف بحيرتها الجميلة، أمتع الطرف في مناظرها الخلابة، وفي القوارب العديدة التي تقل المتنزهين، وتسير بهم ذهابا وإيابا.
ابتدأت الشخاتير تمر أمامي واحدة تلو أخرى؛ هذا قارب في وسطه خوان عليه مأكل ومسكر، والناس حوله يشربون ويأكلون.
وذاك قارب يحمل أناسا يعزفون ويرقصون ويغنون.
وهناك قارب يضم رهطا يتكلمون في التجارة والصناعة والمشاريع الاقتصادية؛ فحدقت بنظري في هذا القارب الأخير، وأصغيت لألتقط كلامهم، فرأيتك - يا أخي - بينهم، وسمعتك تتكلم معهم. فخاطبتك: قف يا أخي، أنا هنا، فلم تقف، فناديتك بأعلى صوتي، فوقفت في القارب دون أن تنبس ببنت شفة؛ فطرحت عليك هذا السؤال: «هل تفتكر بنا، وبجثمانك البالي؟» فلم تجب، ومشى القارب، وذهبت في سبيلك.
وبينا عيناي شاخصتان بك تشيعانك استيقظت فجأة؛ فإذا بي على فراشي، فأيقنت أن مرآك في القارب كان حلما، والآن جئت أسألك وأنا في يقظتي وكمال عقلي ما سألتك إياه في الحلم: هل تفتكر بنا يا أخي، أم أن النفس متى تحررت من المادة تفقد شعورها، وتنسى حياتها العالمية، كما ينسى المرء أوائل طفولته؟!
أو بالأحرى: إن الشعور يتولد من الجسم، فمتى زال الجسم زال شعوره.
وأما أنا فأعتقد كل الاعتقاد بأن شعور الجسم هو غير شعور الروح.
كنت - يا أخي - في هذه الحياة تروي حقل ذهنك من ينبوع نفسك، وتنير صراطك القويم من منارة روحك، فمن هذا الينبوع أطلب الآن ماء، ومن تلك المنارة هديا.
إذا كانت الأرواح لا صلة رحم لها حتى تفكر في الأهل والبنين والإخوة والمحبين، وتشعر بألم فراقهم، كما يشعر بنو البشر، فإن بينك وبيني صلتين: صلة الرحم، وصلة الروح.
وإن ذهب الموت بأخوة المادة، فلا يذهب بأخوة الروح، كنت وإياك في عالم الفكر والتدبير والعمل كأننا واحد فقط، وكانت الأخوة الروحية بيننا تبدو بتمامها في مختلف أعمالنا وطرق تفكيرنا.
فإذا كانت الأنفس بعد انتقالها لا تعبأ بالمادة ، ولا تأبه لها، أفلا تفتكر نفسك بنفسي، وهي شقيقتها، ورفيقتها في هذه الحياة الدنيا!
تجلي إذن يا روح أخي أمامي، واعطفي علي كما كنت تعطفين في الحياة، فإذا كان جسدي يصدك عن هذا التجلي، ويحبس نفسي عنك، فلا كان هذا الجسد، ولا كانت هذه الحياة.
يا أخي:
مهما كانت نفسك قد ابتعدت عن المادة، أفلا تفتكر علي الأقل بجثمانها البالي الذي عتقته، وكانت في الحياة تحرص عليه أشد الحرص، وتسهر على تزيينه وتجميله! أو أنها تحسبه بمثابة ثوب تعطل فنزعته عنها، ومضت في سبيلها!
إن كان الأمر هكذا، فقلما تفكر به، كما أن المرء قلما يفكر بعتيق لباسه وخرقه البالية.
يا أخي، يقول الطبيعيون أن لا شيء وراء الذرة، التي هي جوهر الحياة ومنها تتركب المادة على اختلاف أنواعها، فإذا كان الحق بجانبهم، فتكون مخاطبتي لنفسك كمن يخاطب العدم.
وأما أنا فإني أعتقد بوجود النفس وخلودها، كما أعتقد بخلود جوهر المادة أيضا؛ لأني أرى الوجود على نوعين: وجود مادي، ووجود روحي. فالوجود المادي مصدره الذرة، أو الكهرب، وأما الوجود الروحي فمصدره النفس.
ولا أعتقد بأن الذرة، أو الكهرب يحوي الوجودين.
الرسالة الرابعة والعشرون1
هل الشعور النفساني يرافق النفس أو ينتهي مع الجسد؟ وأيهما من الاثنين مصدر المساوئ؟
يا أخي:
منذ بضعة أيام انتابتني حمى، هزت أعصابي هزا، فشعرت بصداع وألم لا مزيد عليهما.
غابت شمس النهار، ولم تغب عني تلك الحمى الخبيثة، بل بالعكس ارتفعت درجتها في أوائل الليل ارتفاعا هائلا، فأمسيت أتقلب على أحر من جمر الغضا، وأتلوى على فراشي كما تتلوى الأغصان تجاه العواصف، وأخذ القلب يسرع في نبضاته إسراع الهارب من وجه عدوه، والخائف على حياته.
في تلك الليلة الرائعة، وتحت وطأة الصداع القاتل والقيء الشديد والألم الذي لا يطاق، سمعت في داخلي كأن صوتا يناجيني: تشجع يا توفيق، غدا أو بعد غد تستريح، ستزول الحرارة، وينتهي الألم، سواء انتصر الداء على الجسد، أو الجسد على الداء.
لم أتبين مصدر هذا الصوت الذي آساني، وأخذ بيدي في أشد الساعات ضيقا وألما، هل هو خارج من خلايا الدماغ، أو من جوهر النفس.
ولكني أعلم أني حصلت على الراحة فعلا في اليوم الثاني، وانتهى الكفاح بانتصار الجسد على الحمى انتصارا تاما.
فكما زال الألم بانتصار الجسد على الداء، هكذا يزول أيضا لو كان الأمر بالعكس، وانتصر الداء على الجسد.
لقد نظرتك - يا أخي - وأنت تتقلب على فراش الأوجاع، وتغلي من وطأة الداء غليان القدر على النار، وشاهدتك بعد وقوعك في مخالب الموت باردا مستريحا؛ لأن الموت قضى على جثمانك وعلى شعورك، وعلى الداء والألم جميعا.
يا أخي، مهما كانت وطأة الشعور بالآلام الجسدية شديدة؛ فإنها - ولا شك - تنتهي بانتهاء الجسد، أما الشعور النفساني فماذا يحل به بعد الوفاة؟
هل خسرت نفسك الصالحة شعورها بالرحمة والرفق والعدل؟ ألا تتألم الآن من فعل الظلم وسائر المساوئ، كما كانت تتألم في هذه الحياة، أم أنها تعيش الآن في عالم كامل لا يحتاج إلى شعور؟
لو كان هذا الكون كاملا بمخلوقاته لما كان للشعور معنى؛ لأن الشعور يتولد من الحاجة لا من الكمال.
فكما أن الشعور بالجوع دليل الحاجة إلى الغذاء، والشعور بالراحة دليل التعب، هكذا لولا الظلم لم نشعر بالعدل، ولولا البغض لم نحس بالمحبة، ولولا الإساءة لم نشعر بالإحسان.
يا أخي:
أسألك الآن عن أبناء السوء ما هو سبب سوئهم؟ هل الشر يخرج من جوهر النفس، أو من جوهر الجسد؟
فإذا كان الجسم مصدر الشر، فمتى تحررت منه النفس تتحرر أيضا من الشر، وإذا كانت هي المصدر، فكيف تتحول عن شرورها؟
إن العوسج لا يتحول عنبا، كما أن العنب لا يفضل العوسج إلا بأصله.
وأما أنا، فلا أعتقد أن في جوهر النفس سوءا؛ لأني كلما أسأت أسمع صوت ضميري يؤنبني على الإساءة، وصوت الضمير هو صوت النفس؛ ولهذا السبب يتراءى لي أن النفس كاملة بحد ذاتها، والجسم وحده مصدر المساوئ؛ لعدم كماله.
فإذا كان الطحان ماهرا، وكان الطحن سيئا، يكون الخلل ناتجا من الطاحونة لا من الطحان، فعندئذ لا يصلح الطحن إلا بإصلاح الطاحونة.
وهكذا الأجسام متى صلحت وتعالجت نقائصها وعاهاتها؛ تصلح الأعمال وتزول المساوئ.
هذا هو اعتقادي يا أخي، سردته بكل تجرد وإخلاص.
الرسالة الخامسة والعشرون1
التجدد في الموت
يا أخي:
ليس الموت في نظري سوى مظهر من مظاهر التجدد لا من مظاهر الفناء؛ لأني أعتقد بخلود المادة، كما أعتقد بخلود النفس.
إني أتمثل الجسم كالجيش، فكما أن الجيش هو مجموع جنود عديدة، هكذا الجسم هو مجموع ذرات كثيرة، ولكل مجموع رأس يقوده وقيادة عليا، تأمر في تعبئته وتجهيزه، كما تأمر في تسريحه.
لا مراء أن الجيش يتلاشى حين يذهب كل جندي في سبيله، وأما أفراد الجند فلا يلحقهم التلاشي، ثم يعود الجيش مجددا في مجموعه، حينما تأمر القيادة في إعادة تعبئته وتجهيزه.
هكذا الجسم يتلاشى في الموت، وأما ذراته فلا تتلاشى، بل ينفصل بعضها عن بعض انفصالا، فتذهب كل ذرة في سبيلها، ثم تتصل بغيرها، فتتجدد المادة باتصالها، كما تندثر بانفصالها.
كل شيء في هذا الكون يدل دلالة واضحة على تجدد الحياة في الموت، لا على فنائها.
فمن يتأمل في أيام الخريف يرى الحقول مقفرة، والأشجار منتثرة أوراقها، والأرض عارية من نباتها، كأن الموت أباد معظم أحيائها، ولكنها لا تلبث أن تتجدد نضارتها؛ حيث تعود الطبيعة في الربيع إلى انتعاشها ، وتمتلئ الحقول زهرا ونباتا، والأشجار ثمرا وحياة.
يا أخي:
إن الفكر الإنساني يتجدد أيضا، كما تتجدد الطبيعة.
ها إن أفكار صبوتي وتخيلات حداثتي، قد زالت كلها من الوجود، ولكن فكري لم يزل أبدا، بل تجدد في، كما تجددت عناصر جسمي.
والآن ابتدأت أشعر، وأنا أقطع المرحلة الأخيرة من مراحل الشباب بأن مجرى فكري أخذ يتحول رويدا رويدا، سالكا طريق التجدد.
