الباب الخامس: التاريخ المتعين
الفصل الحادي عشر: النظر والعمل (الأسماء والأحكام)
أولا: مقدمة
ثانيا: النظر
ثالثا: التصديق
رابعا: الإقرار
خامسا: العمل
سادسا: مرتكب الكبيرة
سابعا: خاتمة: الواقع التاريخي بين الإثبات والتغيير
الفصل الثاني عشر: الحكم والثورة (الإمامة)
أولا: مقدمة: وضع المسألة
ثانيا: وجوب الإمامة
ثالثا: كيفية ثبوتها
رابعا: صفات الإمام وشروط الإمامة
خامسا: الثورة على الحكم
سادسا: الإمامة في التاريخ، انهيار أم نهضة؟
خاتمة: من الفرقة العقائدية إلى الوحدة الوطنية
أولا: مقدمة: هل يجوز تكفير الفرق؟
ثانيا: هل هناك تكفير عقائدي نظري؟
ثالثا: هل هناك تكفير شرعي عملي؟
رابعا: من الوحدة إلى التفرق أو من التفرق إلى الوحدة
المصادر والمراجع
أولا: العقائد الأشعرية
ثانيا: العقائد الاعتزالية
ثالثا: تاريخ الفرق
رابعا: بعض المصادر الأخرى
الباب الخامس: التاريخ المتعين
الفصل الحادي عشر: النظر والعمل (الأسماء والأحكام)
أولا: مقدمة
ثانيا: النظر
ثالثا: التصديق
رابعا: الإقرار
خامسا: العمل
سادسا: مرتكب الكبيرة
سابعا: خاتمة: الواقع التاريخي بين الإثبات والتغيير
الفصل الثاني عشر: الحكم والثورة (الإمامة)
أولا: مقدمة: وضع المسألة
ثانيا: وجوب الإمامة
ثالثا: كيفية ثبوتها
رابعا: صفات الإمام وشروط الإمامة
خامسا: الثورة على الحكم
سادسا: الإمامة في التاريخ، انهيار أم نهضة؟
خاتمة: من الفرقة العقائدية إلى الوحدة الوطنية
أولا: مقدمة: هل يجوز تكفير الفرق؟
ثانيا: هل هناك تكفير عقائدي نظري؟
ثالثا: هل هناك تكفير شرعي عملي؟
رابعا: من الوحدة إلى التفرق أو من التفرق إلى الوحدة
المصادر والمراجع
أولا: العقائد الأشعرية
ثانيا: العقائد الاعتزالية
ثالثا: تاريخ الفرق
رابعا: بعض المصادر الأخرى
من العقيدة إلى الثورة (5)
من العقيدة إلى الثورة (5)
الإيمان والعمل - الإمامة
تأليف
حسن حنفي
الباب الخامس: التاريخ المتعين
الفصل الحادي عشر: النظر والعمل (الأسماء والأحكام)
أولا: مقدمة
بعد التاريخ العام الذي يظهر في النبوة وفي المعاد؛ أي في ماضي الإنسانية وفي مستقبلها، يظهر التاريخ الخاص أو التاريخ المتعين في النظر والعمل أولا، وهو ما سماه القدماء «الأسماء والأحكام»، ثم في الحكم والدولة ثانيا، وهو ما سماه القدماء «الإمامة»؛ فإذا كان التاريخ العام من صنع الله، إذ إنه هو الذي يرسل الأنبياء، وهو الذي يبعث الناس إليه في اليوم الآخر، فإن التاريخ المتعين من صنع الإنسان؛ فالنظر والعمل مقولتان إنسانيتان فرديتان، كما أن الحكم والدولة نظامان إنسانيان اجتماعيان من اختيار الإنسان؛ فالتاريخ العام لا يتحقق إلا في التاريخ الخاص، وكأن المشروع الإلهي كما تم عرضه في الوحي كعلم إلهي لا يتحقق إلا بنظر الإنسان وعمله، وحكم الجماعة ونظامها. وفي التاريخ المتعين ينتهي علم أصول الدين، ويتحقق القصد الإلهي من الوحي، وتتأسس العقائد، ويكتمل النسق. (1) وضع المشكلة وأهميتها
تدخل مسألة النظر والعمل في باب «الأسماء والأحكام»، أي في تحديد معاني الألفاظ؛ فهي ليست مسألة نظرية بقدر ما هي مسألة لغوية. ليست قضية تفتيش في ضمائر البشر أيهم المؤمن وأيهم الكافر كما يحدث في هذه الأيام، بل هي مسألة البحث عن معاني الكلمات، وكأن النظر والعمل مجرد أسماء وألفاظ وتحديد معان، وليسا منطق سلوك وأفعال وممارسة النظر والتحقيق.
1
وهل يمكن معرفة النظر والعمل لغويا فحسب؟ وعلى فرض أنها مبحث لغوي، فهل هي أسماء شرعية فحسب ليس للعقل فيها دور في الفهم أو التحليل؟ لذلك نشأ رد الفعل على هذا الوضع الهامشي للمشكلة، وأصبحت أصلا من أصول الدين، الأصل الرابع منه «المنزلة بين المنزلتين» بعد الأصول الثلاثة؛ التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد.
2
وتعني مسألة الأسماء والأحكام أن مسألة النظر والعمل من حيث التطابق أو عدمه مجرد أسماء لغوية تشير إلى أحكام شرعية، وليس لها أي مدلول نظري أو واقعي؛ فمحل بحثها هو قواميس اللغة وكتب الفقه؛ وبالتالي إخراج موضوع النظر والعمل من نطاق تحليل العقل والواقع. وإذا كان الأمر سهلا في حالة التطابق، فإن الأمر يكون صعبا في حالة الاختلاف؛ فالإتيان بالكبيرة إنما يشكك في مدى فاعلية النظر، ويسبب أضرارا بالغة في الواقع الاجتماعي. وإذا استطاع الإنسان التوقف في تحديد بعض المسائل النظرية مثل الإيمان والكفر والشرك، أو تحديد بعض الأحكام الفقهية حول الفسق والنفاق والعصيان، فإنه لا يستطيع أن يتوقف أمام الإتيان بالكبائر؛ لأنها أفعال عامة يقوم بها الفرد في المجتمع، وتدخل تحت طائلة القانون.
وقد يشار إلى مسألة النظر والعمل كجزء من المقدمات العامة في علم أصول الدين، فيما يجب على المكلف الإيمان به، مثل نظرية العلم ونظرية التكليف، وكأنها مدخل وليست موضوعا نظريا مستقلا،
3
وكأنها مقدمات نظرية خالصة، مقدمات في مفاهيم العلم. وقد ظهر أيضا في الشروح المتأخرة عندما انهار بناء العلم وتحول إلى منظومة عقائدية نثرا أو شعرا، وبالتالي ضاع موضوع النظر والعمل من المستوى البرهاني إلى المقدمة الخطابية العامة، وكأنه مبحث فقهي أو صوفي. وقد تبدو مسألة النظر والعمل في نهاية العقائد المتأخرة كمقدمة للأخلاقيات التي ينتهي بها التوحيد كنوع من الخطابة العامة في الدين بعد انهيار البناء العقلي للعلم.
4
وقبل أن توضع كخواتم خطابية للعلم تظهر أحيانا كملحق لموضوعاته الأخيرة كالمعاد والنبوة؛ فتدخل في مسألة الوعد والوعيد باعتبارها تتحدث عن الإيمان والكفر والفسوق والمعصية من خلال قانون الاستحقاق.
5
كما قد تظهر في باب النبوات في آخر مرحلة من مراحل النبوة؛
6
لذلك ارتبطت بموضوعات الوعد والوعيد، ولكن على مستوى الدنيا وليس تطبيقا للاستحقاق في الآخرة. وقد يضطرب مكانها ويتردد بين الموضوعات السمعية بعد المعاد والوعد والوعيد وقبل النبوة والإمامة؛ مما يدل على بداية اهتزازها في بناء العلم.
7
وقد تغيب مسألة النظر والعمل من بعض المؤلفات الكلامية ورسائل التوحيد نظرا لعدم ظهور الجانب الإلهي فيها. ولا تظهر إلا بمقدار ظهورها كجزء من التوحيد في الإرادة المطلقة؛ ومن ثم تلحق بمسألة الجبر في الأفعال على أساس أنها تتناول الإيمان والكفر والفسوق؛ أي موضوع الأفعال.
8
وقد تغيب مسألة النظر والعمل بتاتا من العقائد المتأخرة بعدما طغت الإلهيات على باقي الموضوعات، وبعدما أصبحت كل المسائل ما عدا التوحيد جزءا من التوحيد. ولا تظهر إلا كقضية في نهاية العقائد بعد الوعد والوعيد والمعاد والنبوة والإمامة في تحديد معنى الكفر ومن هم الكافرون لتحديد علاقاتهم الاجتماعية بسائر المؤمنين في الأمة. وهو الجانب التاريخي الذي فيه تحول موضوع الفرق إلى ملحق للإمامة أو ذيل لها فيما يجب تكفيره من الفرق.
9
وتغيب المسألة كلية وكأنها لا تدخل في علم التوحيد خاصة في كتب العقائد المتأخرة والمتوسطة في عصر بناء العلم،
10
كما تختفي من العقائد المتأخرة.
11
والعجيب أن تغيب عن بعض الحركات الإصلاحية الحديثة.
12
وبالرغم من هذا الغياب للموضوع إلا أن له أهمية قصوى، لأنه موضوع عملي يمس الحياة اليومية للجماعة، وعلى أساسه تتحدد العلاقات الاجتماعية،
13
بل إنه هو الموضوع الأول من حيث النشأة، موضوع مرتكب الكبيرة وحكمه بين المؤمن والكافر. دارت حوله أهم الفرق الكلامية بين طرفي نقيض كحل وسط بين الاثنين.
14
ويتصل بموضوع التوحيد، بالذات والصفات؛ فكلاهما يصاغان بالطريقة نفسها لتصور العلاقة بين الطرفين، الذات والصفات، أو الإيمان والعمل، علاقة زيادة أو مساواة، والاختلاف في تصور هذه العلاقة بين أهل العدل وأهل الرحمة.
وقضية النظر والعمل قضية إنسانية خالصة، تتناول موضوع العمل والسلوك طبقا للتصورات والدوافع وحسب البواعث والغايات، وهي أبعد الموضوعات عن الجوانب الإلهية؛ لذلك تكون قسمة الإيمان إلى قديم ومحدث قسمة في البداية تجعل الموضوع يتناول الإيمان المحدث، أي إيمان الإنسان، وليس الإيمان القديم.
15
صحيح أن المؤمن أحد أسماء الذات، إلا أن الإيمان هو هذه الطاقة الإنسانية الخالصة وتصورات الإنسان لنفسه وللعالم، دوافع سلوكه وبواعثها؛ فإذا كان التوحيد محوره الله، والعدل محوره الإنسان، فإن الوعد والوعيد التقاء بين المحورين، والإيمان والعمل هما الجانب الدنيوي في موضوع الوعد والوعيد؛ فطالما يتعلق الإيمان بالنظر والعمل والتصديق والإقرار، وكلها أبعاد للشعور الإنساني، فإن المشكلة تكون إنسانية في جوهرها. (2) أبعاد الشعور
ويمكن تحليل مسألة الإيمان والعمل بتحليل جوانب الشعور الثلاثة؛ صورته ومضمونه وموضوعيته.
16
فصورة الشعور تظهر في الوحدة أو الاختلاف بين أبعاد الشعور الأربعة، الفكر والقول والوجدان والعمل، بينما يظهر مضمون الشعور في الفكر المتمثل الذي يتحول إلى قول وعمل في مضمون التصديق (الله، والكتب، والرسل، واليوم الآخر ...)
17
وأخيرا يتموضع الشعور عندما يتحول الإيمان من طاقة في الشعور إلى نظام مثالي للعالم.
فعندما يصبح الإيمان موضوعا للشعور تظهر له أبعاد أربعة؛ الفكر والقول والوجدان والعمل.
18
يظهر الإيمان من خلال هذه الأبعاد، إما في واحد منها أو في اثنين أو في ثلاث أو في جميعها؛ فالفكر هو ما يسميه القدماء المعرفة أو النظر أو الاستدلال، والقول هو الإقرار أو الشهادة، والوجدان هو التصديق بالقلب أو التحول، والعمل لفظ قديم ومعاصر على السواء. كان الخلاف القديم بين النظر، أي الإيمان، والعمل في قضية مرتكب الكبيرة، وكأن النظر أو الإيمان يشمل الإقرار والتصديق؛ أي القول والوجدان. هناك إذن أربعة موضوعات وإحدى عشرة علاقة ممكنة، ستة منها ثنائية، وأربعة منها ثلاثية، وواحدة منها رباعية.
19
ولما كان يمكن اعتبار المعرفة والوجدان بعدا واحدا، فالمعرفة نظر، والوجدان تصديق، كلاهما نظر إما عقلي أو قلبي، استدلالي أو وجداني، تكون أبعاد الشعور ثلاثة؛ المعرفة أو النظر، والقول أو الإقرار، ثم العمل. وتكون المعرفة حينئذ هي معرفة الشعور، وعلى هذا النحو تكون الاحتمالات سبعة؛ ثلاثة فردية، المعرفة والقول والعمل؛ وثلاثة ثنائية، المعرفة والقول، والمعرفة والعمل، والقول والعمل؛ وواحدة ثلاثية، المعرفة والقول والعمل.
20
وإن كان الفكر هو النظر، والنظر أساس العمل، إلا أن الفكر عندما يتمثل يصبح وجدانا، وعندما يعبر عن نفسه يصبح قولا، وعندما يتحول إلى عمل يصبح فعلا؛ فهو طاقة واحدة تظهر في مخارج متعددة. ويظهر ذلك منذ البداية في محاولات تحديد حقيقة الإيمان والكفر وتفاوت كل التعريفات بين هذه الأبعاد؛ المعرفة التي تشمل النظر والتصديق، والإقرار، والعمل؛ فالإيمان معرفة تقوم بالله، وما جاءت به الرسل، والكفر جهل به؛ كما أن التصديق بالقلب؛ فالإيمان لغة هو التصديق، التصديق بالرسل فيما علم مجيئه ضرورة وتفصيلا،
21
وهو أيضا كلمتا الشهادة أو التصديق مع الكلمتين، وهو ثالثا أعمال الجوارح، إما الطاعات فرضا ونفلا أو الطاعات المفروضة دون النوافل.
22
الإيمان إما فعل القلب فقط، وهو المعرفة أو التصديق، وإما فعل الجوارح فقط، وهو إما باللسان وهو الكلمتان، أو غيره وهو العمل بالطاعات، وهو إما فعل القلب والجوارح معا، والجارحة إما باللسان أو الجوارح؛ فالإيمان نظر، معرفة وتصديق، أو عمل باللسان أو بالجوارح. الإيمان إذن هو مجموع هذه الأبعاد الثلاثة؛ تصديق بالجنان، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان .
23
وتعرف أبعاد الشعور بتحليل العقل، وقد تعرف أيضا بالنص؛ فالإسلام هو القول، والإيمان هو القول المضاف إلى المعرفة والوجدان، والإحسان هو العمل المضاف إلى القول والمعرفة والوجدان.
24
وقد تكون هناك قسمة أكمل للشعور بناء على الكيف والكم والجهة والإضافة؛ فالشعور الكيفي هو الذي له أبعاده الأربعة، المعرفة والتصديق والإقرار والعمل، أو الثلاثة إذا ما ضم التصديق إلى المعرفة في النظر. والشعور الكمي هو الذي يزيد وينقص لاحتواء مسألة «هل يزيد الإيمان وينقص؟» أما الشعور كجهة فهو مضمون الإيمان الذي عرض من قبل في المضمون النظري للرسالة.
25
أما الشعور كإضافة فهو ما تناوله الحكماء من حيث قسمة الإيمان إلى إيمان العوام وإيمان الخواص.
ثانيا: النظر
لما كان النظر أساس العمل، فكلاهما جانبان لشيء واحد، كان تحديد الإيمان أولا بالنظر. النظر عمل لم يتحقق بعد، والعمل نظر قد تحقق وأصبح فكرا واقعا. ولكن يظل النظر هو الأساس والبداية وليس العمل، وإلا كان العمل أهوج عشوائيا اندفاعيا بلا أساس. العمل في حاجة إلى أساس أولي هو النظر. والتوحيد بلا نظر لا يكون معرفة. والإيمان ليس موقفا وجدانيا خالصا؛ لأن الوجدان يتأسس نظريا في الفكر، وإلا كان انفعالا أهوج أو هوى أعمى. المعرفة ضرورية. والدليل على صدق النبي واجب، ولو قام به واحد فقط؛ فلا نبوة بلا دليل، ولا وحي بلا برهان. المعرفة سابقة على التصديق كسبق النظر على العمل. الإيمان إذن هو الإيمان العاقل، أو هو باختصار النظر.
1
ومن ثم تكون مشكلة الإيمان والعمل هي المشكلة التقليدية المعروفة في تاريخ الفكر باسم النظر والعمل؛
2
فالإيمان يحتوي على تصور للعالم، ويعطي الأساس النظري الذي يقوم عليه العمل. الإيمان، إن شئنا بلغة العصر، هو الأيديولوجية التي تمارس وتتحقق في صورة عمل. الإيمان ليس مجرد تقبل عاطفي انفعالي، وليس قرارا فرديا أو فعل إرادة، بل هو موقف نظري متكامل، موقف واع يمكن البرهنة على صحته وعلى خطأ نقيضه.
والنظر إما أن يكون ضرورة أو اكتسابا، بداهة أو استدلالا، حدسا أم برهانا. يمكن إذن تحويل الإيمان إلى نظر بأحد هذين الطريقين. وبالنسبة للمعرفة التي تجعل النص في قلبها، فإن الحدس هو الاستخراج من النص. الوضوح في النص والبرهان مستخرج من قضايا العقول. ومع ذلك يظل السؤال الأول قائما في نظرية العلم، وهو: هل المعرفة الضرورية معرفة نقلية أم أنها المعرفة الواضحة بذاتها؟ وإذا كان النقل خاضعا للتأويل ومبادئ اللغة ولأسباب النزول، تظل المعرفة العقلية الواضحة بذاتها هي الأساس. والعجيب أن يأتي إثبات الإيمان كنظر من إثبات النقل أساسا للعقل؛ مما يدل على أن الهدف ليس دفاعا عن النظر أي العقل، بل إخراج للتصديق والإقرار والعمل من الإيمان! والعجيب أن تكون المعرفة إيمانية خالصة وليست معرفة عقلية! المعرفة الإيمانية لفظ آخر للإيمان، وكأن العقل لا يدخل كجزء من التصديق بالرسل كجزء من الإيمان!
3
ولما كان النظر هو أساس العمل كان من الضروري أن يتأسس النظر على أسس يقينية، ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بالشك في النظر السابق حتى يتأسس النظر الجديد على يقين. الشك نظر في النظر، ونقد للموروث النظري، وتأسيس لليقين النظري، بل إن الشك قد يكون أول الواجبات قبل النظر؛ فالشك هو الطريق إلى النظر. ليس الشك شكا في اليقين، بل هو تأسيس له. ولا يوجد يقين نظري مسبق قبل الشبك كبداية للنظر، وإلا فإن هذا اليقين الأول لا يكون موقفا نظريا. كل يقين يحتاج إلى تأسيس نظري.
4
ولما كانت الحجة النظرية عقلية ونقلية، وكان النقل لا يستقل عن العقل، بل يعتمد عليه، ظهرت ضرورة التأويل؛ وبالتالي لا يمكن تكفير أحد من المتأولين ما دامت الغاية هي المعرفة الاستدلالية، وليست إخراج العمل من الحساب حرصا على الوحدة النظرية للأمة وإن تضارب سلوكها. وإن تحريم التأويل لهو أداة لتكفير الخصوم، تحريمه على الغير وتحليله للنفس.
5
إن التأويل عن حسن نية أو عن خطأ غير مقصود له أجران. أما التأويل عن سوء نية أو بخطأ مقصود ففسق. والمتأول معذور إذا كان من داخل الأمة وليس من خارجها، يعمل لصالحها وليس ضدها.
6
الخطأ بالجهل إذن مقبول ما دام الأساس هو المعرفة، سواء أكانت نقلية أم عقلية، نصية أم برهانية، تعتمد على بداهة النص أم على حجة العقل.
7
ولا يكفر من لم تبلغه الرسالة، أو من نقل إليه قول آخر مع خطأ في النقل؛ لأن شرط المعرفة لم يتحقق، وهو الإعلان عنها وتبليغها ثم نقلها نقلا صحيحا متواترا. ولا يمنع ذلك من إمكانية وصول العقل البشري إلى حقائق التوحيد والعدل دونما حاجة إلى نقل، واتفاق العقلاء على تصوراتها العقلية الخالصة بلا تجسيم أو تشبيه.
8 (1) هل هناك كفر نظري؟
إذا كان الإيمان هو المعرفة النظرية، فهل هناك كفر نظري؟ هل المعرفة النظرية المجردة مقياس للإيمان والكفر؟ إن جعل حقائق الإيمان نظرية صرفة مستقلة بذاتها عن العمل والسلوك هو تحويل للوسيلة إلى غاية، والطريق إلى هدف، وقلب البداية إلى النهاية، بل إن المعاند في الحقيقة النظرية الصرفة المنكر لها دون أن يؤثر ذلك في سلوكه، فإنه يصبح شاكا أو لا أدريا أو نافيا على مستوى النظر فحسب، دون أن يؤثر ذلك على سلوكه العملي ووضعه الاجتماعي. الكفر حقيقة، ولكنه ليس بحق عملي، وهناك فرق بين الحقيقة والحق.
9
والحقيقة أن الذهن البشري قادر على الوصول إلى حقائق التوحيد والعدل، وهما الأصلان العقليان اللذان يتفق عليهما جمهور العقلاء. أما السمعيات، مثل النبوة والمعاد والأسماء والأحكام والإمامة، فهي أمور عملية لا يكفر فيها أحد؛ فالنبوة تجد كمالها في العقل، والمعاد يتحقق في الدنيا، والأسماء والأحكام خصومات سياسية، والإمامة موقف عملي ونضال سياسي.
10
وقد تحول هذا التكفير النظري إلى عرض لتاريخ الأديان بالنسبة للعقائد النظرية التي يجب تكفيرها بصرف النظر عن أثرها في الحياة الاجتماعية وكيفية ممارستها العملية، وكأن هناك خطأ نظريا مجردا له مقياس نظري خالص، وذلك مثل القول بإلهين أو ثلاثة، أو عبادة الكواكب والأصنام والنار، أو القول بالاتحاد والحلول، سواء أكانت هذه الأقوال من داخل الحضارة أم من خارجها. قد يحدث إنكار نظري لأمور عملية، ويظل الإنكار أيضا على مستوى الكفر النظري، ودون أية علاقة ممكنة بين هذا الكفر النظري والممارسة العملية التي قد تكون أقرب إلى العمل الصالح الذي يعبر عن الإيمان النظري، ويكون مطابقا له.
11
والحقيقة أن المهم ليس هو الإيمان النظري والكفر النظري، ولكن مضمون كل منهما، إيمان بماذا وكفر بماذا؟ أليست كل معرفة معرفة بشيء؟ وإذا كان مضمون المعرفة إما العقليات أو السمعيات، وشملت العقليات أصلي التوحيد والعدل، وضمت السمعيات النبوة والمعاد والأسماء والأحكام والإمامة، فإن الإيمان بالرسل أدخل في السمعيات. ويمكن الوصول إلى أصلي التوحيد والعدل بالعقل دونما حاجة إلى النبوة أي إلى الرسل، بل إن الإيمان بالسمعيات مثل النبوة إنما ناتج عن الإيمان بالعقليات بأصلي التوحيد والعدل؛ نظرا لأن العلم والكلام من صفات الذات؛ وبالتالي إمكانية الوحي الذي هو إيصال للعلم من خلال الكلام. كما أن الإيمان النظري لا يقوم على الترغيب والترهيب، أي على الوعد والوعيد، بل على النظرة العلمية للواقع، وعن رغبة الإنسان في تجاوز الحاضر والتعرف على المستقبل للإعداد له. أما موضوع الأسماء والأحكام وموضوع الإمامة فهما مسألتان عمليتان يمكن معرفتهما بتحديد السلوك الأخلاقي للأفراد والنظم السياسية للمجتمعات، وليسا موضوعا للإيمان النظري.
12
وقد لا يتطلب الإيمان بالرسل ضرورة التعيين؛ أي تعيين الرسول كشخص محدد في التاريخ؛ فالرسول مجرد حامل الرسالة، والرسالة يتم تبليغها ونقلها نقلا صحيحا متواترا. لا يوجد تكفير في خطأ تعيين موضوعات العقائد في التاريخ؛ فالتصديق لا يعني تطابق العقيدة مع الواقع، بل تطابق العقيدة مع النفس، وقدرتها على التأثير فيها، والفاعلية في السلوك.
13
وهل العقائد وقائع تاريخية خالصة تكون الأعذار بالجهالة فيها أعذارا في واقعة وليست في عقيدة؟ إن العقائد تصورات وبواعث على السلوك، وليست وقائع تاريخية يمكن التحقق من صدقها بعلم الآثار. والروايات تثبت صحة الأقوال، وليست صحة الحوادث؛ أي تطابق الرسول مع الراوي، وليس تطابق أقوال الرسول أو الراوي مع الواقع.
ليس المهم هو الإيمان أو الكفر النظريان، ولكن مدى تأثير كل منهما في الحياة العملية، وتوجيههما سلوك الناس نحو الخير والعدل؛ فالتوحيد لا يعني إثبات ذات مشخصة فاعلة خارج العالم والإنسان، بل يعني وجود الوعي الخالص داخل الإنسان باعتباره ذاتا. ومعرفة أسماء الله ليست مجرد معرفة نظرية صورية خالصة، بل هي معرفة بالأسس النظرية للعمل. وليست المعرفة بأن للعالم صانعا معرفة نظرية خالصة، بل هي معرفة موجهة للسلوك العملي في نطاق عالم مخلوق يمكن تغييره وبناء نظمه. إن العقائد هي الأسس النظرية للسلوك، والسلوك هو الممارسات العملية للعقائد؛ وبالتالي لا يوجد فصل بين النظر والعمل. العقائد دوافع للسلوك، والسلوك توجيهات للعقائد. وما الفائدة من عقائد ميتة؟ ما فائدتها لو آمن بها الإنسان دون أن تحدث سلوكا أو تغير واقعا؟ ألم يربط الوحي بالإيمان والعمل الصالح في كل آياته؟ بل إن العمل الصالح يغفر الكفر النظري، والأصعب يجب الأسهل ويحتويه. وماذا عن الإيمان النظري الذي لم يشفع لصاحبه لأنه بلا عمل صالح؟ ألا يشجع هذا الإيمان النظري على الفسق والعصيان، وعلى أن يعيش الإنسان مزدوجا، مؤمنا نظرا، وفاسقا عملا، بشرعية تامة وتبرير للنفس؟ ألا يعطي ذلك شرعية للعصيان؟ أليس هذا هو حال الأمة اليوم، إيمان نظرا، وفسق عملا، باسم الدين وباسم الشرعية التاريخية التي تساندها بعض الأمثال العامية في المساجد ومن خلال أجهزة الإعلام؟ إن المعاصي لا تقع عن جهل بالله، ولكن لعدم تحول المعرفة إلى سلوك، ووجود دوافع في الإنسان أقوى من الدوافع النظرية، وهي الدوافع الوجدانية والفعلية. المعرفة النظرية أحد أبعاد الشعور، وليست كل أبعاده. وقد تكون المعاصي مصدرا للمعرفة بالتجربة للتحقق من صدق المعرفة النظرية؛ وبالتالي تكون الأفعال جزءا من المعارف النظرية من حيث المصدر ومن حيث التحقق.
14
إن المعرفة ما هي إلا أحد أبعاد الشعور مع التصديق والإقرار والعمل، وهي لا تعني بالضرورة الخضوع والاستسلام والقبول والرضا؛ لأن الفكر يتحول إلى بناء شعوري يرمي إلى تغيير الواقع؛ لذلك لم يكن إبليس مخطئا في الرفض، ولم يكن مستكبرا، بل كان واعيا نظريا ومحققا لفعل الرفض، ولكنه أخطأ في تحليل الموقف؛ فقد خلط بين الكم والكيف؛ فالتفاضل في الكم بين النار والطين لا يؤدي بالضرورة إلى تفاضل في الكيف، كما أنه رفض الاعتراف بأن الإنسان سيد الكون، وأن كل شيء مسخر له. ومع ذلك فإن موقف إبليس يدل على شيئين؛ الأول الموقف الواعي وعدم الخضوع، الرفض نتيجة لإعمال الفكر، والثاني تحدي الآخر والثقة بالنفس.
15
إن تعدد المعارف النظرية ممكن، ولكن وحدة العمل واجبة؛ إذ لا يمكن توحيد الأطر النظرية لكل الناس، في حين أنه يمكن الاتفاق على برنامج عملي موحد. وطالما صالت وجالت الحناجر والأفواه وتصارعت العقول في مسائل نظرية خالصة دون أن يؤدي ذلك إلى اختلاف في وحدة العمل؛ أي أكبر قدر ممكن من الخلاف النظري، وأكبر قدر ممكن من الاتفاق العملي. لا يكفر أحد في الإطار النظري، وهو التوحيد والعدل، أي العقليات، والأولى لا يحدث ذلك في السمعيات التي ليس فيها يقين أصلا. إن التناقض في القول والخلاف في النظر ليس كفرا؛ فليس لأحد قول إلا وله قول مخالف، فكلنا راد وكلنا مردود عليه. ليس ذلك وقوعا في تكافؤ الأدلة أو في النسبية، بل هو مراعاة لتعدد الأطر النظرية مع وحدة العمل والسلوك.
16
إن التكفير النظري هو سلاح مشهور باستمرار في مواجهة الخصوم، واعتبار أفكار الذات وتصوراتها هي مقياس أفكار وتصورات الآخرين. ويستحيل توحيد التصورات والآراء والمذاهب، في حين أنه يمكن توحيد الأهداف. وإن أية محاولة للتوحيد النظري إنما تهدف في الحقيقة إلى تواري الأفعال ونسيانها وإخراجها من دائرة الحساب، أو إن شئنا من تحت طائلة العقاب. ولقد اعتبرت الفرقة الناجية نفسها صاحبة المعارف الحقة، وقننتها، ثم حكمت على معارف الآخرين بالكفر. وتم قياس الإيمان طبقا لهذا التقنين في منظومة عقائدية، كما كان الحال في الديانات السابقة؛ وبالتالي ضاعت خصوصية اكتمال الوحي وختم النبوة وكمال العقل وممارسة الحرية.
17
لقد كان التكفير دائما سلاحا ضد الخصوم والمخالفين في الرأي، سواء أكان رأيا نظريا في الاعتقادات أو رأيا عمليا في العمليات، وليس ضد المخالفين في العمل. وخطورة ذلك هو إسقاط العمل من الحساب، وهو العنصر الموحد للأمة، وتوحيد الأمة بعد ذلك بالنظر وتكفير فرقها، وهو ما يستحيل عملا. كما أنه يصعب التعبير عن المعرفة النظرية الخالصة إلا في تصديق أو إقرار أو عمل حتى يقتنع بها الناس. إن خطورة التكفير في الاعتقاديات هي ضياع الوحدة الوطنية، وعدم السماح بالخلاف النظري الخلاق، ثم الاستبداد بالرأي. إن التمايز في العمليات وارد، وهو مقياس التفاضل بين الأفراد والجماعات من حيث السبق والتنافس نحو الخير والعدل.
18
وليس التكفير في النظريات مجرد حكم نظري، بل تنتج عنه مواقف عملية شرعية؛
19
فالتكفير حكم شرعي ينتج عنه مواقف عملية في المجتمع؛ وبالتالي يدخل في الفقه أكثر منه في التوحيد. كما تحيل مسائل الإيمان والكفر والفسوق والعصيان إلى مسائل السياسة؛ إذ إنها أحكام تطلقها الجماعة على الأفراد، سواء كانوا في السلطة أو في المعارضة لتحديد سلوكهم؛ وبالتالي لتحديد أوضاعهم الاجتماعية والسياسية. ويستعمل الرصيد السابق من الأحكام للمقارنة والمشابهة؛ فالقدرية مجوس، والمشبهة يهود، والرافضة نصارى. سلاح الألقاب إذن هو سلاح التكفير؛ فالخصوم معتزلة يعتزلون الجماعة، وبالتالي هامشيون، والثوار خوارج أو رافضة، والمدافعون عن الحق شيعة يتشيعون، أي غير محايدين، أصحاب هوى وأنصار طائفة. أما الفرقة الناجية فهم أهل الحق والاستقامة، أهل السنة والحديث، جمهور الأمة، أصحاب الفتيا والحديث. لا تجوز مناكحة الخصوم أو وراثتهم، وحلال أموالهم، وغنيمة ثرواتهم وكراعهم. دارهم دار حرب ... إلخ؛ وبالتالي تعلن الدولة الحرب على خصومها السياسيين؛ تكفرهم أولا ثم تستأصلهم ثانيا.
20 (2) هل يوجد إيمان نظري بلا تصديق أو إقرار أو عمل؟
إن الإيمان باعتباره معرفة خالصة يبتسر أبعاد الشعور كلها في أحدها، وهو النظر، ويسقط التصديق والإقرار والعمل من الحساب. لا يكفي تحديد الإيمان بالمعرفة وحدها لأن الفكر خاضع للتفسير والتأويل، وقابل للتجديد والتطوير. الفكر وحده صورة بلا مضمون، ومضمون الفكر جزء لا يتجزأ منه، وعلى أساس هذا المضمون يتوجه السلوك. كما أن الفكر منفتح على القول، وقائم على الوجدان، ويتحقق في العمل. يتخارج في الإقرار حيث يتم الإعلان عنه، ويصدقه الوجدان، ثم يتحقق في العالم بالفعل. صحيح أن النظر هو التصور للعالم، وهو أساس الممارسة العملية في العالم من أجل فهمه وتغييره؛ فالنظر بهذا المعنى تصور ونظام، أو كما يقول القدماء عقيدة وشريعة، معنى واتجاه، رأي والتزام؛ وبالتالي فهو لا ينفصل عن الإقرار، وإلا بقي الشعور في حالة من العزلة الفكرية والوجدانية؛ فالكلمة أيضا فعل وكشف وفضح للمستور؛ لذلك أتى الوحي كلاما، وكان الله متكلما، وعالم الكلام متكلم بهذا المعنى مثل الأصولي الفقيه، ولكن النظر أيضا وجدان وتصديق ويقين داخلي. النظر وجدان عاقل، نظر شعوري، تأمل واع؛ فهو في نفس الوقت نظر وباعث. فإذا كان الكفر إنكارا للحقيقة وجحودا بالنعم وسترا وتغطية، يكون الإيمان كشفا واعترافا وبيانا. ولما كان كل موضوع عملية تموضع، فالإيمان ليس موضوعا معطى سلفا يوجد أو لا يوجد، بل هو عملية تموضع تشير إلى كشف الغطاء أو إزاحة الستار طبقا للمعنى الاشتقاقي للكفر من أجل التصديق.
21
وإذا كان الكفر هو إنكار الوحي في ذاته أو في مصدره، فإنه قد لا يكون إنكارا للفكر على الإطلاق أو للوجدان على الإطلاق، وقد لا يكون صمتا عن القول أو نكوصا عن الفعل. الكفر رفض لتصوير معين من تصورات الوحي، سواء من حيث التسمية أو من حيث الاتجاه، ورفض التعالي والمفارقة من أجل التحول نحو الواقع ذاته باعتباره مصدرا لكل فكر. وإن رفض التعالي يحدث في الحقيقة نتيجة لتحليل التعالي تحليلا نفسيا واجتماعيا وليس قبله. الكفر ليس تعصبا أو إيمانا بعقيدة مضادة، أو حتى أزمة نفسية، أو تقليدا، بل هو كفر واع بناء على تحليل لتصورات الإنسان عن الألوهية في لحظات ظهورها في التاريخ. (2-1) هل الإيمان معرفة بلا تصديق؟
كيف يكون الإيمان معرفة فقط وهو لغة يعني التصديق؟ كيف يتحول الإيمان إلى علم خالص بلا وجدان، إلى نظر عقل دون شهادة قلب، إلى فكرة مجردة دون يقين بالمعنى، إلى معرفة نظرية دون أساس شعوري؟ الإيمان معرفة قلبية، أو بلغة العصر نظر شعوري. المعرفة دون تصديق مجرد معادلات صورية فارغة لا تصدق إلا من حيث اتساقها مع نفسها دون أن تكشف عن شيء في الشعور، أو تطابق دلالة في التجربة الإنسانية. المعرفة الشعورية من خلال التصديق أولى درجات المعرفة. قد يعرف الكفار دون تصديق، وتظل معرفتهم عاجزة عن أن تؤثر في سلوكهم أو في تغيير نظرتهم للعالم. قد يعرف المنافقون، ولكن تظل معرفتهم مجردة لا فاعلية لها؛ لأنها لم تتحول بعد إلى تصديق. فالمعرفة كتصديق أولى درجات التفسير ابتداء من الشعور الفردي حتى البنية الاجتماعية.
