De la croyance à la révolution (2) : L'Unicité
من العقيدة إلى الثورة (٢): التوحيد
Genres
43
إن مفهومي الجوهر والعرض في حقيقة الأمر إنما يكشفان عن طبيعة الفكر الديني الذي يقسم العالم إلى قسمين: قسم إيجابي وآخر منفي، قسم بالزائد وآخر بالناقص، وتكون علاقة الطرفين علاقة أولوية وشرف، علة ومعلول، أول وآخر، قدم وحدوث. وجوب وإمكان، لا تناه وتناه، إلى آخر هذه الثنائيات المعروفة في الفكر الديني. فاستحالة قيام الأعراض بنفسها لحاجتها إلى الأصل وهو الجوهر والأساس. المفهومان إذن يعبران عن فكر ديني مجرد؛ وذلك لأن العلاقة بين الجوهر والعرض هي علاقة الثابت بالمتحول، الأصل بالفرع، المركز بالدائرة، وهي العلاقة الدينية المشهورة بين «الله» والعالم، إعطاء أولوية لطرف على حساب الطرف الآخر، وليست علاقة التساوي بين الأطراف، وهي أيضا علاقة من طرف واحد وليست علاقة متبادلة بين طرفين، أو باختصار علاقة الاستقلال والتبعية التي نعاني منها في شتى مظاهر حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى أصبحت طابعا مميزا لجيلنا وسمة أساسية للعصر. هي قسمة ذهنية في الظاهر، دينية إيمانية في الباطن، من شأنها تثبيت الأساس ثم التفريع عليه. قسمة عقلية في الظاهر، ولكن تفنيها عواطف التأليه فتترك العالم بلا أساس من داخله، وتجعل له أساسا مستمدا من الذات المشخصة التي يعلق عليها كل شيء. كانت هذه القسمة باستمرار من دعامات الفكر المثالي، وهو الفكر الديني في أكثر صوره عقلانية في اعتبار الأصل هي الصورة، والفرع هي المادة أو في تصور العالم على أنه عالمان، أساس ومؤسس عليه، أصل وفرع، وهي القسمة التي تجعل علاقة الأشياء بعضها ببعض على المستوى الاجتماعي والسياسي علاقة تسلط وتبعية، قاهر ومقهور، غالب ومغلوب، غني وفقير، أعلى وأدنى ... إلخ. وتفرض هذه القسمة نفسها على كل المستويات، وفي التأليه فتصير الذات والصفات، الذات جوهر والصفات أعراض، وفي الطبيعيات الجوهر شيء والكيفيات أعراض. وكذلك مفهوما القدم والحدوث، والوجوب والإمكان ... إلخ من مفاهيم الفكر الديني المجرد . وبالتالي تكون مقدمة «الأعراض حادثة» ليست حكما طبيعيا على الأعراض، بل إلهيات مقلوبة على الطبيعيات، فلأن الله قديم عكسنا الحكم وجعلنا العالم حادثا.
والحقيقة أن الانتقال من عالم الحدوث والجواهر والأعراض إلى عالم القدم والصور قفزة شعورية خالصة تقوم على الانتقال من الضد إلى الضد عن طريق القلب كتعويض نفسي، فلا يستطيع أن يأكل الصغير إلا الكبير، ولا يستطيع أن يهزم الضعيف إلا القوي. فهو تعليل عن طريق الرجوع إلى الأعلى، أي إلى السلطة، في حين أنه يمكن تفسير الأشياء والظواهر بالظواهر على نفس المستوى دون الرجوع إلى السلطة القاهرة التي هي «الله» على مستوى السياسة. والبحث في فعل لا يأتي بالضرورة بالبحث عن الفاعل، فذلك أسلوب بوليسي مباحثي جنائي، ولكن عن طبيعة الفعل، وتكوينه، وأثره. ولماذا تكون العلة الفاعلة لها السبق على العلة المادية أو العلة الصورية أو العلة الغائية؟ من الطبيعي أن لكل فعل فاعل، ولكن الأصعب هو البحث عن بناء الفعل وغايته ومادته، فلا شيء يحدث في الطبيعة عشوائيا أو بالمصادفة.
44
كما يحتوي الدليل على قفزة شعورية ثانية، وهي الانتهاء من وجود الذات إلى وجود صانع أو خالق. ومن ثم يكون الدليل في حاجة إلى دليل آخر لإثبات صفة الصنع أو الخلق. فقد يثبت أحد الذات أي الوعي الخالص دون إثبات صفة الصنع.