ها إن فكرة الغرور والهوس والتخيلات الوهمية تقلصت كلها مع تقلص شبابي، وحلت محلها فكرة الحكمة، ومحبة البحث عن الحقيقة.
أليس هذا كله يدل دلالة واضحة على أن تفكير الشبان يختلف عن تفكير الأحداث، كما أن تفكير المعاصرين يختلف أيضا عن تفكير الأقدمين.
وما سبب تعديل الشرائع والقوانين في كل جيل سوى نتيجة تجدد الأفكار الإنسانية.
يا أخي:
كل من يراقب الحياة، ويلاحظ مقدماتها ونتائجها، يرى كل ما في الكون يرتفع في التجدد عن مستواه.
هذه ثمرة العصر الحالي، تفضل ثمار القرون الغابرة بلذاتها ونضوجها، وحيوان اليوم يعلو الحيوان القديم بقوة غريزته ومحافظته على كيانه، والإنسان الحالي يبدو أكثر رقيا وعلما، وأجمل خلقا وخلقا من إنسان العصر الحجري.
قصارى القول: إن الطبيعة مع كل أحيائها تتجدد في الموت، وتكتسب في تجددها قوة وحكمة، وتقدما إلى الأمام.
وهكذا أعتقد - يا أخي - بأنك اكتسبت في الموت حياة جديدة وقوة وحكمة وتقدما.
الرسالة السادسة والعشرون1
ما هي حياة الإنسان على الأرض بالنسبة إلى الأبدية؟ ما هي الأبدية؟
يا أخي:
إن من يبلغ الثمانين من العمر يعد من كبار المعمرين من أبناء الجنس البشري، مع أن هذا الرقم من السنين - الذي يحسبه بنو البشر طويلا، ولا يعيشه إلا القليلون منهم - لا يعد شيئا بالنسبة إلى الأبدية.
إن قياس قطرة الماء إلى البحر أقرب إلى العقل والمنطق من قياس عمر الإنسان إلى الأبدية.
لعمري، يحار العقل البشري - مهما كان رياضيا ثاقبا - حينما يأتي على تحديد الأبدية، بأي شيء يقيسها، وكيف يحددها وهي لا حدود لها؟!
هل تقاس بالأرض والشمس وسائر الكواكب المحدودة؟ لا، فلا يقاس المحدود باللامحدود، والمتناهي باللانهاية.
يا أخي:
عبثا أجهد عقلي كلما فكرت بحل رموز الأبدية، إنها - لعمري - لغز لا يحل، وقضية لا يدرك كنهها الذهن البشري؛ لأنها ترمز إلى الله الأبدي، الذي لا تدرك أسراره ورموزه.
إذن فالأبدية في نظري هي ذات الله، كما أنه تعالى هو الأبدية بحذافيرها.
أجل، كلما خلوت بنفسي أتساءل: ما هي حياة الإنسان علي الأرض؟
فإذا كانت حياته تقتصر على هذه السنين القليلة التي يعيشها، كان خيرا له عدم وجوده.
إن أطوار الطفولة والصبوة والشباب، ما هي بالحقيقة إلا مراحل درس واستفادة، وقليلون هم الناس الذين يبلغون الكهولة، ويتمتعون بما اكتسبوا من خبرة سنيهم الماضية، وندر منهم من يبلغ الشيخوخة معافى، ويتمتع بحكمة الكهولة.
إن الناس يموتون غالبا دون أن يتمتعوا بحكمتهم، ومتى كان الأمر هكذا، وكانت الحكمة والخبرة تذهبان ضياعا، فما هي نتيجة الحياة؟!
يا أخي، يتراءى لي أنه لا شيء يذهب ضياعا في هذا الوجود.
إن ذرة الرمل وقطرة الماء لا تزولان؛ فكيف تزول أعمال الإنسان وحكمته؟!
أليست هذه الحياة تتركب من روح ومادة؟ والروح هي الجوهر، والمادة هي العرض؛ إذ من الجوهر تتولد القوة الأدبية، ومن المادة تتولد القوة البدنية، فإذا كانت المادة التي هي قشور الحياة وعرضها لا تفنى في الموت، بل تتجدد على الدوام، فكيف تفنى الحكمة التي هي جوهرها ولبابها؟!
وفضلا عن ذلك؛ أليس للوجود غاية؟! وهل يا ترى يصل المرء في حياته القصيرة على الأرض إلى غاية وجوده؟!
إذن يخيل إلي أن للوجود نظاما يشبه نظام الجامعات العلمية، أو أنه يدعى - بحق - جامعة الجامعات.
فكما أن الطالب لا يبلغ غاية علمه في درس سنة واحدة، بل عليه أن يواظب على دروسه أعواما عديدة، وأن يعلو في معارفه صفا صفا إلى أن يدرك نهاية علمه، هكذا الإنسان لا يبلغ غاية الوجود في هذه الحياة الدنيا، بل عليه أن يحيا حياة جديدة ليتمم معارفه، ويعلو في خبرته صفا صفا، إلى أن يدرك الغاية القصوى من وجوده.
ولهذا السبب تراني أعتقد كل الاعتقاد بأن خبرة هذه الحياة لا تذهب عبثا، بل بالعكس؛ لها فائدة مزدوجة.
الفائدة الأولى:
ما يورثه المرء لأبناء جنسه؛ لأنه كما يرث الخلف عقار السلف ونضاره، هكذا يرث أيضا علمه واختباره.
والفائدة الثانية:
ترجع إليه من حيث يزود نفسه حكمة في خبرة دنياه، ويزيدها ثقافة ورقيا، ويخطو بها في المعرفة خطوة إلى الأمام في مراحل حياته الباقية.
يا أخي، إن هذه الحياة العالمية ليست في نظري كل الحياة، بل تمثل فقط مشهدا من مشاهدها، ودورا من أدوارها، وأما الحياة فإني أتمثلها أبدية كالأبدية.
الرسالة السابعة والعشرون1
القوة ضعف والضعف قوة
يا أخي:
منذ بضعة أيام ذهبت إلى البرية، مصطحبا معي ولدي رفيق، الذي يبلغ عمره ثلاثة أعوام، فجلست وإياه نستظل شجرة من أشجار البلوط الباسقة.
وإذا بثمرة بلوط وقعت أمامي فتناولتها، ثم أخذت أقلبها، مفكرا في هذه الشجرة العاتية القوية، وفي هذه البلوطة الضعيفة الصغيرة.
فنجم من إشغال ذهني وشدة تفكيري، وصولي إلى هذه النتيجة:
إذا كانت هذه الشجرة العاتية اللاحقة قلب الأرض في جذوعها، وكبد الفضاء في أغصانها وفروعها، تمثل الآن أمام عيني القوة والجبروت؛ فماذا تختزن في قلبها لتمثله في الغد؟!
إنها - ولا شك - تصرف قواها، ولا تختزن في داخلها إلا الضعف والتلاشي.
وأما هذه البلوطة الصغيرة التي تمثل الضعف اليوم، فهي تخزن في قلبها القوة للغد؛ لأنها ستصبح شجرة عظيمة، في حين أن الشجرة القوية اليوم ستندثر، وتمسي أثرا بعد عين.
هكذا أنا وولدي الآن نسير في طريق الحياة، كما تسير البلوطة وشجرة البلوط.
هو كالبلوطة، يمثل اليوم الضعف ويخزن القوة، وأنا كالشجرة، أمثل القوة وأخزن الضعف.
أصرف قواي في مرور أيامي، وولدي يزداد بمرور الأيام قوة ونشاطا، وسيبقى هكذا إلى أن يبلغ مكاني، فعندئذ تنقلب القوة التي اختزنها، فتصبح بمرور السنين ضعفا، كما أصبح الضعف قوة.
إني أرى الأمم أيضا، تسير في حياة، مجموعها سير الأفراد في قوتهم وضعفهم، فالشعب الذي مثل القوة في غابره، أصبح يمثل الضعف في حاضره، ولهذا السبب فلتفقه الأمم القوية اليوم أنها تصرف قواها، في حين أن الأمم الحالية الضعيفة فهي تختزن القوة للغد.
يا أخي:
كل من يلاحظ الطبيعة، ويتعمق في درس نظامها العجيب، تبدو له جليا هذه النتيجة الراهنة.
إن الضعف يولد القوة، كما أن القوة تولد الضعف، والموت يولد الحياة، كما أن الحياة تولد الموت.
إن السيد المسيح الذي احتمل الآلام والصلب وازدراء الناس به واحتقارهم له، لم ينتصر على العالم إلا بضعفه.
وغاندي الهند يحمل اليوم صليبه، ويحارب بضعفه الأمة الإنكليزية، التي هي أقوى أمم الأرض، وأشدها صولة وبأسا، وسينتصر - عاجلا أو آجلا - على أعداء أمته، كما انتصر المسيح المصلوب على أعداء الحق.
إن المستقبل يبسم دائما للقوة العادلة المستترة وراء الضعف، لا للضعف الكائن وراء القوة الظالمة.
هذه هي فلسفة الحياة، التي تلقيها الطبيعة على طلابها المتعمقين في درسها، والباحثين في أسرارها وخفاياها.
الرسالة الثامنة والعشرون1
العدل العام
يا أخي:
تراني كلما فكرت في العدل العام، وفي كيان الجنس البشري، يبدو لي - لأول وهلة - أنه يستحيل على المرء مهما كان كريم الأخلاق فاضلا أن يكون عادلا عدلا عاما؛ لأن العدل العام يوجب البعد عن الأذى وعدم الاعتداء.
ولهذا السبب تراني دائما أتساءل: كيف أكون عادلا في هذا الكون، وقادرا أن أحفظ كياني؟! ما زال حفظ الكيان يتعلق بالاعتداء على كيان الغير.
كيف أعدل؟! ما زلت أفتك بالحيوان الأمين لأقتات بلحمه، وأتنعم بجلده!
ماذا عمل الحيوان ليستحق هذه العقوبة؟
وإذا امتنعت عن أكل اللحوم، وعفوت عن الحيوان كما تعفو البراهمة، وأخذت أتغذى بالأثمار والنبات فقط، أفلا أتساءل أيضا: بأي حق أفتك بنبات الأرض وأستحله طعاما؟!
كيف أعدل؟ ما زلت - بلا سبب - أستأصل كيان الثمر لأحفظ كياني.
وإذا عاهدت نفسي ألا أعتدي على الحيوان، ولا على النبات، حفظا لناموس العدل العام، فكيف أعيش؟!
هل أقدر أن أحيا بلا غذاء؟ لا.
هل أحصل على غذائي دون أن أفتك بغيري؟ لا.