22 (2-2) هل الإيمان معرفة دون إقرار؟
إذا ما تحولت المعرفة إلى تصديق فإنه سرعان ما يتخارج في القول والإعلان؛ فلا توجد معرفة بلا تصديق، ولا يوجد تصديق بلا قول؛ فالمعرفة كتصديق سرعان ما تتحول إلى طاقة تعبر عن نفسها من خلال منفذين، اللسان والجوارح، الكلام والحركة، أي الإقرار والعمل، الكلمة والفعل، اللغة والسلوك. الإقرار هو النطق بالشهادتين كتعبير عن معرفة التوحيد، وإلا ظلت المعرفة صورية صرفة إذا انفصلت عن التصديق، مجرد تصور دون لغة، أو حد دون قضية. وإذا ما كانت المعرفة تصديقا بلا إقرار فإنها تظل شهادة باطنية للنفس،
ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه . أضعف الإيمان الذي لا يتخارج في أضعف المظاهر وهو القول، الكلمة الصادقة، الدين النصيحة. والقول ليس مجرد إقرار، بل هو فعل. وشهادة «أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله» فعل. الإقرار فعل باللسان، الكلمة فعل، والنطق فعل، واللغة فعل، وكلمة الله لا تعود فارغة، والساكت عن الحق شيطان أخرس. ونظرا لزيف الكلمة أو الخرس والصمت ظهرت ضرورة النطق في جيلنا، وظهر سحر الكلمات وضرورة القول، وأصبحت الكلمة دار نشر وديوان شعر، كلمة الإنسان، وكأنها الله قد تجسد من جديد. وفي البدء كانت الكلمة، كلمة الحق والشهادة، وهي الكلمة الفاعلة التي تقيس الفارق بين المثال والواقع، وليست الكلمة الفارغة بلا مضمون. قد تحدث المعرفة، ولكن يكون العارف أخرس أو مكرها. وهنا تظل المعرفة عقلية صرفة أو وجدانية خالصة، داخلية بلا تخارج. في حالة الخرس لا يبقى إلا الفعل كمنفذ وحيد لتصريف الطاقة، أما حالة الإكراه فهي مؤقتة صرفة. ويمكن التحايل عليها بالرمز كما هو الحال في الأدب المعاصر تحت ظروف القهر والطغيان.
23 (2-3) هل الإيمان معرفة دون عمل؟
إذا كان الإيمان معرفة، وتحولت المعرفة إلى تصديق، أي إلى شهادة باطنية، فإنها لا بد وأن تتخارج في العمل؛ فالطاقة الوجدانية والمعرفة الشعورية لا يكفيها الكلام، ولا تعبر عنها الكلمة وحدها، بل تتحول الكلمة إلى فعل، والقول إلى سلوك. إن المعرفة النظرية الخالصة بلا عمل تكون مجرد معرفة أشبه بمعارف الصوفية أو الحكماء وكأن المعرفة غاية في ذاتها. إن جعل الإيمان معرفة، والكفر جهلا، وإخراج العمل كتحقيق للمعرفة، قد يتصور العمل على أنه عمل الشعائر والطقوس، أعمال الجوارح، في حين أن عمل الحق والخير والعدل، عمل الفضيلة، تعبير أصدق عن المعرفة. وإخراج العمل من المعرفة مثل إخراج الإقرار؛ أي كل مظاهر التخارج للمعرفة الباطنية، سواء كان هذا التخارج في الإقرار أو في العمل. واقتران الإيمان بالعمل واضح في الوحي، ولو أنه لم يظهر عند بعض القدماء كبداهة نظرا لسيادة بعض الاتجاهات الإشراقية، سواء كانت في علوم الحكمة أو في علوم التصوف؛ إبعادا للوعي الجماعي عن العمل والممارسة، في حين ظهر في الحركات الإصلاحية الحديثة دعوة لقرن العمل بالإيمان نظرا لتخلف العمل عن النظر في سلوك الجماهير في عصرنا الحاضر. صحيح أن الإيمان ذكر في أصل الوحي أكثر من العمل، ولكن كان تثبيتا لإيمان العوام، وليس لعمل الخواص. ومع ذلك يظل الاقتران قائما.
24 (2-4) هل الإيمان معرفة وتصديق دون إقرار وعمل؟
بعد العلاقات الثنائية التي تقوم على إثبات طرف واستبعاد طرف آخر، المعرفة والتصديق، المعرفة والإقرار، والمعرفة والعمل، تأتي علاقات ثنائية أخرى تقوم على إثبات طرفين من الأبعاد الأربعة واستبعاد طرفين آخرين؛ وبالتالي يثبت الإيمان كمعرفة وتصديق لما كانت المعرفة شهادة باطنية وتجربة شعورية، ثم يتم استبعاد الإقرار والعمل؛
25
فهل تكفي الشهادة الباطنية دون الشهادة الخارجية؟ وما الفائدة من طاقة باطنية دون تحقق خارجي؟ ويظل هذا الاختيار هو الأمثل لدى الصوفية أصحاب التجارب الباطنية دون الإعلان عنها لا بقول ولا بفعل. وإذا كانت الغاية من الطاقة هي تحويلها إلى حركة فإن بقاءها في المعرفة والتصديق دون القول والفعل لهو كتمان لها، ثم تفريغها تدريجيا حتى تفرغ الذات ويبقى الواقع كما هو بلا تغيير. (2-5) هل الإيمان معرفة وإقرار دون تصديق وعمل؟
وقد يستبقى بعدان، وهما الإيمان والمعرفة، ويستبعد بعدان هما التصديق والعمل.
26
وفي هذه الحالة يكون الإيمان مجرد معرفة نظرية تتخارج في القول، من الذهن إلى اللسان، من العقل إلى الشفتين، معرفة رياضية منطقية لغوية دون أن تتحول إلى تصديق؛ أي إلى تجربة معيشة وبرهان وجداني، ودون أن تتحقق في فعل بالجهد والمعاناة والمقاومة؛ فالمعرفة لا تتضمن التصديق؛ أي استحالة تعيين مضمون في النفس أو في الواقع. قد يعلم الإنسان تحريم الخمر، ولا يعلم هذا اللحم بالذات هل هو لحم خنزير أم لا؛ ويعلم الصلاة إلى الكعبة كفرض، ولكنه لا يعلم هل هذا الاتجاه هو الكعبة أم لا؛ وقد يعلم أن الرسول محمد، ولكنه لا يعلم هل هو هذا العربي أم الزنجي! فما الفائدة إذن من المعرفة بلا برهان وبلا تعيين؟ وما فائدة الإقرار حينئذ. صحيح أن التطابق مع الواقع ليس مقياسا للحقيقة، ولكن التطابق مع النفس ومع التجربة يجعل للمعنى واقعا، وللفكر مضمونا، وإلا أدى عدم التعيين إلى فصل الفكر عن الواقع، وعزلة الشعور عنه، وإخراجه من الزمان والمكان، والاكتفاء بالعمومية والصورية الفارغة. إن تعيين التوحيد والعدل لا يكون في أشخاص أو وقائع، ومع ذلك فإن التصديق بهما هو شرط تحويل هذين الأصلين العقليين إلى بنية اجتماعية وإلى مجتمع يقوم على المساواة والعدل. وحتى لو كان في العقل واجب مبدئي، فإن ذلك لا يغني عن التصديق؛ أي وجود هذا الواجب في التجربة البشرية، فلا يكون فقط واجبا عقليا، بل رسالة إنسانية. والخضوع ليس بعدا من أبعاد الشعور، ولكنه نتيجة للمعرفة والقول، وأقل من التصديق والعمل، مجرد تمثل للمعرفة واستسلام لها. ولكن قد تؤدي المعرفة أيضا إلى الثورة والغضب والتمرد، وليس بالضرورة إلى الخضوع؛ فالخضوع للفكر قد يعني التمرد على الواقع. والمحبة بالقلب مثل الخضوع نتيجة طبيعية للمعرفة وقبل التصديق. والمعرفة بالقلب أقل من التصديق؛ فالقلب هنا لا يعني إلا الذهن أو العقل، ولكنه لا يعني التحقق من صدق المعرفة بتطابقها مع الدلالة في الشعور. وإن اللجوء إلى الخضوع مرة وإلى المحبة مرة أخرى يجعل المعرفة أقرب إلى الطريق الصوفي؛ مما سهل بعد ذلك ازدواج الأشعرية بالتصوف منذ القرن الخامس حتى قبيل الحركات الإصلاحية الأخيرة. ومع ذلك فإنه على هذا النحو يقترب الشعور من التعين والخصوصية وإتيان الأفعال، وعدم الاقتصار على شمول المعرفة وعمومية الإقرار. وقد يخرج الشعور أيضا من المعرفة والإقرار الباردين إلى محبة الأولياء وكراهية الأعداء، أو تحليل ما أحله الله وتحريم ما حرم الله، وهو وسط بين التصديق والفعل، أكثر من التصديق، وأقل من الفعل. وقد تكون المعرفة دون الإقرار إيمانا، والإقرار دون معرفة إسلاما، واجتماع المعرفة والإقرار هو اجتماع الإيمان والإسلام. ومع ذلك يظل التصديق والعمل أقرب إلى الإحسان. وإذا كان الإيمان قد أصبح المعرفة والإقرار، أي الداخل والخارج، فأسهل أن يكتمل ويصبح التصديق والعمل؛ فالمعرفة والتصديق جانبان لشيء واحد، وهو التحقق بالكلمة وبالفعل. وإذا كان القول أحد أنماط السلوك، فإن العمل المباشر أيضا تعبير عن التصديق بالفعل. وعلى هذا النحو يتحقق الداخل ببعديه في الخارج بأفقيه، وتكتمل وحدة النظر سواء كان معرفة أو تصديقا، وفي العمل سواء كان إقرارا أو عملا. (2-6) هل الإيمان معرفة وعمل دون تصديق وإقرار؟
وإذا تم إثبات البعدين؛ الأول وهو المعرفة، والأخير وهو العمل؛ واستبعاد البعدين الأوسطين، الثاني وهو التصديق، والثالث وهو الإقرار؛ فهل يمكن أن تتحقق المعرفة والعمل دون تصديق وإقرار؟ ليس الإيمان فكرا فقط يتحول إلى عمل فقط؛ لأن الفكر بناء شعوري، والقول أحد مظاهر السلوك؛ فإذا كان الشعور في حالة من الفكر والعمل فإنه يكون شعورا آليا يعطي أساسا نظريا، ويتجه تلقائيا إلى العمل المباشر دون أساس وجداني ودون إعلان بالقول. وإذا تخارجت المعرفة في العمل، فلماذا لا يتخارج التصديق في القول؟ وأيهما أفضل؛ أن تتحقق المعرفة مباشرة في العمل، فيكون الإنسان أشبه بالحاسب الآلي الذي يعرف ويقرر، أم أن تكون المعرفة شعورية، وأن يتم الإعلان عن العمل بالكلمة كمن يبارز منشدا ، ويحارب شاعرا؟ إذا كانت بالمعرفة والعمل برودة الآلة، فإن بالتصديق والإقرار حرارة الشعر.
27 (2-7) هل الإيمان معرفة وتصديق وإقرار دون عمل؟
في العلاقات الثلاثية إذا تم إبقاء الأبعاد الثلاثة الأولى واستبعاد الرابع، يصبح الإيمان معرفة وتصديقا وإقرارا دون عمل، فهل هذا ممكن؟ إذا ثبتت المعرفة كنظر وتجربة باطنية، كاستدلال ويقين داخلي، ثم تخارجت في القول والإعلان، فما المانع أن تتخارج بالفعل وتتحقق في الممارسة؟ إن مثل هذا الموقف قد يشابه موقف المثقف المتأزم العاجز عن الإتيان بأي فعل بالرغم من معرفته ووجدانه وقوله وكلمته. وهل يكفي الشاعر شعره، والأديب روايته وقصته، دون ممارسة كل منهما لصدقه الفني في قيادته لأمته ونضاله في سبيلها؟ وإذا كانت المعرفة بالقلب، أي معرفة وتصديق، وتخارج الطاقة في الكلمة، فالكلمة ما هي إلا مقدمة للفعل و«خرطوشة» طلقة، وصوت قذيفة.
28
صحيح أن اجتماع المعرفة والتصديق والإقرار يمنع الكذب من النفس، ولكنه لا يمنع الفسق والعصيان إذا ما عارض الفعل المعرفة أو التصديق أو الإقرار. وكيف يقول المسلم شيئا ويفعل نقيضه؟ وإذا فعل الشيخ ذلك فإنه ينطبق عليه كثير من الأمثال العامية التي تشير إلى هذه الثنائية في هزء وسخرية. وإذا كانت المعرفة صادقة مرة بتحولها إلى تجربة ثانية، وقد بلغت قوة صدقها إلى أن تحولت كلمة، فإن وقوعها قبل الفعل عجز لا مبرر له، إلا نقص في التصديق العملي، وحصار لامتداد الكلمة في الواقع. إن اجتماع أبعاد الشعور الثلاثة الأولى، المعرفة والتصديق والإقرار، يمنع النفاق، وهو القول بلا تصديق، كما يمنع الجبن وهو المعرفة بلا إقرار، ويمنع عدم الالتزام وهو المعرفة بلا تصديق. ومع ذلك فإنه يمنع من الفعل المباشر، ويحاصر الشعور، ويجعل الإنسان شاعرا غير مناضل. فإذا كان الكفر ضد الإيمان، أي معرفة بمعرفة، فإنه ضد الفسق أيضا، أي دون إسقاط العمل. وإذا كان جحد الله بالقلب فقط كفرا وليس باللسان، فإن لبس الإيمان بظلم هو إسقاط العمل منه. وإذا كان الكفر يزيد وينقص، وكذلك الجزاء، فإن ذلك ليس فقط بسبب المعرفة، ولكن أيضا لتفاضل الأعمال. وإذا كان الكافر يكون كذلك لتركه المعرفة أو التصديق والإقرار، فالأولى أن يكون ذلك بتركه الأعمال. وإذا كان بعض الإيمان إيمانا، فالأولى أن يكون العمل بعض الإيمان، وليس المعرفة أو الإقرار أو التصديق. وإذا كان السكوت عن الحق كفرا، والجهل كفرا، والنفاق كفرا، فالأولى أن يكون الفسوق، أي إخراج العمل عن الإيمان، كفرا. وإذا كان الكفر جحدا بالقلب، أو معرفة لا يحصل عليها الجميع، أو إقرارا لا يقدر عليه الكل، فالأولى أن يكون ترك العمل الذي يقدر عليه عامة الناس كفرا. ولم يكفر إبليس لأنه لم يعرف، لأنه كان عارفا بربه؛ ولأنه لم يقر، لأنه أقر؛ ولأنه لم يصدق فقط، بل كفر لأنه لم يعمل، ولم ينفذ إرادة الله. إن الجزاء في الآخرة ليس فقط على المعرفة والتصديق والقول، بل على العمل، وعلى العمل وحده، حتى ولو كانت المعرفة والتصديق بها والإعلان عنها معرفة مخالفة للإيمان. يبطل الإيمان إذا سقطت الأعمال، وتتفاضل التصديقات بتفاضل الأعمال. وإن الشعر بالرغم من جمعه بين المعرفة والتصديق والقول إلا أن الشعر المقرون بالعمل هو كمال له، وإلا كان الشعر مجرد غواية وخيال.
29 (2-8) هل الإيمان معرفة وتصديق وعمل دون إقرار؟
وفي العلاقات الثلاثية أيضا إذا ما تم استبقاء الأبعاد الثلاثة، الأول والثاني والرابع، واستبعاد الثالث، يصبح الإيمان معرفة وتصديقا وعملا دون إقرار، فهل هذا ممكن؟ إن اجتماع المعرفة والتصديق والعمل يؤدي لا محالة إلى العمل الصامت؛ إذ يتحقق الفعل دون إعلان عنه بالقول، فعل صامت، وكأنه يتم في مرحلة تنظيم سري. وإذا ما خير الإنسان بين استبعاد العمل أو القول، فإن استبعاد القول في مجتمع متكلم بطبيعة الحال أفضل. والعمل في صمت أفضل من القول بلا عمل.
30 (2-9) هل الإيمان معرفة وإقرار وعمل دون تصديق؟
وفي نطاق العلاقات الثلاثية أيضا يمكن استبقاء الأبعاد الأولى والثالثة والرابعة، واسبتعاد الثاني، وفي هذه الحالة يكون الإيمان معرفة وإقرارا وعملا دون تصديق. وإن غياب الوجدان من السلوك يجعله سلوكا آليا خالصا، وكأن الإنسان مجرد وسيلة لتحقيق أمر لا يعيشه ولا يحياه، ولا يعبر عن صالحه وطبيعته. وإن المعرفة لتكون أكثر تحققا إذا ما كانت تصديقا، أي اقتناعا باطنيا قبل أن تتخارج إلى قوى وفعل. قد يكون الفعل إيجابيا، فعل الطاعات، وقد يكون سلبيا، اجتناب المعاصي. ولكن في هذه الحالة لا يتحقق فعل واع، بل مجرد فعل آلي بلا اقتناع. قد يظهر التصديق متضمنا في المعرفة عندما تكون المعرفة بالقلب، أي عقدا بالقلب؛ فالمعرفة بهذا المعنى فعل للشعور. وقد يكون الخضوع بالقلب والتسليم والانقياد جامعا للتصديق وللعمل تحت أثر التصوف؛ فالخضوع هو تصديق، أي فعل داخلي، عندما تحولت الأفعال الخارجية إلى أفعال داخلية، وأصبحت أفعال الجوارح أفعال القلوب. ومع ذلك يظل أقل من التصديق؛ لأنه ليس فعلا تأمليا يحيل المعرفة إلى دلالة في الشعور. وهو أقل من الفعل؛ لأنه لا يتجه نحو الخارج مغيرا للعالم. وما أسهل أن تتحول المعرفة إلى تصديق قبل أن تتخارج في قول أو فعل حتى تتحول إلى طاقة وجدانية وتجربة بشرية تعبر عن الوجود البشري، ولا تكون مجرد وسيلة لإصدار قرار أو إحداث أثر.
31 (2-10) الإيمان معرفة وتصديق، إقرار وعمل
وهي العلاقة الرباعية الوحيدة التي تكتمل فيها أبعاد الشعور الأربعة، فيصبح الإيمان معرفة وتصديقا وقولا وعملا. بعدان للداخل، معرفة وتصديق؛ وبعدان للخارج، قول وعمل. وعلى هذا النحو تكتمل وحدة الداخل بين النظر والوجدان، العقل والشعور، الفكر والتجربة، كما تكتمل وحدة الخارج في القول والعمل، في اللغة والسلوك، في الكلمة والفعل. ويتحقق الإيمان في صورته المثلى بوحدة الشعور في أبعاده الأربعة، الفكر والقول والوجدان والعمل؛ فالفكر هو الذي يعطي الأساس النظري. والوجدان هو الذي يحول الفكر إلى موقف شعوري، وإلى وعي نظري وتجربة معيشة. والقول هو الذي يعلن عن هذا الموقف الفكري الشعوري، ويدعو الآخرين إليه. والفعل أخيرا هو الذي يحقق ذلك كله، ويحوله إلى واقع مغيرا العالم، ومحولا إياه إلى نظام مثالي يكتمل هذا العالم فيه. وفي هذه الحالة يمكن للحالات المتوسطة أن تجد مكانا لها؛ فالمحبة هي علاقة تصديق وفعل؛ لأنها فعل داخلي؛ وبالتالي فهي تصديق، وتتعلق في الوقت نفسه مع موضوعها فتكون فعلا خارجيا. والخضوع أيضا بين التصديق والفعل؛ فهو تصديق عملي وإن لم يكن تصديقا برهانيا معرفيا. وفي الوقت نفسه يظهر في سلوك الطاعة، وهي فعل خارجي.
32
ثالثا: التصديق
إن جعل الإيمان هو التصديق وحده هو رد فعل على جعله مجرد معرفة أو إقرار أو عمل دون تصديق قلبي داخلي؛
1
فالإيمان لغة هو التصديق، ومحله القلب. قد يصاحب التصديق عمل القلب وليس نشاط الذهن، أو عمل اللسان، أو فعل الجوارح. وإذا كان العمل مقرونا بالإيمان فإن العطف لا يعني انه جزء منه؛ لأن الجزء لا يعطف على الكل. ويمكن تأييد هذا الموقف بعدة حجج نقلية وعقلية؛ فكثير من النصوص تشهد بأن الإيمان يدخل في القلب أو لا يدخل. وإذا كان المأمور مقدورا اختياريا، فإن ذلك لا يعني أنه من مقولة الفعل، بل من مقولة الإيمان، فلا فاعل إلا الله. والتصديق اللغوي أو المنطقي أعم من الاختياري؛ وبالتالي لا يرد التصديق إلى ما هو أقل منه. وإن صدق المتكلم بالقلب قبل أن يكون باللسان. والتصديق من جنس العلوم، والعلم أشمل من العمل وأعم منه. كما أن الملائكة تصدق من غير كسب أو فعل. هذه الحجج في الحقيقة تهدف إلى جعل الإيمان نظريا خالصا لا صلة له بالفعل، وأن يكون مجرد قبول أو إذعان أو رضوخ باسم الشهادة الباطنية حتى دون عقلها.
2
ويمكن تفنيد هذه الحجج بأخرى مضادة لها من أجل إثبات أن الإيمان لا يرد إلى التصديق وحده، بل يشمل المعرفة والإقرار والعمل؛ فلو كان الإيمان هو التصديق لما كان الإنسان مؤمنا في حالة نومه؛ لأنه كان غافلا غير مصدق؛ فالتصديق يتطلب الشعور اليقظ وليس الشعور الغافل، كما يتطلب القدرة على الاستبطان، وهو ما لا يتوافر لكل الناس، كما يتطلب أن من صدق وسجد للشمس يكون مؤمنا؛ ومن ثم فالتصديق لا يكون مجرد إيمان باطني، عمل للقلب، ولكنه يحيل إلى موضوع التصديق حتى يحدث التطابق بين فعل الشعور وموضوعه. كما أن التصديق لا يكون فقط للإيمان، بل قد يكون للشرك؛ فكما أن المؤمن مصدق بالتوحيد فكذلك المشرك مصدق بالشرك؛ وبالتالي لا يكفي التصديق كي يكون مماثلا للإيمان، بل لا بد من مضمون الإيمان بالإضافة إلى صورته، وهي التصديق.
3
ولكن هل التصديق داخلي أم خارجي؟ هل في الشعور أم في الواقع؟ هل التصديق بالله تصديق بما أتى به، والتصديق بالنبي تصديق بخبره؟ إن التصديق لا يكون بالله، بل بكلامه الذي من خلاله يمكن التعرف على أصلي التوحيد والعدل. والتصديق بالخبر لا يكون خارجيا فقط عن طريق صحة الرواية، بل يكون أيضا عن طريق تطابق مضمونها مع التجربة الحية الفردية والاجتماعية. لا يكون التصديق بالحلف، بل بالبرهان؛ فأغلظ الأيمان لا يكون برهانا، وشهادة الباطن غير التسليم الباطني، والانقياد القلبي ليس هو الإذعان والقبول، كما هو الحال في علوم التصوف، بل إيجاد البرهان التجريبي في شهادة الوجدان على صدق المضمون. وهو تصديق اختياري بناء على صفاء النية أو البحث المروي عن الدلالة. لا يتم بكشف أو إلهام، وليس من أفعال الهداية أو الضلال، التوفيق أو الخذلان، العصمة أو الصون أو الحفظ؛ وذلك لأن أفعال الشعور الداخلية أفعال حرة.
4 (1) هل يوجد تصديق بلا استدلال؟
وإذا كان الإيمان تصديقا، فهل هو بالضرورة تصديق بلا استدلال؟ العجيب إخراج كل استدلال من التصديق، وجعل التصديق أقرب إلى الاعتقاد الجازم بلا دليل أو برهان، وتفنيد كل الأدلة لإثبات الدليل هو في حد ذاته إثبات لشرعية الاستدلال. ومع ذلك فهناك عدة حجج توجه ضد الاستدلال من أجل إخراجه من التصديق، وكلها يسهل تفنيدها؛ فإذا كان الاستدلال بعد البلوغ وليس قبله فشرطه العقل، والعقل ليس فقط شرط الاستدلال، بل إنه شرط التكليف. والاستدلال لا يحتاج إلى حد حتى يجب في التصديق؛ لأن التصديق لا يتم إلا بالاستدلال؛ أي بتحول الحدس إلى برهان، والتجربة إلى نظر. وإن احتاج الاستدلال إلى حد فمكانه علم المنطق. وقد تم تعريف الاستدلال من قبل في نظرية العلم.
5
والاستدلال لا يفيد الشك، بل هو السبيل للوصول إلى اليقين. وعلى افتراض أنه يورث الشك؛ فالشك أول الواجبات حتى قبل النظر. ولم يكتف إبراهيم بحدوث الإيمان القلبي، ولكنه أراد الاستدلال حتى يطمئن قلبه. وقد تم التصديق في النهاية بالاستدلال. والشك المنهجي ليس مضيعة للوقت، ولا يستغرق العمر، ولا يؤدي إلى اللاأدرية. وماذا عن بديل الاستدلال بالرغم من مخاطره ومحاذيره إلا الاختلاف والتردد والهوى أو التقليد والاتباع؟ ليس التواتر بديلا عن الاستدلال؛ فالتواتر حجة تاريخية تعطي اليقين التاريخي لصدق الرواية، أي صحة الخبر، ولا يعطي يقينا نظريا أو تصديقا للمعارف، بل إن من شروط التواتر عدم مناقضته لشهادة العقل، وهو أصل الاستدلال. وليس الإجماع بديلا عن الاستدلال؛ فالإجماع حجة سلطة، وليس حجة عقل. كما أن الإجماع يقوم أيضا على الاستدلال عند المجتمعين حتى ولو كان استدلالا على نص وتأويلا له. وليست المعجزة بديلا عن الاستدلال لأن المعجزة قد تكون فقط دليلا على صدق النبوة، وليس على التصديق بها. والمعجزة دليل؛ وبالتالي فهي استدلال من نوع خاص، استدلال عن طريق الإعجاز، وقد يقع استدلال على نحو آخر، ثم يصبح الخلاف بعد ذلك: هل الدليل هو دليل المعجزة أم دليل العقل؟ وإذا لم تكن المعجزة دليلا على صدق النبوة فإن الدليل يكون هو دليل العقل.
6
إن الاستدلال فرض كفاية وليس فرض عين، وقد آمن الكثير بالاستدلال، وقد كفر الكثير أيضا بالاستدلال؛ فللمخطئ أجر، وللمصيب أجران. ومع ذلك هناك مقاييس للصدق النظري صورية أو مادية يمكن من خلالها معرفة الخطأ من الصواب. إن الاستدلال لا يحدث إلا في شئون النظر، أما في الأمور العملية فلا حاجة إلى استدلال. هناك العادة وبداهة السلوك وحكمة الشعوب. وبالرغم من وجود مواقف تتكافأ فيها الأدلة إلا أن الترجيح يظل قائما حتى ولو في صورة رهان، أو قياس شرف، أو قياس أولي. على أية حال التصديق بالاستدلال هو ما ينبغي أن يكون، ما يحرص عليه الخاصة، في حين ما هو كائن هو التصديق بلا استدلال، وهو إيمان العوام. ولا يهم قدر الاستدلال؛ كلما كان أقوى وأيقن زاد التصديق يقينا، وكلما كان أضعف وأهوى قل التصديق يقينا. ويتنوع الاستدلال طبقا لكل يقين. تبقى الغاية منه هو يقين التصديق.
7
والحقيقة أنه لا يمكن الاستغناء عن الأدلة كطريق للنظر، وعن الدليل كوسيلة للعلم؛
8
فالتقليد ليس مصدرا للعلم، ولا يمكن الترجيح بين أحد أمرين إلا بالدليل، ولا يتميز الصواب من الخطأ إلا بدليل، وإلا كان الأمر مجرد دعوى لا دليل عليها. وإذا كان العلم هو اعتقاد الشيء على ما هو عليه، فإن ذلك لا يكون إلا بدليل حتى يكون علما دون جهل أو اعتقاد أو شك أو ظن على ما هو معروف في مضادات العلم.
9
ولا تكفي الحواس كدليل، ولا غناء عن دليل العقل، خاصة في الأمور النظرية مثل العقائد، بل إن العقل هو الوسيلة للدفاع عن النفس يوم الحساب منذ مساءلة القبر حتى توقيع الجزاء.
10
والدعوة إلى الاستدلال والنظر سارية في كل الوحي، من البداية إلى النهاية، كوسيلة لإيجاب العلم؛ فإن لم يكن الإيمان بديلا عن الاستدلال لغياب الدليل عليه، وإن لم تكن المعجزة بديلا عن الاستدلال لأنها مجرد إثارة الدهشة، بل وتعد الدليل الطبيعي وسلب الإنسان عقله وإرادته، وإن لم يكن الإلهام بديلا عن الدليل لأنه دعوى بلا برهان، وإن لم يكن التقليد أو الجهل أو الشك أو الظن مصدرا للعلم اليقيني، استحال وجود تصديق بالإيمان دون دليل. وإذا كان علم أصول الفقه هو أساسا بحث عن الدليل لاستقصاء العلة، فإن علم أصول الدين صنوه، ويكون الشق الثاني من علم الأصول. ولا يمكن في شق واحد نفي الدليل وفي الشق الثاني إثباته. ومن مناهج الاستدلال أن ما لا دليل عليه يجب نفيه؛ وبالتالي إذا كان التصديق دون دليل فإنه يجب نفيه. وإذا كان التصديق مجرد إذعان وخضوع وتسليم فإنه ينتقل من علم أصول الدين إلى علوم التصوف، وهو ما حدث بالفعل عندما ازدوج التصوف مع الأشعرية، وضاع البرهان، وساد الخضوع والتسليم. طالما أن الإنسان عاقل فلا يوجد تصديق بلا استدلال.
11
وليس الإقرار بديلا عنه، فما الفائدة في إقرار تصديق بلا برهان؟ وكيف يمكن الدفاع عنه وإثباته للناس وإعلانه لهم ومواجهتهم بالتحدي. وإن إيمان العوام لا يغني عن برهان الخواص، كما أن اليقين الباطني أمام النفس لا يغني عن البرهان أمام الناس. (2) هل الإيمان تصديق دون معرفة أو إقرار أو عمل؟
طبقا للبنية السابقة للشعور في أبعاده الأربعة، وفي إمكانيات العلاقات الثنائية والثلاثية والرباعية، مرة ابتداء من المعرفة، وثانية من التصديق، وثالثة من الإقرار، ورابعة من العمل. وبعد ظهور احتمالات عشر في عرض المعرفة وعلاقاتها تظهر من جديد نفس الاحتمالات العشر في عرض التصديق. يبدو فيها التكرار في الاحتمال الأول؛ فالتصديق بلا معرفة يعادل المعرفة بلا تصديق، والخلاف فقط في البداية مرة بالمعرفة، ومرة بالتصديق، ولكن النتيجة واحدة، وهي استحالة فصل كل منهما عن الآخر. وفي العلاقات الثنائية يتكرر الاحتمال الرابع؛ فالمعرفة والتصديق دون الإقرار والعمل هما نفساهما التصديق والمعرفة دون الإقرار والعمل. والخلاف أيضا في البداية مرة بالمعرفة، ومرة بالتصديق. وفي العلاقات الثلاثية يتكرر الاحتمال السابع؛ فالمعرفة والتصديق والإقرار دون العمل هي نفسها التصديق والمعرفة والإقرار دون العمل، والخلاف في البداية كذلك مرة بالمعرفة، ومرة بالتصديق. كما يتكرر الاحتمال الثامن المعرفة والتصديق دون الإقرار. والخلاف أيضا في البداية مرة بالمعرفة، ومرة بالتصديق. وتكون العلاقة الرباعية باستمرار واحدة. والخلاف فقط في البداية مرة المعرفة والتصديق والإقرار والعمل، ومرة التصديق والمعرفة والإقرار والعمل.
12
وقد تم استبعاد التكرار قدر الإمكان باستثناء التصديق كاستدلال، فالاستدلال معرفة. ومع ذلك فإنه معرفة من نوع خاص. أما الاحتمال الأول، هل الإيمان تصديق دون معرفة؟ فقد تكرر ذلك من قبل في تحليل المعرفة، هل الإيمان معرفة دون تصديق؟ لا يوجد تصديق بلا معرفة، وإلا كان مجرد إيمان أعمى دون برهان.
13
الوجدان نظر شعوري، والتصديق عمل عقلي. الوجدان فكر شعوري، وإلا فهو انفعال أعمى، وهو ومزاج. ولا يكون الوجدان وحده أساسا للعمل؛ لأنه يفتقد الوعي النظري بالسلوك. المتعصب وحده هو الذي يقيم سلوكه على وجدان دون نظر، والمتآمر هو الذي يسلك بناء على تعصب في صمت دون إعلان. إن التصديق لا يكون إلا تصديقا بشيء، ولا يمكن أن يعرف هذا الشيء إلا بالنظر، وإلا كان تصديقا بشيء مجهول، واستحال التفريق بين الأشياء.
14 (2-1) هل الإيمان تصديق دون إقرار؟
إذا كان التصديق قد قام أساسا على البرهان النظري وتحولت الشهادة الباطنية، بالتجرد والعقل، إلى طاقة حركية، فما أسهل بعد ذلك أن تتخارج في القول؛ وبالتالي يتحول التصديق إلى إقرار؛ لذلك يصعب التفرقة بين التصديق والإذعان. فما دام التصديق قد قام على أساس معرفي، وكان الوجدان مرتبطا بالإرادة والنزوع، فإنه يصعب التفرقة بين التصديق والإقرار؛ فالإقرار إعلان عن التصديق، وانتقال من التصديق الخارجي، أي الصدق مع النفس، إلى التصديق الخارجي، أي الإعلان، إعلان المسافة بين المثال والواقع.
15
إن الفصل بين التصديق والإقرار إنما يتم فقط في حالة الإكراه، عندما يقول الإنسان بلسانه ما لا يعتقد به في قلبه، وإلا كان الأمر نفاقا في غير حالات الإكراه، بل إن الإقرار هو السبيل إلى تطبيق الأحكام الشرعية. ولا يمكن مطالبة الصدق بالطاعات، أو تطبيق الحدود قبل الإقرار والإعلان. الإقرار إذن هو الإظهار، ولولا الإقرار بعد التصديق لظل الأمر سريا، ولما بدأت عملية الصراع الاجتماعي. (2-2) هل الإيمان تصديق دون عمل؟
إذا كان الإيمان تصديقا يقوم على برهان نظري، ويتخارج في القول، فما أسهل بعد ذلك أن يتخارج في العمل؛ وبالتالي تكتمل أبعاد الشعور في بعديه الداخليين، المعرفة والتصديق؛ وبعديه الخارجيين، القول والعمل. التصديق بلا عمل ضيق نفس، وطاقة مختزنة، وإمكانية بلا تحقق، وسيلة بلا غاية، طريق بلا هدف. وكيف يكون الإيمان كاملا بلا عمل، وقد اقترن العمل بالإيمان في أصل الوحي، والإيمان بلا عمل كصورة بلا مضمون، كما أن العمل بلا إيمان كمضمون بلا صورة، بل وفي حالة الاختيار فالعمل بلا إيمان أفضل وأبقى من الإيمان بلا عمل، فالمضمون بلا صورة أفضل وأبقى من الصورة بلا مضمون. وليس العمل فقط هو المحبة والولاية، بل قد يكون الكراهة والعداوة، فمحبة العدل مثل كراهية الظلم، وولاية للحق تتضمن العداوة للباطل. وإن مقاومة الظلم والتخلف والاستغلال قد تكون شرطا للعمل من أجل العدل والتقدم والمساواة. النفي شرط الإثبات، ومقاومة السلب شرط تحقيق الإيجاب؛ لذلك لا يمكن تأجيل العمل على الإيمان أو تأخيره عنه.
16
العمل تحقيق للتصديق وتعبير عنه. والتصديق الذي لا يتخارج في العمل يولد ميتا، ويفقد مصادر طاقته وتفاعله مع العمل. لا يكفي العمل المحبة والخضوع والتسليم، بل والطاعة، فهذه أعمال سكونية خارجية صورية آلية أثر من آثار التصوف على العقيدة بعد ازدواج التصوف مع الأشعرية عند المتأخرين. قد يكون لإخراج العمل مدلول سياسي لاكتفاء الناس بالإيمان، وإسقاط العمل تحقيقا للاستسلام النهائي، وأمانا من الثورة. أما الاختيارات الأخرى فهي أيضا مكررة، مثلا: هل الإيمان تصديق وإقرار دون معرفة وعمل؟ إذا أصبح الإيمان تصديقا مصحوبا بالإقرار، أي تجربة داخلية تتحول إلى تعبير خارجي، فما أسهل بعد ذلك أن يكتمل التحقيق، فيتحول النظر إلى عمل. واكتمال التصديق بالمعرفة يؤدي بالضرورة إلى اكتمال القول بالعمل. وبدلا من أن يتحول نصف الطاقة، أي التصديق، إلى نصف الحركة، أي العمل، تتحول الطاقة كلها، أي التصديق والمعرفة، إلى الحركة كلها، أي إلى القول والعمل.
17
تصعب التفرقة إذن بين التصديق الذي يتحول إلى إقرار والعمل؛ لأن التصديق بمعنى الإذعان والإقرار تعبير عن الإذعان؛ فإن التعبير له شكلان؛ الإقرار والعمل. وما دام قد تخارج بالإقرار فليس هناك ما يمنع أن يتخارج في العمل؛ وبالتالي يتحقق الفعل. وإن كل محاولة لجعل التصديق خارج الفعل وجعل الإقرار مقطوع الصلة بالإرادة واللغة، فإنه لا يهدف إلا إلى إماتة الإيمان؛ وذلك نتيجة لسيادة التصوف كعلم لبواطن القلوب على الأشعرية السائدة.
أما سؤال «هل الإيمان تصديق وعمل دون معرفة وإقرار؟» فيشير إلى نفس السؤال السابق في علاقات النظر: هل الإيمان معرفة وعمل دون تصديق وإقرار؟ فمع أن الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل، وهو أفضل من المعرفة النظرية والقول الفارغ، وهو طريق العمل الصامت الناتج عن التصديق القلبي، إلا أنه قد يتحول إلى عمل سري إن لم يصاحبه الإعلان. وقد يصبح تعصبا وضيق أفق إن لم يرتكز على أساس نظري.
18 (2-3) هل الإيمان تصديق وإقرار وعمل دون معرفة؟
في العلاقات الثلاثية التي يبدأ التصديق بها يكون الإيمان تصديقا وإقرارا وعملا دون معرفة. وفي هذه الحالة يكون السلوك أيضا صادقا علنيا، ولكن ينقصه بعض القدرة على الحوار مع الآخرين، والتعامل مع الواقع الإحصائي، وفهم علل السلوك؛ فالنشاط لا يعفي من الفهم، والحركة لا تغني عن الإدراك. يستحيل تحقيق فعل واع باجتماع الأبعاد الثلاثة، التصديق والإقرار والعمل دون المعرفة، نظرا لغياب الجانب النظري للسلوك. قد وقع الفعل، ولكنه يكون انفعالا وخطابة، حماسا واندفاعا غير قادر على احتواء أفعال الآخرين الذين يخالفونه في المعارف.
