ورأيتها ورأتني، ولكني لم أر في وجهها ذلك المعنى الذي طالما رأيته في وجوه النساء حين أجلس إلى امرأة منهن. ولأول مرة منذ ماتت أمي جلست إلى امرأة أتحدث إليها وأستمع لما تقول وإني لأحس في نفسي برد الراحة وروح الاطمئنان. لا أعني أنها ذكرتني أمي، فقد كانت أصغر كثيرا مما ظننت وأشب شبابا، ولكني شعرت إذ جلست إليها شعورا لم أحس مثله منذ بضع عشرة سنة، منذ ماتت المرأة الوحيدة التي منحتني حبها واستحقت حبي!
كان في وجهها سماحة وطهر، وفي عينيها نظرة طفل يرى كل شيء جديدا على عينيه، وقد افترت شفتاها عن ابتسامة حزينة تكتم معنى وتفصح عن معنى.
لم أشك حين رأيتها أنها عذراء، فتاة على طبيعتها الطاهرة لم تطبعها الحياة بعد بذلك الطابع المصنوع الذي يجعل لكل شيء لونين في ظاهره وباطنه. وأقبلت علي تحدثني حديثها. لم يكن في صوتها ولا في نظراتها شيء يدل على أنها تراني رأي الناس وتنظر إلي نظرتهم. ... أخشى أن أقول لك يا صديقي إنها كانت تحدثني كأنما تناجي حبيبا عزيزا لقاؤه! ولكني كذلك شعرت وقتئذ!
ومضت في حديثها، ولم أسمع حرفا واحدا مما قالت؛ إذ كنت وقتئذ في حديث مع نفسي، فلما أوشكت أن تنتهي من عرض أمرها، وراحت تسألني رأيي، بدأت أصغي إليها ... وكان لها مشكلة معقدة تقتضي تدبيرا وأناة وحسن احتيال. وعنيت بأمرها.
أتراني يا صديقي في حاجة إلى التأكيد لك بأن عنايتي بأمرها لم تكن شيئا على خلاف عادتي في مثل مشكلتها؟ ولكنك مصدق ولا شك؛ فقد كنت إلى تلك اللحظة من كنت، ليس لي هم إلا عملي وواجبي!
وزارتني بعدها في مكتبي مرة ومرة ومرات، وتوثقت بيننا أواصر المودة، وألفت أن تراني وأن تتحدث إلي، وألفت أن أستمع إليها، وكأنما كنت في نومة ثقيلة ثم استيقظت، وانجاب عني غشاء صفيق كان يلقي علي كل شيء من أشياء الحياة ظلا يبغضه إلي، وتزينت لي الحياة، وكأنما كانت مرآتي صدئة فجلتها بأنفاسها فعادت مصقولة لامعة!
ليس يعنيك كثيرا يا صديقي أن تعرف كل شيء، ولكن الذي يعنيني أن تعرفه عرفان اليقين أنني لم أتودد إليها ولم أحاول اجتذابها، فقد كانت أسرع إلي من خطرة الأمل، فما هي إلا مرات التقيناها حتى كان كل شيء منها يتحدث إلي حديثا أجد صداه في نفسي، ومن غير مؤامرة ولا تدبير رأيتني أمشي معها ذراعا إلى ذراع في الطريق ...!
لم أنم تلك الليلة ولم أذق طعم الغمض، لعلك تحسب ذلك يا صديقي فرحا بتلك النعمة التي سيقت إلي من حيث لا أحتسب! كلا، ولا بعض هذا، لقد سهرت تلك الليلة إلى الصباح في قلق وهم، وفي حديث بيني وبين نفسي كله تأنيب وملامة، لقد كنت موقنا أنني لست الرجل الذي تؤهله صفاته ليكون حبيبا يلم طيفه بخيال امرأة، ولم أكن من الغفلة بحيث أنسى بسهولة حقيقتي التي عشت بها ما فات من أيامي، وكنت خائفا أن يكون قد بدر مني شيء على هوى أشعرها أملا وأخفى عنها حقيقة؛ فانقادت إلي مخدوعة وعلى عينيها غشاوة.
بلى، لقد كنت سعيدا بحبها، ولكنني لم أحاول قط أن أشعرها معنى يدنيها إلي ويزيدني حبا إليها، وكان ضميري يخادعني حين كنت أستمع إلى نجواه في نفسي قائلا: «لا عليك ملامة إذ كانت تحبك دون أن تطلب إليها!» ويا لها خدعة! وهل زادها حبا لي إلا شعورها بأنها تجد لعواطفها في نفسي استجابة ...؟ وفي مرات كثيرة كان يثوب إلي رشادي ويغيب عني هواي، فأهم أن أقول لها وإنها لجالسة بإزائي: «انظري إلي! هل ترينني أصلح للحب؟» ولكني لم أجرؤ في مرة واحدة من هذه المرات أن أقولها؛ لأن هواي كان يغلبني على رأيي، فتقول لي نفسي: «أوليست تراك دون أن تطلب إليها أن تنظر؟»
وحتى يوم أسلمت لي شفتيها وأغمضت عينيها في مثل غشية الوحي، لم يقع في نفسي إلا أنه عمل منها لا مني، والقبلة المعسولة ما زال يرن صداها في قلبي!
Page inconnue