إذن ما العمل لأحفظ العدل وكياني؟
إن العهد القديم ينص في سفر التكوين: أن الله تعالى خلق الإنسان على صورته ومثاله، وسلطه على سمك البحر، وعلى طير السماء، وعلى البهائم، وعلى كل الأرض، يضحي منها بما يشاء، وفقا لحاجاته وحفظا لسلامته.
ولكن المطلع على ناموس الطبيعة، والمفكر تفكيرا صائبا في خفايا الكون وأسراره، يبدو له جليا أن المبدع لم يميز في خلقه الوجود إنسانا عن حيوان ولا حيوانا عن نبات؛ لأنه - تعالى - سلك طريق العدل العام في السنة التي استنها لجميع مخلوقاته، ألا وهي سنة الجهاد، وكل من جاهد ساد.
إن هذه النتيجة التي استخلصتها من درس الكون تناقض الكتاب، ولكنها أقرب إلى عدل الله في مخلوقاته، وفضلا عن ذلك إن ناموس الطبيعة يؤيدها، وما ناموس الطبيعة سوى ناموس الأخذ والعطاء، الذي يعم الكائنات بأسرها.
وهذا الناموس يدعى - بحق - ناموس العدل العام ؛ لأن كل ما في الوجود يأخذ ويعطي.
إن الأرض تستمد نورها من الشمس، ثم تمد غيرها بالمثل قوة ونورا، وهكذا الأحياء جميعهم يأخذون ويعطون، فكما يأخذ المرء كساءه وطعامه من الحيوان والنبات، هكذا يأتي يوم يعطي كل ما يأخذه؛ إذ يموت فيصبح جثمانه طعاما لنبات الأرض وحشراتها.
يا أخي:
هذه هي حياة الإنسان المادية، وأما حياته الأدبية فهو حر بها؛ فإذا شاء كان فاضلا وعادلا، وإذا لم يشأ كان من العابثين بالعدالة والفضيلة.
ولكنه مهما عاش طويلا، وتمادى بالظلم، وعبث بالحق فهل يدوم على الأرض جوره وعدوانه؟ لا؛ لأن يد الموت ستطاله، والعدل العام يقتص منه، عاجلا كان ذلك أم آجلا.
هذا هو ناموس الوجود، ناموس العدل الإلهي.
الرسالة التاسعة والعشرون1
وحدة الحياة والكائنات
يا أخي:
إن الاعتقاد بوحدة الله يوحي إلي الاعتقاد بوحدة الحياة والكائنات.
فكما أن الشجرة تتعدد فروعها، وتكثر أغصانها مع كونها واحدة فقط بأصلها، هكذا يبدو لي أن شجرة الحياة واحدة بجوهرها، مهما تنوعت أحياء الأرض، وتعددت أجناسها.
ولكن كيف أومن بأن أصل الحياة واحد في الإنسان والحيوان والنبات مع ما في هؤلاء الأحياء من الاختلاف البائن في الجنس والعنصر والنزعة والغرائز؟!
كيف إذن تشعبت الحياة إلى أنواع لا تحصى، وأجناس لا تعد؟! أو بالأحرى: كيف أوفق أيضا بين حياة البعوض والحشرات المتنوعة، وحياة الإنسان، أو بين حياة الطير وحياة النبات، أو بين حياة البهائم وحياة الأسماك، لأصل إلى الضالة المنشودة، ألا وهي وحدة شجرة الحياة.
يقول علماء البيولوجيا: إن أصل الحياة هي الخلية أو البروتوبلاسما، أو ما هو أصغر منها، وهذا قول لا أشك في صحته؛ لأنه يلوح لي أن مظهر الحياة كان واحدا في الأصل؛ لأن الخلايا عاشت دهرا طويلا منفصلة عن بعضها إلى أن قيض لها أن تتحد بعد جهاد طويل، فنجم من اتحادها تشعب مظاهر الحياة ووجود الأجناس؛ لأن الخلايا لم تتحد على شكل واحد، بل على أشكال متنوعة، وهذا هو السبب في تنوع أحياء الأرض.
وفضلا عن ذلك يخيل إلي أن الأنواع الحية لم تظهر دفعة واحدة على الأرض، بل تدريجيا؛ لأنه يستحيل على الخلايا بأن تصنع الحشرة البسيطة وذوات الثدي في آن واحد.
إن الإنسان الذي يعد من أكمل مركبات الخلايا، ومن أفضل الأنواع الحية، يدلنا في تاريخه وتطورات حياته على أنه لم ينتقل دفعة واحدة من سكنى الكهوف والمغاور إلى مناطحات السحاب والقصور الشاهقة الحديثة، بل جاهد طيلة آلاف من السنين، حتى وصل إلى ما وصل إليه من العلم والفن والهندسة.
لقد أخذ يتدرج في صناعة البناء، كما في غيرها من الصناعات والمعارف تدرجا بطيئا، ولم يصل إلى أبنيته الحديثة إلا بعد أن جاهد خلال قرون عديدة، واختبر من نماذج البيوت أنواعا لا تحصى، وأشكالا لا تعد.
وبما أنه مفطور منذ وجوده على الجهاد في تحسين حياته، فهو لا ينفك، ساعيا في طلب الأحسن، وسيتقدم - ولا شك - مع الزمن تقدما مطردا في علومه وصناعاته وسائر فنونه.
هكذا أعتقد أن الخلايا لم تحدث في بدء اتحادها إلا بعض الأنواع الصغيرة المركبة من خليتين أو أكثر قليلا؛ فنجم من هذا الاتحاد المصغر وجود بعض النبات، ثم الهوام والحشرات على اختلاف أنواعها، ثم زاد مع الزمن اتحاد الخلايا، فوجدت الأسماك والحيوانات الزاحفة وغيرها.
ثم جاهدت خلال أجيال في تحسين أنواعها، فأحدثت - بعد عناء جزيل ودهر طويل لا يعلم مقداره غير الله - ذوات الثدي ثم الإنسان.
وبما أن الخلايا مفطورة منذ الوجود على حب الأحسن، فهي لم تزل تجاهد في تحسين أنواعها، وستجاهد إلى النهاية.
لهذا السبب يلوح لي أن الأجناس الحية الحالية لا تدوم أبد الدهر على شكلها، بل بعضها ينقرض كما انقرضت الزحافات الكبرى، والبعض الأخر يتحول من شكل إلى شكل، كما أنه من الممكن - لا، بل من الأمر الراهن - أن تحدث الخلايا في المستقبل من أنواع الأحياء أجناسا جديدة لا عهد لنا بها؛ لأنها دائما تفتش في جهادها وطرق تجمعها على اختلاق جديد، كما يفتش الإنسان في جهاده المتواصل على خلق صناعة جديدة، واختراع جديد.
وما الإنسان في هيكله سوى وليد الخلية وصنيعها، كما أن الخلية - بحد ذاتها - تمثل لنا وحدة الحياة، ومظهرها الأول في الوجود.
فإذا كان الغصن هو فرع من الشجرة، والشجرة هي فرع من الغاب، والغاب هي قطعة من الأرض، والأرض هي جزء من الكون، والكون هو من الله، أفلا يكون أصل الغصن والشجرة والغاب والأرض والكون واحدا فقط!
وهكذا أصل الحياة والكائنات واحد أيضا، مهما تنوعت الأحياء وتعددت الشموس والكواكب.
يا أخي:
إني أعترف الآن أمام الله، وأمام نفسك الخالدة بأن هذه المباحث العميقة التي خضتها، ليست هي من خصائص الأديب، بل من خصائص العلماء.
لقد تطفلت - وايم الحق - على موائدها، ولكني أحب أن أتحرى الحقيقة، وأن أبحث عنها، ولا بأس إذا عثرت بعض العثرات في طريقي؛ لأن العثرة في طلب المعرفة لهي عندي أفضل من الجمود.
والآن إن كنت قد عجزت عن إدراك كيفية وجود الأنواع، وعجز علماء العصر العشرين أيضا، فهذا لا يعني أن الجنس البشري لا يكشف القناع في المستقبل عن أسرار تشعب الحياة، ولا يمنعني أيضا من أن أعتقد بأن مصدر الحياة والكائنات واحد، وهو الله.
الرسالة الثلاثون1
الإنجيل
يا أخي:
كان للإنجيل المقام الأول في مؤاساتي على فقدك، وهو الذي قواني على احتمال خطبك بصبر جميل.
إن الآية القائلة: «تعالوا إلي يا جميع المتعبين والمثقلين، وأنا أريحكم» حولتني بكليتي شطر الإنجيل، الذي اتخذته سميري في أشد أيامي يأسا، وأكثر ساعاتي شؤما.
وبينما كنت أمعن في درسه، وفي تفهم آياته العجيبة، وصلت إلى الكلمة التي قالها المسيح وهو على الصليب:
يا أبتاه اغفر لهم؛ لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون.
فشعرت عند تلاوتها كأن المسيح العظيم ظهر أمامي، حاملا صليبه وأوجاعه المبرحة، وأخذ يلقي علي أمثولة الغفران والرحمة والمحبة، فوقفت ذاهلا أمام هذه التضحية النادرة المثال، وتجاه هذا العفو الكامل.
ثم عاهدت نفسي بأن أغفر لكل من يسيء إلي، وأحسن إليه قدر إمكاني، أسوة بالمسيح العظيم الذي أراحني في إنجيله من أحزاني، وانتشلني من وهدة بلواي؛ لأنه نفح في حب التضحية واحتمال المكاره.
الرسالة الواحدة والثلاثون1
أنا سعيد، لماذا تبكي؟
يا أخي:
كتب إلي أحد الأنسباء الأعزاء عن عاصمة المكسيك ما يلي:
نهار البارح زرت قبر المرحوم طانيوس بإكليلين من الزهر، وما وقفت حيال الجدث، حتى ذرفت عبرتين حارتين، فإذا بقوة خارقة العادة جذبتني إلى الوراء، وبهمس أرق من النسيم يقول لي: أنا سعيد، لماذا تبكي؟
هذه حقيقة، أرسلها إليك، وتقدر أن تعتمد عليها وتتعزى.
أجل، أنت سعيد يا أخي، وليس عندي أدنى شك في سعادتك، لكني كلما فكرت بهذه العبارة، التي همستها إلى نسيبك يخامرني الشك، ويمتلكني الريب بأنك قائلها.
ولهذا السبب جئت أسألك: أحقيقة نطقت روحك بها، أو أن النسيب الذي يعتقد بك الصلاح الكلي سمع صوت ضميره لا صوت روحك يهمس إليه خبر سعادتك، والسعادة ميراث الصالحين؟
أما أنا فقد حاولت مرارا أن أتصل بنفسك ولم أستطع، فإذا كنت حقيقة قد خاطبت نسيبك، فلماذا لم تخاطب أخاك؟!