19 (2-4) الإيمان تصديق ومعرفة وإقرار وعمل
هذه هي العلاقة الرباعية الأخيرة التي تتفق مع الاحتمال الأخير في علاقات المعرفة، وهي أن الإيمان معرفة وتصديق وإقرار وعمل. والخلاف فقط في البداية بالمعرفة أولا وبالتصديق ثانيا. والحقيقة أن كل بعد يحتوي على الأبعاد الثلاثة الأخرى؛ إذ يستحيل وجود تصديق بلا عمل؛ فالطاقة لا بد وأن تتحول إلى حركة. إن كل تصديق هو تصديق بشيء، وهذا الشيء يتأسس في الذهن، ويعبر عنه باللسان، ويتحقق باليد؛ فإذا كان الإيمان هو المعرفة والتصديق فإن الإسلام هو الإقرار والعمل؛ وبالتالي يضم الإسلام الإحسان. إن الوحدة بين الداخل والخارج، بين الطاقة والحركة، بين التصور والنظام، أو كما يقول القدماء بين العقيدة والشريعة هو تحقيق للإيمان الكامل الذي يجمع بين النظر، المعرفة والتصديق، والعمل؛ أي الإقرار والفعل. بهذه الوحدة لا تتسرب الطاقة الداخلية، ولا يبتسر الفعل الخارجي.
20
رابعا: الإقرار
الإقرار هو البعد الثالث للشعور بعد المعرفة والتصديق وقبل العمل. ويعني الإقرار التلفظ بكلمتي الشهادة؛ فالإقرار هو القول؛ أي عمل اللسان والنطق بكلمة تعلن عن التصديق الذي يعلن بدوره عن البرهان. وما فائدة القول إن لم يعبر عن شيء؟ فالقول لفظ يعبر عن معنى، والمعنى يكون في الشعور ينكشف في تجربة تصديق، ويدرك بالذهن، ثم يتحقق بالعمل. (1) ماذا يعني الإقرار؟
الإقرار هو النطق بكلمتي الشهادة، حتى ولو أضمر صاحبه الكفر أو النفاق؛ أي حتى ولو لم تكن هناك معرفة أو تصديق بهاتين الكلمتين. ويظل إيمان الكافر أو المنافق الناطق بالشهادتين مثل إيمان جبريل وميكائيل والأنبياء أجمعين! الإقرار باللسان وليس تصديقا بالقلب أو برهانا بالعقل أو فعلا باليد. وقد تواتر اقتناع الرسول بالكلمتين، ومنعه التفتيش في الضمائر وشق قلوب الناس. وما علينا إلا الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. والظاهر عندنا هو القول أو الفعل، والباطن هو المعرفة أو التصديق. ويكفي في الإقرار مرة واحدة دون التكرار، على عكس الأفعال الشرعية مثل الصلاة التي يقصد من الأمر فيها التكرار. وبعد ازدواج التصوف مع الأشعرية أصبح الإقرار قديما في عهد الذر عندما أشهد الله الناس على أنفسهم «ألست بربكم؟» فقالوا: بلى. وبالتالي لا يحتاج الإنسان إلى تكرار الإقرار في الدنيا إلا مرة واحدة.
1
والحقيقة أن جعل الإيمان مجرد إقرار دون تصديق أو معرفة أو عمل هو ابتسار له، وجعله مجرد قول أو نطق أو إعلان. وهل يمكن الإقرار بكل ما يجيء به الرسول دون تصديق به والتحقق من صحته؟ أليس الإقرار إقرارا بشيء وتصديقا بشيء وإعلانا عن شيء، يدركه المؤمن ويصدق به ويعمل على تحقيقه؟ يظهر الإيمان في أبعاد الشعور كلها، في المعرفة والتصديق والعمل، ظهوره في الإقرار. إن جعل الإيمان هو الإقرار وحده لهو تخل عن الإيمان كتجربة شعورية، نظرية ووجدانية، كمعرفة وتصديق، كما أنه تخل عن الإيمان كتجربة عملية فعلية، والاكتفاء بالإعلان.
2
وهل يمكن الإقرار بكل ما يجيء به الرسول دون التصديق به والتحقق من صدقه؟ إن الإقرار شرط كمال وليس شرط صحة. هو إعلان عن التصديق وليس تحقيقا له. وقد يتم تحقيقه بالفعل حتما دون إعلان؛ وبالتالي يكون الفعل هو العلامة الظاهرة. الإقرار إعلان دون عمل، تحقيق كمال بلا مضمون، وتحقيق فارغ. إن أقصى ما يستطيع الإقرار هو أن يكون أولى البدايات في ظروف صعبة كبداية لعملية التعلم من الإقرار إلى العمل، ثم إلى التصديق، وأخيرا إلى المعرفة؛ فالإقرار هو الإعلان عن النية ثم تتحقق في أعمال، حتى ولو كانت هي الشعائر والطقوس مشفوعة بالأعمال الصالحة. وربما لا يأتي التصديق إلا بالبرهان ، ولا تأتي المعرفة إلا في النهاية؛ فإذا ما ثبت الإيمان بدأت المعرفة ثم التصديق ثم الإقرار ثم العمل. قد يخالف الإقرار التصديق في حالة القهر والاضطهاد، فيضطر المؤمن أن يقول شيئا لا يصدق به ويجحده تخفيفا لآلام العذاب، ولكن الأفعال هي الأفعال الحرة وليست أفعال الإكراه. وحين يصعب العمل المباشر قد يتحقق الإيمان بالقول حتى يأتي العمل في ظرف أكثر ملاءمة، ويكون أقرب إلى النجاح. وطالما كان الإقرار هو أساس الأحكام الشرعية، فعليه يكون الحكم بالإيمان والكفر والفسق والعصيان والارتداد وسائر الأحكام؛
3
لذلك قد يكون لهذا الاختيار، الإيمان إقرار، مغزى سياسي من أجل عدم تكفير الحكام وقبول الأمة لهم ما داموا يشهدون ويقرون بكلمتي الشهادة، في مقابل اختيار آخر تجعل الأعمال مع الإقرار، وتضع التصديق أساسا للإقرار، وهو اختيار المعارضة. وقد يكون في حالة أخرى رد فعل على تكفير الناس والخصومات المتبادلة من أجل لم الشمل وإرساء قواعد الوحدة الوطنية على الحد الأدنى من الاتفاق، وهو القول، وإن صعب التفسير والتصديق.
وقد تكون هناك صلة بين التجسيم كأحد اختيارات التوحيد، والإقرار كأحد اختيارات الإيمان؛ وبالتالي تكون هناك صلة مقابلة بين التنزيه في التوحيد، والعمل في الإيمان. فالتجسيم يجعل الواقع في جسم الله؛ وبالتالي لا يحتاج إلى الدخول فيه بالفعل. (2) هل الإيمان إقرار دون معرفة وتصديق وعمل؟
طبقا لنسق العلاقات بين الإقرار كبعد ثالث للشعور والأبعاد الثلاثة الأخرى، المعرفة والتصديق والعمل، فإن كل العلاقات الثنائية والثلاثية وجدت من قبل في علاقات المعرفة والتصديق؛ فالإقرار دون معرفة هو نفسه المعرفة بلا إقرار، والإقرار دون تصديق هو نفسه التصديق دون إقرار؛ وبالتالي لا تبقى إلا علاقة واحدة، وهي الإقرار دون عمل. وفي العلاقات الثنائية، الإقرار والمعرفة دون التصديق والعمل، هي نفسها التصديق والعمل دون الإقرار والمعرفة، كما أن الإقرار والتصديق دون معرفة وعمل هو نفسه المعرفة والعمل دون الإقرار والتصديق. وفي العلاقات الثلاثية للإقرار في احتمالاتها الثلاثة توجد هي نفسها في العلاقات الثلاثية للمعرفة والتصديق. والعلاقة الرباعية الوحيدة توجد متكررة، سواء كانت البداية المعرفة أو التصديق أو الإقرار.
4 (2-1) هل الإيمان إقرار دون عمل؟
في العلاقات الثنائية هذا هو الاحتمال الوحيد الذي لم يعرض بعد: هل هناك إقرار دون عمل؟ الحقيقة أن القول أحد مظاهر السلوك مثل العمل؛ فالقول سلوك لغوي، والعمل سلوك اجتماعي. ولا يمكن أخذ أحد مظاهر السلوك دون الآخر، كما أن الإقرار ليس له صيغة معينة، بل هو صياغة تدل على مضمون. ليس الإقرار إذن مجرد كلمة، بل هو فعل شعور يتطلب سلوكا هو الإقرار. ولما كانت شرائط الإيمان وأوصافه داخلة في الإقرار، فإن الإيمان لا يكون إقرارا فحسب، بل هو الإقرار بالإضافة إلى شرائط الإيمان وأوصافه. والعمل يأتي في المقدمة، حق الإيمان. ويتضح ذلك في النطق بالشهادتين؛ إذ لا تعني الشهادة مجرد إقرار بالقول، مجرد التلفظ بعبارة، والنطق بقضية، بل تعني فعل «أشهد»، وهو فعل شخصي في ضمير المتكلم المفرد. والشهادة رؤية ووعي وواقع وإعلان. الشهادة تحقق من أمر واقع. الشاهد حامل الحق، ورائي الواقع الذي يؤخذ برأيه في القضاء حين الفصل في الخصومات. الشاهد هو الشاهد على عصره، هو الذي يرى عصره رؤية حق، ويأخذ قضاء العصر بشهادته. وقد تكرر فعل «أشهد» مرتين؛ الأولى في التوحيد، والثانية في الوحي؛ مما يدل على أن أصل التوحيد لا ينفصل عن الكلام؛ أي الفكر المصدق والمحول إلى الفعل. وقد تصل الشهادة القولية إلى حد الشهادة الفعلية عندما يتحول الشاهد إلى شهيد بفعل الشهادة. ولما كان النطق بالشهادتين للقادر المتمكن، فهو فعل يحتاج إلى قدرة، وليس مجرد قول بلا ثمن. وليست القدرة عضوية خالصة، القدرة على تحريك اللسان والشفتين وإخراج هواء الحنجرة من خلال الحبال الصوتية، فهذه قدرة لا يتملكها الأخرس وحده، بل هي قوة معنوية تكشف عن القدرة على الرفض، رفض آلهة العصر وتأليه الطاغوت حتى يتحرر الوجدان البشري، ويكون قادرا بعد ذل على الانتساب إلى مبدأ واحد، عام شامل، يتساوى أمامه البشر جميعا؛ لذلك ضم فعل الإقرار فعلين؛ الأول فعل النفي «لا إله»، والثاني فعل الإثبات «إلا الله»؛ من أجل تحرير الوجدان البشري من الطاغوت، والتعبير عن الهوية المطلقة؛ إذ إن العبارة إذا ما حذفنا النفي والاستثناء كانت «إله الله»؛ أي تعريف الشيء بنفسه، وهوية الذات مع الموضوع، وتطابق المبتدأ مع الخبر؛ لذلك لا يجوز نطق الأطفال والصبية والمجانين بها؛ لأن الإقرار له ثمن، وله حق من العقل والقلب والفعل، في المعرفة والتصديق والعمل. وإذا كانت الشهادة تتطلب الإذعان فإنها تتطلب الفعل؛ فليس الإذعان مجرد خضوع واستسلام، فعل سلبي، بل هو قبول عن رضا، أي فعل إيجابي. وقد يظهر هذا القبول في صورة غضب وتمرد وثورة على الواقع الذي تدحضه الشهادة وينفيه الإقرار. وإذا كانت الشهادة تتطلب الانقياد والامتثال بدليل حروب الردة، فإن ذلك يعني أن للشهادة حقا، حتى في المال مثل حق الزكاة؛ فالشهادة إذن فعل، والإقرار سلوك. وليس أدل على ذلك أيضا من أن الأحكام الشرعية لا تجوز إلا بعد القول، وأن الفرائض لا تتحقق إلا بعد الشهادة؛ فالإقرار التزام بفعل، وليس مجرد قول فارغ لا مضمون له ولا حق فيه. وإذا لم يكن للشهادة صياغة محددة، بل تصح لها أية صياغة، فإن ذلك يدل على أنها مضمون وليست صورة. وإن الإقرار ليس مجرد كلمة، بل هو فعل للشعور، وأنه معنى وتوجه يتطلب سلوكا هو حق الإقرار.
5
وماذا عن الفرائض إن لم تكن أعمالا تضاف إلى الإقرار؟ ألا يقوم الفقه كله على الحكم والتحكيم للأفعال وليس للأقوال؟ وكيف سيحاسب الناس يوم القيامة وعلى أي شيء إن لم تكن على الأعمال؟ وماذا سيغفر الله يوم القيامة إن لم تكن الأعمال؟ وعن ماذا تتم التوبة في الدنيا إن لم تكن على الأعمال؟ الأعمال حقيقة وليست مجازا، أعمال فعلية وليست وهمية. لا تقتصر فقط على الشعائر، بل تضم أيضا الأعمال الصالحة المقرونة دوما بالإيمان. وإذا كان أصل التوحيد يتوجه إلى الإقرار فإن أصل العدل يتوجه إلى الأفعال. إن الإرجاء لا يعني تأخير الفعل على القول، ولا العمل على الإقرار. أليست هذه هي الأخلاق اليهودية أو التطهرية التي تقوم على أن اليهود هم أبناء الله وأحباؤه ما داموا طاهرين، فلا عبرة بالأعمال؟
6
لقد ثبتت السلطة القائمة هذا الاختيار، إما عن نية أو عن سوء نية؛ فإذا كان الاختيار عن حسن نية فإن الهدف يكون هو لم الشمل، وتحقيق الوحدة الوطنية، وعدم التفتيش في ضمائر الناس لمعرفة تصديقهم بما يقرون، أو الدخول في أذهانهم لمعرفة ماذا يعرفون، أو حتى الحكم على أعمالهم؛ فقد بعث الأنبياء والرسل هداة لا قضاة، ويرجئ الحكم على أعمالهم لليوم الآخر. وقد يكون ذلك كرد فعل على تكفير الخصوم واقتتال الفرق، وقطع الرقاب طبقا للأعمال؛ وبالتالي حقنا للدماء وحفاظا على وحدة الأمة أصبح هذا الاختيار إحدى وسائل لتحقيق هذا الهدف. ولكن لما كانت السلطة القائمة هي أيضا تشهر سلاح تكفير الخصوم وتأييد السلطان، فإنها بإخراجها العمل عن الإيمان جعلت أفعال الخصوم سياسية خالصة لا شأن لها بالإيمان؛ وبالتالي تقضي على شرعية المعارضة. وفي الوقت نفسه تخرج أعمال السلطان من الأيمان حتى يظل الحكم شرعيا ما دام السلطان يقر بالشهادتين! وفي الوقت نفسه تجعل السلطة القائمة المنظومة العقائدية أساسا للتكفير مما يمكن لها من حصار المعارضة السياسية التي تتهم بالتأويل؛ وبالتالي الخروج على العقائد السنية الحرفية الشيئية التي تتفق مع أذواق العامة وتصوراتها؛ وبالتالي يمكن عزلها سياسيا في الدنيا، وعزلها دينيا في الآخرة. وذلك ليس فقط للمعارض، ولكن لقومه وشيعته وأنصاره حتى ولو غزا مع المسلمين وشارك في قضاياهم، وكأن المحك في الإيمان والكفر هو الخضوع للسلطان أو المعارضة له.
7
وقد تأخذ بعض فرق المعارضة الشعبية مثل هذا الموقف بدافع المصالحة الوطنية بين السلطة القائمة والمعارضة الجذرية.
8
فإذا ما ظهر الواقع في التجسيم فإنه يتلاشى في الإيمان، ويصبح الإيمان مجرد إقرار.
9
ومع ذلك كي تظهر السلطة القائمة في مظهر المدافع عن الدين فإنها تهاجم الإقرار باعتباره كافيا في الإيمان، وترفض إرجاء العمل على الإيمان بالنسبة للعامة حتى تظل العامة في الإيمان التقليدي ومظاهر العمل التقليدي له؛ أي في الشعائر والطقوس بعيدا عن المعارضة السياسية.
10
وتروج الأحاديث لنقد كل اختيار. ولما كانت السلطتان السياسية والدينية متعاونتين، فإنه سرعان ما تروح أحاديث لتأييد السلطة وتفنيد المعارضة.
11 (2-2) الإيمان إقرار ومعرفة وتصديق وعمل
العلاقة الرباعية باستمرار واحدة، سواء أكانت البداية بالمعرفة أو بالتصديق أو بالإقرار؛ فالإيمان إقرار ومعرفة وتصديق وعمل؛ فلا يوجد إقرار باللسان إلا بعد التصديق بالقلب، ولا يوجد تصديق بالقلب إلا بعد المعرفة. وإذا كان الإقرار عملا بالقلب فإنه يكون أيضا عملا بالجوارح، فلا قول بلا تصديق، ولا تصديق بلا معرفة، ولا نظر بلا عمل. إن القول دون المعرفة يكون مجرد ألفاظ لا تدل على شيء، ولا يؤدي إلى تصديق؛ لأنه لا يوجد موضوع للتصديق. وبطبيعة الحال لا ينتج عنه عمل. القول دون تصديق يكون بالضرورة دون معرفة أو فعل. تغيب الخصوصية في الزمان والمكان، ويصبح الإيمان مجرد لغو. ليس الإيمان قولا فحسب؛ فالقول أحد مظاهر الإيمان. القول صياغة للنظر، وتعبير عن الرأي. اللفظ مجرد صورة للفكر وأداة له؛ لذلك يستحيل إقامة سلوك الناس على أساس من القول؛ لأن القول وحده لا يكون أساسا للسلوك. القول تعبير عن فكر، وكشف لموقف شعوري. القول بمفرده مجرد ألفاظ لا تدل على شيء. ولما كان العمل واعيا استحال تحقيقه على أساس من القول، وإلا تحول الإنسان الحي إلى إنسان آلي يعطى القرار فيتحول تلقائيا إلى عمل. والشهادة ليست قولا، بل هي قول وفكر ووجدان وعمل؛ فالشاهد على العصر هو الشهيد، والشهيد هو الذي يشهد بقوله وفكره ووجدانه وعمله. وكل ذلك ممثل في حياته وأبعاد لشعوره.
12
وقد يتم تجاوز مفهومي الإقرار والعمل بمفهوم الخضوع والاستسلام والانقياد وطاعة الأوامر والنواهي بمعنى قبولها، ويصبح الإيمان والإسلام مترادفين. والحقيقة أن هناك تمايزا في هذه المفاهيم الأخيرة بين المعرفة والتصديق وبين النظر، أي المعرفة والتصديق، وبين العمل، أي الإقرار والفعل. ولا يوجد خضوع أو استسلام يأتي بالضرورة من المعرفة والتصديق، بل قد تؤدي المعرفة والتصديق إلى الرفض والتمرد والثورة، كما قد لا يكون العمل وحده هو الإتيان بالطاعات والالتزام بالأوامر واجتناب النواهي، بل قد يتجاوز ذلك إلى الأعمال الصالحة، كما قد يأخذ مضمون الإيمان العقائدي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء خيره وشره مضمونا جديدا، وهو أصلا التوحيد والعدل، ومضمون الرسالة، وهو استقلال الإنسان عقلا وإرادة. ويعني التوحيد انتساب الإنسان إلى مبدأ يتساوى أمامه الجميع، كما يعني العدل إثبات حرية الإنسان وعقله القادر على التمييز بين الحسن والقبح، بل إن العمل الفرد لا يكفي كتعبير عن الإقرار بعد المعرفة والتصديق؛ فالعمل الفردي لا يزدهر إلا في العمل الجماعي، في موالاة المؤمنين ومعاداة الكفار؛ أي في الصراع الاجتماعي. وإذا كان علم الأصول واحدا، أصول الدين وأصول الفقه، فإن مصالح الأمة والحرص عليها ضد الإفساد في الأرض يكون هو محور الصراع الاجتماعي في أصول الدين؛ لذلك ينتهي علم التوحيد بأحكام قيمة ونداء للفعل، فتتحول الإلهيات إلى أخلاقيات، ثم إلى اجتماعيات مستمدة من التصوف والأصول. ويتحول الحديث من الإيمان وصياغاته وأحكامه، من مجال الأوامر والنواهي وخطب المساجد ومواعظ المنابر، إلى الحديث عن الضروريات الخمس، المحافظة على النفس والعقل والدين والعرض والمال. التوحيد إذن هو أساس المحافظة على الجماعة، يظهر في أقوال الأفراد والجماعات كما يظهر في أعمالهم.
13
خامسا: العمل
العمل هو البعد الرابع والأخير للشعور بعد المعرفة والتصديق والإقرار، وطبقا لمنطق العلاقات الثنائية والثلاثية والرباعية، فقد ظهرت كلها من قبل في علاقات المعرفة والتصديق والإقرار؛ ففي العلاقات الثنائية العمل دون المعرفة هو نفسه المعرفة دون العمل، والعمل دون التصديق هو نفسه التصديق دون العمل، والعمل دون الإقرار هو نفسه الإقرار دون العمل. وفي العلاقات الثنائية، العمل والمعرفة دون التصديق والإقرار هما نفسهما الإقرار والتصديق دون المعرفة والعمل، والتصديق والإقرار دون المعرفة والعمل والمعرفة والعمل دون التصديق والإقرار، كما أن العمل والتصديق دون المعرفة والإقرار هما نفسهما الإقرار والمعرفة دون التصديق والعمل، وهما نفسهما التصديق والعمل دون المعرفة والإقرار، وهما نفسهما المعرفة والإقرار دون التصديق والعمل. أما العمل والإقرار دون المعرفة والتصديق فهما نفسهما الإقرار والعمل دون المعرفة والتصديق، والتصديق والإقرار دون المعرفة والعمل، والمعرفة والعمل دون التصديق والإقرار. وفي العلاقات الثلاثية، العمل والمعرفة والتصديق دون الإقرار هي نفسها التصديق والمعرفة والعمل دون الإقرار، والتصديق والعمل دون الإقرار. وكذلك العمل والتصديق والإقرار دون المعرفة هي نفسها الإقرار والتصديق والعمل دون المعرفة، وأيضا التصديق والإقرار والعمل دون المعرفة. أما العمل والمعرفة والإقرار دون التصديق فهي نفسها الإقرار والمعرفة والعمل دون التصديق، وأيضا المعرفة والإقرار والعمل دون التصديق. أما العلاقة الرباعية فهي باستمرار واحدة لأنها العلاقة الكاملة، وهي نفسها التصديق والمعرفة والإقرار والعمل، هي نفسها المعرفة والتصديق والإقرار والعمل، ولكن الخلاف فقط في البداية، مرة بالعمل، وأخرى بالإقرار، وثالثة بالتصديق، ورابعة بالمعرفة.
1
ولا يوجد إذن اختيار جديد ممكن في علاقات لم تظهر بعد. ولكن الاختيار الرباعي هو الأمثل؛ لأنه هو الذي يوحد بين أبعاد الشعور الأربعة، فالإيمان هو العمل. والتركيز على العمل رد فعل على جعل الإيمان مجرد معرفة أو تصديق أو إقرار. والحقيقة أن العمل تعبير عن معرفة، كما أن المعرفة تصديق ببرهانها. وكما لا توجد معرفة دون عمل، وإلا كانت معرفة نظرية فارغة جوفاء، فكذلك لا يوجد عمل دون معرفة، وإلا كان عملا أخرق أحمق. العمل لا يقوم إلا على أساس معرفي، وإلا كان عملا آليا غريزيا عضويا صرفا تعبيرا عن مجرد نشاط العضو الحي، بل إن العمل أيضا يغذي المعرفة ويثيرها؛ فالمعرفة قد لا تحصل بالضرورة قبل العمل، بل يمكن أن تنشأ أثناء العمل ومن خلاله، وهي المعرفة التجريبية. فإذا كانت المعرفة قبل العمل عامة فرضية، فإنها تتخصص وتتحقق وتقاس في العمل طبقا لقدراته ومقدار تقبل الواقع لها. وهذا هو أساس الواقعية في التشريع كما بان في «أسباب النزول» وفي «الناسخ والمنسوخ». كما أن العمل أحد مظاهر تخارج المعرفة والتصديق مثل الإقرار؛ فإذا ثبت الإقرار ثبت العمل، فلا عمل بلا إقرار، وإلا كان عملا صامتا سريا أو علنيا بلا كلمة أو إعلان عنه، وكأن الفعل هو الكلمة. ولا إقرار بلا عمل، وإلا كانت الكلمة هي الفعل الوحيد؛ وبالتالي تصبح كلاما أجوف، وخطابة فارغة. لا يوجد إذن عمل بلا إقرار إلا العمل الصامت ، مع أن الإعلان عنه بلاغ للناس، ونوع من العمل والفاعلية من خلال الكلمة. يتحقق العمل بالقول، وليس بالعمل المباشر وحده. وقد يكون وقع كلمة حق في وجه إمام ظالم ثورة فعلية علنية، فيتحول القول إلى فعل، ولكن يظل الفعل في حاجة إلى تنظيم فعلي، وذلك لا يتأتى إلا بالعمل. والعمل تعبير عن وجدان وتحقيق للبواعث، وإلا كان عملا آليا لا يهز الوجود الإنساني ولا ينشد شعرا. العمل إذن ما هو إلا تحقق رابع بعد المعرفة والتصديق والإقرار، بل يمكن القول بأن المعارف العقلية أعمال هي أفعال الذهن، وأن أفعال القلوب أعمال هي أفعال القلب. إذن الأقوال أعمال، وهي أفعال اللسان.
ويتضح ذلك أكثر وأكثر بارتباط الإيمان بالعمل في أصل الوحي، سواء كان عملا صالحا أو عملا فاسدا. وفي هذه الحالة يكون الإيمان قد لبسه الظلم، وكأن العمل هو عدل الإيمان. ويقر العقل أن فعل الواجبات هو الدين، وأن الدين هو الإسلام، وأن الإسلام هو الإيمان؛ وبالتالي يكون فعل الواجبات هو الإيمان. كما يعني الإيمان الصلاة نظرا للتوحيد بين الإيمان والأعمال. وإن قاطع الطريق ليس بمؤمن، أي إن قطع الطريق ليس من الإيمان. كما أن الزاني لا يزني وهو مؤمن نظرا لارتباط الفعل بالإيمان. أما الاعتراض بواو العطف، وبأنه لو كان العمل جزءا من الإيمان لكان الإيمان منافيا للظلم لإخراج العمل من الإيمان، فمردود عليه بأنه لو لم يكن العمل من الإيمان لما صح إطلاق الإيمان على العمل. كما أن الإيمان في الشرع ليس التصديق فحسب، وإلا لما كان بضعا وسبعين شعبة، أعلاها لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.
2
ومع ذلك يظل موضوع الإيمان والعمل موضوعا دينيا سياسيا؛ فإخراج العمل عن الإيمان كلية، فلا يضر مع الإيمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة، هو تبرئة للحكام وتجاهل لأفعالهم، والاكتفاء بأقوالهم حتى لا تحاسبهم الأمة، في حين أن إدخال الأعمال كجزء لا يتجزأ من حقيقة الإيمان هو مراقبة على الحكام والمحكومين ومحاسبتهم على أفعالهم. أما جعل الأعمال مجرد أجزاء عرضية للإيمان لا يلزم من عدمها عدمه، أو آثارا خارجية عن الإيمان مسببة له، ويطلق عليها الإيمان مجازا، فهي محاولة لتحقيق نوع من المصالحة بين الخصوم السياسيين، وتظل أقرب إلى رأي السلطة القائمة التي تخرج العمل من الإيمان.
3 (1) ماذا يعني العمل؟
قد يعني العمل فعل الطاعات واجتناب المعاصي؛ أي القيام بالفعل إيجابا أم سلبا. فإذا كان الإيمان إذن فعل الطاعات واجتناب المعاصي يكون الكفر فعل المعاصي واجتناب الطاعات، ولكن هل الإيمان فعل جميع الطاعات واجتناب جميع المعاصي؟ وماذا لو فعل المؤمن بعض الطاعات واجتنب بعض المعاصي أو فعل جميع المعاصي؟ وماذا يكون وضع الإيمان فيما يتعلق بالأفعال في جدل الكل والبعض؟ إذا استحال فعل كل الطاعات واجتناب كل المعاصي فلا ريب أن فعل بعض المعاصي واجتناب بعض الطاعات ممكن، ولكن ماذا تعني الطاعة وماذا تعني المعصية؟ هل الطاعة ما جاء فيها وعد، والمعصية ما جاء فيها وعيد؟ الطاعة حينئذ فعل يقوم على الترغيب، والمعصية فعل يقوم على الترهيب. وهل المعرفة في هذه الحالة فعل طاعة لما كانت أفعال الأذهان مثل أفعال القلوب أفعالا؟ وهل فعل الطاعات يكون فعلا للفرائض والنوافل أم فعلا للفرائض؟ هل هو فعل للحد الأقصى أم للحد الأدنى؟ أم يترك ذلك للقدرات الفردية وللطاقات النوعية؟ وإذا كانت المعاصي كبائر وصغائر، فهل اجتناب الكبائر يساوي اجتناب الصغائر؟ وهل يمكن الإتيان بأفعال تؤدي إلى أفعال طاعة مثل المشي إلى الصلاة في المساجد البعيدة طلبا للثواب، أو المشي إلى الحج سيرا على الأقدام، أم أن أفعال الطاعة إنما تأتي بلا مقدمات وبلا طلب زائد، فالغرض منها تزكية النفس وتقوية الوعي؟ وقد يكون كل ذلك أسماء لغوية أو أسماء شرعية؟ ولما كانت المعاني اللغوية أساس المعاني الاصطلاحية، يظل الموضوع كله في حدود اللغة والعرف.
4
فما حقيقة الطاعة والمعصية؟ تتحدد الطاعة بالمتابعة أو الموافقة؛ أي متابعة الله في أغراضه أو الاتفاق معه في إرادته. والحقيقة أن هذا التعريف صوري خالص، يرجع موضوع الفعل إلى التوحيد من جديد في قضية الصفات، صفة الإرادة . كما أنه تحديد للشيء بغيره، للفعل الإنساني بإرجاعه إلى مصدر آخر خارج عنه، وليس تحديدا للفعل في ذاته. وهل يمكن معرفة الإرادة الإلهية حتى يمكن الاتفاق معها؟ فإذا كان الأمر تعبيرا عنها، وكان الأمر وحيا مكتوبا بلغة، ظهرت مشكلة التفسير والتأويل كشرط للموافقة مع الأمر. وطالما اختلفت التفسيرات والتأويلات له طبقا للمصالح والأغراض، يستحيل إذن الاتفاق معه إلا على نحو معين؛ وبالتالي تختلف الأفعال. أما تحديد المعصية فلا يأتي إلا عن طريق القلب، أي قلب الطاعة؛ وبالتالي القياس عليها. فإذا كانت الطاعة هي الموافقة مع الإرادة تكون المعصية هي المخالفة معها. وتظل الإشكالات كما هي قائمة. وقد يكون هذا الاتفاق بين الفعل الإنساني والإرادة الإلهية أولى المقدمات لعقائد الاتحاد والحلول التي يتبناها التصوف ارتكازا على علم الأشعرية.
5
وإذا كانت المعاني اللغوية هي الأساس، فالإسلام لغة كما يعني التسليم أو الإخلاص فإنه يعني أيضا التبرؤ؛ أي التحرر من كل شيء. فالإسلام هو البراءة الأصلية، العيش على الطبيعة، حيث تكمن الحرية. الإسلام إذن هو تحرر الوجدان البشري من كل طوق وطاغوت وجبر وقهر وخوف وجبن وممالأة ومداهنة لكل قوى البشر، حتى يعود الإنسان إلى طبيعته الأولى وبراءته الأصلية. وهذا هو فعل النفي «لا إله» في الشهادتين؛ فإذا ما تحرر الوجدان البشري انتسب إلى مبدأ عام واحد شامل يقف البشر أمامه سواء، وهذا هو فعل الإيجاب «إلا الله». ويشارك الإيمان الإسلام في معنى التبرؤ والبراءة، ولكن الإيمان يضيف التصديق، أي البرهان الداخلي، على صحة مضمون الإيمان وشمول المبدأ ووقوعه؛
6
لذلك استوجبت الطاعة المعرفة كما يتطلبها التصديق. ومع ذلك يظل للفعل الخير استقلاله الذاتي عن المعارف النظرية التي يقوم عليها؛ نظرا لوجود الحسن في ذاته والقبح في ذاته كأساس نظري كاف للفعل. وفي هذه الحالة لا يكون الفعل هو إطاره النظري الذي يقوم عليه، أو الإقرار باللسان، أو فعل الفرائض أو النوافل؛ فهذه أفعال مركزة، وسيلة للفعل الخير. كما لا تكون المعصية إطارا نظريا مخالفا أو كبائر أو صغائر؛ فهذه أيضا أفعال مركزة، وسيلة لفعل السيئ؛
7
لذلك ليست الطاعات هي إقامة الشعائر، أي أركان الإسلام الخمس المشهورة؛ فهذه وسائل مركزة لتحقيق غايات عامة. وقد تتفاضل فيما بينها من حيث سرعة التحقيق وانتشاره؛ فالشهادة تتطلب فهما نظريا وعمقا في إيجاد الدلالة وممارسة فعلي النفي والإثبات. والصلاة تتجه نحو الجماعة في صلاة الجمعة، والزكاة تتجه نحو سيولة المال العام في المجتمع، والصوم يهدف إلى الإحساس بحاجات الآخرين، والحج مؤتمر سنوي عام للناس جميعا لدراسة أحوال الأمة. ويمكن معرفة ذلك بالعودة إلى المعاني الاشتقاقية التي هي أساس الأسماء الاصطلاحية؛ فالصلاة تعني الدعاء، أي الارتفاع والسمو والتعالي قبل العودة إلى العالم والدخول في الصراع الاجتماعي الذي تكشف عنه الزكاة والصوم، والحوار وتبادل الرأي الذي يظهر في الحج. والزكاة تعني الزيادة والسخاء؛ أي إن العطاء زيادة، والإنفاق وفرة، ضد الاكتناز والاختزان بدعوى الوفرة والتراكم؛ فلا زيادة إلا من خلال السيولة وتوظيف المال في المجتمع؛ وذلك تطهيرا للنفس، وتحريرا لها من أسر المال، واعتباره موضوعا اجتماعيا وليس استحواذا أو ملكية فردية. والصيام يعني الوقوف؛ أي التوقف والمراجعة والصمود ومراقبة النفس حتى يمكن رؤية الآخر أو المجتمع، فيظهر التفاوت في الرزق بين الفرد والجماعة؛ مما يدفع الإنسان إلى إعادة التوازن في الدخول بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.
8
وقد يكون هذا الموضوع أدخل في علم الفروع منه في علم الأصول؛ أي في علم الفقه أكثر منه في علم الأصول، أصول الفقه أو أصول الدين. ومع ذلك يمكن تحليل العمل بالعودة إلى اللغة والمعاني الاشتقاقية من أجل معرفة ما يسمى في التربية الدينية «الحكمة من»؛ أي الهدف من الشعائر باعتبارها وسائل. فالصلاة مثلا تهدف إلى إيصال عدة مضامين للشعور من أجل الحصول على المعاني الأصلية، مثل: الاتصال الدائم بالفكر، والعيش المتصل في عالم الفكر، والتعرف على المثال قبل التوجه إلى عالم الواقع الذي تدفع إليه الشعائر الأخرى كالصوم والزكاة والحج، تفاديا لضياع الإنسان ومحوه في خضم الحياة اليومية، وإبقاء على دعوته الفكرية فيها والإحساس بالزمان، وبأن اليوم هو مجموعة من اللحظات، وبأن لكل لحظة فعلها؛ فلا يتحقق الفعل قبل لحظته فيكون استباقا، ولا بعد لحظته فيأتي بعد فوات الأوان. الإحساس بالزمان كلحظات متميزة يقوم فيها الإنسان بمراجعة النفس، وقياس المسافة بين المثال والواقع، النظافة البدنية وأثر ذلك على الفكر والحياة، الرياضة البدنية وأثر الحركات على البدن وقوامه، العمل الجماعي وما يقتضيه من تنظيم ومداولة وعمل مشترك، وحدة الجماعة بتوجيهها نحو غاية واحدة واتباعها نظاما واحدا لا ينفي التعدد والمشاركة بالرأي والحوار ... إلخ. وعلى هذا النحو تأخذ المعاني الثلاث للفظ عند الأصوليين القدماء اللغة والاصطلاح والعرف وظيفة جديدة؛ فاللغة هي المعنى الثابت، والعرف هو الحاجة المتغيرة، والاصطلاح هو الصلة بين الثابت والمتغير.
9
وإذا كانت الطاعة هي إقامة الشعائر تكون المعصية هي ارتكاب الكبائر. لا توجد كبائر نظرية، أي كفر نظري، لاختلاف الأطر النظرية وتعدد التصورات النظرية، ولكن الكبائر عملية صرفة. وإذا كانت الشعائر وسائل لتحقيق غايات، فإن المعاصي أيضا وسائل للقضاء على هذه الغايات؛ وبالتالي لا تكون سلوكا بشريا؛ فترك الصلاة رفض لأنجع الوسائل لتحقيق الغايات، وهي التي يتقبلها جمهور الأمة، والسجود للشمس أو للصنم تجسيم للمبدأ وتشبيه له، وأكل الخنزير أو شرب الخمر مفسدة للصحة والعافية ومضيعة للمال، وإظهار زي الكفرة في بلاد المسلمين دعوة إلى التقليد وقضاء على الأصالة. وقد يصل الأمر إلى حد اعتبارها كفرا عمليا في مقابل الطاعات باعتبارها إيمانا عمليا. وقد تخرج بعض الأمور عن هذا الكفر العملي؛ إما لأنها أدخل في البحث العلمي مثل جمع القرآن وتواتر الوحي، أو في المعترك السياسي مثل الخلاف بين الصحابة ونصرة هذا الفريق أو ذاك، وتمسك كل منهم بكتاب الله وسنة رسوله. إنما المعاصي ضياع الطاقات العقلية والمادية من أجل تحقيق الغايات والمقاصد؛ فالأفعال واحدة، والغايات واحدة، الطاعات تحقيقها إيجابا، والمعاصي تحقيقها سلبا.
