De la croyance à la révolution (1) : Les prémisses théoriques
من العقيدة إلى الثورة (١): المقدمات النظرية
Genres
أما إذا كان الشرف من حيث الغاية والفائدة، وهي الحصول على السعادة في الدنيا، ونيل الفوز في الآخرة عن طريق الاشتغال بالمعارف والعلوم والحصول على المعقولات، فإن علم الكلام في الحقيقة من أقل العلوم شرفا لأنه من أخطر العلوم، ومن أقرب السبل إلى التهلكة.
14
فلا توجد سعادة معروفة يبحث عنها الناس بالفعل إلا في هذه الدنيا وليس خارجها، ولا يوجد فوز يبغيه الناس ويسعون إليه إلا في هذا العالم، وليس في عوالم أخرى سابقة على حياته كما هو الحال عند الصوفية، أو لاحقة على مماته كما هو الحال عند المتكلمين. ليست الغاية من العقائد تعويض الإنسان عن مآسيه في العالم، ووعده بسعادة مستقبلية تعويضا عن شقائه الحاضر، بل توجيه السلوك نحو العالم، وتحقيق رسالة الإنسان في هذه الدنيا، وتحقيق غايته على الأرض.
15
تعارضت الأسس في علم الكلام، وتضاربت الآراء، وتعددت الحقائق، وسادت الأهواء، وعمت المصالح، وتوهجت الانفعالات؛ فعلم الكلام ليست له أية فائدة عملية، بل على العكس يؤدي إلى مخاطر جمة وضرر بالغ على الفكر والسلوك، على الفرد والجماعة، على الحاضر والتاريخ، هو مضيعة للوقت، ومذهبة للعمر، لا تنتج عنه أية فائدة، واشتغال بما لا يغني أو يفيد.
16
علم الكلام يبعد الجماعات عن مصالحها الفعلية، ويقدم لها موضوعات وهمية وإشكالات خاطئة تصرف فيه طاقات الجماعة، وتعطيها معركة وهمية تاركة المعركة الحقيقية للسياسة وممارسة الحركة العلمانية أو نضال الفقهاء، علم الكلام لا يزيد عن كونه كلاما في كلام، وكأن الكلام غايته ووسيلته، وربما سمي العلم «علم الكلام» لأنه كلام، بداية وطريقا ونهاية، مقدمة واستدلالا ونتيجة، لا يحقق فوزا لأحد حتى لصاحب المصنفات فإنها تضره أكثر مما تنفعه، ويعصي بها أكثر مما يطيع، ويعاقب عليها أكثر مما يثاب.
17
يمثل علم الكلام خطورة كبرى على الجماعة، فإنه يفرقها أكثر مما يوحدها، ويدعو إلى الاختلاف أكثر مما يدعو إلى الاتفاق، ويقوي من ذلك الفكرة الموجهة من افتراق الجماعة إلى ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة! علم الكلام إذن هو تاريخ الفرق الدينية التي نشأت ابتداء من وقائع تاريخية معينة يتركز معظمها في حوادث الفتنة الأولى، ثم انحصرت عناية كل فرقة في إظهار ما تختلف فيه عن غيرها والبرهنة عليه والتعصب له، وعدم التنازل عنه، كما توجهت عناية الباحثين لذلك، قدماء ومحدثين في بيان «اختلاف المصلين» و«الفرق بين الفرق» في حين أن هذه الفرق كلها خرجت من مصدر واحد وهو الوحي؛ أي أنها تجمع بينها نقطة تلاق في المصدر، كما أن هناك نقطة تلاق أخرى في الوقائع التاريخية التي أصبحت حالات جديدة تستدعي حكما مثل صاحب الكبيرة، وما دامت الفرق قد انغلقت على نفسها، ودافعت عن وجودها مع فكرها ما دامت مهددة في وجودها وفكرها معا، فإن النضال بينها قد تحول إلى نضال مسلح، كل فرقة تهدد الأخرى بالاستئصال، وأصبح الدفاع عن الفرقة هو دفاع عن البقاء، وقد وصل التنازع إلى حد سفك الدماء وقتل المعارضين. وهو ما استمر حتى جيلنا هذا من اعتقال للمعارضة السياسية بل وتصفيتها جسديا، وتجاوز أدبيات الحوار للتقريب بين وجهات النظر وللجمع بين الآراء مع الحد الأدنى من الاتفاق دون قهر الأغلبية للأقلية، ودون قمع من فرقة السلطة لفرق المعارضة، خاصة وأنها مسائل نظرية صرفة لا تنتج منها شرائع عملية مباشرة، والجماعة حرة في التأويل النظري، وملزمة بدليل العمل الجماعي بصرف النظر عن اختلاف الأطر النظرية عند مختلف الفرق. لقد أدى علم الكلام إلى التشتت والتفرق، وإلى اضطهاد الفرق بعضها للبعض، وتكفير بعضها للبعض، واستعداء كل منها السلطة على الأخرى حتى تفوز هي بفرقة السلطان، فيعم الاضطهاد، وتنتشر الرقابة، ويسود الإرهاب، وتتطاير الرقاب! واستعمال السلطة لقهر الناس على الاعتقاد، ولإجبارهم على الإيمان مضاد لمقصد الوحي الذي أتى معبرا عن الطبيعة، ومعلنا استقلال العقل؛ فاستعمال القوة لإجبار الناس مقابلة تعصب بتعصب، وجهل بجهل، وعناد بعناد، والفكر لا يسايره إلا فكر مثله؛ الفكر هو القادر على التغيير، والعناد لا يطول إذ ينتهي بالعزلة، ولا يقابل إلا بالتسامح، وبالرغم من هذا التشعب والتداخل العقائدي والثراء النظري، فإن السلطة كثيرا ما كانت تتدخل لنصرة فريق على فريق، فيحدث الاضطهاد عندما تتدخل السلطة في المعارك الفكرية.
18
Page inconnue