وإذا كنت أقمت النسيب وسيطا بينك وبيني، فإني أقر وأعترف أمامك بأني أحب النسيب، ولكني لا أحب الوسطاء.
الرسالة الثانية والثلاثون1
مناجاة الأرواح
يا أخي:
أنا منذ وفاتك أبحث في عقيدة مناجاة الأرواح، وحتى الآن لم أزل مرتابا في صحة هذه العقيدة.
لقد طالعت مجمل ما كتبه العلماء الروحيون في هذا الموضوع أمثال: كونان دويل، وأوليفر لودج، وفلا سريون، وغيرهم الذين يعدون من جهابذة العلماء وفحول الأدباء، وتلوت بعض الرسائل الروحية التي يعتقد بها الروحيون أنها بعثت من عالم الروح إلى عالم المادة.
فشعرت في خلال تلاوتها بتعزية دخلت في نفسي، ولكني لم أشعر بإيمان راسخ.
يا أخي، أنا كتوما الرسول، لا أصدق دون أن أنظر بعيني وألمس بيدي، فهل لك قدرة بأن تعمل كالمسيح، الذي يقول عنه الإنجيل أنه ظهر لتوما وقال له: «هات أصبعك إلى ها هنا، وعاين يدي، وهات يدك وضعها في جنبي، ولا تكن غير مؤمن، بل مؤمنا.»
فهل لك بأن تريني نفسك ولو مرة واحدة، كما أرى المسيح نفسه لتلميذه، وأن تدلي إلي عن كيفية مناجاتك؟
يا أخي:
إني أعتقد اعتقادا تاما بأن الجسر الذي يعقد ما بين العالمين: الروحي والمادي، عقدا حقيقيا واضحا لم يتم العقل البشري بناءه حتى الساعة، إنه - لعمري - لم يزل جسرا خياليا مرسوما على تلافيف الأدمغة البشرية، لا جسرا حقيقيا موجودا تعبره الأرواح من كراتها والماديون من أرضهم، فيتكالمون ويتناجون.
فهل لك الآن بأن ترشدني إلى بناء هذا الجسر لأعبر إليك، وأكتشف للناس حقيقة العالم الروحي وطريق مناجاته؟!
الرسالة الثالثة والثلاثون1
جنازات
يا أخي:
ذهبت البارحة لزيارة صديق مريض في أحد المستشفيات؛ فشاهدت هناك جنينا أجهضته أمه في الشهر السابع.
فقلت في نفسي: أفما كان الخير لهذا الجنين عدم وجوده؛ إذ ما هي الحكمة من وجوده؟!
وبينما أنا أفكر في هذا الأمر خرجت إلى الشارع، فنظرت جنازة طفل صغير، قيل لي: إنه مات بعد ولادته ببضع دقائق. لقد أشرقت شمس حياته كالبرق، وغربت كالبرق.
فما هي الحكمة من شروقها وغروبها؟
ثم سرت في طريقي، فإذا بي أمام جنازة طفل، بلغ السنة الأولى من عمره، تعلم كلمة واحدة نطق بها ومات.
فما هي غاية الحياة من هذه الكلمة؟
ثم واصلت السير إلى أن بلغت منتهى الشارع، فاصطدمت هناك بأربع جنازات، واحدة تلو أخرى.
جنازة صبي بلغ السابعة من عمره، كان يرتاد المدرسة ليتعلم أصول القراءة والكتابة.
وجنازة مراهق كان يجاهد في تحصيل العلم فمات دون نيل مناه.
وجنازة شاب في عامه العشرين، دهمه الموت بعد أن أتم دروسه، ونال شهادته العلمية، فزهقت روحه وهو مشبع بأمل الحياة وأحلام الشباب.
وجنازة رجل أحرز ثروة طائلة بجده واجتهاده، ثم مات في روعة شبابه وكمال نشاطه، دون أن يتنعم بماله ويستفيد من أتعابه.
ما هي الحكمة الخفية التي قضت على الجنين في أحشاء أمه، وعلى الطفل إثر ولادته، وعلى الصبي والمراهق والرجل البالغ الشباب؟
ما هي غاية وجودهم، ما داموا لم يفسحوا مجالا للعمل، وللانتفاع من العمل؟ •••
إن الآية القائلة: «ما كتب قد كتب» لا تعني عالم الإنسان وحده، بل عالمي الحيوان والنبات أيضا.
فكم من حيوان يموت في أحشاء أمه، أو إثر ولادته، وحيوان يعيش إلى أن يبلغ نهاية عمره!
وكم من زهرة تذوي قبل تفتيح أكمامها، وزهرة تعيش إلى أن تبلغ هرمها!
كيف أعلل سبب الموت في بدء الحياة وفي زهوتها؟!
هل أعلل ذلك في الصلاح والطلاح؟ أعني بأن أعتقد بأنه لو عاش الذي كتب له الموت في أوائل حياته لكان من الآثمين؟ لا، لا أقبل هذا التعليل، ما زلت أشاهد كثيرين من الأشرار عاشوا حتى الهرم؛ بينما غيرهم من الأخيار لم يبلغوا الكهولة.
وفضلا عن ذلك، فالشمس تشرق على الأخيار والأشرار بالسواء.
هل أعتقد إذن بما ارتآه شاعر الجاهلية وحكيمها زهير ابن أبي سلمى؛ حيث يقول في معلقته المشهورة:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم
فإذا كان الأمر هكذا، يكون العرض هو سبب المنايا، وهو الذي يفعل فعله الذريع في جميع الأحياء على اختلاف أجناسهم وأعمارهم.
فكما يجرف السيل العرم كل ما يصادفه في طريقه، صغيرا كان ذلك أو كبيرا، هكذا يبيد العرض كل شيء في سبيله.
ولكن أليس لهذا العرض نظام يتمشى عليه، كما تتمشى الكائنات على أنظمتها؟
أو أنه فوضوي، ثار منذ البدء على قوانين الكون، ولم يزل ثائرا لا يقبل نظاما، يسير كيفما يشاء، ويخبط في سيره خبط عشواء. •••
يا أخي:
لقد أجهدت عقلي باطلا في حل قضية الحياة؛ لأني لم أصل عن طريق العلم إلى تفهم هذه الحكمة الخفية، التي تأمر بولادة حي، ثم تقضي عليه قبل أوانه.
ولهذا السبب تركت العلم جانبا، وأخذت أستنجد مخيلتي لحل هذه المعضلة التي استعصت على ذهني.
والخيال دائما يسبق الواقع، كما أن الواقع يتولد من الخيال.
إن مخيلتي تملي علي الآن بأن هذه الحياة ليست هي بالواقع سوى روايات متسلسلة، تتمثل على مسرح اللانهاية، ولكل رواية أدوارها وفصولها ومشاهدها المتنوعة، وعلى كل حي أن يتقن تمثيل دوره جد الإتقان.
ومن لم يحسن تمثيل مشهد، أو فصل من دوره يعاد إلى تمثيله إلى أن يحسنه.
ولهذا السبب، يبدو لي أن الذي جاء هذا الوجود ومات جنينا أو طفلا أو صبيا أو مراهقا أو شابا أو رجلا، ولم يتقن تمثيل دوره يعاد إلى تمثيله في العالم الثاني، أو في غيره من العوالم.
يا أخي:
وهذا في اعتقادي ما عناه السيد المسيح بقوله: «عند أبي منازل كثيرة.»
الرسالة الرابعة والثلاثون1
الميلاد
يا أخي:
في مثل هذا اليوم منذ ألف وتسعمائة وإحدى وثلاثين سنة، ولد السيد المسيح أعظم عظماء الأرض.
إن المسيحيين كافة يقدسون هذا اليوم، الذي يذكرهم بولادة المسيح، ذلك الاشتراكي العظيم، الذي أبصر النور في مزود البقر كالمعدمين، ومات على الصليب كالأشقياء.
لقد تأملت اليوم كثيرا في ولادته، وفي حياته على الأرض؛ كيف عاش ومات فقيرا معدما؟ ولم يكن فقره مانعا له من أن يتسلط على العالم في تعاليمه وروحانياته!
فعندئذ قلت في نفسي: لقد علمنا المسيح في ذاته أن النفس إذا كانت نيرة لا يقف الفقر في سبيلها، فهي تضيء على العالم من أكواخها المظلمة وقت تكون الأنفس اللئيمة خابطة في ظلمة آثامها، ولو كانت تسكن أفخم القصور، وأسطعها نورا.
إن السر في السكان لا في المكان. •••
يا أخي:
في هذا العيد - عيد الميلاد المجيد - تأملت بك كثيرا، وتذكرتك كثيرا.
تمثل أمامي الماضي البعيد، فتذكرت ولادتك وأيام صغرك، وكيف كنا في مثل هذا اليوم نصرف العيد معا في البيت الأبوي بين عطف الوالدين، وحنان الشقيقتين.
أتذكر الآن - ويا لها من ذكرى عذبة ولكنها موجعة! - كيف كنت تستفيق في صباح العيد، مستقبلا أطباق الحلوى وأنواع اللعب والدمى! تبسم للحياة، وتقفز في أفناء البيت صاخبا لاعبا، منتقلا من حضن أبيك إلى صدر أمك، إلى أخيك إلى شقيقتيك، إلى مغارة العيد التي كانت أمك تصنعها لك؛ لتمثل أمامك مولد المخلص.
ولا أزال أذكر أن مغارة العيد كانت بالحقيقة بهجة عيدك؛ لأنها كانت تملأ قلبك فرحا وسرورا.
والآن لقد عاد العيد ولم تعد، فأخذت أناجيك متسائلا: أين أنت يا أخي؟! وأين حداثتك؟! وأين أمك؟ وأين مغارة عيدك؟
الرسالة الخامسة والثلاثون1
من حوادث الحياة: الكاهن والرياضة الروحية
يا أخي:
زارني منذ مدة كاهن، ظهر لي من حديثه أنه يتاجر بدينه ليكسب دنياه، وما أكثر الكهنة الذين هم في هذا العصر على شاكلته!
ابتدأ يكلمني، متبجحا بغزارة علومه ومعارفه، ثم سألني عما إذا كنت سمعت بعض مواعظه، فأجبته سلبا، فعندئذ قال لي: أتعجب كيف لم تسمع مواعظي، وشهرتي تغمر البلاد من أقصاها إلى أقصاها! ومنذ مدة دعيت في إحدى الرياضات الروحية؛ لألقي على المؤمنين عظة من مواعظي البليغة، فخلبت ألبابهم في تفنني وطلاقة لساني، وملكت قلوبهم بفصاحتي وبياني.