10 (2) هل يسقط العمل؟
فإذا ما حدث اختلال بين أبعاد الشعور الأربعة، المعرفة والتصديق والإقرار والعمل، أو على الأقل بين النظر الجامع للمعرفة والتصديق والعمل الجامع للإقرار والفعل، يسقط العمل ويتحول إلى عمل مضاد، يتحول الإيجاب إلى سلب، وتتفرغ الطاقة ولا تتحول إلى حركة، أو تتحول إلى حركة مضادة. ويسقط العمل أو يختل بصور عدة، منها تشخيص الأحكام، وإسقاط التكاليف، وإيقاف الحدود، وتحريم الحلال، وتحليل الحرام، وتأويل العبادات والمعاملات. ويحدث ذلك كله نتيجة للكفر بكل الشرائع الموجودة الناتجة عن مجتمع الظلم الذي وضع الأوامر والنواهي لصالح السلطة القائمة. الخلل في العمل إنما ينشأ إذن عن خلل في النظر؛ أي عن اغتصاب للسلطة وهدم للشرعية. ويكون رد الفعل على ذلك تكوين مجتمع مقابل، مغلق على نفسه، حر من علاقاته، يناقض مجتمع القهر والغلبة، ويضع شرائعه ويسن قوانينه تساعده على التحرر، وعلى قهر مجتمع الغلبة، والتغلب على نظم القهر. يسقط العمل إذن بتخلخل الأسس النظرية التي يقوم عليها، أو قيام التصديق، أو نفاق وخوف وجبن؛ وبالتالي عدم تعبير الإقرار لا عن معرفة ولا عن تصديق، فيصبح العمل مجرد شعائر صورية، أوامر ونواه، للطاعة أو للزجر.
11
وليس لإسقاط العمل أي أثر خارجي من الفرق الدينية المعاصرة في الديانات السابقة، بل هو تعبير عن خلل نظري داخل المجتمع الإسلامي.
12 (2-1) تشخيص الأحكام
ويسقط العمل ويختل عندما تتشخص الأحكام، وتصبح الطاعة رجلا، والأركان الشرعية الخمسة رجالا. تتشخص الحدود والفرائض فتصبح المحرمات رجالا والفرائض رجالا، وتحول الحدود إلى علاقات إنسانية مجسمة؛ وذلك لأن المصائب تأتي من البشر، ومن اضطرابات العلاقات الاجتماعية. ويقوم هذا التشخيص على التأويل، تأويل الأحكام، الأوامر أشخاص يجب موالاتهم، والنواهي أشخاص تجب معاداتهم. الفرائض رجال تجب ولايتهم، والمحارم رجال تجب عداوتهم؛ نظرا لتحقق الفعل في مجتمع ينقسم إلى أولياء وأعداء، ويؤدي التشخيص بدوره إلى إسقاط الشرائع وإبطال الأحكام وتجسيم الشريعة كما تجسمت العقيدة من قبل. ونتيجة لتشخيص الحدود تصبح بلا موجهات، فتسقط الشرائع، وتبطل الحدود، وتحل المحرمات، وتحرم المحللات. ويتمثل إسقاط الشريعة في إباحة الحرام أكثر منه في تحريم الحلال، وتصبح أقرب إلى الإباحية أو المشاع أو الفوضوية أو الغريزية كفرا بالشرائع وبالقوانين، ورفضا للمجتمعات وللدساتير، وثورة على السلطة والحكم، ورغبة في الكفر بكل شيء، وهدم كل الكيانات التي تقوم على الظلم، وتحريرا للطبيعة المكبلة بالقيود؛ فالأوامر والنواهي إنما هي تعبير مجسم للصراع الاجتماعي بين العدل والظلم، بين الحق والباطل. وما فائدة الشرائع إن لم تتحول إلى صراع؟ وهل الغاية من القانون تقييد الحرية وتكبيل اليدين وتكميم الأفواه، أم إطلاق الحرية لليدين وللسان؟
13
وقد تدور الأحكام كلها حول شخص واحد هو شخص الإمام؛ فالانتساب إليه يرفع التكاليف؛ وبالتالي لا عذاب له ولا تثريب عليه، حتى ولو ترك الفرائض وأشرك بالله. ولا يكفر إلا إذا كفر بالإمام وبالأئمة. الدين إذن أمران؛ معرفة الإمام وأداء الأمانة، وليس منه أداء الطاعات واجتناب المعاصي. العالم شر، والدنيا حرام، ولا يتحول العالم إلى خير أو يحل شيء من الدنيا إلا بمعرفة الإمام.
14
الإمام هو الفاصل بين الحلال والحرام، وليست الشريعة التي وضعها البشر المغتصبون لحق الله، وهو الذي سيعيد الشريعة إلى نصابها. وقد يتحول الأشخاص إلى أكوان فيصبح محمد السماء، وأصحابه الأرض، والعدل والإحسان الإمام، والخبث والطاغوت أعداءه، والصلاة دعاءه، والزكاة عطاءه، والحج القصد إليه. إن البنية النفسية لمجتمع الاضطهاد تنحو بالإنسان إلى التضخيم والتصوير للصراع بين الخير والشر، والحق والباطل، والعدل والظلم. ويظهر ذلك على مستوى القانون والتشريع، وهو ما يعاني مجتمع الاضطهاد منه.
15 (2-2) إسقاط التكاليف
وإذا كان العمل هو أداء الطاعات واجتناب النواهي، أي القيام بالتكاليف الشرعية، فإنها تسقط أو ترتفع أو تبطل نظرا للكفر بالشرائع الأرضية التي تقوم على الظلم وهضم الحقوق، وإحساس مجتمع الاضطهاد بأن الحق معه، وبأنه قد اتحد بالحق، أو بأن الحق قد حل فيه، وأنه قد أصبح هو والحق شيئا واحدا. تجسد الحق فيه وتجسد هو في الحق، إما أن يحل الله في الإنسان أو أن يرتفع الإنسان إلى الله، أو يغوص الإنسان في أعماق نفسه فيجد الحقائق دون الظواهر والأشكال. تسقط التكاليف إذن إما بالارتفاع إلى أعلى أو بالانخفاض إلى أسفل، أو بالدخول إلى الباطن ثم إعمال التأويل. ترتفع التكاليف عندما ينتقل الإنسان من مستواه الإنساني إلى مستوى البهيمية أو الملائكية، والجزاء في كليهما ثوابا أم عقابا؛ فالتكاليف مرتبطة بالوجود الإنساني بين الحيوان والملاك. وكما تؤدي نظرية الارتفاع إلى إسقاط التكاليف، كذلك تؤدي نظرية الحلول إلى إسقاط الشرائع حيث يقود الوعي إلى الإحساس بالرضا عن طريق رفع الروح وخفض الجسد؛ مما يؤدي إلى الإحساس بالتقوى والتطهر، وتصبح الأعمال متجهة نحو الداخل لا نحو الخارج، وهي أعمال تنقية الروح وتطهير البدن. التأليه إحساس بالكمال، وبأنه لا يوجد شيء يمكن عمله بعد أن وصل الإنسان إلى قمة الكمال. والعواطف في قمتها تمنع الفعل. وإن تضخم العالم الباطني من خيال وانفعال يجعل كل عمل خارجي لا قيمة له، كما يساعد الإحساس بالكمال على التبرير لكل فعل بعد أن أصبح الفعل مشرعا من أعلى ومضمونا من القمة. ولما احتاجت هذه الأعمال إلى رموز بدلا عن الشرائع، وطلبا للإيحاء والإقناع وإظهار النفس والدعوة أمام الناس، زاد الزخرف، وازدحمت الزينات، وكثرت الطقوس والألوان، وظهرت «الأشياء» المقدسة بالصورة والصوت، كالسجاد والحناء والخواتم والنعال، وكثرت مظاهر البدن مثل العمش في العين من طول البكاء، وأصوات النحيب، وتأوهات الروح. تحولت الشعائر إلى طقوس شبيهة بطقوس الديانات القديمة واليهودية والنصرانية، حتى يعيش الإنسان في عالم من الرموز والاحتفالات. تؤدي الاتجاهات الباطنية إلى إسقاط الشرائع لأنها تحويل للخارج إلى الداخل، وللقانون إلى عاطفة، وللواقع إلى خيال. ويخاطب الباطني الناس مؤثرا فيهم بطرق الإيحاء حتى يستدرجهم إلى إسقاط الشرائع. يوجه صاحب العبادة إلى معانيها حتى يقضي على العمل بالمعرفة، ويدفع الباحث عن اللذة إلى الشك في الدين، ويدفع الشك في الدين إلى إنكار المعاد حتى تسقط الشرائع؛ فإذا ما ارتبطت الشرائع بأصول غيبية سهلت زعزعة هذا الأصل؛ فإذا ما قامت على علل الأحكام فإن معرفة العلل تكون كافية دون إتمام الشعائر؛ لذلك حرم أهل الظاهر التعليل حتى لا ينتهي العقل إلى القضاء على الشعائر محتجا بالتعليل؛ فإذا ما كانت الشعائر تعبيرا عن الطبيعة فالأولى الإتيان بأفعال الطبيعة كبديل عن الشعائر وتأصيل لها. وعلى أحسن الأحوال تكون الفرائض نوافل. يكفي شكر المنعم عليها نظرا لغناء الرب عن خلقه. من شاء قام بها، ومن شاء لم يقم، والأمر متروك لاختيار الإنسان وحريته.
16
وقد يكون العمل هو الطريق إلى النظر وليس العكس؛ فالعمل وسيلة، والنظر غاية. ويتجه النظر نحو شخص الله، ولا يكون أساسا للعمل؛ فالعمل أساس النظر. ويصل الأمر إلى رفع الإنسان إلى رتبة أعلى من الإنسانية، وأعلى من الملائكة والأنبياء والصالحين والمقربين؛ فالخلل في العمل إما أن يهبط بالإنسان إلى مستوى البهيمية، وإما أن يرفعه إلى مستوى الملائكة. الإنسان وسط بين الحيوان والملاك، وحركة بين اتجاهي الخفض والرفع، السفل والعلو، الأدنى والأعلى. في هذه الحالة تسقط التكاليف، ويصبح الله مطيعا للعبد، وليس العبد مطيعا لله؛ لأن للعبد الأولوية في الفعل على فعل الله، وكلما زاد فعل الإنسان قويت رؤيته لله؛ فالله يرى قدر الأعمال، والله يفرح بأفعال عباده، ويغتم ببعدهم عنه؛ فالله معبود بعبادة الناس له، ولم يكن كذلك قبل خلقه لهم؛ فوجود المعبود مشروط بوجود العابدين وبعبادتهم له. وإن لم تسقط الشرائع فإنها تتحول من كم إلى كيف، وترتبط بالحالة الشعورية للإنسان، وتختلف باختلاف الأفراد ومراتبهم الشعورية. من وصل إلى مرتبة المعرفة سقطت عنه الشرائع؛ فبين الحبيب والحبيب لا يوجد حجاب أو قانون.
17
والحقيقة أن إسقاط الشرائع ليس أثرا من الديانات الخارجية، مانوية أو غيرها، بل تعبير عن الكفر بكل الشرائع الأرضية التي وحدت بينها وبين الشرائع السماوية ظلما وعدوانا من أجل تقويض النظم القائمة، وإقامة شرعية أخرى تأخذ حقوق المضطهدين. (2-3) إباحة المحرمات
وإباحة المحرمات نتيجة طبيعية للكفر بالشرائع والقوانين وإسقاط التكاليف التي استعملتها السلطة اللاشرعية القائمة لتكبيل المعارضة وفرض الطاعة بالقوة. وإباحة المحرمات أكثر دلالة من تحريم الحلال؛ فالتحرر من القانون إحدى وسائل التحرر من المجتمع. وتتمثل إباحة المحرمات في ميدانين؛ الطعام والنكاح. ففي الطعام إباحة الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر، وفي النكاح إباحة الزنا واللواط والمتعة الحرام. ويهدف ذلك كله إلى إطلاق قوى الطبيعة الحبيسة تحت القهر، وتقوية المجتمعات السرية والروابط المشتركة حيث يشيع كل شيء؛ النساء والأموال. والميسر أيضا مباح ضد قوانين السلطة نقضا لها، وإعلانا أمام النفس عن عدم الاعتراف بشرعيتها، ثم تأخذ النفس شرعيتها من ذاتها، وتصبح أفعالها مقياس شرعيتها فتبيح كل شيء؛ رد فعل على القهر. وإن التحرر في القهر الاجتماعي يبدأ من التحرر من القهر الفردي، وإن التحرر من القانون شرط للتحرر من السلطة. إن التحرر من الخارج لا يتم إلا بعد التحرر من الداخل، بل جهاد الأعداء لا يبدأ إلا بعد جهاد النفس، يليه جهاد الغاصبين. إن إنكار الذات يولد رد فعل عكسي وهو إثبات الذات، كما يولد التحريم الإباحة؛ وبالتالي يصبح الإنسان أولى بابنته الحسناء وأخته الهيفاء. وإذا ما استند التحريم إلى التخويف بالمجهول والإيمان باللامعقول، قامت الإباحة على التحرر من هذا الخوف من المجهول، وعلى عقل كل شيء مادي خارج العالم؛ فطالما استعمل الغيب للسيطرة على الناس؛ وبالتالي يكون إنكار الغيب مقدمة لتحريرهم. كما أن كراهية المجتمع الغاصب تؤدي إلى التحريم من الزواج منه؛ فلا يتم زواج إلا من داخل المجتمع المضطهد، زواج الأقرباء، داخل مجتمع الإيمان في مواجهة مجتمع الكفر. المؤمن لا ينكح إلا مؤمنة، والكافر لا ينكح إلا كافرة. ولما كانت الأثرة والأنانية من صفات الغير، فإن الشيوع يكون من ممارسات الأنا؛ وبالتالي تنشأ المجتمعات المغلقة التي يباح فيها الجنس ويصبح على المشاع، عنادا ضد مجتمع الكفر، والاستئثار عندما يستحوذ الرجل على امرأة يمتلكها لنفسه ويمنعها غيره. تريد الجماعات المضطهدة الغياب عن الواقع الأليم، وتعيش في عالم التمني والأحلام، فتسقط الحدود رمز القهر، والتي يقوم الإمام الغاصب بتطبيقها، وتدعو إلى السكر والشراب معارضة له، ورفضا لقانونه، كما تفعل جماعات الصوفية؛ فلا فرق بين الهجرة إلى الداخل والهجرة إلى الخارج، بين الفرار إلى الله والفرار من الله!
18
لذلك قد تباح المحرمات من جماعات الصوفية قدر إباحتها من جماعات الاضطهاد؛ فبقدر ما تعيش جماعة الاضطهاد تحت القهر الاجتماعي تعيش جماعة الصوفية تحت القهر النفسي، كلاهما جماعتا معارضة، عاجزتان عن المقاومة، وكلاهما يتحدان بالحق عن طريق تمثله وتجسده. تبدأ جماعة الصوفية بالزهد، بالرياضة والمجاهدة، حتى تصل إلى حالة الفناء حيث تسقط التكاليف وتباح المحرمات؛ فإذا ما شافه الروحانيون الله ورأوه، وعاشوا في الجنان قبل الأوان، وجامعوا الحور العين، على الأرائك متكئين، يسعى إليهم الولدان المخلدون بأصناف الطعام والشراب، فما وجه التحريم وكل شيء قد تمت إباحته، ولم يعد هناك ستار ولا حجاب بين الحبيب والحبيب؟ وعلاقة الخلة، علاقة الخليل بالخليلة، ليست علاقة قانون وتحريم، بل علاقة اتحاد وإباحة.
19
من هذا التصور للعالم ينبثق نظام، وتخرج من هذه العقيدة شريعة تقوم على إلغاء الفروق ما دام التصور يقوم على الوحدة؟ وحدة الإنسان والله، وحدة الروح والطبيعة، وحدة الحياة والموت، وتمحي الفروق أيضا بين الحلال والحرام، وتنتهي درجات الوجود. وقد تنشأ الإباحة من حب الدنيا والالتذاذ بنعيمها إحساسا بالطبيعة وإشباعا لرغباتها. هكذا نشأ آدم في البداية؛ فميراثه بين أولاده بالسوية، مساواة طبيعية، فلماذا تحريم كل ذلك باسم الشريعة ثم الاتهام بالإباحة بالزندقة؟
20
وعلى عكس إباحة كل شيء يأتي تحريم كل شيء، وكلاهما واحد، تحليل المحرمات أو تحريم المحللات نكاية في القانون، في واضعيه أو القائمين عليه. وقد ينتقل الأمر من الإباحة إلى التحريم أو من التحريم إلى الإباحة في جدل دائري يعبر عن الرغبة في كسر القانون والتحرر منه؛ فالحلال المطلق والحرام المطلق كلاهما بديلان يتناوبان ولا وسط بينهما. البعد عن الدنيا من أجل الإقبال عليها، والإقبال على الدنيا من أجل البعد عنهما، والطرفان يلتقيان. هل التمتع بالدنيا تعويض عن فقدها، ولا حيلة للمقهور إلا الانغماس في اللذات، الخمور والنساء؟ هل الزهد في الدنيا تعويض عن الهزيمة فيها، وترك إرادي لما حرم منه بغية الحصول على أعظم منها في النهاية؟ وإذا ما تكالبت السلطة على الدنيا فإن المعارضة تتركها لهم، وإذا ما قمعت بمثل القهر فيها فإن مجتمع الاضطهاد يقلبها عليهم تعبيرا عن القدرة على الصمود، والتحكم في الإرادة، وترفعا على الخصوم.
21
ويظهر جدل التحليل والتحريم في قوانين الطعام؛ فكل ما تحلله السلطة تحرمه المعارضة، وكل ما تحرمه السلطة تحلله المعارضة. والتمايز في قوانين الطعام إثبات للخصوصية وتمايز عن الجماعة كما هو الحال عند اليهود. ويتداخل المقدس مع الدنيوي، ويتحول الطعام إلى محرم أو مقدس إذا ما ارتبط بشخص الإمام الشهيد إمعانا في الإغلاق وتعذيب الذات والتشدد في محاسبة النفس إذا ما استحال تغيير الواقع، أو استعدادا لمرحلة قادمة. وبينما يحرم البعض الماء بفلاة من الأرض لو وقعت فيه قطرة خمر، يحلل البعض الآخر الخمر نبيذ التمر لأن علة السكر غائبة فيه، الضد يولد الضد، إما تحريم الخمر كله في الجرار، أو تحريم قطرة منه من مياه البحار! يؤدي التطرف إلى عدم السوية في العالم، والانتقال من طرف إلى طرف، والضدان يجتمعان، اليأس من العالم أو احتضانه، الابتعاد عنه رغبة في التطهر منه أو الاغتراف منه والاتحاد به.
22
الحلال والحرام إذن في النهاية موقف اجتماعي صرف، قانون لتثبيت النظام الاجتماعي أو زعزعته، مجرد وظيفة اجتماعية طبقا لغاية الجماعة. (2-4) إيقاف الحدود
بعد إباحة المحرمات تسقط الحدود بالتبعية؛ فالحد عقاب على معصية، والمعاصي نفسها لم يعد لها وجود، وإسقاط الحدود تعني التحرر من قيد السلطة وشرع مجتمع القهر كمقدمة للتحرر السياسي. يسقط حد شارب الخمر حتى ينسى أزمته ويتجاوز هزيمته، ويقاوم عقاب القهر بإسقاط قانونه وعدم تطبيقه بالرغم من الإتيان بالأفعال التي تقع تحت طائلة القانون، خاصة ولو كان القانون نفسه نقطة ضعف في فقه السلطة الذي لم تجتمع عليه المدارس الفقهية وما زال موضوع خلاف. والعجيب أن التشدد السياسي مع السلطة يؤدي إلى لين أخلاقي مع النفس، وكأن الكفر بالعالم يولد طبيعيا إيمانا بالذات.
23
كما يسقط حد الرجم رفضا لتقييد حرية الإنسان الجنسية مرتين، مرة بينه وبين نفسه، ومرة بينه وبين الإمام المغتصب المطبق للحد. والكبت السياسي يولد حرية جنسية؛ فالضغط من الخارج إلى الداخل يتحول إلى تحرر الداخل إلى الداخل. أما الإمام العادل فله الحق في تطبيق الحد؛ فهو القادر على التمييز بين الإيمان والكفر، وهو المدافع عن الشرعية والمنصب لها. يطبق الحد من السلطة الشرعية، ويوقف من السلطة اللاشرعية، حاكمية الله في مواجهة حاكمية البشر.
24
وقد يقام حد القذف على قاذف المحصنات من النساء، ولا يقام على قاذف الرجل المحصن؛ فالقذف الأول أشد وأقصى من الثاني، المرأة عورة أكثر من الرجل، وهو ما يميز رؤية المجتمع المغلق.
25
وعلى الضد من ذلك يقام حد السرقة في الكثير وفي القليل، في الحرز وفي غير الحرز، كوسيلة لإحكام الانضباط في المجتمع المغلق.
26
يقابل إذن مجتمع الاضطهاد السري مجتمع الغلبة بالتسيب الخلقي، وقد يقابل مجتمع الاضطهاد العلني مجتمع الغلبة بالانضباط الاجتماعي.
27
وأخيرا لا ترد الأمانات إلى أهلها، بل تخفر الأمانة نظرا لعدم ولاء مجتمع الاضطهاد لمجتمع الغلبة. وقد يكون لذلك رصيد في الديانات السابقة في الأخلاق اليهودية التي تبيح لنفسها أخذ كل شيء وفعل كل شيء ضد الآخر، فليس عليهم في الأميين سبيل.
28 (2-5) تأويل العبادات
فإذا لم تنته الأحكام أو يسقط التكاليف أو تباح المحرمات أو توقف الحدود، تئول العبادات والمعاملات بحيث تكون أكثر اتساقا مع الظروف النفسية والأوضاع الاجتماعية لمجتمع الاضطهاد في مواجهة مجتمع الغلبة. التأويل ليس استنباطا موضوعيا لحكم من الآية، بل هو وضع الخاص الانفعالي فيها لإيجاد مبرر لها. وهو موقف هوى، وليس نموذجا عاما للفعل الإنساني كما هو الحال في أسباب النزول. التأويل إذن هو إيجاد الوقائع داخل الآية حسب الهوى. والهوى ليس فرديا فقط، بل هو تعبير عن موقف نفسي اجتماعي، سواء لمجتمع الاضطهاد أو مجتمع الغلبة، يتجه نحو الأعماق، ويكشف أبعاد الذهن، فيصبح مبررا للوضع النفسي والاجتماعي للمتأول. وكما تئول الأحكام إلى أشخاص وأكوان تئول الفرائض، مثل الطهارة والصلاة والزكاة والحج، بين الشدة واللين، الشدة زيادة في التعصب والتصلب تعذيبا للنفس، وتأكيدا لصلابتها في مجتمع مغلق في حاجة إلى تماسك داخلي في مواجهة مجتمع القهر، واللين رفقا مع النفس وتسامحا معها في عالم من القهر والظلم والطغيان؛ حتى تستريح النفس وتنعم بحريتها الداخلية إن استحالت ممارسة حريتها في الخارج؛ فالوضوء قد يكون غير واجب إذا تم بماء مغصوب، أسوة بعدم جواز الصلاة في الدار المغصوبة؛ فالغصب رؤية تتحدد العبادات من خلالها؛ لأنه هو البنية النفسية والاجتماعية لمجتمع المضطهد الذي تم اغتصاب السلطة منه في مجتمع الغلبة والقهر. وقد يؤدي تأويل العبادات إلى فهم معانيها وعللها، ثم تحوير صورها وإعادة صياغة أشكالها، خاصة في موضوعات صغيرة جانبية بعد أن يستعصي التعرض للموضوعات العامة التي أصبحت حكرا على مجتمع القهر. يتعرض وعي الجماعة المضطهدة إلى نقائض الوضوء، هل هو النوم مع الحدث أو النوم مضطجعا؟ المسح بالماء على ظهور الأقدام أو أسفلها ... إلخ. ويظهر التشدد في ضرورة الوضوء من قرقرة البطن، كما يظهر اللين في الاستحمام في الآبار التي نشرب منها، أي الشرب من ماء الاستحمام، وحدة الذات والموضوع كما هو الحال في النرجسية. فإذا ما تم عقل الأحكام يمكن إنكار المسح على الخفين باعتبار أن الوسخ في أسفل الخفين وليس في أعلاهما، حتى يظهر تعسف أحكام مجتمع القهر وشريعة الغلبة.
29
أما بالنسبة للصلاة فإنه لا يجوز أيضا الصلاة في الدار المغصوبة؛ لأن الفعل الواحد لا يكون طاعة ومعصية في الوقت نفسه، وتحرير الأرض سابق على طاعة الله فيها، وذلك في مجتمع يعاني من الاغتصاب، اغتصاب الشرعية والاستيلاء على السلطة، ولا فرق في ذلك بين العدو الخارجي والعدو الداخلي.
30
كما يختلف الأمر فيها أيضا بين اللين والشدة؛ ففي اللين لا تجب إعادة الصلاة على من تركها متعمدا، خاصة إذا كان قد فهم معناها، وتحقق بالحكمة منها، ووصل إلى غايتها. ولماذا الإسراع والجري إلى الصلاة إذا حان وقتها، فيتحول الناس إلى هرج ومرج وسباق وتزاحم؟ ولماذا المشي إلى الصلاة واختيار المساجد البعيدة سعيا في مزيد من الثواب وكأن الأمر تجارة ومكسب؟ قد تكفي الواجبات دون النوافل، والحد الأدنى دون الحد الأعلى. يكفي الواجب دون المندوب، والامتناع عن المحرم دون المكروه، أقل القليل من الفرائض لإفساح المجال إلى المعارف. وقد يكون اللين من حيث الكم، فلا صلاة واجبة إلا ركعة بالغداة وركعة بالعشي، أو ركعتان بالغداة وركعتان بالعشي. كما يمكن الجمع بين صلاتي الظهر والعصر في أول الزوال، والمغرب والعشاء في جوف الليل. وفي صلاة المسافر تكبيرتان دون ركوع أو سجود أو قيام أو قعود أو تشهد أو سلام. وتصح الصلاة في ثوب كله نجس على أرض نجسة ومع بدن ظاهر النجاسة؛ إذ يكفي الطهارة من الأحداث دون الأنجاس. والتحرر من نجاسة البدن أسهل من التحرر من نجاسة المجتمع وشرعه ونظمه التي تقوم على القهر والغلبة. ويكفي دفن الميت بعد كفنه دون غسله والصلاة عليه؛ فهما سنتان غير مفروضتين. كما تجوز الصلاة بلا نية، يكفي نية الإسلام منذ البداية.
31
وقد يظهر التشدد والانتقال من الأخف إلى الأثقل حرصا على تماسك الجماعة الداخلي، وأخذا بالشدة دون اللين، خاصة في مجتمع الأقلية المغلق؛ فتكون الصلاة سبع عشرة مرة أو تسع عشرة مرة في اليوم والليلة. واقل الصلاة خمس عشرة ركعة! وقد تكون الصلاة خمسين مرة كل يوم وليلة، وفي كل مرة خمس عشرة ركعة كذلك.
32
فالنقيض يولد النقيض، والضد يحيل إلى الضد، وكأن القهر يأخذ صورتين؛ الأولى اللين والتخفف مع النفس، إذ يكفي قهر المجتمع؛ والثانية الشدة والتصلب، تقوية للنفس لمقاومة قهر المجتمع.
33
وقد تئول الشريعة تأويلا عقليا باردا، وكأن الأمر مجرد حساب ما دام العقل قادرا على فهم عللها واستنباط أحكامها؛ حتى لا يتحكم أحد في السلوك بالنقل اعتمادا على السلطة بعد الكفر بكل سلطة. وفي هذه الحالة قد تكون الصلاة صحيحة في أولها، باطلة في آخرها. تكون صحيحة إذا كانت موصولة، وباطلة إذا كانت مقطوعة.
34
هذان التياران اللين والشدة في باقي الأركان، الزكاة والصوم والحج؛ فتكفي نية الإسلام في الصوم والحج دون نيات خاصة في كل فعل، ويكفي الحج دون وقوف أو طواف أو سعي.
35
ولكن تظل القضية الكبرى هي: هل تجوز الصلاة خلف الفاسق؟ وهنا يظهر التياران نفساهما؛ تيار اللين الذي يجوز ذلك، وتيار الشدة الذي يحرمه. وكل تيار في الحقيقة موقف سياسي؛ فالجواز إنما يعني قبول شرعية الإمام الظالم القاهر، وبالتالي جواز الطاعة له، في حين أن التحريم إنما هو رفض لهذه الشرعية، ورفض لطاعة الإمام الظالم؛ لذلك قالت فرقة السلطة بالجواز بينما قالت فرقة المعارضة بالتحريم. وقد تتم الصلاة خلف الإمام الفاسق تقية، ولكن لا عن اقتناع. وفي هذه الحالة تجب إعادة الصلاة حتى تصح خلف الإمام العادل. ونظرا لأهمية إمامة الصلاة، فإذا جازت الصلاة خلف الإمام الفاسق فإنها لا تجوز في صلاتي الجمعة والعيدين؛ نظرا لأن خطبتي الجمعة والعيدين ركنان من أركان الصلاة؛ فالفسق في العمل لا بد وأن يظهر في القول. وهنا تضيع الإمامة باعتبارها نصحا وقيادة للأمة.
36
وقد يصل الأمر إلى إيقاف صلاة الجمعة حتى يظهر الإمام العادل؛ وبالتالي تتحول إمامة الصلاة وجواز الصلاة خلف الإمام الفاسق إلى رمز للصراع السياسي بين الخصوم السياسيين. كل فرقة تفسق خصمها وتحرم الصلاة خلفه، أو تقول بضرورة الإعادة. ولا يوجد فاسق مطلق تتفق عليه الفرق جميعا.
37
وما يقال في الصلاة يقال في باقي الأحكام، مثل الزكاة والحج والجهاد؛ لأنه من الأقضية والحدود.
38 (2-6) تغيير المعاملات
ولا يكفي تأويل العمل الفردي، أي العبادات، بل يتم التأويل أيضا للعمل الجماعي، أي المعاملات. فإذا كانت العبادات أعمالا فردية مركزة غايتها الحصول على مضمونها، فإنها يمكن أن تتحقق للإنسان بعدة أفعال أخرى في المعاملات، ولكن على نحو أطول. يشمل العمل إذن الفردي والجماعي، العبادات والمعاملات. وهي تفرقة تقوم على تصور للإنسان وكأنه يعيش بين عالمين في وقت واحد، العالم العلوي وعالم الآخرين، العالم المجرد وعالم الناس، مرة في خط عمودي وأخرى في خط دائري، مرة في بعد رأسي وأخرى في بعد أفقي. وتتراوح المعاملات بين الأحوال الشخصية، أي علاقات الزواج والطلاق؛ والعلاقات المالية، أي قسمة الأموال وتوزيعها؛ والعلاقات الاجتماعية، أي الولاية والعداوة ابتداء من الشهادة الفردية حتى علاقات الحرب وأسباب القتال. والمعاملات الشخصية هي لب المعاملات، والذي تتحد فيه علاقة الفرد بالآخر، الرجل بالمرأة من أجل تكوين البذرة الأولى للجماعة، وهي الأسرة، والتي فيها يتكون الأطفال، والتي تكون مركز الأسرة الكبيرة، وهي القبيلة. والقضية الكبرى هي: هل يجوز نكاح المسلم لمسلم آخر ليس من المذهب نفسه؛ أي الفرقة؟ فلم تعد الفرقة وحدها سببا في السؤال حول شرعية إمامة الصلاة، بل أيضا حول شرعية الزواج؛ فالمجتمع المغلق يحرص على تقوية بنيته الداخلية والعلاقات الوثيقة بين أعضائه. يحرم زواج المؤمنة من مسلم آخر ينتسب إلى المجتمع المفتوح، وهو مجتمع الغلبة والقهر، حتى لا يتميع النظام ويظل التضاد قائما بين المجتمعين؛ فالاتفاق العقائدي وليس الاتفاق في الدم والنسب هو أساس القرابة، في حين أن مجتمع القهر والغلبة يبيح زواج المسلمة من المسلم بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف العقائدي لما كان هو المجتمع الأقوى، ولا يخشى من انفتاحه على الآخرين، بل إن من صالحه التزاوج والتصاهر بينه وبين الفرق المعارضة حتى يخترقها فتنكسر المعارضة، وتقوى روابط النسب والمصاهرة. وعلى أقصى تقدير، يمكن للمؤمنة الزواج من مسلم مخالف في المذهب في دار التقية وحدها، وليس في دار الإعلان، حماية لمجتمع الاضطهاد حتى تقوى شوكته فيحافظ على التضاد في النسب.
39
وعندما يستحكم العناد، يتحول نظام القرابة إلى سلاح سياسي، كل فرقة تحمي عقيدتها كأساس لوحدة مجتمعها، وتحرم الزواج من الفرقة الأخرى؛ أي الجماعة السياسية المعارضة، بل ويقوم مجتمع القهر والغلبة بإشهار هذا السلاح لحصار جماعات المعارضة، ورفضهم ودفعهم خارج المجتمع كمنبوذين أو خوارج عليه.
40
ولا ينطبق ذلك على الزواج وحده، بل أيضا على كل الذبائح والوراثة والصلاة وسائر الحقوق المدنية. ويتعدى ذلك إلى موالاة الأطفال وبيع الدماء وتزويج الصغار وضرورة الشهود والعقود أو عدم ضرورتها.
41
وكيف يمكن إثبات شهود وعقود، والشهود شهود زور، والعقود عقود قهر وغلبة؟ تكفي لذلك شهادة الكرام الكاتبين الذين لا يشهدون الزور مثل شهود كل عصر، وتكفي عقود القلب والنية التي لا قهر فيها ولا غلبة. التزويج بلا ولي؛ فالولي قد خان الأمانة، وبلا شهود؛ فقد شهدوا زورا، وبلا صداق؛ فما أكثر الرشوة! وإذا ما تم بيع إماء المخالفين فإن ذلك يكون نكاية فيهم، وإضعافا لهم، ونوعا من الحرب عليهم. وإذا سبيت نساء المخالفين فإذن ذلك نوع من الإذلال لهم وإضعافهم والقضاء على شوكتهم. وإن تزويج الصغار يكون بمثابة تربية لمجتمع الاضطهاد على الشدة منذ البداية، وإثبات الرجولة المبكرة، ورغبة في التكاثر. كل ذلك إنما يرجع إلى النظرة إلى المخالف؛ هل هو كافر أم غير كافر؟ فلو كان كافرا ظهر التضاد بين مجتمع الاضطهاد ومجتمع الغلبة، ولو كان مؤمنا نشأت علاقة بين المجتمع المغلق والمجتمع المفتوح. والواقع أن كل ذلك إنما نشأ في واقع اجتماعي معين فرض قوانينه وشرائعه، وعبر عن طبيعة الصراع السياسي فيه من خلال فقه الفرق، ولا شأن له بالعقائد إلا من حيث التبرير والشرعية ما دام الفقه فقها دينيا، عبادات ومعاملات. ولا يظهر هنا الخلاف في الفروع في فقه مجتمع الغلبة؛ لأنه بغير ذي دلالة، خلاف جزئي أسري داخل المجتمع القاهر، إنما يظهر الخلاف في فقه الفرق بين مجتمع الغلبة ومجتمع الاضطهاد.
ولا يتعلق الأمر فحسب بنظام القرابة، بل بمؤسسة الزواج كلها؛ فيجوز الزواج من تسعة حاصل جمع اثنين وثلاثة وأربعة كنوع من التحرر من التفسير الأحادي للقانون الذي يعطيه مجتمع الغلبة. وإن إباحة تعدد الزوجات إلى تسعة إنما يكشف عن رغبة في تفجير الطاقات المكبوتة، وهدم شرائع المجتمع، والعيش في عالم من الخيال والمتعة الحسية تعويضا عن ضياع العالم، وخلق مجتمع صغير يحكم الإنسان فيه، وهو مجتمع النساء ودولته الصغيرة بعد أن غاب منه المجتمع الخارجي والدولة الكبيرة. وفي النهاية ما الفرق بين تعدد الزوجات والإماء والسبايا وما ملكت اليمين؟ ألا يدل ذلك كله على حريات جنسية عامة، والفرق فقط بين هذه النظم في الصيغ التشريعية وليس في المضمون، مجرد فرق في الدرجة وليس فرقا في النوع؟
42
وقد يتسع الأمر أكثر فأكثر حتى تحليل زواج المتعة. وإباحة نكاح المتعة إنما يقوم للسبب نفسه؛ تفريجا عن الهم، وإغراقا في الدنيا، ونسيانا للحق الضائع، وانغماسا في شيء بعد ضياع كل شيء. وقد يحل نكاح المتعة بناء على تأويل نص أو اجتهاد عقلي، وليس كرد فعل نفسي على مجتمع القهر، فهل تقع الممارسة بناء على الجواز النظري؟ وقد يأتي رفض نكاح المتعة من مجتمع القهر حتى يظل مجتمع الاضطهاد محكوما بقانون دون التمتع بحرية، حتى ولو كانت في نطاق الجنس. يبدو أن مجتمع الاضطهاد يفرض واقعه على شرعه كما هو الحال عند الجنود القائمين والطلاب المغتربين، إقرارا لواقع إن لم يكن تقنينا لشرع،
43
بل ويصل الأمر إلى نكاح المحارم، نكاح بنات البنين وبنات البنات وبنات الإخوة وبنات بني الإخوة؛ إذ تنتهي جماعات الرفض بالتقوقع على الذات، وتكوين جماعة مغلقة تترابط فيما بينهما دما وبدنا؛ وبالتالي يحل الزواج من المحارم.
44
كما يجوز اللواط وتفخيذ الرجال ما دام القصد هو المتعة بصرف النظر عن الجنس، كصورة للترابط الاجتماعي والتكوين المتماسك، لحما بلحم. والجنس قوة محركة ودافع اجتماعي للتماسك.
