De la croyance à la révolution (4) : La prophétie – La rétribution
من العقيدة إلى الثورة (٤): النبوة – المعاد
Genres
26
فالإثبات يعتمد على النصوص الواردة، وهي في معظمها، باستثناء نصوص أصل الوحي، آحاد أو مشهورة لم تبلغ درجة التواتر، وكلها وضعت في عصور متأخرة، مستمدة من الخيال الشعبي وقصص الأبطال. والحقيقة أن موضوع النبوة هو عالم الإنس وليس عالم الجن، وعالم البشر وليس عالم الملائكة، وعالم الشهادة وليس عالم الغيب. والملائكة من السمعيات الخالصة، في حين أن موضوع النبوة من العقليات؛ أي المصالح العامة. وليس بإثبات الملائكة تقام مصالح الناس، وليس بإنكارها تنهدم وتعطل؛ فهي موضوع نظري خالص أقرب إلى القصص وشحذ الهمم وتقوية المعنويات، والإيمان بها موجود في كل الديانات، وليس منها ما يخص خاتم النبوة وآخر مرحلة تطور الوحي، وهي في النهاية موضوعات ثانوية لوظائف ثانوية، وسائل وطرق وليست موضوعات وغايات. والله قادر على الحديث مع الأنبياء، وعلى قبض الأرواح، وعلى تقدير الأرزاق، وعلى بعث الموتى، بلا واسطة الملائكة، وهو قادر على معرفة أفعال العباد بلا كتبة أو حفظة، كما أنه قادر على تسيير أمور الجنة بلا رضوان، وتدبير شئون النار بلا مالك، ولا يحتاج إلى حملة عرش من تحته أو من حوله، فلا يمكن التضحية بالتنزيه من أجل التشبيه، أو بالعقليات من أجل السمعيات.
والحقيقة أن «الملائكة» في أصل الوحي ليسوا أساسا موضوعا للإيمان، بل وسيلة لرد الإنسان إلى نفسه وإرجاع البشر إلى ذواتهم، ببيان الفرق بين الاستحالة والإمكان، بين اللامعقول والمعقول.
27
وكما أن دورها في أداء الوظائف التي يطلبها الله منها، فإن دورها أيضا في السجود للإنسان؛ لأن الإنسان أعظم منها وأقدر بالتكليف والتمكن منه بحرية الإرادة واستقلال العقل، كما أنها تسجد لله سجودها للإنسان، وكأن الإنسان مع الله في قيمة السجود لله! ولقد أعلم الله الملائكة مسبقا بجعله الإنسان خليفة له في الأرض، كقرار علني من أجل قبول علني؛ حتى تنتفي الأعذار ويستحيل الرفض والإنكار، وكان جزاء الطرد من الجنة والتحول من النقيض إلى النقيض؛ من الملاك إلى الشيطان، ولا شفاعة لها خارج قانون الاستحقاق. (2) الموضوع العملي
إذا كان الإيمان بالله يدخل في العقليات في أصل التوحيد، والقضاء والقدر في أصل العدل، واليوم الآخر في المعاد، والرسل في النبوة، لم يبق إلا الكتب وهي الموضوع الحسي الوحيد المنقول من جيل إلى جيل نقلا متواترا حتى الآن وإلى نهاية الزمان. الإيمان بالكتب إذن هو أقرب الموضوعات إلى الحس وأبعدها عن الغيب؛ كتب الوحي أو كتب التاريخ والآثار. أما الكتب فهي وحدها الباقية، والكتب هي التوراة والزبور والإنجيل والقرآن،
28
وهي الكتب الموجودة لدينا حتى الآن، ولكن أين صحف إبراهيم؟ هناك روايات كثيرة عنها عند أهل الكتاب، وقد تكون لها مصادر عربية مفقودة، خاصة وأن إبراهيم كان معروفا في الجزيرة العربية، وكان دين الحنفاء موضع احترام وتعظيم فيها، وقد وضع القدماء التوراة قبل الزبور، على خلاف الترتيب الزماني؛ ربما لأهميتها ولاحتوائها على الشريعة. وللقرآن أسماء أخرى، مثل الفرقان والكتاب والذكر. وكل كتاب يعبر عن مرحلة من مراحل الوحي السابقة، وتتبع هذه المراحل يؤدي إلى اكتشاف قانون تطور النبوة، منذ الإعلان الأول حتى اكتمال الوحي، والكتاب في متناول الإنسان؛ يمسكه بيده، ويقرؤه بلغته، ويفهمه بعقله، ويحققه بفعله. الكتاب إذن هو مضمون النبوة الحسي العملي، وهو مجرد وسيلة وليس