فأجبته: إن مواعظك مهما كانت بليغة لا تفيد المؤمنين، ولا تؤثر في نفسياتهم ما زلت تطلب من ورائها الشهرة الدنيوية لا إصلاح الناس، وقد قيل: حسب نياتكم ترزقون.
فتأثر الكاهن من كلامي، ثم أخذ يجادلني مفصحا لي عن فائدة مواعظه مجادلة عقيمة، دلت على صلفه وغروره، فأجبته بالتي هي أحسن، فلم يرعو، فعندئذ قلت له: يا حضرة المحترم، اسمح لي أن ألقي على مسامعك شيئا من رياضتي الروحية، إنها - لعمري - رياضة عملية أكثر منها قولية؛ لأنها لا تقوم بتكرار الصلوات كرياضتك، ولا بالتبجح في معارفي وتقواي كتبجحك.
في كل صباح أدخل إلى مكتبي، وأجيل طرفي في رسم أخي الذي فارق الحياة في روعة شبابه، فأتأمل به والكآبة تغمر نفسي، ثم أتأمل في الموت الذي انتزعه مني، وهو مفعم بأمل الحياة وأحلام الشباب.
هذا الموت الذي يلج بيت الصعلوك، كما يلج أمنع الحصون دون أن يطرق لهما بابا، فيفتك بالملوك على عروشهم، كما يردي البائسين في أكواخهم.
هذا الموت الذي لا يغلب، ينذرني بأن حياتي - مهما طال أمدها - واقعة - ولا محالة - في يده.
هذا الموت هو الذي نزع مني الطمع والغرور والكبرياء والحسد والنميمة والبغضاء.
هذا الموت الذي أتمثله أمامي في رسم أخي، هو الذي يعلمني دائما أن أكون صالحا، وصبورا على المكاره، وغافرا للناس مساوئهم وزلاتهم.
لعمر الحق، إن أخي أفادني إفادة جلى في حياته وموته.
فكما كان لي في حياته سندا وعونا، هكذا أصبح لي بعد موته عظة وعبرة. •••
يا أخي:
هذه حادثة جرت معي منذ بضعة أيام سردتها لك، وسأعلمك بغيرها في رسائلي الآتية؛ لتحيط ببعض حوادث الحياة - وما أكثرها.
الرسالة السادسة والثلاثون1
من حوادث الحياة: المجازر البشرية
يا أخي:
جلست البارحة إلى منضدتي، وأخذت أطالع كتابا يبحث في التاريخ القديم، فلم تقع عيني عندما كنت أقلب صفحاته إلا على حوادث المجازر البشرية، والحروب الهائلة التي كانت تثيرها الأمم بعضها على بعض.
فعندئذ أخذت أتأمل في حياة الإنسان على الأرض منذ فجر التاريخ حتى الآن، فظهر لي أن حياته كانت منذ البدء - ولم تزل - قائمة على النزاع والتطاحن والمجازر الدامية.
فكما قتل قابين أخاه، هكذا لم نزل في هذا العصر الذي يدعى عصر العلم والتمدن، نقتل بعضنا بعضا، ونتنازع حتى على أبسط الأمور وأتفه الأشياء.
منذ مدة روت الجرائد خبر جناية قتل وقعت في بيروت من أجل كلمة بذيئة. وروت خبر جناية قتل أخرى ارتكبها شقي؛ لأجل سلب بعض دريهمات. وذكرت جناية سالت فيها الدماء؛ لأجل انتخاب مختار في إحدى القرى اللبنانية.
وكم يجري في لبنان، وفي جميع أنحاء العالم من أمثال هذه الحوادث التافهة، التي تؤدي غالبا إلى المجازر الدامية!
إن الخلق الإنساني المؤسس على الغريزة، هو - لعمري - مصدر الخصام والتنازع؛ لأنه دائما يسبق العقل في أحكامه.
فلو كان كل امرئ قبل أن يستسلم إلى الغضب - تجاه الأمر الذي يعتقد بضرره أو أذاه - ينتظر عقله ليصدر الحكم على خصمه، لكانت وطأة المنازعات - التي تستعر نارها بين الأفراد والجماعات - تخمد جذوتها، وقد تتلاشى مع الزمن، وتصبح أثرا بعد عين.
ولكن لسوء حظ الإنسان أن العقل لم يسيطر بعد على مقدرات الطبيعة البشرية.
ولهذا السبب ما برح الناس - كما تعهدهم يا أخي - يتنازعون ويتخاصمون ويتقاتلون، إنهم يناصرون الموت على إفناء بعضهم بعضا، وهم لو فطنوا لأشغلوا أذهانهم في محاربته، لا في مناصرته؛ لأن الموت قوي لا يحتاج إلى نصير.
الرسالة السابعة والثلاثون1
من حوادث الحياة: المال والشيخ والهرم
يا أخي:
لقد أبدع المسيح بقوله: «لا تعبدوا ربين: الله، والمال»، لأن المال هو الضالة الوحيدة التي تنشدها جميع الأمم من أقصى المعمور إلى أقصاه، وهو الذي يشغل عقول الناس منذ حداثتهم إلى يوم وفاتهم.
منذ بضعة أيام ذهبت إلى مكتب أحد الأغنياء؛ لقضاء بعض الحاجات، وكان الجو ممطرا، والبرد قارسا، فشاهدت هناك شيخا طاعنا في السن، جالسا إلى منضدته، وسعاله متواصل وهو لا يبالي، فبعد أن قضيت حاجتي أخذت أتجاذب وإياه أطراف الأحاديث، وكان ذلك طبعا عن التجارة والصناعة، وكل ما يؤدي إلى كسب المال، فسألته عن مبلغ ثروته، فأجاب أنها تزيد على الثلاثمائة ألف ليرة ذهبا، جمعها كلها بجده، وعرق جبينه.
فعندئذ قلت له: أنت بغنى عن المجيء إلى مكتبك في مثل هذا اليوم البارد؛ لأنك شيخ، والشيوخ يتأثرون من البرد والمطر تأثرا عظيما. وفضلا عن ذلك أنت ذو مال وافر، وعندك رهط من الكتاب والمستخدمين الذين يقومون مقامك. فأجاب: إن الحق بجانبك من حيث اشتداد البرد وتأثيره علي، ولكن الشغل - مع وفرة هؤلاء الكتاب والمستخدمين - لا يستغني عني.
فأجبته: نعم، يستغني الشغل عنك، ولا شيء في هذا الكون لا يستغنى عنه، كما استغنى سابقا عن كبار رجال الأعمال والمتمولين، الذين قضوا نحبهم، وقام غيرهم مقامهم.
فأجاب: قد يكون الأمر كذلك، ولكني أحب المال، وأضحي بكل شيء في سبيله؛ لأن المال هو كل شيء.
وبينما نحن في الحديث، دخلت امرأة تطلب منه مالا لقاء رهن بيتها، فأجابها إلى سؤالها، ولكن بفائدة باهظة. فتضرعت إليه قائلة له: إنها أرملة أم سبعة أطفال، ولم يترك زوجها غير هذا البيت، قالت: وأنت غني جدا، وعندك متاجر كثيرة تدر عليك أرباحا طائلة، فإذا رحمتني بالفائدة تكون قد عملت خيرا مع صغار أيتام يستحقون الرحمة والمساعدة. فأجابها: إن الشغل يقضي علي بطلب هذه الفائدة، وأما الرحمة فلا دخل لها بالشغل.
فعندئذ قبلت المرأة بشروطه مرغمة؛ لأنها بحاجة إلى تغذية صغارها، وأمضت له صك الرهن، وأخذت بعض المال الذي يلحقها، وتركت البعض الآخر عنده دون أن تسأله عن فائدة ما، وذهبت في سبيلها.
فسألته كم تقيدون للمرأة فائدة على المال الذي أبقته عندكم، فأجاب: لا شيء؛ لأنها أودعته عندنا بصفة أمانة، وعلى الأمانات نأخذ ولا ندفع، وأما هي فمعفاة من الدفع رحمة بصغارها.
فأجبته: ليس المال هو كل شيء كما تعهده، وأما الرحمة التي عملتها، فهي ليست رحمة للمرأة بل لنفسك؛ لأنها تعود عليك بالفائدة لا عليها.
يا أخي:
هذا هو الحديث الذي جرى لي البارحة مع شيخ بلغ من العمر عتيا، ولم يزل متمسكا بدنياه تمسكا شديدا.
نظرته ما برح - رغم الثمانين - يجد ويكد وراء جمع المال، ولا يعرف للرحمة سبيلا.
لقد اعتقد كما يعتقد معظم البشر بأن المال هو كل شيء في هذا العالم، مع أن في العالم فضائل جمة، ومعارف عديدة، يجب على الإنسان أن يسعى لاكتسابها كما يسعى لاكتساب المال.
إن الحلم والكرم والإحسان والرحمة والتواضع، والشجاعة وحسن الصفات وحسن الأخلاق، والعلوم والفنون والصناعات المختلفة، كل تلك أمور مهمة في هذا الكون، يجب على المرء أن يجد وراءها، كما يجد وراء المال.
ولكن من أغرب حوادث الحياة ما لاحظته في معظم الشيوخ الذين كلما ازدادوا هرما يزدادون تعلقا في حطام الدنيا كأنهم خالدون فيها، أو كأن المال يبطرهم، ويعمي بصائرهم، فيمسون لا يؤمنون بالموت الذي سينزل بهم، وينزع عنهم كل ما ملكوا من عقار ونضار.
يا أخي:
إن معظم الناس يمشون بخطوات واسعة نحو القبر، ولكنهم لا يدرون أنهم على باب القبر.
وأما أنا فكلما نظرت إلى رسمك، وتأملت بك وبالموت، الذي انتزعك مني، أسمع همسا يناجيني من داخل رسمك، قائلا لي: إن المال جميل يا أخي، ولكن العلم والفضيلة هما أكثر منه جمالا.
الرسالة الثامنة والثلاثون1
من حوادث الحياة: المناصب العالية والغرور بالنفس
يا أخي:
إن الغرور بالنفس الذي يتولد عادة في صدور الرجال الذين يشغلون المناصب العالية يدل دلالة واضحة على أن هؤلاء الرجال ولو قادهم الحظ لتسنم أعلى المراكز، فإنهم - بالحقيقة - لم يخلقوا لها.
ذلك ما لاحظته، واختبرته بنفسي عند احتكاكي ببعض ذوي المقامات العالية من رجال الدنيا والدين، الذين برهنوا في أعمالهم وتصرفهم بأنهم غير أكفاء للقيام بعبء مناصبهم الخطيرة.
