De la croyance à la révolution (4) : La prophétie – La rétribution
من العقيدة إلى الثورة (٤): النبوة – المعاد
Genres
23
وقد تكون هناك صلة بين هذا التدوين وما يحدث في المجتمعات الحالية من تدوين كل شيء على الإنسان، وتسجيل ما يصدر منه من أقوال وأفعال، ورصد ما يبدو منه من حركات وسكنات، واستعمال شتى وسائل جمع المعلومات وأجهزة التصنت والتجسس على حياة الناس الخاصة والعامة. ففي مجتمعاتنا رقباء على الرقباء، ومتصنتون على المتصنتين، حتى تتجمع الخيوط كلها في يد الحاكم الأعظم. وقد يسمى الملكان؛ فأحدهما رقيب والآخر عتيد، أسوة بمنكر ونكير. وبصرف النظر عن الأسماء، هل تشير إلى مسميات أم لا، فقد تشير الأسماء إلى وظائف، وليس إلى أشخاص وظائف الرقابة والحفظ. ولما كانت ثنائية الخير والشر أصيلة في الخيال الشعبي، فالأول لكتابة الحسنات والثاني لكتابة السيئات، يلازمانه طيلة حياته، يدونان حسناته وسيئاته. وهذا يتطلب عددا من الملائكة ضعف عدد البشر في الماضي والحاضر والمستقبل؛ حتى يكفي بالناس، لكل فرد اثنان. وقد يكون لكل فرد ملكان؛ اثنان بالنهار واثنان بالليل؛ فتكون الملائكة أربعة يتعاقبون عند صلاة العصر وصلاة الصبح؛ أي بعد منتصف النهار وبعد منتصف الليل؛ وبالتالي يكون عدد الملائكة أربعة أضعاف عدد البشر، ولا يتغايران عليه ما دام حيا. وإذا مات يقومان على قبره يسبحان ويكبران ويهللان، ويكتبان ثوابه إلى يوم القيامة إن كان مؤمنا، ويلعنانه إلى يوم القيامة إن كان كافرا. دورهم إذن يتعدى دور الكتبة إلى دور الحاكم والمقيم والداعي بالخير أو الشر، بالبركات أو اللعنات. يدونان الأعمال في الزمان والمكان لمزيد من الضبط والإحكام. ملك اليمين أمير على ملك اليسار، ولا يكتب ملك اليسار شيئا إلا بإذن ملك اليمين. لا تدون السيئة إلا بعد ست ساعات من وقوعها؛ فلعل الإنسان يتوب عنها. ولماذا ست ساعات تماما لا أقل ولا أكثر؟ وهل يعطي ذلك الإنسان الحق في أن يفعل ما يشاء ثم يتوب عنه قبل انقضاء الساعات الست بدقيقتين، أم إن ذاك يعتبر نوعا من الحيل الفقهية أو سوء النية في الأخلاق؟ فإذا ما انقضت الساعات الست، لماذا يدعو عليه الملاك بالموت ويناصبه العداء؟ ألم تنشأ بينهما صداقة طول العمر؟
24
والحقيقة أن هناك اشتباها بين جعل الكتابة بكاتبين وآلة وقرطاس ومداد، وجعلها كناية عن الحفظ والعلم. وقد يصل التشبيه إلى حد جعل الملكين معلقين على ناجذي الإنسان أو عاتقيه أو عنقه أو ذقنه. وقد تتعدد الكتب؛ فهناك كتب أعمال العباد، وهناك كتب اللوح المحفوظ، وهناك كتب الملائكة التي بها أوامر التصرف في العالم. صحف الحفظة موضوعة تحت العرش رمزا للحفظ في الخزانة. وما الحاجة إلى كل هذه الكتب والتدوين البعدي فيها بعد وقوع الحوادث، واللوح المحفوظ قد دون فيه كل شيء من قبل؟ إن الهدف من كل ذلك هو مجرد تصوير فني للرقابة على النفس، ومعرفة النفس بكل أفعالها لتذكر الإنسان بأن كل شيء معروف، وأنه لا أسرار هناك تكتم وتخفى. ويحدث ذلك خاصة بالنسبة لأفعال الحلال والحرام، أو حتى أفعال الندب والكراهة. أما أفعال الإباحة فإنها لا تكتب؛ لأنها لا تتطلب رقابة نفسية، بل مجرد تعبير عن طبيعة.
25
وإنطاق الجوارح للشهادة على الإنسان. فالجوارح التي قامت بالأفعال؛ أي الأعضاء المباشرة مثل الأيدي والأرجل والألسن والسمع والبصر والجلد، بالإضافة إلى الأرض؛ أي المكان، والليل والنهار؛ أي الزمان؛ فالفاعل وميدان الفعل مكانا وزمانا، الكل يشهد على الفعل. وقد تتكلم الأعضاء بلا لسان، وقد يشهد كل عضو بمفرده طالما أن له بنية حية ويتكلم بلا لسان، أو قد ينوب اللسان في الشهادة عنه. والشهادة الأولى أقوى؛ لأنها مباشرة ولا وسيط، وأبلغ من حيث الخيال الشعبي. وسواء نطقت الجوارح أم أنطقها الله، فإن المهم هو شهادتها على الإنسان في أفعاله، وإلا لتحول الموضوع إلى صفة القدرة في مبحث الصفات. ويبدو هنا أيضا رصيد المعجزات في إنطاق الجوارح، وكيف أن رصيد النبوة يصب في المعاد؛ فنطق العجماء مثل إنطاق الجوارح؛ فإذا كانت الأفعال في الدنيا تدور في نطاق السر والكتمان، فإنها في المعاد تصبح مكشوفة على الملأ وأمام الأشهاد، وابتداء من البدن في الزمان والمكان.
26 (3) العرش، والكرسي، والقلم، واللوح
وكلها مناظر القاضي على منصة الحكم؛ العرش والكرسي، وبعده القلم واللوح، وبه سجل الأعمال والكاتبون؛ أي الكتبة الكرام.
27
فالعرش جسم عظيم، والعظم عكس الصغر، مصنوع من نور عكس الظلام، علوي ضد السفل، من زبرجدة؛ أي من أحجار كريمة في مقابل الأحجار العادية. لونها أخضر، وهو اللون الديني المفضل لعباءة النبي وللطرق الصوفية، أو أحمر وهو لون الحمية والنار والفاعلية والشيطان. ليس كرويا، بل قبة فوق العالم؛ مما يدل على الاحتواء، فالتحديب أفضل وأسمى من التقعير. أعمدته أربعة، وهي صورة للعرش والحمل. تحمله الملائكة كمحفة تأكيدا للعظمة، وفي الآخرة ثمانية زيادة في العظمة. تصل رءوس الملائكة عند العرش في السماء السابعة وأقدامهم في الأرض السفلى؛ تعبيرا عن طول القامة وعظم المهابة،
Page inconnue