وانقطعت سبيبة الذكرى حين أقبل عليه ضابط المدرسة يهز في يده عصا ويتبعه غلام. إنه ولده ... لقد فارق هذه المدرسة منذ سنين ولكن بضعة منه لم تزل ثمة ... ليته لم يكن أبا ... إذن لاستراح من ذلك الماضي كله فلم يذكره ولم يأس على شيء مما ناله فيه من الخزي والندامة، ومن الأحزان والآلام ... ودمعت عيناه حين أهل الصبي وراء الضابط وعلى شفتيه ابتسامته، وبسط الرجل ذراعيه يستقبل ولده ومال عليه يقبله في لهفة وشوق، وفي حسرة وأسى ... وطأطأ الغلام رأسه يعبث بأزرار معطف أبيه ويداعب سلسلته، وسبح أبوه في ذكرياته ينشرها ويطويها ... ••• ... أما هي ...
لقد كان يحبها أعنف الحب وأرقه، ولم يكن يتمنى من دنياه إلا أن يظفر بها زوجا يصفيها الحب ويخلص لها الوداد، وقد ظفر بها ونالها، فأين هو اليوم مما كان يأمل من سعادة؟ لقد أفلتها فلم يبق بين يديه من تلك المنى الساحرة غير لمحة ضئيلة يراها في عيني هذا الغلام ...
وعاد إلى الماضي يسترجع ساعاته ولياليه، ويحصي على الزمن سيئاته وأياديه. لقد عرفها فتاة في بعض الملاعب العامة مع أخيها الصغير، فعطفه عليها دل متواضع وكبرياء تبتسم، وأحبها منذ ذلك اليوم وراح يعيش في وهم الأماني ... واستطاع أن يلفتها إليه ويدعوها إلى الاهتمام بأمره ... ومدت إليه خيط الرجاء فتعلق، ومضت الأيام تقرب بينهما وتدني نفسا إلى نفس حتى أشعرتهما أنها كل شيء في حياته وأنه كل شيء في حياتها، وشاطرته سعادة الأمل، وأخذ يعد العدة للأمر العظيم يوم تكون زوجه، واستبقا الأوان فمنحته من ودها على غفلة الأهل أشياء في إباء الراغب ورغبة المتأبي. ولم تكن أيام المواصلة على وتيرة؛ فيوما دلال، ويوما عتاب، ويوما يكون الرقيب دون ما تريد ويريد ...
وهكذا راح الزمن يذكي في صدريهما لواعج الشوق ويضرم لهيب الوجد أربع سنين متوالية، بين لهفة وشوق وأمل. ثم زفت إليه ...
لقد شعر يومئذ أن الدهر أتم عليه نعمته وأسبغ عارفته، ولكنه أعطاها مقادته من اليوم الأول، ولم يتلقها إلا بتقديس وعبادة، وظل بعدها في العبادة والتقديس! وإنها لتحب السيطرة والسلطان، بعض ما في دمها من طباع الترك، وإن فيه لطراوة ولينا من ضعف العاشق الذليل؛ فأخذت تملي عليه إرادتها فيسمع، وتستثيره فيذل ويخنع. وكانت تأمل أن تجد فيه سيدها، ولكنه ما زال يختضع لها حتى أنفت لها نفسها أن تكون سيدته ...! وخاب أملها في الرجل الذي قدرت أن يكون، فراحت تستنهض رجولته بما تنتقص من سلطانه، وإنها لتتمنى أن يعاصيها ويتمرد على إرادتها فتشعر به زوجا كما أملت. ولم يجد هو عندها ما يأمل من حنان الزوجة وعطف الحبيبة، فراح يستجديها الحب بما يستخذي لها ويتلاشى نفسا في نفس، وأطال الركوع بين يديها والسجود عند أطراف ثوبها كما صور له بلاء الحب ...
وتطاولت، وما زالت تتطاول، حتى جاوزته طولا وعرضا، وتصاغر، وما زال يتصاغر، حتى لم يعد في عينيها شيئا يذكر، لا في وهم الحب ولا في حقيقة البشرية ...
واستشعرت لذة الإمارة حين فقدت لذة الاستسلام، ولم يشق عليها أن تبلغ من السلطان ما أرادت، فلم تلبث أن وجدت نفسها الآمرة المطاعة في مملكتها، وتعبد لها السيد فراحت تسرف فيما تأمر وما تنهى، وتبالغ في مطالبها، لا تقف عند حد ولا تنتهي إلى غاية ... ••• ... وعاد الزوجان من المصيف؛ أما هو فعاد فارغ الجيب ممتلئ النفس، يتوزعه الشك والقلق وسوء الظن بنفسه وبالناس؛ وأما هي فعادت فارغة القلب راضية النفس، قد عرفت فنونا من الحياة وألوانا من السعادة وضروبا من النعيم لم تكن تخطر لها قبل اليوم على بال؛ وصار همها من دنياها ثوبا جديدا تختال به على صواحباتها، أو ليلة ساهرة تلتمس فيها متاع القلب والنظر، أو سفرة إلى هنا أو هنالك تجتلي من مشاهدها أنسا وبهجة ... ولم يكن يضن عليها بشيء ...
ونسيت تدبير البيت، وشئون الزوج، فكانت تقضي نهارها زائرة أو طائفة بالمعارض والملاعب ودور اللهو، وأخذت تنفلت من قيودها شيئا بعد شيء، حتى اطمأنت إلى حريتها كاملة حيث تغدو وحيث تروح، وحيث تنفق من وقتها ما تشاء في الليل أو في النهار!
وألف الرجل أن يعود إلى داره في النهار أو في الليل فلا يجد زوجته ثمة، ولا أحد غير الخادم تخلع عنه ملابسه وتهيئ له طعامه؛ ولم يكن ذلك ليسوءه كثيرا، فحسبه من الزوج الحبيبة أنها سعيدة هانئة، وأنه يستيقظ في الصباح على نغمات من صوتها الندي الرقيق، ويمسي ووجهها آخر ما يراه من دنيا اليقظة ... واستمرت الكرة تتدحرج مبعدة عن منال يمينه ...
وعاد ليلة إلى داره متعبا مكدودا يلتمس شيئا من أسباب الراحة، ودق الباب فلم يجبه مجيب، وعاود الدق فلم يجد غير الصدى يرن ثم يتلاشى في مثل ضحكة ساخرة من فم امرأة ... «ترى أين ذهبت الخادم الساعة؟»
Page inconnue