عرفت رجلا
2
معرفة صحيحة قبل تسنمه إحدى الوظائف المهمة وبعدها.
وعرفت رجل دين
3
قبل سيامته أسقفا وبعدها، وبما أنني خبرت الرجلين خبرة تامة في حالتيهما الماضية والحاضرة، جئت أسرد الآن ماذا كان وقع الوظيفة عليهما.
كان الأول لطيفا متواضعا، فأصبح بعد الوظيفة متعجرفا شامخا.
كان يحترم الناس ويصغي لكلامهم، فأصبح اليوم يحتقرهم، ويزدري بهم.
كان يعرف نفسه نوعا، فأصبح يجهلها جهلا تاما.
كان يعلم شيئا، فأصبح بعد الوظيفة يعتقد أنه يعلم كل شيء، ولكنه لو عاد إلى رشده قليلا، وتدبر نفسه لفطن أنه كان شيئا قبل الوظيفة، وأما اليوم فقد أفقده الغرور الشيء الذي كانه، وأصبح لا شيء.
وأما رجل الدين فكان وهو كاهن يعتقد نفسه أنه من جبلة البشر، فأصبح وهو أسقف يعتقد نفسه أنه صار من جبلة الآلهة.
كان يقر بالخطأ الذي يرتكبه، فأصبح بعد الأسقفية معصوما من الخطأ.
كان يطرق أبواب الفقراء، ويتحدث إليهم، فأصبح بعد الأسقفية لا يطرق إلا أبواب الأغنياء والزعماء.
كان رجل دين فقط، فأصبح بعد الأسقفية رجل الدنيا والدين.
كان يعتقد أنه لا سلطة له غير سلطته الروحية ضمن جدران كنيسته، فأصبح بعد الأسقفية يعتقد أن كل السلطات بيده.
كان شيئا وهو كاهن، وأما اليوم فلو تبصر قليلا في كثرة هفواته وغروره واعتداده بنفسه، لظهر له جليا أن الأسقفية التي ولدت الغرور في ذهنه أفقدته الشيء الذي كان متحليا به وهو كاهن، وأصبح لا شيء؛ لأنه لم يخلق ليكون أسقفا، بل كاهنا فقط.
إن المنصب الرفيع يفعل في صاحبه ما تفعله الثمرة في الشجرة، فكما تعلن الثمرة جودة أصل الشجرة أو رداءته، هكذا المنصب الخطير يعلن كفاية الرجل وحسن أرومته وإخلاصه، أو عدم كفايته وصلفه وفظاظة طباعه.
يا أخي:
تراني الآن كلما نظرت بعين العقل والبصيرة، كيف تتوزع على الناس خيرات الأرض ومراكزها الأدبية والمادية، يظهر لي جليا أن الغبن الفاحش يلحق بعض الناس بلا سبب موجب، كما تلحق الزيادة البعض الآخر عن غير جدارة ولا استحقاق .
فكم غني كان أولى بأن يكون فقيرا؛ لكثرة لؤمه وشحه!
وكم فقير كان أجدر بأن يكون غنيا؛ لفرط كرمه وحلمه!
وكم حاكم قاده النسب أو الحظ للحاكمية، وهو بالحقيقة لم يخلق ليحكم الناس، بل ليحرث الأرض ويرعى السائمة.
وكم رجل حكيم يحرث الحقول ويسوس المواشي، وهو كان جديرا بأن يسوس الناس ويحكمهم، لا أن يرعى البهائم ويحرث الأرض.
كل ذلك مما يجعلني أعتقد بأن هذه الحياة الدنيا ناقصة من كل وجوهها، وما الموت سوى حكمة من الله ليزيل نقصانها.
وكما قال المسيح بإنجيله: «ما جئت لأنقض الناموس، بل لأتمم.» هكذا أعتقد بأن الله لم يأمر بالموت لينقض الحياة، بل ليتممها ويزيدها رقيا وكمالا.
الرسالة التاسعة والثلاثون1
من حوادث الحياة: انتصار الحق على الباطل
يا أخي:
نهار البارحة شهدت مشاجرة عنيفة، وقعت بين رجلين على بعض دريهمات.
كل قام يبرهن أن له مالا بذمة رفيقه، كل قال إن الحق بجانبه، كل أقسم بدينه، وبشرفه، وبالله العظيم أن ما ينطق به هو الصواب.
فوقفت برهة، أتأمل بهما حائرا ذاهلا، ثم أخذا يتبادلان الكلام الجارح، ثم انقض كل منهما على الآخر يتضاربان ويتلاكمان.
فعندئذ دخلت لأحول بينهما، ثم سألتهما عن القيمة التي يتشاجران عليها، فأجابا أنها تبلغ مائتي غرش سوري، وقد ادعى كل منهما بهذا المبلغ على قرينه، وكل منهما أقسم بشرفه ودينه أنه يقول الصدق، ولا يعرف الكذب ولا البهتان.
فعندئذ أخذت كلا منهما على حدة، ونقدته القيمة التي يطلبها، ثم اجتمعت بهما معا وخاطبتهما قائلا: أنتما تعتقدان بأن المال هو غاية الحياة، ولهذا السبب تسعيان كل السعي وراء تحصيله حقا كان أم بطلا.
ولكن ألا تعلمان أن للحياة غاية نبيلة هي أسمى من المال؟ إن أسمى غايات الحياة هي معرفة الحق، والاعتصام بحبله. والآن فكما نلتما مني مناكما حلالا، فإني أرجو منكما أن تقولا الحق؛ لينال الحق منكما مناه.
فعندئذ قام على الإثر أحدهما وقال: لقد أثر بي كلامك أيها الرجل؛ ولهذا السبب أعترف لك بصراحة أن الحق في هذه القضية كان بجانب رفيقي لا بجانبي؛ لأن ادعائي عليه كان باطلا.
فشكرته على إقراره، ثم رجوت منه أن يكون دائما بجانب الحق؛ لأن صاحب الحق - ولو كان فقيرا - فالحق يسعده ويغنيه، وصاحب البطل - ولو كان غنيا - فالبطل يفقره ويضنيه، فوعدني خيرا، ثم انصرف ورفيقه شاكرين.
يا أخي:
كلما تأملت في هذه الحادثة التي جرت أمامي بين رجلين أميين ينتميان إلى الطبقة الجاهلة من طبقات الناس، وكيف اختلفا، ثم انتهى اختلافهما بتضحية بسيطة كانت سبب إظهار الحق والإقرار به، مما جعلني أن أغير اعتقادي في عقلية الناس وطبيعتهم الفاسدة، وأن أومن بأن قابليتهم لاكتساب الخير والاعتصام بحبل الحق عظيمة جدا.
ولهذا السبب أصبحت متفائلا في مستقبل الناس على الأرض، ومعتقدا كل الاعتقاد بأنهم سيزدادون مع الزمن رقيا في أدبياتهم وأخلاقهم، كما يزدادون تقدما في علومهم وصناعاتهم.
فكما تصفى المياه، وتزداد نقاء في مواظبة تكريرها، هكذا يترقى الناس، وتصفى ضمائرهم في تعاقبهم جيلا إثر جيل.
الرسالة الأربعون1
من حوادث الحياة: كيف أفهم الدين وكيف يفهمه معظم البشر؟
يا أخي:
إني أفهم الدين وأعتقد به أنه الصلة الوحيدة التي تربط الناس بخالقهم، والفكرة السامية التي تزجرهم عن الإثم والمخازي، وتفتح أمامهم طريق الحق والفضيلة.
ليس هو باعتقادي من مستنبطات الحضارة ولا من نتاج التجارب العلمية، بل هو فكرة، نشأت مع الإنسان حين كان همجيا يعيش في الكهوف والمغاور، ولم تزل هذه الفكرة متأصلة في أدمغة الناس في عصر العلم والتمدن، كما كانت في العصور الهمجية السالفة.
وستبقى فكرة الدين مرتكزة في أذهان الناس إلى الأبد، ولا عبرة في تحوير الأديان وتعديلها كلما اقتضى العصر أو البيئة.
ذلك لأنه مهما سينشأ في الكون من الأديان والمذاهب، ومهما تتبدل الشرائع والقوانين، فإن جوهر الدين واحد لا يمس، وما جوهر الدين سوى الصراط المؤدي إلى معرفة الحق.
كانت أديان الأقدمين تحرم القتل والكذب والاختلاس وشهادة الزور، وكل ما ينافي الحق، فاندثرت تلك الأديان، وقام مقامها أديان جديدة أكثر منها سموا بتعاليمها الرائعة، وشرائعها المرتكزة على الوحدة الربانية، ولكنها طبعت على غرار الأديان القديمة من حيث مناصرة الحق ومعاقبة البطل.
يا أخي:
إن الحق في كل العصور واحد لا يتجزأ، هكذا جوهر الدين واحد أيضا؛ لأنه الحق بعينه.
ولهذا السبب أصبحت مؤمنا بأن كل من اعتصم بحبل الحق هو من ديني، وأنا من دينه.
وكل من كان حليما صادقا كريما نبيلا، محسنا يعفو عند المقدرة، ويغض الطرف عن الإساءة، غير متعصب ولا متحزب لدين ولا لأخ أو نسيب، أو لفئة من الفئات إلا للحق وحده، فهو من ديني وأنا من دينه.
وكل من يصوم ويصلي ويذكر الله كثيرا، ويسجد في الكنائس والجوامع والخلوات، ولا يقرن الصوم بحسن النية وطهارة الضمير، والصلاة بالعمل الطيب والمحبة الخالصة لجميع الناس على اختلاف أجناسهم ومذاهبهم، فهو ليس من ديني ولا أنا من دينه.
لأن ديني يقوم بالأعمال لا بالأقوال، وبالتساهل لا بالتعصب، وبالمحبة والتضحية لا بالبغضاء والعداوة.
وأما معظم الناس - وخصوصا في الشرق - فيفهمون الدين بأنه لا يقوم إلا بالتعصب الذميم، وبالعداء المستحكم لكل من لا يؤمن به، وبكثرة الصوم والصلوات والعبادات، ولا يفتكرون بالحق الراهن إلا قليلا.
الرسالة الواحدة والأربعون1
من حوادث الحياة: الصوم
يا أخي:
منذ يومين ابتدأ الصوم الكبير عند النصارى، ولم يزل المسلمون صائمين صوم رمضان، فسألني أحد الأصحاب عما إذا كنت صائما، وما رأيي في الصوم، فأجبته: لست صائما، ولا فائدة صحية لي الآن من الصوم؛ لأني لم أتعود الجشع في الأكل، ولم أتخم مرة في حياتي.