45
ولا يجوز الظهار كناية أو الطلاق كناية، كما لا يجوز التطليق ثلاثا من أجل التماسك الاجتماعي.
46
أما بالنسبة للعلاقات الاقتصادية، الأموال والمكاسب والمواريث، فإن طبيعة مجتمع الاضطهاد تجعله أقرب إلى مجتمع العدل والمساواة والملكية العامة والشيوع، ضد مجتمع القهر الذي يغلب عليه التفاوت في الدخول والاقتصاد الحر والملكية الفردية والميراث؛ فالأموال بالتساوي بين الأسياد والعبيد من الزكاة، أن يعطي السيد العبد، أو أن يعطي العبد السيد. وتؤدى الزكاة حتى عما سقي من العيون والأنهار الجارية. وتقسم الأموال بين الأغنياء والفقراء حتى لا يوجد في مجتمع الاضطهاد ذو حاجة، ويصل الإحساس بالمساواة إلى حد اقتسام ركوب فرس أو لبس عمامة! وكذلك تعم المساواة في قسمة الغنائم وتوزيع سهام الصدقات؛ فمجتمع الاضطهاد أول من يشعر بالظلم الاجتماعي ويحقق المساواة؛
47
فإذا ما ضاع أمل المساواة فإن ذلك يرجع إلى رغبة كل رئيس في التكبر والاستكثار أسوة بالحاكم الظالم؛ فيلعب دور الظالم وهو المظلوم مثل رئيس الفقراء، ورئيس المظلومين، ورئيس العسكر، والكل منهوب من الرئيس الأعظم. وقد أدى التشرذم والتكفير المتبادل إلى انكسار جماعة الاضطهاد إلى عدة جماعات حتى سهل القضاء عليها من مجتمع الغلبة. ولا يجوز إجراء بيع أو شراء إلا بعد معرفة هل المال حلال أو حرام، كما لا يجوز استعمال أي شيء حتى ولو سكينا لذبح شاة قبل معرفة هل السكين مغتصبة أم غير مغتصبة، ولا يجوز التصدق أو الزكاة أو الحج بمال حرام، وإلا بطلت الأفعال.
48
ولما كان مجتمع القهر والغلبة مجتمعا تجاريا يقوم على الاقتصاد الحر والنشاط التجاري الخاص، فإنه يتهم مجتمع الاضطهاد بالتكامل والتوكل. أما مجتمع الاضطهاد فإنه يحرم البيع والشراء في مجتمع كله ظلم وسلب، وغصب ورشوة. يكفي الإنسان قوت يومه، وما زاد يتفضل به غيره. لا يسأل أحد الناس إلا مضطرا.
49
وإذا كان مجتمع القهر والغلبة يسمح بالميراث لأنه يسمح بالملكية الفردية. الميراث إذن لا يجوز لأنه أخذ أموال بغير حق. إلغاء الميراث إثبات لتكافؤ الفرص، وإثبات للمساواة، ووضع للعمل كمقياس للجهد وكمصدر وحيد للقيمة والاستحقاق. ومع ذلك يمنع مجتمع الغلبة توريث أهل الأهواء من ميراثهم، بغية حصارهم الاجتماعي وعزلهم السياسي.
50
ثم تأتي العلاقات الاجتماعية والسياسية العامة التي تحدد رؤية الإنسان لنفسه ولعلاقاته بالآخرين؛ فقد يشهد كل فريق على نفسه بأنه من أهل الجنة، ومخالفه من أهل النار؛ وأنه هو الناجي، وخصمه هو الهالك، كما هو الحال في الأخلاق اليهودية. إذا شهد مجتمع الغلبة ذلك على نفسه فلأنه هو السلطة والشرعية وحامي الإيمان والديار، وإذا ما شهد مجتمع الاضطهاد ذلك على نفسه فلأنه مجتمع الحق الضائع والعدل المهضوم. الأول يقرر واقعا، والثاني يعوض بالخيال. وفي هذه الحالة يجيز مجتمع الاضطهاد شهادة الزور على مخالفيهم لأنهم أهل زور وبهتان، ولا يفل الحديد إلا الحديد. ولا تقبل شهادة مخالفيهم إلا بعد معرفة كيفية الشهادة وتفسيرها؛ فلربما يكون الشاهد شاهد زور ليس في الواقعة الخاصة، بل في الوقائع العامة، لا من حيث هو كائن فردي، بل من حيث هو كائن اجتماعي. وكرد فعل مضاد لم يقبل مجتمع القهر والغلبة شهادة أهل الأهواء، أي فرق المعارضة، رفضا برفض حتى يزيد حصارهم الاجتماعي وعزلهم عن المجتمع.
51
ثم تتحول الشهادة على النفس ضد الآخر إلى ولاية النفس والبراءة من الآخر. فإذا برئت جماعة الاضطهاد من مجتمع القهر والغلبة فإنها تتولى أصحاب الحدود من موافقيها حرصا على وحدة الجماعة وعذرا لها، وإلا وقعت الجماعة في التشرذم والتفتت إلى ما لا نهاية. وهو ما يحاوله مجتمع القهر والغلبة كذلك من أجل تثبيت إيمان الحكام وأقوالهم، وإخراج أفعالهم من أسوأ الأحوال، أو حفاظا على وحدة الأمة أيضا وحقنا للدماء في أحسن الأحوال.
52
وقد تتجاوز العلاقات الاجتماعية من البراءة والولاية إلى علاقات الحرب والسلام. وبطبيعة الحال يحدد مجتمع الاضطهاد علاقته بمجتمع الغلبة على أساس من المقاومة والحرب؛ فأهل الغلبة كفار وليسوا بمشركين، تحل غنيمة سلاحهم عند الحرب دون سبيهم وقتلهم في السر، إلا من اعتنق الشرك ودعا إليه. وقد يباح قتلهم وسبيهم علنا، وسلاحهم غنيمة، ولكن يرد إليهم الذهب والفضة، فهم أعداء سلاح، دارهم دار إسلام إلا معسكر السلطان؛ أي المحاربين منهم.
53
أما مجتمع الغلبة والقهر فإنه يجعل الجهاد مع الأعداء في الخارج هو الأساس، وليس في الداخل، ما دامت طاعة الداخل لهم واجبة، والخروج عليهم بالسيف حرام شرعا، فتنة تضعف الأمة من الداخل وتشقها؛ وبالتالي لا تقوى على مقاومة الأعداء في الخارج. قد يكون ذلك سوء نية لحصار المعارضة والقضاء عليها، وقد يكون حسن نية كطريق إلى الوحدة الوطنية.
54
سادسا: مرتكب الكبيرة
إن عرض الاحتمالات السابقة في العلاقات الثنائية أو الثلاثية لكل من المعرفة والتصديق والإقرار والعمل في مقابل الاحتمال الرابع والأخير، يضع مسألة الفرق بين الواقع والمثال؛ فالاحتمالات الأولى واقعة في حين أن الاحتمال الأخير، أي وحدة الشعور في أبعاده الأربعة، مثال ممكن الوصول إليه. ويظل التقابل في الحالات الممكنة الأولى بين النظر الذي يشمل المعرفة والتصديق والعمل الذي يشمل الإقرار والفعل. فإذا ما حدث الفصم بين أيهما والشعور فإنه يحدث بين النظر والعمل، بين الداخل والخارج، وليس بين بعدي النظر الداخلي، المعرفة والتصديق، أو بين بعدي العمل الخارجي، الإقرار والفعل. الأول هو الخصم الرئيسي، في حين أن الثاني خصم فرعي. ولما كان الواقع هو الأساس فإن الفصم بين الداخل والخارج هو الاحتمال السائد، لدرجة أن الإيمان قد أطلق على الداخل دون الخارج، أي على النظر دون العمل، باستثناء لحظات الضيق والشدة وأوقات الغضب والتمرد حيث يأتي العمل مكملا للنظر، ويبدو النظر فارغا دون العمل، ويستصرخ الناس العمل ويدعون إليه. وهذه هي مسألة مرتكب الكبيرة التي هي لب موضوع النظر والعمل. هل يمكن أن توجد معرفة وتصديق دون إقرار وعمل؟ هل يمكن أن يوجد الداخل دون الخارج؟ هل يكون المؤمن مؤمنا لو كان لديه النظر دون العمل؟ وهل يمكن أن يكون للإنسان عمل دون نظر؟ هل هذه هي التفرقة المشهورة بين الإيمان الحي الذي يطابق فيه الإيمان العمل والإيمان الميت الذي هو مجرد إيمان لا يتخارج منه عمل؟ الإيمان القادر والإيمان العاجز، الإيمان بالفعل والإيمان بالقوة، الإيمان العملي والإيمان النظري؟
ولكن ماذا تعني الكبيرة؟ تتراوح التعريفات للكبيرة بين تعريف عقائدي ديني، أي كل ما دخل في العقاب وارتبط بالوعيد وله حد وتعريف أخلاقي، أي كل ما تم عقد العزم على فعله وارتبط بالوعيد وله حد أخلاقي، أي كل ما تم عقد العزم عليه دون توبة؛ وتعريف اجتماعي، أي كل ما أدى إلى المفاسد ومنع المصالح. الكبيرة هي كل ما دخل في الوعيد أو كل ما تعرض إلى عقاب وقابله حد. وهذا التعريف عقائدي خالص لا يبدأ من تحليل الفعل ذاته. ويلحق موضوع النظر والعمل بأمور المعاد. وإذا كانت الكبيرة كل معصية عن عمد وإصرار دونما استغفار أو توبة، وبالتالي تكون الصغيرة هي الفعل الذي يتم الاستغفار عنه والتوبة منه. وهذا التعريف يجعل الكبيرة ملحقة بنتائجها الأخلاقية في الفرد، وليس بنتائجها الفعلية وأثرها على الجماعة؛ لذلك قد تكون الكبيرة هي كل درء للمصالح وجلب للمفاسد؛ فالأفعال ليست فقط دينية شرعية أو أخلاقية فردية، بل هي أفعال اجتماعية تؤثر في حياة الناس، إما بدرء المفاسد أو بجلب المصالح. ولكن، هل الكبيرة والصغيرة اسمان إضافيان، كل منهما كبيرة أو صغيرة بالنسبة للأخرى؟ وبالتالي هناك سلم للأفعال، أعلاها الكبيرة على الإطلاق، وأدناها الصغيرة على الإطلاق؛ وبالتالي هناك درجات لدرء المفاسد وتحقيق المصالح. ولكن، هل هناك كبيرة على الإطلاق وصغيرة على الإطلاق؟ وهل الكبيرة على الإطلاق فعل نظري مثل الكفر أو فعل عملي؟ وما هي الصغيرة على الإطلاق؟
1
وهل يمكن حد الكبائر والصغائر كما؟ وما هي الكبائر؟ هل هي أفعال نظرية مثل الكفر والإلحاد، أو عملية مثل القتل والقذف والزنا والسرقة وشرب الخمر والفرار من الزحف وأكل مال اليتيم وعقوق الوالدين؟ إذا كان الكفر والإلحاد أفعالا نظرية ترتبط بتصورات الفرد بالنسبة لحقوق الله، فإن باقي الأفعال عملية ترتبط بمعاملات الفرد بالنسبة لحقوق الآخرين. الكبائر إذن هي التعدي على مقاصد الشريعة وأصولها وضروراتها، مثل الدين والنفس والعقل والعرض والمال. ليست الكبائر إذن مجرد أفعال فردية خاصة، مثل المحافظة على العقل (تحريم شرب الخمر) أو العرض (تحريم الزنا) أو المال (تحريم السرقة والربا)، بل هي الأفعال الفردية العامة، مثل البر بالوالدين واحترام الآخرين (تحريم القذف)، ويأتي في القمة الصمود أمام الأعداء وعدم الفرار من الزحف.
2
وليس المهم في الفعل القليل ذرا للرماد في العيون، بل الكثرة وعموم البلوى؛ لذلك هناك حد أدنى للسرقة دون حد أعلى، فليست السرقة درهما أو درهمين، بل مليون ومليونان، ومليار وملياران. ليست السرقة من الضعيف الذي يطبق عليه الحد، بل من الشريف الذي يطبق الحد على غيره ويتركه على نفسه.
3
ليس المهم هو طهارة النفس في القليل وجشعها في الكثير، أو طهارة النفس أمام الآخر في العلن وطمعها أمام الذات في السر.
4 (1) هل مرتكب الكبيرة مؤمن أو كافر أو فاسق منافق؟
والحقيقة أن هناك ثلاثة احتمالات؛ إما أن يكون مرتكب الكبيرة مؤمنا لا يؤثر نقص العمل على النظر في إيمانه شيئا، أو كافرا ما دام عمله خرج عن إيمانه، أو فاسقا ومنافقا؛ أي مؤمنا على مستوى النظر وكافرا على مستوى العمل؛ وبالتالي فهو ليس مؤمنا ولا كافرا، أو هو مؤمن وكافر؛ وبالتالي تتراوح الحلول الثلاثة بين طرفين ووسط، بين نقيضين ومحاولة للجمع بينهما. والتوسط بين الطرفين ليس بدافع التوفيق، ولكنه موقف نظري أصيل نظرا للنقص النظري في الموقفين الأولين. إن الموقف الثالث ليس خروجا على إجماع الأمة؛ فلم تكن الأمة مجمعة على رأي واحد بدليل وجود رأين متعارضين. كانت الأمة منقسمة على نفسها؛ وبالتالي يكون الرأي الثالث أقرب إلى توحيد الأمة منه إلى موقف الوسط بدافع من التلفيق النظري . إن رفض الرأي الثالث هو رغبة في استمرار الشقاق في الأمة وتقاتل الفريقين فيها؛ وبالتالي فهو رفض سياسي، إما من موقف مجتمع الغلبة والقهر الذي يريد إخراج العمل من الإيمان حتى لا تحاكم السلطة على أفعالها، أو من مجتمع الاضطهاد الذي يريد إدخال العمل في الإيمان من أجل محاكمة السلطة على أفعالها. فإذا كان الرأي الأول يهدف إلى حصار المعارضة، وجعل أفعالها سياسية صرفة لا شأن لها بالإيمان، فإن رأي المعارضة يهدف إلى إحياء إيمان الناس، واستنفار أفعالهم كتعبير وحيد عن الإيمان، حتى تعبئ الأمة ضد السلطة الجائرة. الرأي الثالث إذن ليس مجرد حدث تاريخي أو واقعة سجال، بل لها مدلولها النظري والعملي بعيدا عن التوفيق الخارجي والسطحية المتميعة التي تهدف إلى إبقاء الوضع القائم أكثر مما تهدف إلى تغييره.
5 (1-1) هل مرتكب الكبيرة مؤمن؟
إذا أمكن فصل العمل عن الإيمان يكون مرتكب الكبيرة مؤمنا؛ فالكبيرة لا تخرج الإنسان عن الإيمان ولا تدخله في الكفر. هو مؤمن بمعرفته وتصديقه وإن كان فاسقا بعمله. ويصل الأمر إلى حد أنه لا فرق بين المؤمن بقلبه والمؤمن بعمله. الفسق إذن أو العصيان هو انفصال العمل عن النظر، والقيام بفعل معارض للأساس النظري، إما لضعف الوجدان أو لعدم تحول الفكر إلى تجربة معيشة، وإما لأن الواقع كان أطغى وأقوى من الموقف الشعوري، فاق الشعور ببواعث منه قائمة على الهوى أو المصلحة. ويمكن إدخال الزمن والفعل لجعله مؤمنا وفاسقا، مؤمنا قبل الفعل وفاسقا بعد الفعل، مؤمنا نظرا وفاسقا عملا، وكأن الفعل له مراحل، قبل التحقيق وبعد التحقيق، ويتغير الحكم طبقا للمرحلة؛
6
فالعمل يرجأ على الإيمان، قد يتحقق منه وقد لا يتحقق، وكأن الإيمان موجود بذاته لا يحتاج في وجوده إلى غيره. لا يأتي الإرجاء من الرجاء لأنه لا تضر مع الإيمان معصية، ولا تنفع مع الكفر طاعة؛ لأن هذا يأس للمؤمن وللكافر معا، وإيهام للمؤمن بأنه كذلك دون عمل، وإيهام للكافر أنه كذلك حتى ولو كان له عمل. قد يعني الإرجاء تأجيل الحكم على الإنسان مؤمنا أو كافرا إلى يوم القيامة، وفي هذه الحالة يكون الإرجاء عكس الوعيدية وعلى النقيض منه، ولكنه يكون إحالة لموضوع النظر والعمل إلى موضوع المعاد؛ وبالتالي إلغاء لمشكلة الفعل؛ أي ارتباط النظر بالعمل. إن تأجيل الحكم إلى يوم القيامة يعني عدم التفتيش في ضمائر الناس، ولكن لا يعني إثبات الفصل بين النظر والعمل، بين الإيمان والأعمال. إن الإرجاء تعطيل للوعيد وخرق لقانون الاستحقاق.
7
وإن حجج الإرجاء يسهل الرد عليها بحجج مقابلة؛ فإذا كانت الصلاة خارجة عن الإيمان فإن العمل الصالح ليس كذلك، وإذا كان من يفسد صلاته لا يفسد إيمانه فإنه يلبس إيمانه بظلم، وإذا كان المؤمن اسما لله وليس فعلا فإنه اسم يكون مقياسا لسلوك الإنسان وقدوة له، وإذا كان العمل الصالح معطوفا على الإيمان فإن الإيمان بقدر ما يفيد التمايز يفيد الاقتران.
8
وإن فسق المؤمن فإنه لا يسمى فاسقا على الإطلاق كحكم عام، ولكن يطلق عليه هذا الحكم في فعل واحد خاص، ويظل الإيمان هو الحكم العام، القاعدة التي خرقها الاستثناء.
9
والعجيب هو أخذ هذا الموقف من اتجاهات مخالفة في التوحيد، سواء كان التجسيم أو التشبيه أو التنزيه؛ مما يوحي بأن اعتبار مرتكب الكبيرة مؤمنا ليس موقفا عقائديا بقدر ما هو موقف سياسي.
10
فإذا كان من السلطة عن سوء نية فإنه يهدف إلى تبرئة الحكام، وعدم الحكم على أفعالهم، وحصر المعارضة، واعتبار أفعالها شغبا سياسيا، صراعا على السلطة لا صلة لها بالإيمان؛ وإن كان من الفقهاء عن حسن نية فإنه يهدف إلى توحيد الأمة بدل الاقتتال حرصا على وحدتها؛
11
وبالتالي يصبح السؤال: هل يهدف هذا الموقف إلى تبرير أفعال الحكام، أم أنه يعبر عن الرحمة في الدنيا من أجل إنقاذ عامة الناس؟ ومع ذلك يظل الإشكال قائما: من الكافر إذن إذا لم يكن العمل جزءا من الإيمان وكان الجميع مؤمنين؟ وماذا عن صاحب العمل الصالح وليس مؤمنا، لا عارفا ولا مصدقا؟ إن الأمر أقل من العقائد، ولكنه في الوقت نفسه أكثر من اللغة، مجرد أسماء اصطلاحية، ولكنه أقرب إلى الفعل الأخلاقي بالنسبة للفرد، أو الجماعي بالنسبة للجماعة. يستعمل إما لتبرئة الحكام أو تجريح القادة، لتثبيط الجماهير أو لتعبئتها. ويحدد ذلك الموقع من السلطة، سلطة النظام القائم أو سلطة المعارضة.
12 (1-2) هل مرتكب الكبيرة كافر؟
وعلى النقيض ممن جعل مرتكب الكبيرة مؤمنا، هل يمكن أن يكون كافرا؟ فالكبيرة كفر ما دامت خروجا على النظر، وما دام العمل جزءا لا يتجزأ من الإيمان. العمل جوهر الإيمان ومنتهاه، مادته وغايته. وإن الكبيرة ليست فقط خروجا على النظر، بل قد تكون عملا معارضا له في جوهره، ليس فقط بسبب سوء الفهم أو التطبيق كما هو الحال في الصغيرة. الكبيرة هي العمل المضاد للنظر عن وعي ودراية وقصد وتعمد وسبق إصرار. ولا فرق في ذلك بين كبيرة وصغيرة، ولا فرق بين مرات عديدة ومرة واحدة، ولا فرق بين معاص كثيرة أو واحدة.
13
وقد يزيد مرتكب الكبيرة من مجرد كافر إلى مشرك، وكأنه عابد وثن! لهذا الحد بلغ تقديس العمل واعتباره جوهر الإيمان. يصل الأمر بارتكاب الكبيرة إلى أن يكون شركا، ومع ذلك السماح بالصغيرة ألا تكون كفرا. وكأن الزيادة في الكبيرة تؤدي إلى نقص في الصغيرة. والشرك مثل الكفر يوجب القتل، كل ذنب كفر، وكل كفر شرك، وكل شرك يوجب القتل! كل شرك عبادة للشيطان؛ لأن الشرك شركان؛ شرك عبادة للشيطان، وشرك عبادة للأوثان. والكفر كفران؛ كفر بالنعمة، وكفر بالربوبية. وارتكاب الكبيرة شرك لأنه عبادة للشيطان، وكفر لأنه كفر بالنعمة. ولا فرق في ذلك أيضا بين بالغ وطفل، فإذا قتل البالغ قتل الطفل معه! ولو شرب رجل من جب به قطرة خمر لكفر!
14
وقد يكون الكفر كفرا بالنعم؛ أي أنه جحود عملي وليس كفرا نظريا. هو إنكار عملي، وكأن الفعل إثبات عملي لقضية نظرية. وهو كفر أقل حدة من الكفر والشرك الذي يطغى فيه العمل على النظر، فيضيع النظر بضياع العمل. وتخف حدة الوعيدية قليلا، فلا يعلم هل يعذب مرتكب الكبيرة في النار أم لا، وإن عذب فإنه يعذب في غير النار، ولا يخلد فيها ، وإن أتى الكبيرة غير مصر فإنه يكون مسلما، أما لو ارتكب الصغيرة وهو مصر فهو مشرك. وفي هذه الحالة لا يكفر المخالفون، تحل ذبائحهم ومناكحتهم وموارثتهم. مرتكب الكبيرة إذن ليس مؤمنا ولا كافرا على الإطلاق، بل في فعل معين وموقف خاص، وهو ارتكاب الكبيرة. قد يظل موحدا، ولكنه غير مؤمن. هو موحد من حيث المعرفة، ولكنه غير مؤمن من حيث السلوك.
15
النفاق إذن هو انفصال العمل عن النظر، وهو عكس التوحيد؛ أي تطابق النظر مع العمل. مرتكب الكبيرة إذن مؤمن وكافر في آن واحد، مشترك بين الإيمان والكفر، لا مؤمن على الإطلاق ولا كافر على الإطلاق.
16
وقد يتحدد الكفر شرعا فقط لأنه حكم شرعي؛ فما كان فيه من المعاصي حد فليس فاعله كافرا، بل يكون سارقا أو زانيا أو شاربا للخمر، أما ما لم يكن فيها حد فيكون صاحبها كافرا.
17
وتورد حجج نقلية عديدة لإثبات أن مرتكب الكبيرة كافر، كلها تفيد معنى واحدا، وهو أن من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وأن الكافر يجزى على أعماله، وأنه يعذب يوم القيامة في النار، وأن الكفر يعود على النفس وليس على الله، وأنه روح اليأس وأفعال النفاق وترك الصلاة، وأن الله يغفر كل شيء إلا الشرك به لأنه كفر ... إلخ، والولاية والعداوة لله ضدان لا وسط بينهما، فكذلك الإيمان والكفر. وهناك حجج نقلية عقلية عديدة، منها قصة إبليس الذي كان عارفا بالله مطيعا له غير آبه بارتكاب الكبيرة، وهي امتناعه عن السجود لآدم، فاستوجب اللعن والتكفير والتخليد في النار. كما أن هناك حججا عقلية خالصة، منها أن الكافر سمي كذلك لأنه ترك الواجبات وأقدم على المقبحات، والفاسق كذلك، فيجب أن يكون كافرا.
18
فإذا كان اعتبار مرتكب الكبيرة كافرا موقف المعارضة واختيار مجتمع الاضطهاد، فإن الاختيار المضاد، وهو تبرئة مرتكب الكبيرة من الكفر، هو موقف السلطة واختيار مجتمع القهر والغلبة. ومع ذلك فرغبة في إظهار التشدد في تطبيق الدين مزايدة على إيمان العوام تكفر السلطة من يرتكب المعاصي عمدا وإصرارا ، وتطبق عليه الحد بما في ذلك حد القتل؛ درءا عن نفسها تهم انفصام العمل عن النظر. للسلطة إذن موقفان؛ الأول: متراخ بغية الدفاع عن شرعية الحاكم، حتى ولو كانت أعماله مخالفة للإيمان، وفي الوقت نفسه حصار المعارضة باعتبار أن أفعالها سياسية صرفة تدخل السياسة في الدين، ولا دين في السياسة ولا سياسة في الدين. والثاني: متشدد للظهور أمام العامة بمظهر المطبق لأحكام الشرع، والمنفذ لحدود الله في الكبائر التعبدية، مثل شرب الخمر والزنا والسرقة، وهي الحدود التي تهدف إلى الردع من أجل الحفاظ على النظام القائم.
19
وقد يكون للمعارضة أيضا موقفان؛ الأول: متشدد في مقابل السلطة وتكفير مرتكب الكبيرة؛ أي الحاكم اللاشرعي المغتصب. والثاني: لين بغية الحفاظ على وحدة الأمة.
20
والحقيقة أنه لا يوجد حكم واحد لمرتكب الكبيرة، بل تتعدد الأحكام طبقا للمواقف السياسية وللموقع في السلطة. وإن الحجج النقلية أو العقلية والحجج المضادة كلها قراءات في النص وإسقاط من الموقع عليه، سواء الموقع من السلطة أو الموقع من المعارضة. إن التكفير سلاح مزدوج بين السلطة وخصومها، لعنة قديمة ما زالت تلقى، بالإضافة إلى أنها ادعاء باطل فكريا، سلاح تستعمله السلطة ضد معارضيها، وتشهره على خصومها، خاصة إذا كانت السلطة غير شرعية، في حين أن الخلاف في الفهم والتعارض في الفكر خصب ونماء، ونتيجة لأعمال الحرية والاجتهاد، وتوفي مناخ للجدة والابتكار، وإلزام الأفراد بقضايا الجماعة ومشاكل الأمة. كما أن أحكام التكفير على مختلف درجاتها لا يمكن لأي إنسان أن يصدرها؛ لأنه يخرج بها عن نطاق حدوده كإنسان. كل الأحكام الخاصة بالكفر والإيمان والشرك والفسوق والعصيان لا يمكن لأحد أن يصدرها إذا كان الهدف منها توقيع الجزاء ثوابا أم عقابا في نهاية الزمان؛ لأن الإنسان ليس حاضرا هناك. وأي إنسان يستطيع ذلك؟ لا يمكن لإنسان إصدار حكم على آخر قائلا «هذا كافر»، «هذا فاسق»؛ لأنها أحكام تخرج عن نطاق الوضع الإنساني. (1-3) هل مرتكب الكبيرة فاسق ومنافق؟
إن لم يكن مرتكب الكبيرة مؤمنا أو كافرا، أو مؤمنا نظرا وكافرا عملا، فإنه يكون فاسقا؛ فالإيمان لغويا لا يعني فقط التصديق، بل يضم أيضا العمل؛ فالأعمال جزء من الإيمان. والفسوق لغة يعني الخروج، وارتكاب الكبيرة خروج العمل على النظر؛ وبالتالي يكون فسوقا لا يخرج عن الإيمان ولا يدخل في الكفر، منزلة بين المنزلتين. والله سمى إيمانا ما لم يكن في اللغة إيمانا؛ وبالتالي لا يمكن استبعاد مرتكب الكبيرة عن الإيمان. ومع ذلك إذا كان اسم الإيمان يستوجب المدح والثناء، فإن مرتكب الكبيرة لا يستحقه؛ وبالتالي لا يمكن تسميته مؤمنا. أما ارتكاب الصغائر فإنه لا يخرج عن الإيمان. يتدخل إذن كم الفعل في الحكم عليه بأنه قد خرج عن النظر أم لم يخرج؛ فالأفعال كيف وكم، وتدل على بناء الشعور ودرجة تمثله للوجدان والفكر. ولا يقال عن مرتكب الكبيرة في فاسق على الإطلاق، بل فاسق في موقف معين على الخصوص في فعل معين. إن خروج العمل على النظر يضع الإنسان في عملية متصلة؛ فالخروج يعني الدخول؛ ومن ثم يتحدد الإنسان بالصيرورة لا بالوجود، وبالفعل لا بالصفة، كما هو الحال في الوحي في وصف الإيمان كفعل لا كاسم. وما دام الفاسق لا يخرج عن الإيمان فإنه لا يخرج عن الأمة، تحل مناكحته وموارثته. وارتكاب الكبيرة يستوجب التوبة؛ فإن لم يتب مرتكب الكبيرة ومات عليها فإنه يستوجب العذاب والخلود في النار؛ فصلة النظر بالعمل هي التي تحدد الوضع في المعاد.
21
إن الكفر لا يكون في العمل، بل في النظر؛ فإذا كان الكفر يعني الستر والتغطية فإنه يكون ضد كشف الحقائق النظرية ووضوحها. أما عدم تطابق العمل مع النظر فإنه فسوق، أي خروج، وأحيانا يجمع بين الاثنين، ويكون الفسوق هو الخروج عن النظر وعلى العمل على السواء؛ فالإيمان اجتناب الكبيرة فحسب، والأقوال والأفعال ليست من الإيمان، وأفعال الفعل والشرك كلاهما طاعة؛ لذلك لا يسبى العاصي لأنه يعرف الله إن كان قد جحده وعصاه. معرفة الله إذن خصلة بين الإيمان والشرك.
22
والدليل على ذلك أن الفاسق شرعا ليس مؤمنا ولا كافرا بإجماع الأمة، يقام عليه الحد ولا يقتل، ولا يحكم بردته، ويدفن في مقابر المسلمين. فسقه معلوم، ولكن إيمانه مختلف فيه، وطبقا لعلم الأصول يؤخذ المتفق عليه ويترك المختلف فيه.
23
والحقيقة أن القول بالوسطية لا يعني أي تنازل عن الفعل أو عن الإيمان؛ فمن الناحية العملية الفاسق أشر من الزنديق والمجوس، وخطره أعظم.
24
وقد يكون مرتكب الكبيرة منافقا. والفرق بين الفسوق والنفاق ليس كبيرا. الفسوق يتعلق بالفصم بين العمل والنظر، بين المعرفة والفعل، في حين أن النفاق قد يتعلق أيضا بالفصام بين القول والعمل. النفاق كفر مضمر، في حين أن الفسوق كفر علني. وقد يكون النفاق أشر من الكفر؛ لأنه إظهار المرء غير ما يبطن، في حين أن الكفر صريح. النفاق فصام بين الداخل والخارج، في حين أن الكفر اتفاق الداخل مع الخارج. يتعلق النفاق أيضا بغياب التصديق، في حين أن الفسوق يتضمن خروج الفعل فحسب، وإن بقيت المعرفة والتصديق، وإن بقي الإقرار. النفاق إذن أعم من الفسق وأخطر، والفسوق حالة منه؛ فكل فسق نفاق، وكل نفاق كفر؛ وبالتالي يكون كل فسق كفرا. الفاسق يستحق الذم واللعن، وكذلك المنافق. وإن ارتكاب الفاسق الكبيرة يثبت أن في اعتقاده ضلالة، وكذلك المنافق. وكثير من الآيات في أصل الوحي تؤيد ذلك.
25
ويشارك في ذلك فكر السلطة كنوع من الوسطية ضد فكر المعارضة الذي يحكم على مرتكب الكبيرة بالكفر.
26
ومع ذلك قد يظهر التعارض بين الفسق والنفاق؛ لأن الفسق إظهار، والنفاق كتمان. ولما كان مرتكب الكبيرة أقرب إلى العلن والإظهار فإنه لا يكون منافقا.
27
والحقيقة أن إثبات المنزلة بين المنزلتين إنما يجد مبررا له في صعوبة قبول الموقفين الأولين، وهو اعتبار مرتكب الكبيرة مؤمنا أو كافرا. ونظرا لبساطة هذا الموقف الثالث فإن أية محاولة لتنظيره تكون إضافية مجانية زائدة. وقد تكون مسألة شرعية لا مجال لتنظير العقل فيها، ومع ذلك فإنه يمكن على الأقل تعقيلها وتحديد مستوى معرفتها؛ فهي مسألة ليست مرتبطة بالثواب والعقاب والإحباط والتكفير، حتى لا تكون أدخل في أمور المعاد، وليست مسألة متعلقة بالأحكام الشرعية وحدها؛ لأنها تتعلق بأمور الدنيا وبسلوك الأفراد، كما أنها لا تتعلق بموضوع المدح والذم؛ لأن الأحكام الخلقية هو فعل إنساني، وما دام فعلا إنسانيا فإنه فعل حر يتراوح بين العظمة والإقلال، بين عظم الثواب وقليله إن كان طاعة، وعظم العقاب وقليله إن كان معصية. فالمنزلة بين المنزلتين تعبير عن حرية الفعل نظرا لوجود الفعل بين قطبين؛ الثواب والعقاب، أو الطاعة والمعصية.
28 (2) هل الإيمان يزيد وينقض؟
لما كانت الأعمال مقترنة بالإيمان، وكان العمل لا ينفصل عن النظر، ظهر سؤال ثان عن الإيمان: هل يزيد وينقص؟ هل هو كل أم بعض؟ هل يتفاضل فيه الناس؟ فإذا كان أبعاد الشعور الأربعة، المعرفة والتصديق والإقرار والعمل، قد وضعت مسألة وحدة الشعور من حيث الكم، فإن سؤال الزيادة والنقصان في الإيمان يضع الشعور من حيث الكيف، ولو أن اللغة هي لغة الكم. وقد ركز القدماء على الشعور الكمي بأبعاده الأربعة أكثر مما ركزوا على الشعور الكيفي بأسئلته الثلاثة: هل الإيمان يزيد وينقص؛ أي هل له أجزاء، أي خصال يمكن تجزئتها، أم أن الإيمان كل واحد لا يتجزأ؟ هل الإيمان يتفاضل فيه الناس كما تتفاوت مراتبه عند الشخص الواحد؟ هل تأتي قوة الإيمان وضعفه من الإيمان أم من البواعث والغايات؟ هل هناك فروق فردية طبيعية أو مكتسبة، جبلية أم تربوية، وراء التفاوت في الإيمان والأعمال؟ وفي أي مظهر من الإيمان يقع التفاوت في المعرفة أو التصديق أو الإقرار أو العمل؟ وهل يؤدي التفاوت في المعارف إلى تفاوت في الأعمال؟ هل يؤدي التفاضل في التصديق إلى تفاضل في الأعمال؟ هل هناك تفاضل في الإقرار مثل تفاضل المعرفة والتصديق؟ وكل هذا الأسئلة التي تثار في الإيمان تثار أيضا في الكفر، وكأن المسألة ليست في الإيمان أو الكفر، بل في الشعور ذاته يوجبه الإيمان والكفر، الإيجاب والسلب.
والخلاف ليس لفظيا فقط، وإن كان يمكن ضبطه عن طريق تحليل اللغة، ولكنه ناتج عن اختيار مسبق لأحد الاحتمالات المتعلقة بأبعاد الشعور؛ فإنكار الزيادة والنقصان في الإيمان نتيجة التوحيد بين الإيمان والأعمال، في حين أن إثبات الزيادة والنقصان في الإيمان نتيجة لاعتبار الأعمال زائدة عن الإيمان ومنفصلة عنه. وإنكار التبعض في الإيمان هو أيضا نتيجة للتوحيد بين الإيمان والعمل، في حين أن إثباته يكون نتيجة للفصل بينهما. وإن جعل الإيمان هو المعرفة أو التصديق أو الإقرار ينكر الزيادة أو النقصان في الإيمان؛ لأن الأعمال ليست منه. فالمعرفة بالذهان، والتصديق بالقلب، والإقرار باللسان، مرة واحدة وإلى الأبد، لا زيادة في كل منهما ولا نقصان.
29
فالقول بأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص إنما يعني بالإيمان التصديق بالقلب الذي أصبح عنوانا للمعرفة والإقرار دون الأعمال؛ فالتصديق لا يقع فيه زيادة أو نقص، كما أن ليس به كل أو جميع؛ أي إنه لا يتبعض، ولا يتفاضل فيه الناس أو الملائكة؛ فإيمان الناس مثل إيمان الملائكة والمقربين والأنبياء وأهل الجنة، مساواة مطلقة بين الجميع. لا تزيد الأعمال من الإيمان ولا ينقص غيابه منه، وكأن العمل لا يقوي الإيمان، وكأن الممارسة لا تزيد من أحكام النظر. قد تتزايد الأعمال في نفسها، ولكنها لا تزيد ولا تنقص من الإيمان شيئا.
30
ولا يثبت الإيمان، ولا تتنوع خصاله، فهو خصلة واحدة أو الخصل جميعا. أما الأعمال فهي التي تتجزأ وتتبعض. وكذلك لا يتفاضل الإيمان من فرد لآخر وإن تفاضلت الأعمال.
31
والحقيقة أن هذا الموقف يقوم أساسا على إخراج العمل من الإيمان حتى يلغى التمايز في السلوك بين الأفراد؛ وبالتالي لا يختلف الحاكم عن المحكوم في الإيمان؛ فالكل مصدق وإن اختلفت الأعمال؛ وبالتالي لا مجال للمعارضة السياسية، سواء معارضة أعمال الحاكم أو تقديم أعمال المعارضة كبديل عنها. وكيف يكون الشعور درجة واحدة من الكيف، شعور أم لا شعور، إيمان أو لا إيمان، تصديق أو لا تصديق؟ ألا يختلف الشعور أيضا في الغموض والوضوح، والنوم واليقظة، والسطحية والعمق؟ وكيف يمكن تفسير اختلاف الأعمال والمعارف بين الناس؟ وكيف يتم التفاضل بينهم والأعمال إنما هي تعبير عن درجة الإيمان؟ إن جعل الإيمان هو عمل القلب هو تأسيس لعلم التوحيد على التصوف؛ مما سهل بعد ذلك التوحيد بين العلمين في العقائد المتأخرة. إن لم يكن الإيمان يزيد وينقص، يتجزأ ويتبعض، فإنه مع ذلك كيف يشتد ويضعف ككل باعث. وترتبط الشدة والضعف بدرجة الوعي النظري بالوحي، وبمقدار الالتحام بالواقع، والاستعداد الطبيعي للعمل والتضحية. الشدة والضعف يشيران إلى درجة الوعي الثوري عند الفرد. وإذا كان مضمون الإيمان هو الوحي، فلا بد أن يكون الوحي نظرا أو فكرا مرتبطا بالواقع ومصدرا له من أجل تغييره، وكأن مضمون الإيمان هو النظرة العلمية للواقع. مضمون الإيمان هو الفكر المصور للواقع، والواقع المحقق للفكر. مضمون الإيمان هو تغيير الواقع وتطويره، وتحقيق الوحي كنظام للعالم.