غاية، مجرد أداة وليس هدفا. إنما الهدف هو تحقيق الرسالة المتضمنة فيه. ولكي يتم ذلك هناك ثلاث مراحل؛ الأولى إثبات الصحة التاريخية للنقل منعا للتحريف والتبديل، والثانية الفهم الصحيح منعا لسوء الفهم والتأويل، والثالثة تطبيق الشريعة منعا للإيمان الميت. والكلام النظري غير ممكن الوقوع. يتضمن المضمون العملي للرسالة إثبات صحتها وفهم نصوصها وتطبيق أوامرها، وهنا يتحول علم أصول الدين إلى علم أصول الفقه ويصب فيه، وتعود إلى علم الأصول وحدته المفقودة بين النظر والعمل؛ وعلى هذا النحو لا يصبح موضوع النبوة من الموضوعات المتعالية، بل يكون مسار الرسالة في التاريخ. ولأول مرة يظهر الإسلام كجزء من النبوة، كما اتضح في الحركة الإصلاحية الحديثة، في متناول الرسالة العامة، انتقالا من المجردات والنظريات إلى الوقائع المحسوسة، ومن التوحيد إلى النظم؛ فالإسلام وانتشاره في التاريخ هو معجزة النبوة، ولكنه ظل حديثا عاما عن الإسلام في التاريخ، وانتشاره ومآثره، وتكوين جيل وقادة، وقضاء على إمبراطوريات ودول، ونشأة نظم جديدة، أو تقريظ للإسلام والدفاع عنه إعجابا بالماضي، وربما تعويضا عن هزائم العصر. وظل أيضا مدحا للشريعة الغراء دون تحقيقها علميا، وبيان المسافة بين المثال والواقع ووسائل التنفيذ. وهو حديث خارج الزمان والتاريخ، وبلا أرض أو شعب أو شعب أو وطن، وكأنها مدائح نبوية أو تواشيح دينية أو مدائح سلطانية. ويرتبط بذلك الدفاع عن الإسلام ضد الانتقادات المعاصرة وشبهات الغربيين، مثل دعوى انتشار الإسلام بالسيف تنكرا لمبادئ الإسلام، وتعلم الرسول الشريعة من أسفاره إنكارا للوحي. ومع ذلك هناك جذور عند القدماء إلى العودة بالنبوة إلى التاريخ والدخول فيه؛ وذلك بإظهار الإسلام ذاته وعرض شريعته طبقا لحاجات المسلمين. فينتظم الحديث في ثلاثة أقسام رئيسية؛ العبادات وهي أركان الإسلام الخمس مع الجهاد دون تخصيصه كركن سادس، المعاملات وتشمل الأحوال الشخصية والحدود والمحرمات والمباحات والأموات، الشرعيات وتشمل الأدلة الشرعية والفرق بين العقليات والشرعيات.
29 (أ) الأدلة الأربعة
بعد ضمان تواتر الرسالة في التاريخ وحفظها صحيحة عبر الأجيال، تأتي قضية الاستدلال؛ استدلال الأحكام من الأدلة؛ أي الاستفادة من الرسالة في استنباط الأحكام من أجل تطبيقها؛ وبالتالي تحقيق الرسالة. والأدلة أربعة على ما هو معروف في علم أصول الفقه الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. الكتاب والسنة دليلان نصيان، والإجماع والقياس دليلان عقليان. ولما كان الكتاب والسنة أيضا يعتمدان على العقل، سواء في شروط التواتر، أو في الاعتماد عليه كدليل قطعي، أو في إدراكه للحسن والقبح كصفات موضوعية في الأفعال، وكأبنية فعلية في المجتمع؛ كان العقل أساس الأدلة الشرعية الأربعة، وهي التي انصبت كلها في النهاية في الاجتهاد؛ أي في دليل العقل. فالعقل أساس النقل في الدليلين النقليين؛ الكتاب والسنة، والعقل أساس النقل في دليلي الإجماع والاجتهاد؛ نظرا لأن الإجماع يقوم على نقل وعقل جمعي، ولأن الاجتهاد يقوم على نقل وهو الأصل، وعلى عقل في الفرع، وعلى عقل في استنباط علة الحكم من الأصل، وعلى عقل في تحقيقها في الفرع، وعلى عقل في معرفة تشابهها حتى يمكن تعدية الحكم. فالأدلة الأربعة كلها ترتكز على الدليل الرابع؛ دليل العقل؛ وبالتالي كانت الأولوية الفعلية للدليل العقلي على دليل النقل، وكما هو معروف في نظرية العلم، وفي المقدمات النظرية الأولى.
Page inconnue