فتصور الذات منذ البداية في موضوع الذات على أنها صانع هو استباق إلى الموضوع الثاني، وهو الصفات، خاصة وأن صفة الصنع أو الخلق ستكون أحد الموضوعات في بحث الصفات. فإذا كان كل موضوع لاحق إنما يتراءى في الموضوع السابق، فإن ذلك يدل على النسق المحكم لعلم أصول الدين وتنظير العقائد بحيث يؤدي كل منها إلى الآخر ذهابا أم إيابا، صعودا أم نزولا، تقدما أم رجوعا. وعلى فرض إثبات وجود الله يبقى السؤال قائما، وهو: كيف يمكن العلم به وهل يمكن العلم به؟ إن الاستدلال بالصنعة على الصانع لا تعني بالضرورة العلم بالصانع، ومن ثم لزم الحديث بعد ذلك عن الذات والصفات والأفعال كمحاولة لتعريف الصانع وكيفية تصوره.
45
ولكن القفزة الشعورية الثالثة هي الأهم، وهي أن دليل الحدوث يثبت أن هناك القديم، ولكن ذلك لا يعني بالضرورة أن القديم موجود؛ لأن تصور الحادث تصور إضافي مثل أبيض لا بد أن يحيل إلى أسود. فالحادث لأنه تصور إضافي لا بد وأن يحيل إلى القديم دون أن يكون القديم موجودا بالفعل، وكأن هناك دليلا أنطولوجيا مفترضا مسبقا يمكن بواسطته الانتقال من عالم الأذهان إلى عالم الأعيان. وكيف لهذا الافتراض أن يوجد و«ميتافيزيقا الوجود» في نظرية الوجود قد انتهت إلى أن الوجود والماهية والعدم والواجب والممكن والمستحيل والقدم والحدوث، والوحدة والكثرة، والعلة والمعلول، كلها أمور اعتبارية لا وجود لها إلا في الذهن؟
ولكن أخطر شيء في دليل الحدوث هو تدمير العالم وإثبات عجز الإنسان مما يسمح لكل نظم القهر والتسلط بأن تقوم بدور «الله» الماسك بالعالم والحافظ له. فلماذا تكون «الأعراض حادثة»؟ إن الحدوث إسقاط من عواطف التأليه على الطبيعة، فينشأ من هذا الإسقاط تقليل لها في الشرف والقيمة في مقابل إثبات الأكثر قيمة وشرفا. ليس الحدوث تصورا للأشياء، بل هو نتيجة عكسية لعواطف التأليه، وأزمة نفسية بالنسبة لقضايا التغير الاجتماعي، ويأس من تغيير العالم بالفعل. الحدوث اتجاه «ماسوشي» بالنسبة للأشياء لأنه يقضي عليها ويريد إفناءها وتدميرها، وينكر عليها أن تكون مستقلة باقية موجودة بنفسها. الحدوث تدمير للعالم كله، وقضاء عليه، وإنكار لوجوده، ترفعا عليه، وذهابا إلى ما وراءه بحثا عن أمل ضائع وتعويض ذلك بانتصار ذهني في مجتمع مهزوم أو تأكيدا للسلطة وتثبيتا للقدرة في حالة مجتمع منصور. هذا بالإضافة إلى أنه حكم مسبق يتنافى مع الفكر العلمي، وناتج عن تطهر ديني مسبق. وحتى على افتراض الانتقال من التغير إلى الحدوث، فالحكم على العالم بأنه حادث يتضمن حكما ضمنيا يسلب العالم حقه في الوجود. فهو حادث، أي أنه يحتاج في وجوده إلى غيره، ريشة في مهب الريح، وهو تصور عادم للكون، مناقض للتصور العلمي القائم على الثبات والاطراد. تصور العالم حادثا إذن يجعله محتاجا إلى غيره ، فاقدا وجوده من ذاته، مستمدا وجوده من طرف آخر يمده بالعون ويجعل العالم داعيا له طالبا المدد، وهو ما ترسب في وجداننا المعاصر في تصوراتنا للعلاقات الاجتماعية والسياسية، فتحولت مجتمعاتنا إلى قسمين: يد عليا ويد سفلى، وأصبحنا كلنا في النهاية أيادي ممدودة إما للأخذ وإما للعطاء. إن هذا الفصم بين الحركة والمحرك أو المعلول والعلة لا يفسر الحركة والتغير، بل يدمر العالم؛ لأنه يجعل الأثر كله والفعل كله للعلة دون المعلول وللمحرك دون المتحرك، وبالتالي تسقط الطبيعة نهائيا ولا يبقى إلا ما بعد الطبيعة. إن رؤية التغير والحركة في العالم تدفع إلى كشف قانون للحركة وليس إلى علة الحركة، أي الانتهاء من الشيء إلى الشيء وليس من الشيء إلى اللاشيء، حتى تبقى الملاحظة على مستوى التجربة وينشأ العلم دون الانتقال من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة أو من العلم إلى الميتافيزيقا حتى لا تستعمل الطبيعة كمقدمة لشيء آخر، وهذا الذي سماه القدماء حكمة الصانع، وأنه لا بد من «مؤثر صانع حكيم».
46
Page inconnue