وإذا ثبت أن الإيمان يزيد وينقص فلا معنى لإيجاد حلول وسط بأن يزيد الإيمان ولا ينقص، أو ينقص الإيمان ولا يزيد؛ فالزيادة تتضمن النقص، والنقص يتضمن الزيادة. إذا كان الإيمان يزيد بالأعمال فإنه ينقص بغيابها، وإذا كان الإيمان ينقص بغياب الأعمال فإنه يزيد بوجودها.
32
ما دامت هناك طاعات ونوافل ودرجات في الأعمال فلا بد أن تكون هناك درجات في الإيمان؛ وبالتالي الزيادة والنقص فيه. في المعرفة زيادة ونقص بسبب الإجمال والتفصيل، وفي التصديق زيادة ونقصان بسبب الشدة والضعف، وفي الإقرار زيادة ونقص لأن في القول طولا واختصارا. ويختلف ذلك في حياة الفرد نفسه من لحظة وأخرى، وفي حياة الإنسان من فرد إلى آخر، بل وفي حياة الجماعة من مجتمع إلى آخر، وفي حياة البشرية من طور إلى آخر. وكذلك يتبعض الإيمان، وكل خصلة من الإيمان بعض الإيمان. ويتفاضل الإيمان في حياة الفرد وبين الأفراد وبين الجماعات والأمم. إن إثبات الإيمان بإخراج الأعمال منه هو اختيار السلطة، يهدف إلى تثبيت النظام القائم، في حين أن حركة الإيمان بإدخال الأعمال فيه إنما هو اختيار المعارضة لتغيير النظام إلى ما هو أفضل.
33
سابعا: خاتمة: الواقع التاريخي بين الإثبات والتغيير
إن كل مسائل النظر والعمل وأبعاد الشعور الأربعة، المعرفة والتصديق والإقرار والعمل، إنما هي في النهاية تنظير لواقع تاريخي قديم، ظل ينقل من البيئة القديمة على البيئة الحالية بالرغم من اختلاف الظروف، لدرجة أن الإطار النظري القديم والاختيارات القديمة أصبحت هي نفسها علم العقائد. ولما كان علم العقائد علما إلهيا مقدسا أصبح التغيير فيه أو إعادة الاختيار بين البدائل معدوما تقريبا، في حين أن كل موضوعات النظر والعمل إنما هي في الحقيقة الصورة النظرية للواقع التاريخي القديم، وأكبر دليل على أن علم العقائد نشأ في واقع تاريخي معين، وليس علما خارج الزمان والمكان، بل إن هذا الواقع هو الواقع السياسي بالضرورة، وكأن الأولوية في الواقع للسياسة، وكأن علم أصول الدين هو بالأصالة علم سياسي، أو بالأحرى علم نظر السياسة، تحول فيها الدين إلى «أيديولوجيا» سياسية، وأصبحت عقائد الفرق تنظيرا للواقع السياسي، وأصبحت عقائد كل فرقة تعبر عن موقعها واختيارها السياسي. ولما كان الموقع والاختيار يتحددان باستمرار ابتداء من السلطة السياسية، أصبحت عقائد الفرق تنظيرات للسلطة لتثبيتها أو لتغييرها، عقائد سلطة أو عقائد معارضة؛ لذلك ارتبط الموضوع كله بالإمامة؛ فقد كان الأمر يتعلق بإيمان وكفر الإمام، أو إيمان وكفر معارضيه، وليس بسطاء الناس، ثم تحول من صراع على السلطة إلى خلاف فقهي عام حول مرتكب الكبيرة وأنواع الكبائر؛ فالسياسة أصل العقائد. (1) الواقع التاريخي الثابت
والواقع التاريخي الثابت هو الواقع القديم الذي يشمل الحوادث التاريخية السابقة التي وقعت وارتبطت بأسمائها وأشخاصها وظروفها وبيئتها، والتي ما زالت تنقل حتى الآن وكأنها جزء من العقائد النظرية، وليست مجرد حوادث تاريخية كانت وراء نشأة علم العقائد. وأصبح من الصعب إن لم يكن من المستحيل التفرقة بين العقائد والتاريخ، بين الأسماء والأحكام، أي النظر والعمل، وبين الإمامة كحادثة تاريخية. وهناك ثلاث حوادث رئيسية تكمن وراء موضوع النظر والعمل ومرتكب الكبيرة وحكمه بين الإيمان والكفر والفسوق، وهي: إمامة عثمان، وحروب علي، والتحكيم. وواضح من عناوينها أنها مرتبطة بالأشخاص، بأسماء معينة، وليست مسألة نظرية خالصة باستثناء التحكيم. (1-1) إمامة عثمان
لما كانت أحكام مرتكب الكبيرة تتراوح بين الإيمان والكفر والفسوق، فإن الخلاف حول إمامة عثمان وأفعاله جعلها أول واقعة تاريخية تثير هذا التمايز في الأحكام؛ فقد كان هناك خلاف على أعماله مثل ضرب أتقياء الصحابة، ومنعه العطاء عنهم، ونفي البعض، واستدعاء بعض المنفيين، وعدم تطبيق حد القتل، وتولية أقاربه وجزل العطاء لهم، وجمع القرآن وحرق باقي المصاحف، وحمى الحمى، وإتمام الصلاة بمنى، وارتقاء منبر الرسول، وعدم حضور بدر، وتأخره عن بيعة الرضوان ... إلخ. وهي أفعال توجب النصح للحكام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فقهاء الأمة وعلمائها، أخطاء في العمل السياسي تغليبا للهوى على المصلحة، وترجيحا للمصلحة الخاصة على المصلحة العامة.
1
ثم تظهر الاختيارات الثلاثة: الإيمان والكفر والفسوق. فالإمام مؤمن، وقد كان مصيبا في أفعاله، ثم قتل مظلوما، واعتبر قتله فسقا. وأما القعود عن نصرته والدفاع عنه إن كان بأمر الإمام حقنا للدماء ودرءا للفتنة فلا حرج، وإن كان نهى الإمام عن نصرته فهم معذورون، وإن كان إعانة للمهاجمين فهو فسق مثل الهجوم عليه وقتله. إن الدليل على براءة الإمام ليس تبشيره بالجنة، فالجنة نتيجة لقانون الاستحقاق، والجزاء على الأعمال، وليس نتيجة الدعوات له، دعوة أو أكثر، أو لأنه زوج ابنة النبي، بل تطبيقا للحكم على أفعاله. فالولاية والعداوة لقاتليه ولكل من أكفره. وهو بهذا المعنى إمام مثل الإمامين السابقين عليه.
2
ويصعب أن يكون كافرا إلا عند اعتبار الكبيرة كفرا، بل إن كفره يمتد إلى بيعته منذ قبولها، وليس فقط إلى أفعاله بعد الولاية.
3
وقد يكون الاختيار الثالث محاولة لإثبات الإيمان النظري والخروج العملي، أو عن طريق تطوره في الزمان، وتغيره في إيمان السنوات الأولى إلى كفر السنوات الأخيرة.
4
ونظرا لأن الأحكام الثلاثة غير كافية نظريا فقد تتم تبرئة كل من الفريقين؛ إذ يصعب معرفة أيهما ظالم وأيهما مظلوم. وقد تتم إدانة كل من الفريقين، فأحدهما فاسق دون تعيينه.
5
وفي مقابل إدانة الفريقين والحكم عليهما بالفسق، من جهة الإمام لأن أعماله توجب الفسق، ومن جهة قاتليه لأن الفسق لا يوجب القتل، يتم التوقف عن الحكم كلية لا بالإيمان ولا بالكفر ولا بالفسوق لكلا الفريقين أو لأحدهما دون الآخر.
6
وتخلصا من المأزق قد يتم إنكار الواقعة ذاتها التي تقلق الوجدان وتحير النظر ويصعب معها الحكم؛ وبالتالي يتم إنكار حصار الإمام وقتله بالغلبة والقهر، إنما قتل الإمام شرذمة قليلة على غرة من غير حصار؛ وبالتالي التخفيف من الواقعة، وتحويلها من واقعة سياسية تتشابك فيها الشرعية إلى واقعة قتل عادية يطبق فيها حد القصاص.
7
والحقيقة أن الغرض ليس إصدارا للأحكام على التاريخ، بل تحليل التاريخ بقصد التعرف على طبيعة الموقف السياسي، ورؤية العوامل التي ساهمت في صنع القرار؛ فالنظرية السياسية العلمية هي التي يمكن عن طريقها فهم المواقف السياسية في التاريخ. ليست القضية الواقعة التاريخية، بل أسسها النظرية؛ فليست القضية إنكار حصار الإمام وقتله بالغلبة والقهر أو إثباته، بل الدافع والأساس النظري؛ فسبيل التحقق من الوقائع التاريخية هو الخبر المتواتر، وليس علم العقائد. (1-2) حروب علي (الجمل وصفين)
وبعد قتل الإمام بدأ الخلاف حول الإمامة لحد الاقتتال بالسيف بين أنصار الإمام الجديد وأتباع الإمام المقتول، وبدل أن تخف الواقعة الأولى زادت تعقيدا بالواقعة الثانية.
8
وتظهر الأحكام الثلاثة على الواقعة الجديدة، وهي الإيمان والكفر والفسوق؛ فالإمام الجديد مصيب في حروبه، في وقعتي الجمل وصفين، ومحاربوه مخطئون. ويتراوح خطأ قاتليه بين الفكر والفسوق والبغي والخطأ، وذلك يستوجب التوبة والرجوع إلى الحق والتسليم له. وتظل الإمامة للإمام الجديد دون منازعيه على الإمامة ومقاتليه عليها.
وقد يتلمس لمقاتلي الإمام الجديد العذر بأنه أخطأ في التحليل وإن كان على نية طيبة؛ فالقصد هو الصلاح، وليس الأمر إيمانا أو كفرا أو فسوقا بقدر ما هو خطأ في الاجتهاد. وهو أمر فرعي وليس أمرا أصوليا، موضوع فقهي وليس موضوعا عقائديا.
9
لكن قد يتم تكفير كل من قاتل الإمام الشرعي الجديد، وتكفير كل من خالفه، سواء كان الكفر خالصا أو شركا، مغفورا أو غير مغفور.
10
وبعد تكفير المخالفين يتم الرجوع إلى الوراء تدريجيا حتى يتم تكفير كل الأئمة السابقين، بل قد يبلغ الأمر تكفير الإمام نفسه إن لم يحارب مخالفيه، ويكون مرتدا عن الدين!
11
وقد يكون الإمام الجديد قد أخطأ نسبيا أو كليا؛ فهو وإن كان قد أصاب في قتال مخالفيه إلا أنه أخطأ أنصاره الخارجين عليه، وكان يمكنه أن يكون أكثر رفقا بهم، ولكن بوجه عام كانت الحرب مفروضة عليه.
12
أما قلب الآية وتخطئة الإمام الجديد وتصويب مقاتليه فيصعب فهمه. وإن طلب القصاص من قتلة الإمام السابق هو تحويل للقضية العامة إلى قضية خاصة، ورد مصلحة الأمة إلى مجرد قصاص. والحقيقة أن تخطئة الإمام الجديد إنما كان مطمعا في السلطة مع أخذ القصاص من قتلة الإمام السابق ذريعة وستارا، وهو ما عرف في التاريخ باسم «قميص عثمان»، وفي وقت الفتنة والشقاق، كأن موضوع القصاص أخف وطأة من وحدة الأمة. ولما كان القصاص يتم بالإمام فإن قوة الإمام ووحدة الأمة وراءه تكون دافعا لتنفيذ الحد، وإلا كان الإمام أضعف من خصومه، وكان خصومه أقوى منه.
13
أما الاختيار الثالث، وهو القول بفسق مرتكب الكبيرة، فإنه احتمال نظري أيضا، وليس خروجا على الإجماع؛ لأنه لم ينعقد إجماع على مرتكب الكبيرة والواقع التاريخي، وكانت الأمة منقسمة إلى قسمين، ومختلفة في حكمين، الإيمان والكفر.
14
ففي النزاع بين الإمام وخصومه أحدهما، دون تحديد أيهما، فاسق. والحقيقة أن هذه حيطة تجعل الإمام الشرعي وخصومه الذين ينازعونه الشرعية على المستوى نفسه، كما أنها تجعل الإمام الشرعي موضع احتمال في الفسق، كما أن عدم التعيين هو موقف نظري صرف وليس موقفا عمليا، وكأن السياسة علم رياضي لا يتطلب موقفا أو حكما. ولما تلاعن الفريقان وأقسم أحدهما على تكذيب الآخر لا بد أن تسقط شهادتهما؛ فإذا لم يكن الحل الوسط رياضيا، وكان أقرب إلى هذا الطرف أو ذاك، فيمكن أن تصح توبة خصوم الإمام لأنهم من أهل بدر؛ أي ذنوبهم مغفورة نظرا لقتالهم من أجل نصرة الحق أولا، فكان جزاؤهم الجنة. كما أنه لا يصح ذم الصحابة أو ذكرهم بسوء. وقد يمتد الأمر إلى جعل الجميع مغفوري الذنوب مقبولي التوبة بما فيهم الإمام؛ وبالتالي يوضع الإمام من جديد على المستوى نفسه مع خصومه؛ لذلك يمكن تولي كل فريق على انفراد دون ضرب أحدهما بالآخر، إيقادا لنار الفتنة، وضربا للمؤمنين بعضهم بالبعض الآخر.
15
ويمكن التمييز بين النيات، فإن كانت الحرب للسلطة والسياق عليها فصاحبها فاسق، وإن كانت بغية المصالحة بين المؤمنين فصاحبها على حق.
16
ويمكن التوقف مع عدم البراءة من الإمام الشرعي، والبراءة من خصومه.
17
وقد يكفر الجميع يأسا من الوصول، وزهقا من البحث عن حق تسيل منه الدماء، وتتطاير فيه الرقاب.
18
وفي مقابل ذلك قد يصوب الجميع، سواء كان زهقا من التكفير وحقنا للدماء بصرف النظر عن عدم الاكتفاء النظري، أو كان عن اجتهاد؛ فللمخطئ أجر، وللمصيب أجران. والإمام اجتهد وأصاب، ومقاتلوه اجتهدوا وأخطئوا. وهذا يفترض حسن النية عند الإمام بخصومه، ويستبعد نزاع الخصوم على السلطة ورغبتهم في انتزاعها منه.
19
وقد يكون المصيب هو القاعد عن الفتنة والمنعزل عن الفريقين المتخاصمين، حقنا للدماء وإطفاء للنار، بالرغم مما في ذلك من تقاعس عن نصرة الحق وعدم مقاومة الباطل.
20
وقد يسلم القادة ويهلك الأتباع؛ وذلك لأن القادة مجتهدون في الرأي ومسئولون عن أفعالهم، في حين أن الأتباع مقلدون لم يعملوا الرأي ولم يجتهدوا، بالإضافة إلى أنهم أعملوا سيوفهم في رقاب المسلمين.
21
وحلا للأمر كله بما في ذلك التوقف عن الحكم، قد تنكر الواقعة التاريخية كلها كما أنكر من قبل مقتل الإمام السابق، أو استبشاعا للأمر.
22
إن كل هذه الحلول الوسط تمحي التقابل بين الحق والباطل، وتضع الاثنين على نفس المستوى. إن كان يبغي المصالحة العامة فهو حق دون استسلام للباطل، وإن كان يبغي تقوية الباطل وإضعاف الحق فهو أقرب إلى الباطل منه إلى الحق، ونصرة لخصوم الإمام على الإمام.
23 (1-3) التحكيم
وبعد مقتل الإمام السابق وحروب الإمام اللاحق، وإنهاك القوى، وضياع وحدة الأمة في فتنة اختلط فيها الحق بالباطل، كان من الطبيعي أن يحدث التحكيم؛
24
فالتحكيم هو الحدث التاريخي الثالث الذي تظهر فيه الأحكام الثلاثة بالإيمان أو الكفر أو الفسوق. فالتحكيم - لا عن طريق التقية - صواب، تألفا للمسلمين، ودرءا للفتنة، ومنعا لإراقة الدماء، وخوفا على العسكر من الفساد والموت بلا طائل ما دام الخصم قد بين استعداده للحوار وتحكيم كتاب الله، والرجوع إلى الحق طواعية سلما أفضل من الإذعان له كرها وحربا.
25
وقد تصيب المحكمة الأولى ثم تخطئ بعد ذلك بخروجها على الإمام.
26
وقد يخطئ الإمام دون أن يفسق إذا كان حكمه نتيجة عن اجتهاد، وفي هذه الحال يكون خطؤه صوابا ما دام قد تم عن اجتهاد. قد يصيب الإمام ولكن يأتي الخطأ من أحد الحكمين الذي خدع الآخر.
27
كما يصعب تكفير الإمام بعد الالتجاء إلى التحكيم، خاصة وأنه كان مدفوعا إليه من أنصاره قبل أن يتبرءوا منه، وبعد أن نزل الإمام على رأيهم وأعطى العهود والمواثيق لخصومه.
28
وإن رفض التحكيم وإن كان يدل على قوة اقتناع بالحق، ورفض للمصالحة مع الباطل، وضرورة إقناع الخصم بالفعل في ميدان القتال من أجل إلحاق الهزيمة به، إلا أنه قد يكون قصر نظر؛ فالتشبث بالحق من حيث النظر قد يكون أحيانا طفولية سياسية من حيث العمل؛ لأن ما يمكن تحقيقه بالنضال المستمر يمكن أن يتحقق أيضا بالتحكيم؛ فالتحكيم نوع من إلزام الخصم السياسي بالحجة، ويؤسس حياته على النظر. وفي هذا الجو النفسي المشحون، حيث يريد كل مقاتل أن يكون صاحب رأي، ويريد كل صاحب رأي أن يكون حامل سيف، تظهر البطولة في التشدد وعدم التنازل والتطرف؛ فالتمسك بالحق بطولة نظرية، والبطولة في القتال تمسك بالحق. وفي هذا الإطار من تخفيف العواطف وتهدئة الخواطر قد يتم تصويب الكل، فالكل مجتهد معذور، أو قد يمنع الكلام في الموضوع ويحال إلى الله، أو يتم إنكار الواقعة التاريخية رغبة في الهروب منها.
29
ولكن تصويب الكل يعارض بالحرب والقتال في الواقع، والواقع أبلغ من الموقف النظري. وإحالة الحكم إلى الله يهدئ الخواطر، ولكنه لا يوقف الحرب. أما إنكار الواقعة التاريخية فإنه يحدث تخلصا من الموقف، وهروبا من الواقع، وإيهاما للنفس بالخلاص، وتحررا فارغا لها من الإشكال. والحقيقة أن المتأمل في رواية التحكيم يجد أن الحق كان من جانب الإمام؛ فقد أنهكت الحرب الفريقين، ولم يعد هناك حل عسكري إلا بإراقة مزيد من الدماء. أما الخصوم فقد كانوا قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة، ولم يكن التحكيم بالنسبة لهم إلا حيلة للقضاء على وحدة معسكر الإمام. ولم يقم ممثل الخصوم بإجراء الحيلة إلا بعد رشوة، حكم مصر مدى الحياة. وقد نجحت الحيلة في إيقاع الشقاق في معسكر الإمام وخروج الخوارج. وقد وضعت الحيلة بحيث يحدث الشقاق، سواء في حالة القبول لأنه لا حاكم إلا الله، أو في حالة الرفض لأنه كيف يرفض الحكم للكتاب؟ وقد تردد الإمام في القبول أولا، ولكن نزولا على رغبة الجند قبل التحكيم. وكان لا بد من التزام الإمام بالعهود والمواثيق التي أعطاها بعد قبول التحكيم. وقد استغل الخصم الدين، رفع المصاحف على الرماح، لأغراض سياسية محضة، نظرا لما يعرفه عن تقوى الإمام وجنده، بينما ضاعت التقوى من معسكر الخصوم، حتى إن فاتح مصر هو الذي قام باقتراح الحيلة وإجرائها، وكأن عمالته تحت الخليفة الثاني كانت مخالفة لعمالته تحت الحكام من بعده، وكأن الحاكم هو الذي يفرض على العامل قيمه وسلوكه. (2) الواقع التاريخي المتغير
ارتبط موضوع النظر والعمل بواقع تاريخي ثابت هو الواقع التاريخي القديم، حتى لأصبح من المستحيل الحديث عن موضوع الإيمان والكفر والفسوق والعصيان، بل والحكم والثورة، إلا من خلال المادة التاريخية القديمة بأسمائها وأشخاصها وفرقها وحوادثها حول الفتنة الكبرى. والحقيقة أن القصد من تحليل هذه المادة ليس أخذ صف هذا الفريق ضد ذاك الفريق، وتبرئة فرقة وإدانة أخرى، بل إعطاء نماذج من المواقف السياسية التي يمكن أن توجد في كل عصر من أجل تحليل الاختبارات السياسية الممكنة؛ فالمادة التاريخية القديمة تعطي أنماطا مثالية كما هو الحال في القياس من أجل أن تقاس عليها كل مادة جديدة.
30
فما هي المادة الجديدة التي يمكن أن يقدمها عصرنا؟ ما هي الكبائر الآن؟ ومن هم مرتكبو الكبائر؟ هل هي الكبائر القديمة التسعة، أقل أو أكثر، أم أنه يعاد ترتيبها بحيث مثلا يوضع السحر في أولاها الذي يمنع الناس من الاعتماد على العقل والإرادة، كما يوضع الفرار عند الزحف في مقدمتها نظرا لما نخوضه من حروب، وما نعانيه من انكسارات؟ قد تكون الكبائر الآن سبعة؛ الأولى: كل من يعمل على احتلال أراضي المسلمين، ويوالي أعداءهم، ويصلي في الأراضي المغصوبة، ويصالح الأعداء ويسالمهم ويتقاعس عن تحرير الأرض، فلسطين المحتلة وكشمير وباقي أراضي المسلمين، وكل من يتهاون في بناء الثغور وإعداد الجيوش والقضاء على روح الجهاد في الأمة. والثانية: كل من يعمل على قهر المسلمين وإذلالهم، والقضاء على حرياتهم، وملء السجون، وكم الأفواه، والسيطرة على العقول، وتزييف الضمائر، وشراء الذمم. والثالثة: هي كل من يعمل على نهب ثروات المسلمين وتبديدها، وسوء توزيع الدخل بينهم، وإيجاد طبقات متفاوتة في الرزق، وفرق شاسع بين الفقراء والأغنياء، مع احتكار الأسواق، وامتلاك ما بباطن الأرض وهو ركاز، ملكية عامة للمسلمين. والرابعة: كل من يعمل على تفكيك وحدة المسلمين وشق صفوفهم، وتجزئة أوطانهم دون وحدتهم ولم شملهم؛ فقد تجزأت الأمة بفعل التخلف والانهيار الداخلي، وبفعل الاستعمار والسيطرة الخارجية، «أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار»؟! والخامسة: كل من يقضي على هويتهم ويوقعهم في الاغتراب، ويقطع الماضي من الحاضر، ويفصل الحاضر من الماضي، ويجعلهم مقلدين للغير ينقلون العلم عنه ولا يبدعون علما، وكل من يجعلهم تابعين لا متبوعين، ومتعلمين إلى الأبد لا معلمين يوما ما. والسادسة: كل من يرسخ التخلف في شتى مظاهره، سواء في التعليم أو في السلوك، في النظر أو في العمل، يمنع العلم عن الناس، إعمال العقل، ورؤية الواقع، كل من يمنع عنهم المداواة والبرء من الأمراض، وكل من يمنعهم النظافة وحسن العيش. والسابعة: كل من يجعل الأمة مستكينة مسترضية لا مبالية فاترة، كثيرة كغثاء السيل، كما بلا كيف، ملايين عددية دون قوى فعلية ضد تعبئة الأمة وتجنيد جماهيرها. هذه هي كبائر العصر التي تحدد من المؤمن ومن الكافر ومن الفاسق. فالتاريخ واقع متغير، من الماضي إلى الحاضر، وإلا كنا كمن يريد أن يأخذ جانبا في معركة قديمة ليس هو طرفا فيها، ويترك معاركه التي هو فيها أحد أطرافها.
31
الفصل الثاني عشر: الحكم والثورة (الإمامة)
أولا: مقدمة: وضع المسألة
الحكم والثورة هو الموضوع الأخير في علم أصول الدين، موضوع الإمامة، وهو قضية الحاكم والشعب، تنصيب الحاكم أو خلعه، وثورة الشعب سلما أم حربا. يبدأ علم أصول الدين بالتوحيد، وينتهي بالثورة؛ وكأن التوحيد هو البداية، والثورة هي النهاية. التوحيد وسيلة، والثورة غاية. ومن الطبيعي أن ينتهي التوحيد نهاية سياسية، وأن ينصب التوحيد في الثورة، والله في العالم؛ فالإمامة هي الموضوع الذي يربط بين التوحيد والفقه، بين العقيدة والشريعة، بين التصور والنظام. من خلالها يتحول النظر إلى عمل، من المستوى الفردي في الأسماء والأحكام إلى المستوى الجماعي في الإمامة. الإمامة إذن ليست مجرد مسألة فرعية عارية من علم أصول الدين، أدخل في الفروع منها في الأصول، بل هي من الأصول العملية إذ كان التوحيد هو الأصل النظري. ليست مجرد مسألة سياسية صرفة لا شأن لها بالعقليات أو النقليات، بالإلهيات أو السمعيات. وقد يكون وضعها الفرعي هذا مقصودا من أجل إبعاد الناس عن السياسة، وجعلها حكرا على الحاكم، وجعل التوحيد فارغا من أي مضمون، فلا تحرك العقائد الناس، ولا يكون لها أي أثر في حياة الجماهير،
1
بل إن وضعها كفرع لا كأصل كان مجرد اقتراح فردي ومبادرة غير مقصودة، ثم تحولت إلى تقليد جماعي وفعل مقصود، تقليدا لا إبداعا؛ فالدافع على ذكرها هو مجرد التقليد، بعد أن ذكرها أحد السابقين فتبعه اللاحقون، مع أن إيمان المقلد لا يجوز طبقا لنظرية العلم في المقدمات الأولى، وكأن العادة التي وضعها أحد الأوائل أصبحت سنة يتبعها الخلف دون تعقيل أو تأصيل، ودون سند من عقل أو من نص.
2
وقد يكون من أسباب استبعاده هو أنه موضوع يثير التعصب والغضب، وتحنق منه النفوس؛ فالبعد عنه أسلم، والخوض فيه أصعب، خاصة لو أدى إلى خطأ وجهل. والحقيقة أن السياسة علم محكم يقوم على تحليل الوقائع دونما تعصب؛ فالسياسة في موضوع الإمامة تعني الأحزاب السياسية والصراع السياسي. وإن بنية الموضوع إنما تكشف عن هذا الصراع بالرغم من إعلان الأصول عن حياده وموضوعيته. وهو من الموضوعات النقلية رابع موضوع في السمعيات بعد النبوة والمعاد والأسماء والأحكام، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يصل بعقله إلى يقين في موضوع السياسة ويترك الأمر إلى النقل وحده؛ فموضوع السلطة السياسية الحجة فيه السلطة الدينية، الموضوع هو السلطة، والمنهج هو السلطة؛ فالإمامة من المنقولات وليست من المعقولات، كما أنها من الفروع وليست من الأصول،
3
كما أنها من المختصرات وليست من المطولات؛ وبالتالي يكتفي فيها بأقل القليل، وكأن الأقلام تسيل في الموضوعات النظرية الخالصة ثم تخف في المسائل العلمية، وكأن موضوع الحكم والثورة لا يساوي مواضيع المعاد وعذاب القبر والصراط والميزان، وكأن صلاح الدين بالمعاد أفضل من صلاح الدنيا بالإمامة.
4
والإمامة من المسائل المختلف عليها مثل باقي الأصول، تكفر الفرق فيها بعضها البعض. أما عند الفرقة الناجية فهي موضوع اتفاق! اتفاق السلطة في مواجهة المعارضة، وحدة السلطة في مقابل تشرذم المعارضة. هي أولى المسائل التي يقع عليها الخلاف بعد موت النبي ودفنه وصفة القرشية. قد يكون الدافع على إدخالها ضمن الأصول الرد على المبتدعة، وظهور اعتقادات فاسدة تتطلب الرد والتفنيد؛ فدخلت في علم الكلام لما كان هو العلم الذي يدافع عن العقائد ضد البدع.
5
وقد يكون الدافع هو الدفاع عن الصحابة؛ أي الدفاع عن حزب سياسي بعينه، والهجوم على الأحزاب السياسية الأخرى. تكشف الإمامة إذن الهدف السياسي للعلم كله؛ لذلك توضع المسألة في نهاية العلم كملحق تاريخي يفصل فيما وقع من خلاف، ويحكم بين المتخاصمين، أو كنظرية في اختيار الإمام، ثم أحكام تاريخية على الخلافة الأولى دفاعا عن الفرقة الناجية.
6
وقد يكون الدافع الرغبة في الدفاع عن السلاطين وأنظمة الحكم القائمة، والكشف عن إمام العصر، والدعوة إليه من على المنابر، وطلب الطاعة له؛ لذلك تكون المسألة نظرية في اختيار الإمام، إمام العصر، مع أنه ليس من شأن دراسة المشكلة السياسية الدعوة لأمير وإثبات شرعية سلطة.
7 (1) هل الإمامة فرع أم أصل؟
يعني هذا السؤال أن الإمامة قد تكون فرعا من فروع الدين وليست أصلا من أصوله، جزءا من علم الفروع وليست أصلا من علم الأصول؛ وبالتالي تكون العقيدة قائمة بذاتها دون تحقق في نظام سياسي، ويكون الدين دون سياسة ، والتصور بلا نظام، والعقيدة بلا شريعة، والإيمان بلا عمل، والنقل بلا عقل. وقد تكون الإمامة أصلا من أصول الدين وليست فرعا من فروعه؛ وبالتالي تتحقق العقيدة في نظام سياسي، ويتحول الدين إلى سياسة، والتصور إلى نظام، والعقيدة إلى شريعة، والإيمان إلى عمل، والنقل إلى عقل. والاختيار الأول هو اختيار السلطة القائمة التي تشعر باللاشرعية، والتي تود إبعاد الناس عن السياسة فيصبح الجمهور غير مسيس؛ وبالتالي تصعب الثورة، في حين أن الاختيار الثاني هو اختيار المعارضة التي تشعر بالشرعية في مواجهة نظام لا شرعي، والتي تود إشراك الناس في العمل السياسي، وتجنيد الجماهير للقضاء على نظام القهر والغلبة. الاختيار الأول يؤدي إلى استكانة الجماهير وإبعادها على العمل السياسي، فلا تنفع صرخات المصلحين، والاختيار الثاني يؤدي إلى تخريب الجماهير، ونزولها إلى ساحة العمل السياسي ملايين هادرة لإسقاط نظم العمالة والقهر، ولا تنفع جيوش السلطان ولا أجهزة العملاء.
وإن معظم الحجج التي تقدم لاعتبار الإمامة فرعا القصد منها كلها إيهام الناس بأنها أمر صعب لا يمكن أن يعرف، كله تعصب وهوى، عليه خلاف، لا يهم في الدين كما تهم الأركان الخمسة! وهل الخلاف عليها يمنع من كونها أصلا من أصول الدين؟ وأي شيء لم يحدث عليه خلاف، حتى التوحيد والعدل والوعد والوعيد والنبوة والأسماء والأحكام، وهي أصول الدين، قد وقع فيها الخلاف، ولم يمنعها ذلك من أن تكون أصولا للدين؟ وهل الخلاف عليها يقلل من شأنها ولا يجعلها أصلا، والخلاف في الرواية وارد في كل العقائد؟ لذلك وضعت شروط التواتر التي يمكن بواسطتها تأسيس علم يقيني، بالإضافة إلى شواهد الحس وبراهين العقل وحقائق الوجدان، على ما هو معروف في نظرية العلم في المقدمات الأولى. ونظرية العلم منذ البداية تفرق بين العلم ومضادات العلم من شك وجدل وظن وتردد وتعصب وهوى. وكيف لا تكون معلومة بالدين ضرورة والقرآن كله حديث حول الإمام والطاعة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكثير من الموضوعات السياسية؟ وكيف تكون الإمامة غير معلومة في الدين وهي الموضوع الأول الذي اختلفت عليه الأمة، وكان سبب نشأة علم أصول الدين؟ ولماذا تكون أقل من الأركان الخمسة؟ وما قيمة الشهادتين في العبادات دون إمامة أو جهاد في المعاملات؟ إن استبعاد الإمامة مثل استبعاد الجهاد كأحد أركان الدين إنما كان محاولة مقصودة لعدم تسييس الدين، واعتبار السياسة حكرا على السلطة، وإبعاد الجماهير عنها حتى يستأثر بها الحكام. ولماذا لا يكفر منكرها كما يكفر منكر السمعيات وهي موضوعات نظرية خالصة لا تعم بها البلوى؟ وأيهما أولى بالكفر؛ من ينكر الملكين أو عذاب القبر أو الصراط، أو من يقهر المسلمين ويستذلهم ويتسلط عليهم ويستغلهم ويصالح الأعداء؟ وبطبيعة الحال يشوب الموضوع حماس وانفعال؛ فالسياسة ليست فقط علما نظريا فحسب، بل هي ممارسة عملية، وتحزب ومواقف وتعارض مصالح وتصادم قوى؛ فمن الطبيعي أن يسود الهوى في الممارسة، وأن يتدخل في صياغة النظرية. ومع ذلك فإن نظرية العلم قادرة على الفصل بين العلم والهوى، بين اليقين والظن.
8
الإمامة إذن أصل من أصول الدين وأحد أركانه الرئيسية؛ فالإنسان حيوان سياسي بقدر ما هو حيوان عاقل، ولكن هل يعني ذلك أنه لا تفويض للعامة فيها، أو تركها للناس، أو عدم قيامها على المصلحة، وإنما تكون غيبية دينية إلهية تفويضية؟ يبدو أن اعتبار الإمامة مجرد مصلحة فئة وليست مصلحة عامة ولد رد فعل مضاد يجعلها خارج المصلحة كلية. ولدت الذاتية النسبية أسطورة غيبية مع أن المصلحة العامة أساس موضوعي تقدم عليه الإمامة؛ ومن ثم ينقلب الموقفان إلى هوى وهوى مضاد، إلى ذاتية وذاتية مضادة، ويغيب الأساس المصلحي العام، وهو الأساس الوحيد للسياسة.
9
ومع ذلك تظهر الإمامة كأنها أصل خاص داخل الشق العقائدي للفرق المختلفة سواء دون نظام، مجرد أصل، أو كأصل في نظام مرتب، الأصل الرابع أو الخامس أو السادس أو الثاني عشر. وهنا يكون الأصل والموضوع والركن والعقيدة بمعنى واحد.
10
قد تدخل المسألة كإحدى مسائل السمع والعقل كأصل رابع يتم طبقا لها تصنيف الفرق مع الصفات والتوحيد، والقدر والعدل، والوعد والوعيد، وهو السمع والعقل؛ أي إنها مسألة تتراوح بين النقل والعقل ، وليست نقلا خالصا عاريا عن العقل.
11
وقد تدخل الإمامة تحت الأصل الخامس «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
12
وقد تدخل كأحد موضوعات ستة يدور حولها علم التوحيد؛ التوحيد والقدر والإيمان والوعيد والإمامة والمفاضلة اللطائف.
13
ويظهر معها الجانب التاريخي في تفضيل الأئمة ومقارنتها؛ مما يدل على أنها مسألة سياسية تاريخية، أي النبوة في التاريخ. ومع ذلك فقد تظهر مسألة الإمامة في موضوع النبوات، وبوجه خاص في آخر مرحلة من مراحل النبوة؛ مما يدل على أنها ملحق للسمعيات لا ترتكز على أساس عقلي، وأنها مرتبطة بخلافة النبي، فالإمام خليفة، وأنها استمرار للنبوة في التاريخ على الأرض، وليس في السماء كما هو في المعاد.
14
وقد تظهر الإمامة كأحد موضوعات السمعيات مع النبوات والمعاد والأسماء والأحكام.
15
وفي هذه الحالة لا تكون ركنا خاصا أو عقيدة خاصة. وقد تغيب المسألة عن بعض الرسائل المتقدمة لأنها فرعية وليست أصلية؛ وبالتالي يتعرى العلم عنها كلية.
16
كما أنها تغيب في بعض العقائد المتأخرة أمام شمول التوحيد بعد أن فرغ التوحيد من أي مضمون سياسي إلا من الثناء على الخلفاء الأوائل.
17
وفي بعض الحركات الإصلاحية الحديثة قد تبتلع وظيفة الوصي السياسية مسألة الإمامة، وتختفي الإمامة أمام النبوة كتحقق للوصي في التاريخ.