وأما رأيي في الصوم فهو أمر صحي أكثر مما هو روحي، وهو واجب أن يتبعه الناس الذين تعودوا بأن يأكلوا أكثر من حاجاتهم، فترتاح معدهم من الهضم ردحا؛ كي تستعيد قوتها لحمل أعبائها.
وأما الذين يعتقدون بأن الغني إذا صام وشعر بالجوع يشعر مع الفقراء والمعوزين، فهذا أمر لا أعتقد به، فضلا عن أن الأغنياء لا يصومون إلا نادرا؛ لأن الشعور بمحبة الإحسان هو شعور أدبي صرف، لا دخل له في البطون الملآنة أو الطاوية.
فكم محسن لا يصوم أبدا! وكم صائم لا يحسن أبدا!
فلم ينشرح صديقي من جوابي؛ لأنه كان يعتقد الصوم وحيا أنزل من الله على عباده، ثم أخذ يجادلني، معربا لي عما جاء في الكتابين الطاهرين: الإنجيل، والقرآن عن إرادة الله العليا في الصوم وعن كثرة فائدته.
وبينا هو متحمس في كلامه إذ برجل صائم يمر بقربنا، وبعد أن جاهر بصومه، أخذ - من أجل مسألة تافهة - يشتم رفيقا له بعبارات بذيئة سافلة، تنم على قلة أدبه، ونزوعه إلى الإثم والمشاحنة.
فعندئذ قلت لرفيقي: ماذا ينفع الصوم هذا الرجل؟ أفما كان أولى به ألا يصوم أبدا، وأن يسعى لصون لسانه؛ كي لا يكون هكذا شتاما للناس، ثالما لأعراضهم.
كل رجل فظ يصوم مرغما لا يجديه الصوم نفعا بل ضرا؛ لأن الصوم يحرك به حاسة الجوع، وهذه تزيد من سوء خلقه، وفظاظة طباعه.
يا أخي:
لم يزل معظم البشر حتى في هذا العصر - الذي يدعى عصر العلم والتمدن - يهتمون بالقشور دون اللباب.
الرسالة الثانية والأربعون1
الله
يا أخي:
منذ انتقلت إلى الحياة الأخرى وأنا أتساءل: ما هي هذه الحياة الدنيا؟ ما هو الموت؟ ما هذا الوجود؟ وما وراء هذه الأفلاك السابحة في الفضاء؟ ما هي القوة الأزلية الخالدة التي أوجدت الكائنات؟ أو بالأحرى: ما هو الله القادر على كل شيء، والخالق كل شيء؟
كيف يجب أن أعتقد بوجوده؟ كيف أومن به؟ كيف أتصوره في ذهني، وأتخيله في ضميري؟
هل أومن به إلها جبارا قاسيا، يشبه جبابرة الملوك الأرضيين القساة؟ لا.
هل أعتقد به أنه يستهويه المدح والثناء، ويرتاح إلى التسبيح والتمجيد، ويرغب في الزخارف الباطلة، كما يرغب جميع البشر؟ لا.
هل أتصوره إلها مخيفا هائلا، يجلس يوم البعث على عرشه الإلهي، ومن حوله الأولياء والملائكة يقدمون إليه الناس أفواجا أفواجا ليدينهم، فيقفون أمامه - تعالى - مذلولين خاشعين، كما يقف العبد أمام سيده؟ لا.
هل أتخيله - تعالى - بصورة إنسان، كما يقول الكتاب «لقد خلقه الله على صورته ومثاله»؟
أو أتمثله كالبرق، يسطع في كل زمان وفي كل مكان؟ لا أدري حقا كيف يجب أن أتخيله، ولا كيف أحلم به، ولكن كما أن النور يدل دلالة واضحة على وجود الكهرباء، مع أننا لا ندري سر الكهرباء، هكذا أعتقد بأن هذه الكائنات بشموسها وكواكبها ونظامها العجيب، ومخلوقاتها التي لا تحصى، كلها تدل دلالة صريحة على وجود الله، ولو كنا لا ندري سر الله.
يا أخي، إني أعترف أمام نفسك الآن بأن إلهي الذي أعبده، لا أعتقد به أنه إله دين من الأديان، ولا إله شعب خاص من الشعوب.
إن إلهي هو إله حق لجميع الأمم والكائنات والمخلوقات، وفضلا عن ذلك: إن إلهي غفور رحوم، لا يملأ قلبي خوفا ولا رعبا؛ لأني لا أتخيله ربا قاسيا يحكم علي بعنف وشدة، بل أتمثله أبا حنونا يعطف علي، ويعاملني بعدل ورحمة.
ولهذا السبب، كلما شئت أن أتوسل إليه، وأطلب منه أمرا، أخاطبه كما يخاطب الابن أباه، لا كما يخاطب العبد مولاه.
إن إلهي هو منتهى الحلم؛ لأنه منتهى القوة. ومنتهى العفو؛ لأنه منتهى الكمال.
إن إلهي هو منبع الخيرات، ومصدر الحياة، ومبعث البركات، إنه مورد المحبة الدائمة والرحمة الكاملة.
هكذا يا أخي، أتمثل الله خالدا بحبه كما هو خالد بربوبيته، وكاملا بصفاته وعفوه كما هو كامل بقدرته.
الرسالة الثالثة والأربعون1
رسالة الوداع
يا أخي:
لقد ودعتني قبل وفاتك وداعا لا يبرح ذهني مهما طالت أيام حياتي على الأرض؛ لأنه كان وداعا حساسا طافحا بالحكمة والشعور.
ولهذا السبب دونته لك كلمة كلمة في إحدى رسائلي إليك؛ ليبقى محفوظا في صفحات كتابي هذا، وخالدا في أذهان كل من يقرؤه ويتمعن به.
وفضلا عن ذلك؛ إن عباراتك الأخيرة التي ودعتني بها، هي التي أوحت إلي معظم ما كتبته لك من الرسائل، فأنا من هذا القبيل مدين لك بها، أشهد بذلك أمام الله والناس.
والآن، هذه رسالتي الأخيرة جئت أودعك بها، لكني لا أدري ماذا أقوله لك؟ وماذا أتحدث إليك؟
لقد تناولت القلم مرارا؛ لأخط كلمة الوداع، واستعصى علي ذلك؛ ولهذا السبب أصبحت الآن لا أدري، هل تلعثم لساني، وخبا ذهني، وجف مدادي عند كتابتي هذه الرسالة، أم اللغة - مع وفرة مترادفاتها - لم تزل عاجزة عن التعبير عن حاسة النفس وشدة انفعالها وآلامها؟
يا أخي:
كن على ثقة أني كلما تأملت بك وتذكرت ساعة وفاتك، أحس بألم - وما بي من ألم - وبخفقان قلبي - وما بي من علة قلبية - وأشعر تارة بذهول في دماغي، فيحدثني الناس ولا أفهم حديثهم، وطورا يخاطبونني ولا أسمع خطابهم، وأحيانا أحدق نظري بهم ولا أراهم، مع أني صحيح الجسم، ليس بي أدنى ضعف في دماغي، ولا في حاستي: السمع والبصر.
كل ذلك يحصل لي من جراء تلك الانفعالات النفسية، التي تعتريني كلما فكرت بفقدك، وهي التي تهز أعصابي هزا، وتشل قواي الذهنية، وتثير لواعجي القلبية، وهي التي لم أقدر حتى الآن أن أكبح جماحها، ولا أن أعبر عنها.
يا أخي، لم يبق لي من أمل بالتخلص من هذه الانفعالات النفسانية، لقد أصبحت موقنا - لا بل معتقدا - بأنها سترافقني إلى مقري الأخير، إلى القبر الذي سيضم جثماني، وإلى التراب الذي سأتحول إليه، إلى أن يقضي الله فيجمع رميمك برميمي وترابك بترابي.
وأما تلك النفس التي تختلج في جوانحي الآن، هذه النفس التي كانت رفيقة نفسك في سرائها وضرائها، وشقيقتها في خلقها وتفكيرها.
هذه النفس التي أحبتك حبا يقرب من العبادة.
هذه النفس التي بنت عنها، وكنت معينها وجناحها الوحيد في هذه الحياة الدنيا.
هذه النفس لم تزل سجينة في حنايا هذا الجسم المتضعضع الذي هو جسمي، أصبحت الآن تود الانفلات منه؛ لتطير إلى عالمك وتلتقي بنفسك.
هذه النفس المنسحقة من لوعة فراقك تناجيك الآن، وتطلب منك إذا كان بعد هذا العالم يوجد في الملأ الأعلى عوالم عديدة ومنازل كثيرة تغشاها الأنفس قبل الوصول إلى الله، أن تنتظرها نفسك هنيهة في عالمها الجديد، ولو كان هذا الانتظار يضيرها ريثما تلتقي بها، ثم تسافران معا إلى ملكوت الله، وتتحدان به تعالى.
فإلى اللقاء يا أخي، إلى الله.
