ووقفت الأم، ثم تقدمت في خطوات ثابتة حتى وضعت يدها على كتفه، وقالت في لهجة الأمر والثقة: «قد كان ذلك حقك يا عابد لو أن الأمر على ما ظننت ... ولكنك لن تفعل ...!»
وابتعد الفتى مغضبا وهو يقول: «بل قد فعلت، وإنها لزوجتي ولو ...»
وقاطعته قائلة: «... ولو كانت أختك ...!»
وسكت عابد، وجحظت عيناه مدهوشا؛ واسترسلت أمه: «... بلى، إنها أختك يا عابد؛ لقد رضعتما من ثدي واحدة دهرا طويلا يا بني من طفولتك؛ أتراك تريد أن تتزوج أختك يا عابد ...؟»
ودار رأس الفتى وأوشك أن يسقط، وتهاوى على كرسيه لا يكاد يعي، وغشي عينيه الدمع ...
وبدأ منذ اليوم تاريخ جديد. أما الفتى فراح يعالج نفسه بالصمت والوحدة لعله أن ينسى، ولكن صورتها ما برحت تتخايل لعينيه في فنون وألوان. لقد استطاع أن يقهر نفسه على السلوان ويسومها الرضا، ولكنه لم يستطع أن يتصام عن تأنيب الضمير ووخز الندم، كلما تذكر أن أمينة أخته، وأنه نال منها ما لا ينال الأخ من أخته وترك لها خزي الدهر وعار الأبد، فلا كان لها منه حفاظ الأخ ولا وفاء الحبيب ...! ... هذا واحد؛ وأما الأب والأم فراحا يدبران أمرهما قبل أن ينتقض غزلهما، وإنهما ليحسان حينا بعد حين آلاما مرة من قسوة ما نال وحيدهما العزيز المرجو؛ فذهبا يعدان العدة لتزويجه قبل أن ينتكس ويعاوده مرضه ...! ... وأما هي ... وأما هي فكانت بين مغداها ومراحها كل يوم إلى شجرة الصفصاف ما تزال تأمل أملا، أملا يلوح ويخفى كما يتراءى القمر بين قطع السحاب ثم يتوارى، ولكنه أمل يمسك عليها نفسها ... وبلغها النبأ أخيرا، وعرفت أن فتاها يوشك أن يتخذ له أهله زوجة ثانية، وارتكضت أحشاؤها تنبئها نبأ آخر ...
وانتهت آمالها إلى فكرة واحدة، هي أن يظل أمرها وأمر صاحبها سرا مكتوما فلا يطلع على غيبهما أحد؛ فما كان لها أن ترضى بأن تقف في سبيل سعادته وإنها لتهواه؛ ولكن من أين لها ...؟ من أين لها أن تخفي خبيئة بطنها إن استطاعت أن تخفي خبيئة صدرها ...؟ آه ...! ألمثل هذه الخاتمة الأليمة كانت تلك البداية السعيدة ...؟
وتخيلت ما تخيلت من أمرها في غد، فاستراحت نفسها إلى كل ما ينالها في ذات نفسها، ولكنها لم تطق أن تتخيل حبيبها مضغة الأفواه وسخرية الشفاه!
وتمثلت أباها الشيخ وأخاها الصغير، أفتراهما يصدقان أنها زوجه وأنه لم ينل منها في مأثم؟ فكيف أذنت لنفسها في ذلك على غير علم منهما ولا إرادة ...؟
وتوزعتها الأفكار وتنازعتها نوازع الخير والشر، ولكن فكرة واحدة ظلت ماثلة في نفسها تعصمها من الطيش والضلال: هي أن تجنب حبيبها كل ما يكدر عيشه أو ينغص عليه مسراته الباقية ...!
Page inconnue