18
والإمامة هي المشكلة الغالبة عند «الرافضة» و«الخوارج»، وهما الفرقتان اللتان خرجتا من واقعة واحدة، وهي الخلاف على الإمام. عبدته الأولى، وكفرته الثانية. طرفا نقيض خرجا من واقعة واحدة،
19
لكل منها تصور مختلف. الأولى تخصصها في قريش، والثانية تعممها خارج قريش. الأولى تجعلها بالنص والتعيين، بينما الثانية تجعلها بالاختيار والبيعة. الأولى تقول بالتقية، والثانية تقول بالقيادة الظاهرة. الأولى تقول بالطاعة، والثانية تشرع للمراجعة عليه. الأولى تطالب بإسقاط الشرائع، والثانية تعمل على تطبيق الشرائع. ولما كانت الفرقتان مختلفتين في التوحيد والعدل، إذ تقول الأولى بالتأليه، والثانية بالتنزيه؛ فإنه يبرز سؤال: هل هناك صلة بين الموقف في التوحيد والموقف في الإمامة؟ هل يؤدي التأليه أو التجسيم إلى القول بالإمامة بالنص والتعيين وبألوهية الأئمة وبالخلود وبالرجعة وبالعصمة وبالتقية، كما يؤدي القول بالتنزيه إلى البيعة والاختيار؟ إن أكثر الفرق التزاما بالعالم كالخوارج أقلها إيغالا في التوحيد تنزيها، فلا تجد عندهم أقوال في الله في ذاته وصفاته بقدر ما نجد في الإيمان والعمل والحرب والسلم والفقه والتشريع والسياسة؛ فالتوحيد عملي صرف، في حين أن الرافضة أكثر إيغالا في التوحيد تأليها وتجسيما وتشبيها، كما أن لديهم أقوالا في الإيمان والعمل والإمامة والسياسة وموضوعات الفقه والتشريع؛ فالتوحيد نظري وعملي. (2) اسمها وتعريفها وأقسامها
يختلف اسمها بين الإمامة أو الخلافة أو الزعامة. وهي في الحقيقة أسماء واحدة تضع مسألة السلطة أو الزعامة في الأمة دون المؤسسات أو الجمهور، وهي بهذا المعنى أدخل في النظم الإسلامية والشريعة الإسلامية في الأحكام السلطانية في علم الفقه.
20
الإمامة إذن هي قضية السلطة في المجتمع الديني والمدني وتسيير أمور الدين والدنيا. وفي هذه الحالة لا يكون هناك فرق بين النبوة والإمامة؛ فالنبوة إمامة، والإمامة نبوة، وكأن النبي يقوم بوظيفة الإمام، كما أن الإمام يقوم بوظيفة النبوة باستثناء الوحي وإيصاله من الله إلى الناس. وقد ظهر ذلك في علوم الحكمة أكثر من ظهوره في علم أصول الدين، ولكن من حيث الجانب المعرفي دون الجانب العملي التشريعي.
21
أما تعريفها بأنها خلافة الرسول في إقامة الدين اتباعا؛ ومن ثم يخرج من التعريف العامل والمجتهد والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، أي ثواب الإمام والعلماء ووسائل الرقابة الشعبية، فإنها تشير إلى الوضع نفسه، وهو أن الإمامة تركيز للمشكلة السياسية على قضية الحكم أو السلطة دون المؤسسات التنفيذية (العمال)، أو القضائية (القضاة والمجتهدون)، أو الشعبية (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر).
22
كما أن الإمامة تكون عن استحقاق أم عن غير استحقاق؛ أي إنها قد تكون بالغلبة والقهر؛ وبالتالي لا تدخل البيعة كطريقة لثبوتها كجزء من تعريفها، كما لا تدخل طريقة عزل الإمام أو الخروج عليه كجزء من تعريفها إلا فيما ندر.
23
تدور معظم المشكلة حول الإمام، أي السلطة المشخصة؛ ولايته، وصفاته، ووجوبه، وطريقة ثبوته، دون التعرض لباقي جوانب المشكلة السياسية؛ أي المؤسسات الدستورية ووسائل الرقابة الشعبية. ولكن المقارنة تعقد باستمرار بين الإمامة العظمى وهي الخلافة، والإمامة الصغرى وهي إمامة الصلاة، من أجل إضفاء الطابع الديني على السياسة طلبا للطاعة،
24
في حين أن المعنى هو أن الذي يؤم الصلاة يقود أمة.
25
لذلك كانت أقسام الإمامة كلها تدور حول الإمام المنصوص عليه تعيينا مثل الخلود والرجعة والتقية، أو الإمام الذي عقد البيعة عليه اختيارا. ولكل نموذج تحقق في التاريخ وتعين فيه، حتى يتحول الموضوع النظري إلى تحققات تاريخية صرفة عن تاريخ الأئمة والخلفاء الراشدين؛ فالتاريخ ذيل للإمامة أو تذييل لها. وقد يبدو أحيانا الجانب النظري أهم من الجانب العملي، حيث يتم البحث في طريقة ثبوت الإمامة، أي كيفية تنصيب الإمامة، بعد أن يتم البحث في وجوبها وعلى من تجب وكيف تجب، أكثر من البحث عن شروطه ووظائفه. ومع ذلك يصعب تجريد البحث النظري من المواقف العملية والنماذج التاريخية، والدخول في صراع الفرق وآثارها ومذاهبها، حتى لتضيع الموضوعات من خلال عقائد الفرق، بل وتتغلب أحيانا الدعوات لفرقة بعينها على العرض الموضوعي للإمامة، وكأن البحث السياسي لا يفرق بين العرض النظري والالتزام العملي.
26
ثانيا: وجوب الإمامة
هل الإمامة واجبة، أي ضرورية، لا يرسل الله وحيا إلا ذكرها، ولا تقوم حياة الناس إلا بها، أم أنها غير ضرورية يصلح حال الناس دونها؟ وهو موضوع نظري صرف كما هو الحال في النبوة، إثبات وجوبها أو استحالتها أو إمكانها.
1
وهناك احتمالات عدة؛ ألا تكون الإمامة واجبة أصلا؛ إما لعدم حاجة الناس إليها والاستغناء بفطرتهم عنها، أو لأنها تثير الفتنة والشقاق، أو لأنه يصعب تحقيق شروطها. وقد تكون واجبة على الله قبل وجوبها على العباد؛ لأنه لطيف بهم يرعى الصلاح ويبغي الأصلح. وقد تكون واجبة على العباد إما سمعا أو عقلا. وهو سؤال عام في الفلسفة السياسية عن ضرورة السلطة في المجتمع.
2 (1) هل الإمامة غير واجبة أصلا؟
قد تكون الإمامة غير واجبة أصلا، لا على الله ولا على العباد، لا سمعا ولا عقلا، لا نظرا ولا عملا. وقد يصاغ السؤال بطريقة أخرى، فيكون: هل يجوز أن تخلو الأرض من إمام؟ فإذا كان السؤال الأول يتوجه نحو النظر والمبدأ، فإن السؤال الثاني يتوجه نحو الواقع والمشاهدة واستقراء التاريخ؛ فإذا تطابق الرأيان تصبح الإمامة غير واجبة أصلا بحجة العقل وحجة الواقع.
ويرفض الوجوب النظري بعلتين متضادتين؛ الأولى: أن الناس وقت السلم أخيار، وليسوا في حاجة إلى إمام. والثانية: أن الناس في وقت الفتنة يمتنع عليهم وجود الإمام. وهما حجتان متعارضتان متقابلتان لنفي وجوب الإمامة وإثبات استحالتها. حجة مثال، وحجة واقع. الأولى ترسم صورة مثالية للعالم؛ ومن ثم فلا حاجة إلى إمام، الثانية ترسم صورة سوداوية للعالم؛ وبالتالي فترك الإمامة أفضل. تبين الحجة الأولى أن الناس لو كفوا عن التظالم لاستغنوا عن الإمام، فالناس أخيار بالطبع، يكفي اتباع الفطرة والعقد الاجتماعي الطبيعي دونما حاجة إلى سلطة تأخذ بزمامهم، وتوجههم نحو الخير. الإنسان سيد نفسه، والجماعة ترعى مصالحها، والسلطة شر ومفسدة لا حاجة للناس بها.
3
والحقيقة أنه لا يمكن رد هذه الحجة بالحجة العكسية، وهو تصور الناس أشرارا يأكل بعضهم بعضا؛ وبالتالي لا بد من إمام يحفظ أموال اليتامى وتوجيه السرايا والذب عن البيضة وتنفيذ الحدود، وكأن مصالح الناس تظل معطلة دون إمام، وكأن الناس بطباعهم ليست لهم أخلاق اجتماعية يحفظون بها الحقوق ويدافعون بها عن النفس؛ وبالتالي إنكار الحق الطبيعي، مثل حق الآخر، وحقوق الدفاع عن النفس.
4
وتبين الحجة الثانية أن الأمة إذا اجتمعت كلمتها على الحق احتاجت حينئذ إلى الإمام. أما إذا عصت وفجرت وقتلت الإمام لم يجب على أهل الحق منهم إقامة إمام؛ فالشعب الغاضب الرافض هنا أقوى من الإمام، والإمام أضعف منه، والسلطة لا تقوى على تثبيت نفسها. ولما كانت السلطة تعبيرا عن الشعب، والشعب رافض لها، فإن أية محاولة لتثبيت سلطة شعب رافض لها ستكون بالضرورة سلطة قاهرة لا تعبر عنه.
5
ويمكن الرد على هذه الحجة بأن الناس أحوج إلى الإمام في عصر الفتنة منهم في حال الاطمئنان واستتباب الأمن، وقد يكون تنصيب الإمام وقت الفتنة أدعى إلى القضاء عليها، ولكن يظل وكأنه أمير يطيعه الناس خوفا منه، ولكن الرد الأكثر إقناعا هو أن هذا الرأي إنما هو تبرير لواقع سياسي معين من أجل غاية سياسية معينة، وهو رفض إمامة الإمام الشرعي الذي بويع في عصر الفتنة.
6
وقد تنكر الإمامة أصلا بلا علة، سواء في حال السلامة أو في حال الفتنة.
7
أما القول بجواز أن تخلو الأرض من إمام حتى يعقد لواحد، وبالتالي فهي غير واجبة، وهي الصيغة الثانية من السؤال التي تعتمد على حجة الواقع، فإنه يمكن الرد عليها بحجة من نوعها، وهي أن الزمان لا يخلو من إمام، ليس بمعنى أنه لا بد من إمام ضرورة يتصرف في أمور الناس، بل بمعنى أنه لا يجوز خلو الزمان ممن يصلح للإمامة؛ لأنها قضية مصلحية.
8
وقد تعاد الحجتان المتضادتان نفساهما بطريقة أخرى. الأولى أن الناس لا يحتاجون لإمام لأنهم يعلمون كتاب الله فيما بينهم، يكفي أن يتناصحوا فيما بينهم، فإن رأوا إقامة إمام بينهم فعلوا، ولكن إقامته ليست ضرورية أصلا. يكفي أن يتعاطى الناس بالحق ويتواصوا به دون أن تكون الإمامة واجبة شرعا تستحق الأمة اللوم والعقاب في حال الامتناع عن القيام بها. وكل إنسان مثل غيره في التقوى والصلاح، فكيف ينصب إنسان آخر إماما عليه وهو مثله ومساو له؟ في طباع الإنسان وأديانه وشرائعه ما يغني عن الإمام. وطالما انتظمت حياة البدو والعربان في البوادي بلا سلطان.
9
والحقيقة أن السلطة تنشأ في المجتمع طالما أن هناك أكثر من اثنين، «لو كنتم ثلاثة فأمروا عليكم واحدا». ولا يكفي التناصف؛ إذ ينشأ النزاع ويبرز الخلاف، وهو طبيعي. ينشأ النزاع من الإرادات، فتظهر الحاجة إلى التنسيق والتوفيق بين المصالح المتعارضة، مثل الأسرة والمجتمع والسياسة الدولية. هي حالة افتراضية صرفة تبدأ بالشرط المستحيل «لو» تناصفوا، وهو ما لا يحدث نظرا؛ لأن الإنسان مجموعة من الأهواء والمصالح يعيش في طبقات اجتماعية متباينة، حتى الصحابة والتابعين بالرغم من إخلاصهم وتقواهم نشب بينهم خلاف، ولم يمنعهم تناصحهم وتناصفهم من الوقوع في الفتنة وإراقة الدماء. وإن وجود مساواة بين الناس في الفضل والحكمة لا يمنع من الإمارة، ثم الإمارة لا تعني الرفعة والسمو للبعض والطاعة والمذلة من البعض الآخر، بل تعني مجرد التوحيد بين المصالح التي قد تتعارض. والمحكوم حاكم بالرقابة. وهناك شرع مستقل عن كليهما وهو الحاكم الفعلي. كما لا يعني الوجوب الشرعي استحقاق الثواب على الفعل والعقاب على الترك، بل الوجوب المصلحي العملي، حيث لا تستقيم الحياة بدونه. وإن وجود العربان وأهل البوادي بلا سلطان يعني أن حياتهم بدائية، وأن مظاهر إنتاجهم بسيطة، وليست الحياة المدنية المركبة، حيث الصناعة والتجارة وأنماط الإنتاج المتشابكة التي تستدعي سلطة وتنظيما وإدارة وإمارة. ليس الرد على هذه الحجة هو ضرورة وجود إمام مهمته تخويف الناس والتشدد عليهم، ولو باستعمال السيف، فذاك هو الإمام القاهر، ودرء شر بشر أعظم، ولكن بضرورة نشأة السلطة نشأة طبيعية تحقيقا لمصالح الجماعة عن طيب خاطر بناء على عقد اجتماعي شفاهي أو مكتوب. فهذا العقد تعبير عن الحرية الطبيعية، وليس سلبا لها بالقهر. لا يكون إثبات الإمامة بالتخويف وحمل الناس حملا عليها، فذلكم هم العبيد. وقد يكون الراد على عمر وهو يخطب أكثر سلطة من عمر نفسه كحاكم وكإمام من فوق المنبر.
والحجة الثانية أنه حتى في حالة الحاجة إلى إمام فإنه يصعب تنصيبه؛ لأن ذلك يثير الفتنة نظرا لاختلاف الأهواء، كل قوم يريدون الإمام منهم، فيقع التشاجر والتناحر، والتجربة خير شاهد على ذلك. كما يتعذر الوصول إلى آحاد الرعية لتنصيبه إماما عليها يسير كل ما يعني لهم من شئون حياتهم. كما أن للإمامة شروطا قلما توجد في كل عصر؛ فإن أقاموا من لم يتصف بها فقد أخلوا بالواجب، وإن لم يقوموا أحدا فقد تخلوا عن الواجب؛ وبالتالي يرتكبون الذنب مرتين.
10
والحقيقة أن تنصيب إمام لا يثير بغضا ولا كراهية ولا تسابقا على الإمامة. فإذا ما تسابق إمام عليها فإن ذلك يسقط شرط إمامته؛ لأنه لا يمكن تولية هذا الأمر من يطلبه، ولا بد فيه من بيعة الآخرين له دون أن يطلبها هو لنفسه حياء واستحياء. ومن يبغي تحمل مسئولية أمة، يعذب على كل محتاج ومظلوم؟ وإن صعوبة شروط الإمام لا تعني عدم وجوده بالفعل، بل تطبق الشروط على مستوى الممكن والواقع، وليس على مستوى المستحيل والمثال. لا توجد استحالة في اختيار الإمام نظرا لصعوبة تنفيذ الشروط؛ إذ يجتاز الأفضل فالأقل فضلا. هناك أولويات في الشروط؛ الأعلم فالأروع فالأسن، ويمكن للأعدل وللأقوى.
11
ويبدو أن هذا الموقف بحجتيه إنما هو رد فعل على تشاحن الناس على الإمامة مما أدى إلى تركها، وتضارب الأهواء والمصالح حولها؛ الأمر الذي أدى إلى تنابذها. وقد أدى ذلك إلى تصور حالة طوباوية معاكسة، حيث يعيش الناس في جو من الأمن والسلام دون مشاحنة أو تقاتل حيث لا حاجة بهم إلى إمام. وعادة ما يتم ذلك من إحدى فرق المعارضة العلنية في الخارج التي ترفض إمام العصر، زمانه ومكانه، وتعيش في الفلاة حياة طوباوية بلا إمام أو إمامة؛ فهم بهذا المعنى «خوارج» على الإمام وعلى مجتمع المدنية.
وقد يأتي إنكار وجوب الإمامة أصلا من استحالة ثبوتها، سواء عن طريق النص أو عن طريق الاختيار، وليس فقط لعدم الحاجة إليها، أو عدم الانتفاع بها، أو وقوع المضرة بسببها، أو صعوبة تحقيق شروطها. فإذا كانت تثبت بالنص فإنه لا نص على أحد، وإن ثبتت بالاختيار من المجتهدين، والاختيار إجماع لا خلاف عليه، وهو ما لا يتصوره عقل أو واقع. لا يمكن تصوره عقلا لأن الاختيار مبني على الاجتهاد، والاجتهاد على قدرات كل إنسان في إدراك الوجوه العقلية والسمعية. ولما كانت الطباع مختلفة تختلف الأحكام ضرورة. وقد كانت الخلافة أحق الأحكام بالاتفاق عليها، وأولى الأزمان هو الزمن الأول، وأولى الأشخاص بالصدق والإخلاص والصحابة، وأخصهم بالأمانة ونفي الخيانة المهاجرون والأنصار، وأقربهم إلى الرسول الشيخان، ومع ذلك وقع الخلاف. فإن لم يتصور إجماع الأمة في أهم الأمور وأولاها بالاعتبار دل ذلك على أن الإجماع لن يتحقق قط، وليس دليلا في الشرع.
12
ويمكن الرد على ذلك بأن الخلاف في الإجماع جائز، وأن ذلك لا يطعن في حجته، فلا عصمة لأحد. يجوز الخطأ فيه والرجوع عنه ، والشواهد كثيرة. وقد يكون الطعن في الإجماع سببه سياسي خالص لأن الأمة لم تجتمع على الإمام الشرعي بعد الإمام المقتول. لقد تم إدراك كثير من واجبات الشرع بالإجماع؛ فالإجماع دليل شرعي، قد يقع عن نص، وقد يقع عن اجتهاد، ويتطلب اجتماع شخصين أو ثلاثة على رأي. وقد وقع ذلك في الصدر الأول، وله قرائن تدل عليه مثل النص أو التواتر أو القرينة اللفظية أو الفعلية. وكل حد للإجماع السابق له ما يبرره، مثل غياب البعض وانشغال البعض الآخر. وقد يقع الخطأ في الإجماع عن اجتهاد ثم يعاد تصحيحه بإجماع الآخر. وفي هذه الحالة لا يكون الإجماع الأول خطأ، والثاني صحيحا، بل كلاهما صحيح طبقا لتغير الظروف والأحوال.
13
وقد يقال إن الاختيار متناقض لوجهين؛ الأول: أن صاحب الاختيار ينصب الإمام ويبايعه حتى يصير إماما، ثم تجب عليه طاعته بعد ذلك إذا بايع الناس الإمام، فكيف بالذي نصب الإمام يقوم بطاعته؟ والثاني: أنه يجوز أن يخالف أحد المجتهدين الإمام في المسائل الاجتهادية، فكيف تجوز طاعة الإمامة والخلاف بينه وبين أحد الأئمة موجود؟
14
والحقيقة أن الطاعة ليست للإمام بل للشريعة. وكما أن من نصب الإمام من حقه طاعته، فمن واجبه خلعه إذا ما تقاعس الإمام عن تنفيذ الشرع أو صالح الأعداء. إن الإمامة وظيفة وليست منصبا. الشخص غير مهم، إنما المهم هو أداء الوظيفة، والقيم عليها هو جمهور الأمة الممثلة في أئمة المجتهدين وعلمائهم وورثة الأنبياء. وأن ينصب الإمام من الناس خير من أن يطلب الإمامة لنفسه. وإن تنصيب واحد للإمامة إنما هو بداية البيعة، بعدها تتم البيعة من أهل الحل والعقد له؛ فالطاعة للناس بعد البيعة وليس لواحد بفعل التنصيب. كما أن الخلاف في المسائل الاجتهادية بين الأئمة والمجتهدين والإمام لا يمنع من الطاعة، فالأمر شورى بينهم. وإن الاتفاق على موضوع الاختلاف بالأغلبية يوجب الطاعة والنزول على رأي الجماعة. والخلاف النظري شيء، والخلاف العملي شيء آخر. الأول جائز، والثاني لا يؤثر في وحدة العمل. وإن تعدد الأطر النظرية ممكن، في حين أن وحدة العمل والممارسة ضرورية. وتظل مسئولية أخذ القرار للإمام، أي للسلطة الشرعية، وحق العلماء النصيحة والشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد قيل: إذا جار الإمام وجبت منابذته وخلعه، فإن لم ينخلع قتل طوعا، وإن حدث شك قبل التحكيم في إمامته فقد يقتل؛ وبالتالي فالإمامة في كلتا الحالتين تؤدي إلى القتل.
15
والحقيقة أن حجة التاريخ والأحداث على الإمامة في عصر كانت الدماء فيه تسيل، والرقاب فيه تتطاير، ولم يعد أحد يعرف الحق من الباطل. ومع ذلك فالخلع لا يؤدي بالضرورة إلى القتل، والتحكيم مصالحة يصعب رفضها، والاستثناء لا يكون قاعدة، كما أن الحجة العملية لا تكون حجة نظرية، والواقع لا يتحول إلى فكر. وكثيرا ما خلع الحكام ووقع التحكيم وحدثت المصالحة في جو مشحون بالانفعالات والصراع على السلطة. ومع ذلك تظل حجج نفي الإمامة أصلا قويا، سواء من حيث النظر أو العمل. ولكن ما العمل؟ وما البديل؟ هل يترك الناس بلا سلطة والسلطة تنشأ طبيعيا في الجماعة؟ هل البديل هو الخروج المستمر على الإمام وتكوين جماعات رفض منعزلة على أطراف الأمة، أو تكوين جماعات سرية في المركز، لها إمام غائب يظهر في نهاية الزمان ليملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا؟ (2) الإمامة واجبة
الإمامة إذن واجبة وضرورية لتنفيذ الأحكام وإقامة الشرائع وتطبيق الحدود. فهذه لا بد لها من سلطة عامة معترف بها من الجميع. وإذا كان دفع الضرر وجلب المصالح حقا طبيعيا وأصلا عقليا، فإن الإمامة ما يندفع بها الضرر وما تجلب بها المصالح. ولكن لا يعني ذلك أن الإمام رئيس قاهر يخاف الناس بطشه ويرجون ثوابه، رئيس قاهر ضابط، بل هو واحد من الأمة بايعته على تنفيذ الشرائع والأحكام، تطيعه طالما التزم بعقده، وتخرج عليه إذا أخل بالتزامات العقد بعد أن تنصحه وتأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر. وإن تصور علاقة الإمام بالأمة على أساس أنها علاقة قهر وبطش، أو خوف وطمع، قد تكون قائمة على تصور آخر للعلاقة بين الله والإنسان على الأسس نفسها، قهر وبطش من طرف، وخوف وطمع من طرف آخر.
16 (2-1) هل الإمامة واجبة على الله أم على العباد؟
ولكن على من تجب الإمامة، على الله أم على العباد؟ وإذا كانت واجبة على العباد، فهل هي واجبة سمعا أم عقلا؟
17
وقد تبدأ القسمة بالوجوب السمعي أو العقلي. فإذا ثبت الوجوب العقلي تأتي القسمة الثانية إما على الله أم على العباد نظرا لإثبات الواجبات العقلية، ولكن لما ثبتت الواجبات العقلية من قبل يمكن إذن البداية بقسمة الوجوب إلى «وجوب على الله» ووجوب على العباد. قد بلغ إثبات وجوب الإمامة حد فرض وجوبها عقلا على الله؛ فالإمام هو الذي يعرف بالله، وهو الذي يدل عليه، كما يدل على معرفة سائر المطالب. وكأن العقل غير كاف في معرفة الله وإرشاد الناس إلى شئون الدنيا. كما أنها لطف في الزجر عن المقبحات العقلية، وكأن الوازع الفردي لا يكفي في ذلك. الإمامة إذن واجبة على الله لسببين؛ لنقص في العقل، ونقص في الإرادة. فالإمام معرف بالله ومرشد للشريعة، يعطي المعارف النظرية والتوجيهات العملية.
18
ويكون للإمام وظيفة ثالثة، وهي تعليم اللغات، والتفرقة بين الأغذية والسموم، وكأن الإنسان لا يستطيع أن يتكلم لغة أو أن يقتات إلا بوجود الإمام. واللغة هنا هي المعرفة، ليست بالضرورة لغة الكلام، بل قد تكون لغة الإنسان أو لغة الطير. والقوت لا يعني بالضرورة الطعام، بل يعني كل ما به قوام الحياة. الإمامة إذن ضرورية للحياة الروحية والبدنية؛ لذلك فهي واجبة على الله.
19
فإذا كانت الإمامة واجبة على الله، فإن معرفتها واجبة في الدين عقلا وشرعا، وجوب النبوة عقلا وسمعا. الإمامة والنبوة كلاهما واجبة بالعقل والسمع. تجب الإمامة عقلا نظرا لاحتياج الناس إلى إمام تجب طاعته؛ يحفظ الأحكام، وينفذ الشرائع، ويحمل الناس على مراعاة أوامر الدين واجتناب نواهيه، ويساعدهم في تبيين الحلال من الحرام. وإن احتياج الناس إلى استمرار الشرع ورعايته وبقائه قدر حاجتهم إلى بدايته وإعلانه ومعرفته، وكلاهما واجب ولطف. كما تجب الإمامة سمعا لأمر الله الناس بطاعة أولي الأمر، وهم الأئمة الهداة.
20
ولكن أليس العقل كافيا لمعرفة الدين والتمييز بين الحسن والقبيح؟ صحيح أن الإمام له وظيفة تنفيذية صرفة بتطبيق الأحكام وإقامة الحدود، ولكن الوجوب لا يأتي من شخص الإمام، بل من وظيفته. كما أن طاعة أولي الأمر غير معينة بشخص الإمام، بل بسلطة غير مشخصة هي القائمة بتطبيق الحدود وتنفيذ الأحكام، سلطة تنفيذية خالصة؛ لذلك تكون معرفة الأئمة واجبة بالضرورة، «ومن مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»، ومن مات ولم يكن في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية؛ لأنه لم يعرف الله ولا الشرائع، وجهل المعارف النظرية والتوجيهات العملية. ولا يسع جهل الأئمة لأن معارفهم ضرورية، وهي أولى من المعارف النظرية التي عند غيرهم، وقد يسع جهل الأئمة ويكون الإنسان حينئذ لا مؤمنا ولا كافرا. وقد تصل معرفة الإمام إلى حد لا يلتزم بعده بشريعة، ولا تجب عليه فريضة. وكأن معرفة الأئمة كافية بذاتها وليست وسيلة لتطبيق الشرائع، كما يقول الصوفية في حب الله.
21
والحقيقة أن التطرف في إثبات ضرورة معرفة الإمام بعد إثبات وجوب الإمامة يصل إلى حد إسقاط التكاليف بعد أن كانت الإمامة وسيلة للقيام بها؛ وبالتالي يصبح من لا يعلم الإمام غير مكلف، لا تقوم عليه الحجة، ويكون معذورا ما دامت العلة قائمة، وإلا يكون مكلفا أو معاقبا. وإن عدم العلم به الآن مزيح للتكليف الآن، وطالما غابت المعرفة زيحت التكاليف إلى نهاية الزمان. وهل يجب العلم بإمام واحد أم بالأئمة كلها نظرا أم حسب حاجة المكلفين؟ وماذا عن الفترة التي لا توجد فيها إمامة أو نبوة، هل تلغى التكاليف، وقد ثبت وجود فترة بين الرسل، وهذا يوجب الانقطاع وزوال الاتصال؟ وينقلب في النهاية الهدف من الإمامة بدل أن تكون إقامة الشرائع فإنها تنتهي إلى إسقاط التكاليف. قد يرجع ذلك كله إلى ضياع المعرفة، والخلط في التكاليف، واضطراب الناس أيام الفتنة حتى لم يعد يعرف أحد من الإمام وما وظيفته. (2-2) وجوبها على العباد سمعا
إن لم تكن الإمامة واجبة على الله لأنها أمر مصلحي صرف، دفع ضرر وجلب نفع، ولأنه لا يجب على الله شيء، وهو الموجب لكل شيء، فإنها واجبة على العباد. وكأن ما لا يجب على الله يجب على العباد، وكأن الوضع الطبيعي هو التقابل بين الله والناس إلى حد التعارض والتضاد. وإذا كانت الإمامة واجبة على الله فإنها كذلك من أجل الناس رعاية لمصالحهم، فالوجوب على الله هو وجوب من أجل المصلحة.
22
وإذا كان وجوب الإمامة وجوبا سمعيا شرعيا فلأنه وجوب مصلحي، فالشرع إنما يهدف لرعاية المصلحة.
23
والوجوب السمعي إن كان مضادا للاوجوب إلا أنه لا يكون مضادا للوجوب العقلي؛ إذ يجمع بينهما الوجوب المصلحي؛ فالسمع معتمد على المصلحة، ولكن ما هي هذه المصلحة؟ هل هي إقامة الشعائر الفردية مثل الصلاة، أو الاحتفالات الاجتماعية مثل الاحتفال أيام الجمعة والأعياد أو زواج الأيامى وإقامة الحدود، أم هي وظيفة سياسية في أصلها؛ الدفاع عن الحدود، وإقامة العدل بين الناس (توزيع الفيء)، وتوجيه مظاهر النشاط الاقتصادي؟ ليست وظيفة الإمامة مجرد إقامة الحدود وإقامة الصلوات، بل إعطاء الحقوق والدفاع عن المظلومين ورد المعتدين. لا تطبق الحدود إلا إذا عاش الناس في حكم إسلامي يأخذون حقوقهم قبل أن يطالبوا بواجباتهم. فإذا ما طبق الإمام الحد، وكان قد تم تنصيبه بيعة واختيارا، فإن هذا التطبيق يجد صدى وقبولا عند الناس، وليس كإمام أتى وراثة أو انقلابا أو بناء على بيعة صورية أو انتخاب مزور. وإذا كانت حرمات المسلمين اليوم مستباحة، وحدودهم مخترقة، واستقلالهم ضائعا، وأراضيهم محتلة، فإن واجب الإمام أكثر ما يتوجه إلى سد الثغور، وتجهيز الجيوش، والوقوف أمام قطاع الطرق، والقضاء على المرابين والسماسرة وتجار السوق السوداء والمهربين، أكثر من التوجه نحو الاحتفالات والموالد وتزويج الصغار. وظيفة الإمام عملية صرفة، أي تنفيذية خالصة، وليست نظرية، أي تشريعية أو قضائية. ليست مهمة الإمام إعطاء معارف، بل تنفيذ شرائع، وتأسيس دولة، والدفاع عن الحكومة، والذب عن البيضة. فكيف بكل هذه الوظائف وتكون الإمامة فرعية لا أصلية، وليست جزءا من العقيدة مع أنها التحام العقيدة بالشريعة، والنظر بالعمل، وتحقيق وحدة الأصول بشقيه، أصول الدين وأصول الفقه؟ وإذا كانت الإمامة بمثل هذه الأهمية فمعرفة الإمام واجبة، ومن لم يعرف إمام زمانه مات يهوديا أو نصرانيا، أي بلا أمة.
24
وبهذا لا تفترق السلطة عن المعارضة السياسية في ضرورة الإمام، الإمام القاهر، والإمام العادل، سواء من حيث الوجوب السمعي أو الوجوب المصلحي، فلا قوام للجماعة بدونه.
25
وقد يتركب دليل شرعي يعتمد على الإجماع المتواتر أو تواتر الإجماع. وفي هذه الحالة تظهر الحجة المصلحية كما ظهرت في الدليل النصي، بل إن الحجة المصلحية تظهر كمقدمة جزئية مع الإجماع المتواتر كمقدمة قطعية. الأدلة السمعية إذن اثنان؛ الأول: تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأولى بعد وفاة النبي على امتناع خلو الوقت عن إمام، ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى تنصيب إمام متبع. ومستند الإجماع نقل متواتر توفرت الدواعي والقرائن عليه.
26
ولكن الطعن في حجية الإجماع يهدم الدليل؛ وبالتالي تهدم الإمامة، فجائز أن يحدث خطأ في الإجماع، وأن يتغير من عصر إلى عصر طبقا للظروف والمصالح، وأن يخطئ كل فرد نظرا لاختلاف الطباع، وأن تكون الأحاديث التي هي مستند الإجماع آحادا ظنية، وأن يكون معارضا بحديث آخر أو بإجماع آخر، إلى آخر ما هو معروف من نقد بعض المتكلمين للإجماع، ونقد العقل لحجة السلطة؛
27
لذلك يقرن الإجماع بالدليل الثاني، وهو المصلحة، تفاديا لنقد الإجماع؛ وبالتالي يصبح للدليل مقدمتان؛ الأولى: قطعية، وهي أن نظام الدين مقصود لصاحب الشرع قطعا. والثانية: جزئية، وهي أنه لا يحصل نظام الدين إلا بإمام مطاع. وتكون النتيجة قطعية، وهي وجوب نصب الإمام. ويمكن البرهنة على المقدمة الجزئية الثانية بأمرين؛ الأول بأن نظام الدين لا يحصل إلا بنظام الدنيا، والثاني أن نظام الدنيا لا يحصل إلا بإمام مطاع. وفي هذا الدليل تظهر حجة المصلحة أساس المقدمتين معا كقصد للشرع، وكضرورة في الدنيا؛ فالمصلحة هي التي تجمع بين الدين والدنيا، أساس الدين، وضرورة في الدنيا.
28
ويمكن الجمع بين الحجتين، الإجماع والمصلحة، في حجة واحدة، وهي أن ما دام فيه ضرر مظنون فإن دفعه واجب إجماعا. وفي هذه الحالة إذا تم نقد الإجماع فإنه لا يمكن نقد المصلحة. وطالما قامت الفتن في حال وفاة إمام وتنصيب آخر. ليس في الإمامة إضرارا منفيا لأنه لا ضرر ولا ضرار. وإن الإضرار الناشئ من ترك الإمامة أعظم من الإضرار الناشئ من تنصيبها، ودفع الضرر الأعظم عند التعارض واجب. وإن تولية الإنسان على مثله ليس ضررا؛ لأن الولاية ليست للشخص، بل للشريعة، ولأن الوالي إنما تمت بيعته عن مثله؛ فالناس هم الولاة وليس الوالي. وإن استنكاف البعض من أن يولي مثله عليه هو تشخيص للشريعة وضياع لها، وتحويلها إلى مجرد رغبة في السلطة وتنافس عليها. وإن عزل الإمام مصلحة وليس مفسدة، سلام وليس فتنة، وهو أخف ضررا من إبقائه. فإذا كان تنصيب الإمام واجبا إذا ما التزم بالشرع، فإن عزله يكون أيضا واجبا إذا ما أخل به.
29
ويظل العيب في هذا التصور هو صورة الإمام القاهر المستبد العادل الذي يحقق مصالح الناس، ولكنه قاهر يخشاه الناس، مع أن البيعة لا قهر فيها، والاختيار طواعية ورضا. وقد أدت هذه الصورة إلى جعل الإمام باستمرار قاهرا للأمة، وسلطانه غير مستمد منها، يرعى مصالحهم بالقوة فيرغمهم، فتسابق الناس على الإمامة، ونشأت الانقلابات كل منها يعلن عن تحقيقه لمصالح الأمة. (2-3) وجوبها على العباد عقلا
مهما كانت هناك من حجج شرعية أو مصلحية لوجوب الإمامة، فإن الشرع والمصلحة كلاهما من مقتضيات العقل؛ فالوحي والعقل والواقع وحدة واحدة تتأصل فيها حياة الناس. يقوم الشرع على العقل والمصلحة، كما تقوم المصلحة على الشرع والعقل، ويكون العقل دعامة الشرع والمصلحة. لا يمكن إذن رفض الوجوب العقلي أو الوجوب المصلحي؛ فهو وجوب واحد مرة في الشرع، ومرة في المصلحة. والوجوب العقلي لا ينافي الوجوب الشرعي لارتكازهما معا في الوجوب المصلحي.
30
وإن كل الحجج والتحليلات التي تقدم لنفي الوجوب العقلي بالرغم من تعددها وتنوعها لا تنفي الوجوب العقلي، بل تثبته مسبقا أو تتركه جانبا؛ فاعتبار الإمام من باب التمكين، لولا الإمام لما كانت السموات والأرض، ولما صح من العبد فعل هو نقل للوجوب من العقل إلى الوجود. والعقل هو الوجود، والوجود هو العقل. يستحيل التمكين لأن المكلف قادر على التكليف دون إمام، خاصة إذا كان الصفات المطلوبة في الإمام صعبة التحقيق. واعتبار الإمام من جانب البيان وجواز خلو المكلفين منه يجعل المعرفة منقولة وليست عقلية، ولا غنى للمعرفة النقلية عن المعرفة العقلية. وإذا كان الإمام حجة لله على خلقه، ولا يخلو زمن من حجة، سواء كان نبيا أو إماما، فإن ذلك إلغاء لحجة العقول. أما اعتبار الإمام من باب اللطف، فإن العقل أيضا لطف، واللطف من الواجبات العقلية مثل المصلحة بالرغم من التقابل بين أنصار اللطف وأنصار المصلحة. اللطف هبة من أعلى، والمصلحة اقتضاء من أسفل. واللطف يحتاج إلى دليل، وهو كونه معرفا من جميع عامة المسلمين وجميع المكلفين.
31
لا يمكن رفض التأسيس العقلي للمشكلة السياسية. وإن ضرورة وجود رئيس يجمع الكلم، ويوفق بين الإرادات الفردية، ويعبر عن الإرادة الجماعية، وهي ضرورة عقلية ومصلحية في آن واحد، يعلم اضطرارا واكتسابا، بداهة واستقراء. وكيف يؤدي التأسيس العقلي للقيادة، أي تأسيسها على أسس لا عقلية؟ وإن الأدلة السمعية لتشير إلى هذه الضرورة النظرية والعملية في آن واحد؛ فالمصلحة ليست مجرد تحقيق منافع، بل هي أساس عقلي. فإذا كانت وظيفية الإمام تعيين الولاة في الأمصار وإقامة الحدود وتجهيز الجيوش، ففي ذلك صلاح العباد، والصلاح أصل عقلي كما هو وضع اجتماعي وأساس وجودي.
32
كما أن الوجوب السمعي من حيث أدلة التواتر والإجماع لا يغني عن الوجوب العقلي؛ فالاتفاق مع العقل شرط التواتر، كما أن الإجماع يقوم على رأي الجماعة واجتهاد المجتمعين، وهو ما لا يتم إلا بالعقل. وإن القول بوجوب الإمامة عقلا لا يطعن في وجوبها سمعا بالاعتماد على التواتر والإجماع، أو في وجوبها مصلحة بناء على استقراء أحوال الناس والأمم، ولكن بتضافر الحجج وتكملة بعضها بعضا.