المراثي
إلى روح فقيد الشباب اللبناني المأسوف عليه طانيوس حسن نادر الشرتوني
بقلم الأستاذ وديع أفندي عقل صاحب جريدة الراصد في بيروت
1
لولا صباك لما حزنت على صبا
يذوي ولا أرسلت دمعي صيبا
إن المنية أذبلت بك خير من
رباه لبنان العزيز وأنجبا
ما كنت إلا نفحة من أرزه
حملت إلى المكسيك عرفا طيبا
وشرارة من ناره طارت إلى
فلك بعيد فاستقرت كوكبا
ورسالة من روضه وغديره
نضحت عليها الطيب أزهار الربا
تليت على أبنائه فرأوا بها
سفر النبوغ محبرا بيد الصبا
طربوا افتخارا للشباب يزينه
من حكمة ما قد يفوت الأشيبا
فأقمت والتوفيق صنوك عاملا
عمل الذي خبر الحياة وجربا
قد عشت كالحمل الوديع ولم تكن
إلا على بغي النوائب سلهبا
ما كان حظك عاثرا إلا بعم
رك إذ قضبت ولم يحن أن تقضبا
وذهبت عن دنياك وهي تشد ذي
ل الثوب منك تريد ألا تذهبا
عاصيتها وعففت عن لذاتها
ومضيت تطلب في سواها مطلبا
وتركت خلفك مهجة أخوية
في دار غربتها تذوب تلهبا
ما راع ريب الدهر في الدنيا أخا
كأخيك يوم دهى ولا أبكى أبا
هذا عليه ضاق لبنان وذا
ك غدايري المكسيك سجنا مرعبا
فتلاقيا يتسابقان الصاب في
لبنان بعدك لا سواه مشربا
لا روض شرتون يطيب أريجه
لهما ولا بيروت تحلو ملعبا
والله لولا الحلم لم يمسكهما
لتخيرا اليأس المفرق مركبا
حيتك يا أنطون أطهر نفحة
أرزية يسري بها نفس الصبا
نم واسترح في دار غربتك التي
لم ترض فيها العيش إلا متعبا
يا صارما مستوحشا في غمده
صبرا فسوف تعيف ذاك المختبا
ستصيح أمك يوم تنزل لحدها
أهلا وسهلا بالحبيب ومرحبا
إلى فقيد الشباب طانيوس حسن الشرتوني
بقلم الأستاذ حليم أفندي دموس
هذا الوجود شرابه كسرابه
عند الحكيم وعذبه كعذابه
وبنو الحياة إلى الممات فموكب
طي الضريح وموكب في بابه
سبحانك اللهم حكمك عادل
لكن عقلي حار في أسبابه
تبقي على الشيخ الضعيف وينطوي
عمر الفتى والعزم ملء إهابه
ولقد شجت نفسي وأذكت خاطري
زفرات توفيق الأديب النابه
أودى الردى بشقيقه ونبا به
وطن يحن إلى لقا أحبابه
نثر الشقيق على الشقيق دموعه
وبكى على الريان من آدابه
أبدا يرى رسم الحبيب أمامه
والحزن ملء سكوته وجوابه
يملي على الصفحات ذكرى حبه
ويخط بالعبرات أصدق ما به
ومداد مرقمه ومدمع جفنه
يتناثران على سطور كتابه
رفقا بنفسك فالحياة قصيرة
كالنجم بين طلوعه وغيابه
واعلم بأنك لست أول خائض
بحر الأسى متخبطا بعبابه
فالنسر يوقعه الردى من جوه
والليث يصرعه الردى في غابه
زفرة على المرحوم طانيوس حسن الشرتوني
بقلم الأستاذ يوسف صالح الحلو صاحب جريدة الخواطر المكسيكية
ذهب الردى بفتى الشباب الناضر
فغشى ضباب الحزن أفق خواطري
وطلبت قافية الرثاء فأعولت
ثكلى وفاضت بالدموع محاجري
فنثرتها من فوق رمسك زهرة
من دوح عاطفتي وروض شواعري
من ذا أحق بها وأنت أخو الوفا
وابن المروءة والذكاء النادر
أمجاهدا ود الحياة قصيرة
لكنها مملوءة بمآثر
وبعد أن وصف خلال الفقيد أجملها قائلا:
شيم لها لطف الشمول وعزمة
تمضي إذا انصرفت مضاء الباتر
أدركت شأوا في حياتك يافعا
ومشيت رغم الدهر مشية ظافر
بسمت لك الأيام وهي عوابس
فأغاظه منك اختيال القاهر
فانسل ينفذ في فؤادك سهمه
يا ويح دهرك من حسود غادر
إلى أن قال مشيرا إلى شقيق الفقيد:
خلفته وهو الرشيد مضعضعا
ببلابل الشكوى وذهن الحائر
يطوي الحياة على قتاد مضاجع
تسقيه بهجتها كئوس مرائر
ماذا يجيب غدا إذا شيخ الحمى
ناداه: يا توفيق، أين مسامري؟
بل أين شطر القلب أين حبيبه
أين الذي رصدت سناه نواظري؟
أرجع إلى المكسيك كل كنوزها
واردد إلي فتاي دون جواهر
ثم قال في الختام:
بعض المصائب في الأنام وجدتها
فوق العزاء وفوق صبر الصابر
فإذا انصرفت إلى الدعاء فإنني
لله ألجأ وهو أكرم غافر
يسقي ضريحك ديمة من رحمة
ممزوجة بمدامع من شاعر
عواطف ودموع في رثاء المرحوم طانيوس حسن نادر الشرتوني
بقلم الأستاذ محبوب الخوري نادر الشرتوني صاحب جريدة الرفيق في عاصمة المكسيك
على بدر الشبيبة يوم غابا
سلام لو يرد لنا جوابا
وقلب لم يذب يوما لرزء
تفطر يوم مصرعه وذابا
نصاب كما يصاب الناس لكن
ترانا اليوم أعظمهم مصابا
لقد نزعت يد الأرزاء منا
حشاشتنا لتودعها الترابا
أجل فقد الشباب الغض بدرا
يزين بنور معناه الشبابا
تجرد يملأ الأيام عزما
ويدأب في دقائقها طلابا
فعاف الطيش وانتبذ الملاهي
وخلى القشر واتخذ اللبابا
وصان شبابه من كل عيب
فكان من الجريمة أن يعابا
وكان الحلم فيه حلم كهل
إذا ما خاض مسألة أصابا
أباه الشيخ من بعد المرامي
أشاطرك المضاضة والعذابا
تطل على المشارف يوم تدري
تخال رواية الناعي كذابا
تحملق والبواخر مقبلات
وتسأل حين لا تجد الجوابا
فترجع موقنا والظهر حان
ودمع العين يطرد انسكابا
فلو أني استطعت بسطت كفي
وأقفلت البواخر والعبابا
أجل يا عم خطبك مستطير
فصبرا في حياتك واحتسابا
إذا ذكروا فتاك وكان شبلا
فعل الرأس والتحف العجابا
أخاه وأنت من عهد التصابي
أخي حبا وعطفا واصطحابا
لخطبك بالشقيق الفذ خطبي
وخطب الأقربين غداة نابا
بكت عيني بأدمعها لو اني
قدرت جعلت أدمعها السحابا
عزاءك فالحياة وإن تمادت
هي الأحلام مسرعة ذهابا
ولو أن المنية ذات عقل
رشقنا الذم أو سقنا العتابا
ألا سر الحياة - وإن لججنا
عليه - لا نشق له حجابا
رأيت المرء يقتحم الأحاجي
يعالج من مغالقها الصعابا
فليس يخيب إن يكفر بأمر
وإن يكفر بلغز الغيب خابا
إذا جعلوا من الإنكار بابا
لمعتسف جعلت الله بابا
فلست من الألى انتقضوا عليه
وقالوا لا خلود ولا ثوابا
وداعا أيها القمر المسجى
خبوت وكنت أثقبهم شهابا
فلو درسوا حياتك وهي صغرى
أصاغوا من محاسنها كتابا
دمعة حرى
على شاعر العرب في المكسيك المأسوف عليه، الأستاذ محبوب الخوري الشرتوني صاحب جريدة الرفيق، الذي انتقل إلى رحمة الله في مكسيكو نهار السبت الواقع في 27 حزيران سنة 1931.
يا أخي محبوب.
يا أستاذي في الحداثة، ويا صديقي في الشباب، ورفيقي في ديار الغربة.
يا أعز الأقرباء، وأنبغ الأنسباء.
رسم المرحوم محبوب الخوري نادر الشرتوني.
يا محبوب، لم تنشف بعد دمعتي على أخي طانيوس حتى فجعني الموت بك، ولم تلتئم بعد جراحات نفسي الدامية حتى نكثت ثانية بسهام خطبك.
يا محبوب، يا شاعر الإلهام والعواطف.
لقد اخترمتك المنون، ولم تعطف على شبابك، مع أنك كنت مشهورا بجميل عطفك وحنانك، ولم ترحم أيضا عقيلتك الثكلى، ولا طفلتيك الصغيرتين اللتين تيتمتا قبل أن ترسخ ملامحك الجميلة في ذهنيهما، مع أنك كنت في حياتك ترحم المظلومين، وتنصر البائسين.
يا محبوب، يحار عقلي كلما تأملت في هذه الحياة، وفي الطبيعة.
تراني أتساءل: لماذا يحيا الباغي طويلا، ويعيش الطاهر قليلا؟! لماذا تمنح الطبيعة القوة للمستبدين، والسلطة للظالمين؟! لماذا؟! لماذا؟!
ولكن لسوء الحظ لا أدري لماذا؟ ولا أحد يدري حتى الآن سر هذه الحياة، ولا كنه هذه الطبيعة.
يا محبوب، يا رافع لواء الأدب العربي في المكسيك، أنا - ما عشت - لا أنسى بديع منظومك ومنثورك، ولا أنسى أبدا تلك الوقفات الخالدة، التي كنت تقفها على منبر الخطابة في مكسيكو.
إن معظم أبناء سوريا ولبنان في تلك الجمهورية النائية يرددون بإعجاب أشعارك الخالدة، ويتغنون بها في منتدياتهم ومجتمعاتهم، ويفاخرون بأدبك الجم، كم يتفاخرون بشمائلك الغراء، ومبادئك القويمة!
يا محبوب، لم تكن فقط بدرا لامعا في أفق الأدب والشعر، بل كنت هكذا أيضا لامعا في حياتك العائلية، وفي صفاتك النبيلة؛ لأنك كنت زوجا أمينا، وأبا حنونا، وشهما أبيا، وصديقا وفيا.
يا محبوب، يا صاحب الرفيق، على من تركت رفيقك؟ هذا الذي كان يحصد من حقل ذهنك ويرتوي من ماء يراعك، ثم يغذي الناس من نتاج أدبك، ويسقيهم من كوثر نبوغك.
والآن بعد أن يبس حقلك، وجف معينك، فمن أين يجمع الرفيق غذاء وماء ليطعم الجياع، ويسقي العطاش على مائدة الأدب والمعارف؟
وأنت وحدك كنت معينه وغذاءه وروحه، وهل يحيا الرفيق بعدك بلا معين، ولا غذاء ولا روح؟ لا.
فكما كان الرفيق بالأمس حيا بك، أصبح اليوم مائتا بموتك.
رحمك الله يا محبوب، ورحم رفيقك، الذي كان نجما ساطعا في عالم الصحف والأدب.
فما كان الرفيق إلا أنت، وما كنت أنت إلا رفيقك.
يا محبوب، ليست شرتون وحدها اليوم ترثيك وتبكيك ، بل يرثيك ويبكيك كل ناطق بالضاد، قرأ نفثاتك الرائعة، وخبر أدبك الجم.
إن أدباء لبنان كلهم صعقوا لفقدك، وأكبروا خسارة الصحافة والأدب بك، وأما أنا فلا تسل عن شدة حزني عليك، فهو يوازي حزني على أخي الراقد بجوارك في لحده.
فسلام على ضريحيكما، وعلى المكسيك التي تحضن ثراكما، ورحمات الله وبركاته عليكما.
توفيق حسن نادر الشرتوني
في 30 حزيران سنة 1931
Page inconnue