33
ولكن لا يعني ذلك القول بمواصفات معينة للإمام مثل العصمة، أو ضرورتها التي تعادل ضرورة النبوة وتفوقها، أو إيقاف الحدود وإبطال الشريعة في حال غيابه أو عدم ظهوره تقية حتى رجوعه، أو عدم صحة الصلاة إلا بالائتمام به، أو عدم كفاية الوحي ذاته إلا به، فذاك أدخل في صفات الإمام وشروط الإمامة.
34
أما إثبات وجوب الإمامة عقلا عن طريق نقص البشر، وجواز الاختلاف في المذاهب، واحتمال خطأ الاستدلال، فذاك إثبات للعقل عن طريق الطعن فيه؛ فكمال البشر في العقل، واختلاف المذاهب إعمال للرأي، وهو من عمل العقل، وأخطأ الاستدلال نتيجة لإعمال العقل، ويمكن تصحيحها بالعقل.
35
قد تكون الحكمة في رفض وجوب الإمام عقلا هي الإبقاء على المشكلة السياسية، إما مصلحية خاصة، وبالتالي لا بد من القضاء على وجوبها العقلي والسمعي، ونكون أمام إمامة الغلبة والقهر. أما إذا كان القصد الاكتفاء بالوجوب السمعي لحين تقرر السلطة السياسية والدينية من هو الإمام، وبالتالي تتمكن وتفرض الطاعة لأولي الأمر، فإن الوجوب العقلي
36
يصبح ضروريا؛ فالعقل يدل على الوجوب، ويدل عليه مباشرة دون اللجوء إلى اللطف؛ فالوجوب من المعارف الضرورية، والإمامة جزء من المعارف، وهي واجبة على العوام، وأوجب على الخواص؛ واجبة على الجمهور، وأوجب على العلماء. فإذا أمكن تزييف وعي الجمهور، فإن وعي العلماء يند عن هذا التزييف. ولما كان العلماء ورثة الأنبياء، وكان الفقهاء قادة الأمة، فالإمامة أوجب عليهم. الإمامة فرض عين، وليست مجرد فرض كفاية. كل مسلم مسئول عنها ما دام قد بايع. الإمامة حق البيعة، والبيعة على الأمة عوامها وخواصها.
37
ثالثا: كيفية ثبوتها
إذا وجبت الإمامة، وكانت ضرورية بالسمع وبالعقل وبالمصلحة، فكيف تثبت؟ وما الطريق إلى تثبيت الإمام؟ الحقيقة أن الاختيارات عديدة، سواء من حيث العقل أو من حيث الواقع، من حيث الاحتمال النظري أو من حيث التحقيق التاريخي. قد تثبت الإمامة بالنص والتعيين، سواء كان هذا النص في أصل الوحي في القرآن أو في السنة، أو وصية من إمام على إمام. وقد يكون النص كافيا بمفرده، أو يصاحبه دليل آخر من المعجزة أو العقل أو الفعل بالخروج على الإمام الظالم. وقد يشير النص إلى الإمام باسمه وعينه، وقد يشير إليه بصفته ورسمه دون تعيين له كشخص، ثم يسهل التعرف إليه بمطابقة الأوصاف في الأشخاص وتحققها فيهم. وفي الاتجاه نفسه قد تكون الإمامة وراثة، ويقوم الدم فيها بدور النص أو الوصية. وفي اتجاه معارض تماما تكون الإمامة بالبيعة. والبيعة اختيار وعقد، إما من جمهور الأمة وعامة الناس، أو من أهل الحل والعقد، ممثلي الأمة، المحافظين على الشرع، والمدافعين عن مصالح الناس. وقد يتحدد الاختيار للإمام بناء على كثرة الأعمال، أي عن استحقاق شخص للإمام، أو عن تحققها بالغلبة والقهر. وفي هذه الحال تفقد البيعة أساسها الأول، وهو الاختيار الحر. وبالرغم من وجود احتمالات أخرى تجمع بين النص والاختيار، ولكنها في الحقيقة تعينات لهما في التاريخ، ووصف لحوادث معينة، مثل قبول النص في الأئمة الثلاثة الأوائل ثم إلغاء البيعة بعد ذلك، أو قبول البيعة للأئمة الثلاثة الأوائل ثم مبايعتهم بعد ذلك، مما يدل على حدوث الخلاف بعدهم؛ فقد ظل الاختيار بين اتجاهين رئيسيين، ألا وهما ثبوت الإمامة بالنص والتعيين، أو ثبوتها بالعقد والاختيار.
1
أما الاحتمالات الأخرى فقد اندرجت تحت التيارين الرئيسيين ولم يتم تطويرها؛ إذ تندرج الإمامة بالوصية أو الوراثة تحت الإمامة بالنص والتعيين، كما تندرج الإمامة بكثرة الأعمال وبالغلبة تحت الإمامة بالعقد والاختيار، ولكل حالة واقع تاريخي. وكأن هذا الواقع التاريخي هو الذي فرض نفسه كحالة نظرية؛ مما يجعل أمر تجريد النظرية من ملابساتها التاريخية أمرا صعبا (الفصل بين التعيين وإمامة علي والاختيار وإمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعمر بن عبد العزيز)، حتى لتصعب الإجابة على سؤال: أيهما أصل وأيهما فرع؟ هل النظريتان تنظير للواقع التاريخي، أم أن الواقع التاريخي تحقيق للنظريتين؟ ووصية إمام على إمام بعينه قد تكون صحيحة، ولكنها غير واجبة إذا ما تغيرت المصالح والظروف، خاصة وأن اختيار الجماعة خير من اختيار الفرد حتى ولو كان إماما. وقد يتغلب الهوى على الإمام في وصيته، حتى ولو كان أتى عن بيعة. ويمكن للوصية أن تكون مجرد افتراض، ولا تصبح شرعية إلا ببيعة تعلن عن قبول الناس لها. وفي هذه الحالة لا يستمد الإمام شرعيته من الوصية الأولى، بل من البيعة الثانية. والوصية جائزة في كلتا الحالتين؛ النص والتعيين من ناحية، والعقد والاختيار من ناحية أخرى. الأولى من إمام إلى إمام دونما حاجة إلى توثيقها ببيعة، في حين أن الثانية تبدأ من إمام إلى إمام، ثم تنتهي عن طريق التوثيق بالبيعة.
2
أما الوراثة فإنها تثبت في حال النص والتعيين وتنفى في حالة العقد والاختيار، ولكن الواقع التاريخي أحيانا يناقض الوراثة حين إثباتها.
3
أما كثرة الأعمال فهي أدخل في شروط الإمام بالعقد والاختيار. أما الإمامة بالغلبة والقوة فهي مجرد تبرير لواقع دون تأصيل نظري؛ إذ إنها مناقضة للبيعة والاختيار. (1) هل تثبت الإمامة بالنص والتعيين؟
قد تثبت الإمامة بالنص وحده، وقد يكون النص ضروريا - وإن كان هناك اختلاف في تأويله - أو جليا ظاهرا لا خلاف عليه، أو خفيا مستنبطا مع ذكر العلة. وقد يكون النص مقرونا بدليل من معجزة أو عقل أو خروج.
4 (1-1) النص الجلي والنص الخفي
والحقيقة أن جواز الإمامة يكون بالنص عند جمهور الأمة بصرف النظر عن فريقها، ولكن الخلاف هو هل تعقد بالاختيار أيضا أم بالنص وحده.
5
وفي هذه الحالة يكون النص جليا واضحا ظاهرا على إمامة شخص بعينه، هو الإمام الرابع، وإنكار ذلك يرتقي إلى مرتبة الكفر. وإن لم يكن النص جليا واضحا على اسمه وشخصه فإنه يشير إلى صفته ورسمه. والنص من الله إلى الرسول، ثم من الرسول إلى الإمام. وقد يشفع ذلك الوصية من الإمام على من بعده، فالوصية استمرار للنص في التاريخ. وكل إمام يأتي دون الإمام المنصوص عليه يكون إماما ظالما مغتصبا للسلطة، ويضل من بايعوه، ويصل هذا وهؤلاء إلى حد الكفر.
6
ويثبت النص بحجتين؛ الأولى: أن الاجتهاد باطل لأنه يعرض للخطأ، والإمامة لا تحتمل الخطأ، فهي أصل من أصول الدين. والحقيقة أن هذا إبطال لأصل من أصول التشريع في علم أصول الفقه، ولا يمكن إثبات أصل في علم أصول الدين بإنكار أصل من علم أصول الفقه، فكلاهما علم الأصول، وإلا لتنافت الأصول، وأبطل بعضها بعضا. والثانية: أن العصمة لا تعرف اجتهادا، بل تعرف بالنص. والحقيقة أيضا أن هذا إثبات للعصمة وليس إثباتا للإمامة، إثبات للصفة وليس إثباتا للموصوف، كما أن العصمة متنازع عليها، وليست صفة مقبولة بإجماع الأمة، ولا يمكن إثبات الإمامة اعتمادا على شيء لم يثبت بعد. كما لا يمكن إثبات أصل، وهو الإمامة، على فرع لها، وهو العصمة، وإلا لثبت الكل بإثبات الجزء.
7
وقد يقال إن الإمامة لما كانت واجبة بالنص فإن النص قد حصل ووقع، ولكنه لم ينقل. ومع ذلك تثبت الإمامة بثلاث حجج؛ الأولى: أنه إذا كان الإمام معصوما، ولم تثبت العصمة في أحد من الصحابة، كان الإمام الرابع لأنه هو المعصوم. وهي حجة تقوم على أن العصمة هي الأصل، وأنها أمر قد تم من قبل، كما أنها تقوم على برهان الخلف، وهو يثبت الشيء عن طريق نفي نقيضه، وهو برهان ضعيف. والثانية: أنه إذا ثبت أن الإمام هو الأفضل، وثبت أن الإمام الرابع هو الأفضل، كان هو الإمام وإن لم ينقل النص. وهي حجة شرطية تتوقف على صحة المشروط، وحتى لو كان صحيحا فإنها تعتمد على إثبات في الواقع أن إماما بعينه هو أفضل من غيره. وكثير من الصحابة فضلاء، ويشاركون في الفضل. وقد يكون الإمام هو المفضول لاعتبارات عملية، حقنا للدماء، ودرءا للفتنة. والثالثة: أنه إذا صح القدح في غير الإمام الرابع فإنه يكون هو الإمام، وإن لم ينقل ذلك نصا. والحقيقة أن القدح في أحد ليس حجة ضده؛ لأنه يأتي من الخصوم، ولأن المقدوح فيه معروف له بالفضل والتقوى والصلاح، ويشهد له بذلك كما يشهد للإمام.
8
لا يمكن أن يكون طريق إثبات الإمامة هو النص الجلي، وإلا لكان رده كفرا؛ وبالتالي أدى إلى تكفير الصحابة وجمهور الأمة. ولا يجوز أن يكون أمر مهم في الدين، مثل الإمامة، له نص خفي ولم يعلم ضرورة، وإلا لجاز ورود نص في صلاة سادسة أو سابعة، أو جازت زيادة أصل فيه. ولو كان هناك نص ثابت لعلمت صحة ثبوته كالعلم بالشرع ضرورة دون إلهام أو اكتساب؛ لأن معرفة الشرع بالتواتر . والتكليف علم في الشرع، لا يعرف البعض دون البعض. كما أن شروط التواتر تمنع من التعصب والهوى والكتمان، مثل تجانس انتشار الرواية في الزمان بين أولها ووسطها وآخرها درءا لمؤامرات الصمت. ولا يعقل أن موضوعا مثل الإمامة به صلاح الأمة، وتحقيق وحدتها، والدفاع عن أرضها، وتحقيق المصالحة فيما بين أفرادها، وأخذ حقوق المظلومين، وهو أهم من الاستنجاء والمسح على الخفين والتيمم والغائط، ولا ينقله الكافة عن الكافة. لو ثبت نص لنقله الناس، ولما سكتوا عن روايته. وإن النص على الخلافة واقعة عظيمة، مثلها يجب اشتهارها بحيث يعرفها الموافق والمخالف. وقد اشتد النزاع حولها وتطايرت الرقاب؛ مما ينفي احتمال السكوت وعدم النقل. وكيف يمسك الصحابة، وهم المعروفون بالتقوى والصلاح، عن نقل نص ظاهر، ويبدلونه إلى الاختيار، وهم الصفوة الأولى، والقدوة في العلم والعمل؟ ولا يمكن ثبوت الإمامة بنص خفي، فلم يخف شيء على الصحابة وهم المشهود لهم بالعلم وفهم المقاصد والغايات. وكيف يمسك الرسول ذاته عن أهم الأبواب ولا ينطق فيها بنص ولا يشير إلى شخص معين حتى وصلت الأمور إلى هذا الحد من الاختلاف وضياع الحق مع الباطل، وهو الذي لم يترك شيئا في الدين إلا وبينه، حتى كمل الدين وتركه على الواضحة، ليله كنهاره؟
9
وكما غاب النص على الإمامة على الإطلاق، غاب النص على إمام بعينه، الإمام الرابع؛ فقد تأخر عن بيعة الإمام الأول ثم بايعه دون إكراه، وبايع الإمام الثاني طواعية، ودخل مع الستة في الشورى دون مناداة بحق زائد. ولو كان هناك نص عليه لأظهره، ولكنه لم يفعل مع أن الصحابة قبلوا الرد بالنصوص. وقد أظهر الإمام الرابع كثيرا من النصوص واستدل بها دون أن يكون واحد منها نصا على إمامته، كما روى حديث الشورى وله نيف وسبعون دلالة، وروى أحاديث على إمامته وفضله دون أن يكون أحد منها نصا على إمامته، وكان الأولى أن يذكره نظرا لعموم البلوى بها. لو كان هناك نص لنقله أهل التواتر، خاصة وأن طالبي الإمامة لأنفسهم كانوا قلة، وكان الباقون يعظمون الرسول ويخشون من مخالفته. وقد حدثت أسباب توجب نصرة الإمام الرابع، وتدعو إلى إذاعة الخبر المنصوص عليه فيه، كما تدعو شجاعته وعظمة أتباعه ومطالبة الأنصار الإمامة وهو منهم، فلو كان النص موجودا لواجههم به. ولا يتورع عن إخفاء نص أو الإمساك عنه وهو المشهود له بالشجاعة وعدم الخوف. وفي مثل هذا الحدث الضخم لا ورع ولا تقوى يغنيان عن المجابهة. ولم يذكر النص وهو في ستة من الشورى. وبعد مبايعته كإمام رابع لم يبايعه الناس بناء على نص، بل عقدا واختيارا. وإن حجة التاريخ أقوى حجة، وهي عدم إنكار إمامة الخلفاء الثلاثة الأوائل، وعدم إنكار الخليفة الرابع لهم، فلا يعقل ألا يعترض أحد وألا يعترض الخليفة الرابع نفسه.
10
فإذا بطل التعيين بالنص صح الاختيار بالعقد. وإن أكبر دليل على بطلان النص هو الاختلاف حول المنصوص عليه باسمه، وعدم ظهور علم ثابت يحسم الأمر، ولو كان هناك نص لقيل أمام الجمهور فيصبح متواترا، أو أمام واحد واثنين فيصبح آحادا. والأول غير منقول، والثاني لا يورث العلم. ولو كان واحدا لبينه الوحي وتعلمته الأمة. وإذا كان النص يعلم ضرورة أو جوازا فلا ضرورة من العقل يقتضي التخصيص على شخص معين. والجواز من خبر الآحاد، وهو لا يورث العلم. والنص الجلي لا ينكتم، ولا يمكن إخفاؤه، والنص الخفي لا سبيل إلى علمه إلا بتأويل مظنون. وإن معظم النصوص المروية إنما تهدف إلى استعمال حجة السلطة ضد حجة العقل، وتهدف إلى زعزعة النظام القائم؛ فهو سلاح سياسي أكثر منه برهانا علميا.
11
وقد يبطل النص بالنظرية العامة في الخبر على ما هو معروف في نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى؛
12
فبالرغم من كون الإمامة أحد الموضوعات الظنية، إلا أن كيفية ثبوتها هو من الأمور القطعية، ويتطلب ذلك الاعتماد على الحديث والأخبار كنظرية مستقلة في المعرفة ابتداء من تعريف الخبر وأقسامه حتى شروط التواتر؛ فالخبر جملة خبرية لا إنشائية، قول يحتمل الصدق والكذب، وينقسم إلى ما يعلم صدقه قطعا، وما يعلم كذبه قطعا، وما يحتمل الاثنين . الأول ما وافق المعلوم قطعا بضرورة أو دليل قاطع، مثل الخبر عن المحسوسات وعن الضرورات، والثاني ما خالف الأول، والثالث ما يجوز فيه الصدق والكذب أو النفي والإثبات. الأول فقط يفيد العلم القطعي، ونموذجه الخبر المتواتر، في حين أن الثاني لا يفيد العلم القطعي، أما الثالث فلا يفيد إلا الظن. فالخبر المتواتر يعلم باضطرار لأنه يخبر عن حس أو بديهة طبقا لمجريات العادات، وليس عن نظر أو استدلال، كما أن عدد رواته يكون كافيا بحيث يؤدي إلى درجة حصول اليقين، والرواة عادة مستقلون عن بعضهم البعض، الأمر الذي يمتنع معه التواطؤ على الكاذب. والنص الذي تجب به الإمامة ليس خبرا متواترا؛ وبالتالي لا يفيد العلم القطعي؛ وبالتالي فلا بد أن تجد بعض مسائل علم أصول الدين حلها في علم أصول الفقه.
13 (1-2) النص المقرون بدليل المعجزة أو العقل أو الخروج
وقد تقف المعجزة وحدها كدليل بديل عن النص أو معه، فيختلط إثبات الإمامة بإثبات النبوة. وإذا لم تكن المعجزة دليلا على النبوة فالأولى ألا تكون دليلا على الإمامة.
14
وقد تثبت الإمامة بالنص مقرونا بالعقل؛ لأن العقل يقتضي أن تكون الإمامة نصا وليس اختيارا، تعيينا وليس عقدا. لا يمكن القول بالنص وحده دون تدخل العقل، إما في ضرورة وجوبه أو في إثباته أو في فهمه ومعرفة علته ومعناه. وهذه أشبه بالحجج العقلية على ثبوت الإمامة بالنص، منها: أن أمرا مهما في الدين كهذا لا يترك لاختيار الأمة، بل لا بد من النص عليه. وكأن الاختيار ليس موضعا للثقة. والنص أدعى إلى الاتفاق من الاختيار الذي يوقع الخلاف ويسبب الشحناء والبغضاء. مع أن الخلاف على تأويل النصوص ليس بأقل من الخلاف في الاختيار والعقد. كما أن الصلاح يقتضي النص على الإمام وتعيينه. وكأن الاختيار أسوأ من النص وأقل صلاحا منه، مع أن به ضمانا أكثر نظرا لأنه يقوم على الاجتهاد والاختيار الحر. وأخيرا لو جاز ثبوت الإمام بغير نص لجاز ثبوت النبي. وكأن الإمامة مثل النبوة، مع أن النبوة تبليغ للوحي، فهي قضية دين ودنيا، في حين أن الإمامة تنفيذ للوحي، فهي قضية دنيا فحسب، وليس فيها تبليغ وحي، وظيفة عملية صرفة، وليس لها أي دور معرفي مثل النبوة.
15
وإن كل الشبه التي وردت لتأسيس التعيين بالنص على العقل مردود عليها؛ أولا: إذا كان الإمام حجة ومستودعا للشرعية وقيما يحفظها ويؤديها، فإن ذلك يستدعي بالضرورة تعيينه بالنص، بل يمكن ذلك بالاختيار، فالناس أدرى بشئون دنياهم. ولكن الإمام ليس حجة الشريعة يحفظها ويؤديها، ويفسرها ويئولها، بل الإمامة وظيفة تنفيذية خالصة، يقوم بها أي إنسان قادر، ولا يعرف ذلك إلا الناس. إذا كانت الإمامة معرفة فهي معرفة بعدية وليست قبلية يتم الحصول عليها باستقرار قدرات البشر بعد الخلق، وليس تعينا قبل الخلق. هي اختيار مسئول تتحمل الأمة تبعاته. ثانيا: إذا كان الإمام يقوم بمصالح الدين فلا يجب بالضرورة أن يكون معصوما، وإن العصمة لا تعرف إلا بالنص. يلزم فقط أن يكون قويا قادرا على أداء الأمانات، والقيام بالولايات. وأول شرط لذلك هو اختيار الناس له حتى تتم الطاعة له؛ فالعصمة ليست شرطا في الإمامة لأنها تقوم على اجتهاد وإجماع، وتعتمد على النصيحة والشورى، ويراقبها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا يمكن معرفة العصمة بالنص لأن العقل يرفضها، والنص يطابق العقل ويؤكده. هناك فرق إذن بين الإمامة والعصمة. إثبات الإمامة ممكن بالاختيار، في حين أن العصمة لا اختيار فيها، ولا عصمة لأحد، وتنفيذ الأحكام وتطبيق الحدود يستلزم معرفة الشريعة التي تقتضي أيضا المعرفة بأحوال الأمة، ويتدخل فيها الاجتهاد؛ لذلك توجد السلطات القضائية لمراجعة أفعال الإمام. ثالثا: لا توجد في الإمام صفة زائدة مثل العصمة أو غيرها، ولا اجتهاد فيها، ولا بد أن تكون بنص، وإلا كان هناك تكليف بما لا يطاق؛ فالصفة هي مجرد الشرط الذي يجب توافره في الإمام ضمن باقي الشروط، مثل العدل والقوة. ويمكن معرفة ذلك بالعقل والمشاهدة، بالرؤية والتجربة، كما هو الحال في تحقيق المناط عند الأصوليين، وليس في ذلك أي تكليف بما لا يطاق. رابعا: إذا كان الإمام أفضل الناس فيمكن معرفة ذلك من خلال السلوك وليس من النص؛ فالنص لا يشير إلى أشخاص بعينهم، بل إلى حالات عامة أو أنماط سلوكية مثالية تتحقق في هذا الفرد أو ذاك، وإلا فقد النص شموليته. كما يصعب الانتقال من النص إلى الشخص دون إسقاط أو تدخل هوى، وكل مفسر يرى فيمن يحب الشخص المشار إليه. تعرف الأفضلية كالشرط تجريبيا وواقعيا وليس قبليا. لا يعني الوحي الأفضل لأنه متناه والخلق لا متناه. هذا بالإضافة إلى جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل في ظروف معينة إن كان تولي الأفضل يسبب ضررا على الأمة، مثل الشقاق أو الفتنة.
16
وقد يقرن النص بالخروج، النظر بالعمل، الفكر بالواقع، الشرع بالاستحقاق، فيكون الطريق إلى ثبوت الإمامة هو النص والخروج، فإذا انطبق النص وحده على الأئمة الثلاثة الأوائل من آل البيت، فإنه لا يكفي بعد ذلك إلا مقرونا بالدعوة والخروج؛ فكل من شهر سيفه وخرج لنصرة الأمة، ونابذ الظلمة، استحق الإمامة وانقياد الناس له. وإذا كان النص قد ورد على أئمة بعينهم، فإنه يكفي الخروج لتحقيق النص والتطابق معه.
17
ويبدو في ذلك تنظير للأحداث السياسية التي أوجبت الخروج بعد الأئمة الثلاثة الأوائل من آل البيت، واستتباب الأمر للسلطة، وتحول المعارضة إلى خروج بالسيف دفاعا عن الحق ومقاومة للظلم. ومع أن الخروج على الإمام بالسيف حق إذا خان الإمام أو استسلم للأعداء أو تهاون في تطبيق الشرع أو الذب عن البيضة وبناء الثغور وتقوية الجسور، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، إلا أن ذلك لا يحدث إلا بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة في الدين. كما أن الخروج ليس دعوة للذات طلبا لبيعة الناس، بل لمقاومة الإمام الظالم حتى يأتي الناس ببيعة جديدة لإمام عادل. وقد تتكاثر الأئمة إذا ما خرج الكثير على الإمام الظالم لمقاومته، فيستحيل بعد ذلك اختيار أحدهما إماما ومبايعة الناس له. قد يحدث ذلك في حال تنصيب إمامين، فيتم الخروج على أحدهما والدعوة إلى الآخر، وليس في حالة الاتفاق على إمام واحد. وقد يستعصي الحل السلمي إذا ما نظر إلى الأفضل والأزهد أولا، فإن تساويا نظر إلى الأمتن والأحزم، فإن تساويا انفلت الأمر وتحول إلى حرب بينهما، كل منهما يدعي الإمامة ويفتي ضد الآخر، لدرجة إباحة دمه واستحلال حرماته. ونظرا لغياب العقل ينتهي الأمر كله إلى التقليد.
18
والحقيقة أنه في مجتمع يقوم فيه كل شيء بالتعيين، ولا أثر فيه للاختيار الحر، تكون الإمامة فيه بالتعيين أضر، والاختيار لها أصلح، وفي مجتمع آخر يضيع فيه الاختيار، ولا تنعقد له بيعة، قد يصح فيه ضبطه بالنص وبحجة السلطة. ومع ذلك فلا يمكن إخراج أحكام من نصوص؛ إذ تأتي الأحكام من تحليل الواقع. وقد أتت النصوص من قبل نموذجا لأحكام صدرت بعد تحليل الواقع وتجربتها فيه. (1-3) الواقع التاريخي
ويتحقق التعيين بالنص في الواقع التاريخي، وكأن التاريخ يسير وفقا للنص، وليس النص تبريرا لوقائع التاريخ، وما أسهل أن يجد الحدث التاريخي له أصولا في النصوص. ولما كان الحدث التاريخي فعلا إنسانيا واختياريا إجماعيا، وكان النص الديني وحيا مدونا، فإن الحدث التاريخي يفرض نفسه على النص، ويجد نفسه مقروءا فيه. ولما كان الحدث التاريخي خاصا، والنص الديني عاما، فرض الخاص نفسه على العام، فخصص العام وطبق على الخاص. وتنازع النص اتجاهان؛ الأول: للمحافظة على عمومه خارج التاريخ كمبدأ نظري عام. والثاني: من أجل تخصيصه على حدث معين أو شخص بعينه حتى يكون تعيين الإمام بالنص. فإذا ما اختلف الخياران الإنسانيان حدث الجدال حول النص، وتحول الموقف كله إلى جدل ومحاجة لتبرير المواقف السياسية المسبقة. ويحدث ذلك إما بالشك في صحة الخبر من أجل تقويض مواقف الخصوم السياسيين، أو إعادة تأويل معناه بحيث لو ثبتت صحته يكون ضد الخصم وليس معه. ويكون أيضا بإيراد خبر مضاد في مقابل خبر الخصم حتى تتكافأ الأدلة، وإبراز معنى ضد معنى، ولا يكون أحدهما أولى من الآخر. فالأول جدل سلبي، والثاني جدل إيجابي. الأول ينزع من الخصم سلاحه ويرده إليه، والثاني يوجه إليه سلاحا جديدا.
وما أكثر النصوص لإثبات التعيين بالنص على الإمام الرابع، بل إن مجرد اختلاف صياغاتها تدل على عدم صحتها؛ وبالتالي يؤدي إلى الشك فيها. وإن الاختلاف في حجمها وترددها بين الطول والقصر، بين العموم والخصوص، ليشير إلى قدر الوضع فيها من أجل تبرير إمامة شخص بعينه في مجتمع النص الديني فيه حجة ومصدر سلطة، كما أن كثرة النصوص من الحديث وزيادتها على نصوص القرآن تدل على احتمال الوضع؛ لأنه سهل في الحديث، مستحيل في القرآن. فمثلا آيات الموالاة في القرآن بالرغم من كون بعضها قد نزل بمناسبة شخص بعينه، حتى ولو كان الإمام الرابع، إلا أنها عامة وليست خاصة، كما أن الولاية لا تعني الإمامة؛ فالولي هو الناصر وليس المتصرف، مثل تحريم موالاة اليهود؛ فالولاية اسم مشترك تعني النصرة، وليس الإمامة الواجبة الطاعة؛ فالله ولي، والرسول ولي، والمؤمنون أولياء بمعنى نصراء، وليس بمعنى أئمة. والله لا يؤم الناس، ولكن ينصرهم. ولماذا يعني الرسول بالموالاة الإمامة، فيخرج الاسم عن مدلوله، ويختلف المسلمون في تأويله، مع أن أمرا مهما كهذا، أصلا من أصول الدين، كان يمكن لو صح النص والتعيين فيه أن يقوله الرسول صراحة؟ ولكن الشرعية التاريخية الضائعة في مجتمع الاضطهاد وضعت نصوصها كنوع من المقاومة لمجتمع القهر، وكأن الذات تخلق الموضوع دفاعا عن وجودها فيه.
19
وهناك نصوص أخرى أكثر صحة من الأولى، ولكنها تدل على اختيار النبي للإمام الرابع باعتبار النبي بشرا، وليس باعتباره نبيا؛ نظرا لقربه منه ومودته له، وإعلانا عن ذلك وسط جموع المنافقين، وردا على إنكارهم عدم تولي الإمام الرابع إمارة الجيش في إحدى الغزوات الأخيرة. والقصد هو إعلان القرب والمودة في حياة النبي، وليس الخلافة له بعد مماته. كما يدل على شد الأزر والاستعانة به دليلا على الأفضلية، وليس إعلانا عن المشاركة في النبوة أو النص على الخلافة. ولفظ الاستخلاف عام لا خاص، يدل على الخلافة في الصلاة وفي غيرها، وليس على الإمامة وحدها. كل له فضله، الإمام الرابع وغيره؛ هذا في المودة والقرب، وذاك في العلم، وثالث في التشريع ... إلخ. وما أكثر النصوص التي قيلت في الكثيرين ، وهي كلها أخبار آحاد لم يحتج بها أحد على خلافته، وأطاعوا الإمام الذي بايعه الناس وعقدوا له واختاروه.
20
أما الإعلان عن الإمامة الصريحة نصا وتعيينا فإن كل الأخبار الواردة بشأنها موضوعة متواطئة، ولو كانت صحيحة متواترة لأثرت في مجرى الحوادث، ووجهت اختيار الإمام الأول. وقد نقلت أخبار أخرى صحيحة معارضة، وتمت معارضتها بأخبار أخرى دون أن تظهر أخبار النص والتعيين في مجال المعارضة وهي على أشدها. وإن تأخر الإمام الرابع عن البيعة مثل تأخر غيره لانشغاله في موضوعات أخرى؛ مما يدل على أن الإمامة لم تكن قصدا موجها له ولا غاية له. ولم يمنع الإمام الرابع من بيعة الإمام الأول أو الثاني أو الثالث، ورضي بالبيعة عقدا واختيارا، وشارك فيها. وكيف تكتم الجماعة المشهود لها بالحق نصا لتعيين الإمام الرابع وهم يحرصون على نقل النصوص وجمعها؟ وقد تم نقل نصوص في موضوعات أقل أهمية، فكيف لا تنقل نصوص في الموضوعات الأهم مثل الإمامة؟ وإن النصوص حول إمامة غيره أقوى من النصوص على إمامته، ولم يحتج أحد بها. وقد نقلت نصوص حول عدالة الإمام الرابع وشجاعته، فكيف لا تنقل نصوص صحيحة وصريحة على إمامته، وقد وجد في بيئة منقسمة عليه بين أنصار وأعداء، والنص سلاح الخصوم؟
21
وإن كثيرا من النصوص الأخرى لتخلط بين الإمامة والفضل، بين الإمامة والعصمة، بين الإمامة والقربى، بين الإمامة والمودة، بين الإمامة والأخوة، بين الإمامة والطاعة.
22
أما النصوص الأخرى فإنها تدل على فضائل الإمام الرابع وليس على إمامته. وهي فضائل يمكن ردها إلى الصفات التي يجب توافرها في الإمام وفي شروطه، وكثير منها قد يدل على العصمة أو الطاعة أو الفضل أو القربى أو المودة، وليس بالضرورة على الإمامة. وبالإضافة إلى أن كثيرا منها أخبار آحاد؛ فإن مثلها كثير في فضائل باقي الصحابة، وكثير منها عام في جميع المؤمنين، وبعضها يشير إلى النبوة لا إلى الإمامة. وكان الإمام الرابع يثبت خلافة الإمامين الأول والثاني، ولا يعتبر نفسه أحق منها.
23
أما الصفات الشخصية مثل العلم والعدالة والشجاعة، فإنها تؤهل للإمامة اختيارا لا نصا ضمن شروط الإمام، وهي صفات مكتسبة بجهد الإنسان واستحقاقه، وليست مخلوقة سلفا فيه. والقضاء والعلم والسلام والشفقة كلها شيء، والإمامة بنص صريح شيء آخر. وكل ذلك يمكن حمله على تعظيم الإمام الرابع في الدين، وعلى علوه فيه، لا على الإمامة، وعظمته في الدين مثل عظمة باقي الجماعة وصونها من الفسق والنفاق. وقد بلغت الأخبار بذلك مبلغ التواتر.
24
وقد تكون هناك عدة وقائع أبلغ من النص الإجمالي أو الجلي، مثل استخلاف الإمام الرابع في حياته. ولكن مثل هذا الاستخلاف كثير وعام في غيره، ولا يخص الإمامة.
25
وهناك حجج معنوية أخرى لإثبات الإمامة بالنص والتعيين تعتمد على العقل! وهو تناقض منهجي يقوم على إثبات النص والتعيين عقلا، ولا يثبت الإمامة عقلا؛ فمثلا لا يجوز أن يكون عالما باحتياج الخلق إلى الإمام وفقا لما وردت به الأدلة السمعية، وإلا كان قدحا في نبوته. كما لا يجوز أن يكون عالما بذلك دون أن ينص عليه، وهو أهم من الاستنجاء والتيمم، وإلا وقعت الأمة في الخطأ. والحقيقة أن الرسول علم أن الإمامة لا تتم إلا اختيارا، فتركها كذلك بيعة للأمة وشورى بينها. والنص حجز لقدرات الأمة وقيد عليها. يبين الرسول الاستنجاء والتيمم لأنها أمور شرعية، أما الإمامة فعقلية مصلحية لم يبينها الرسول لأن الناس أعلم بشئون دنياهم. وإذا كان الإمام تكميلا للدين فإن تركه بيعة واختيارا ليس معصية، بل إن التنصيص عليه حجر على الأمة وحصر لمصالحها. ولا يمكن إجماع الأمة على أئمة بعينهم محصوري العدد دون غيرهم، وإبطال الجميع إلا واحدا يكون هو الإمام الحق؛ لأن السبر والتقسيم في علل الأحكام وليس في إجماع الأمة على الأئمة. الأئمة ليس لهم عدد معلوم طالما أن الزمان قائم والأمة في التاريخ.
26
ويستمر التعيين في التاريخ وراثة أو وصاية؛ فالدم المنبثق عن الإمام الأول مثل النص عليه في الوحي. ويعود النص من جديد من إمام على غيره، فتكتمل الدورة في النص إلى الدم، ومن الدم إلى النص.
27
وهل نص الإمام الرابع على إمامة بنيه؟ هل هناك صراع بين الأخ والابن في نسق القرابة؟ ولماذا لا تكون الوراثة في الأبناء وحدهم وتكون في الآخرة أيضا؟ وما العمل إذا ما وقع خلاف في شجرة الأنساب؟ ولماذا يتم اعتبار مؤسس الفرقة إماما وهو ليس من نسل الإمام الرابع، وكأن الوصية تعادل الوراثة؟ هل يمكن ضبط ذلك بنسق للقرابة؟
28
ماذا يحدث لو كان الإمام الوريث صبيا أو طفلا رضيعا؟ أليس العقل والبلوغ من شروط الإمام أو وصيته لهم؟ وما العمل لو لم تتحقق من الإمام المنصوص عليه أو الموصى إليه شروط الإمامة؟ ماذا لو كان مجنونا أو فاسقا؟
29
وقد تكون الوصية شفاها؛ وبالتالي تكون نصا غير مكتوب. وهنا تخضع الوصية لمناهج النقل الشفاهي. وهل يعادل نص الوحي على الإمام على بنيه؟ كل هذه تساؤلات من أجل إعادة الواقع التاريخي إلى أسس نظرية دون تحويل هذا الواقع نفسه إلى نظريات. ولما كان التعيين في التاريخ يتم في مجتمع الاضطهاد في مواجهة مجتمع القهر، فإنه ينشأ محاطا بمؤامرة الصمت والظلم ضد الإمام المعين. وإن خف ضغط القهر يصبح الإمام المعين مجرد أفضل الناس وقع عليه غبن غير مقصود، ودون مؤامرة الصمت والإبعاد. وإن خف ضغط القهر أكثر وأكثر تطيب نفس الإمام المبعد زهدا في الدنيا وترفعا عليها. وإن زاد ضغط القهر والظلم فقد تخرج الإمامة عن نسل الإمام، إما بظلم غيره أو بتقية منه، ويعود أحد الأبناء ليخرج شاهرا سيفه، ويصحح مسار الإمامة في التاريخ، عائدا بها إلى حظيرة الدم ورحم الولادة.
30
فإذا ما ظهرت عيوب التعيين بالنص على إمام بعينه، اكتفى النص بالإشارة إلى وصفه أو فعله دون اسمه أو رسمه. وقد يكون نصا خفيا لا نصا جليا؛ فإذا ما استمر الخلل يمكن حينئذ الجمع بين النص والشورى، النص أولا حتى أحد الأبناء، وبعدها الخروج والدعوة.
31
وقد ساعدت البيئات الدينية المجاورة في إعطاء نماذج للوراثة والوصاية، لما كان الواقع الاجتماعي يفرز بنيته التي تحتاج إلى نموذج ذهني سرعان ما يتسرب إلى البيئة الأصلية.
32
وقد يصل الأمر إلى تكفير الجميع، كل من اغتصب الإمامة من الإمام المنصوص عليه؛ فالتاريخ مؤامرة، والحق مهضوم، والشرعية ضائعة. ويحدث الفصام بين جماعة الحق وجماعة الباطل، براءة من الله ومن المشركين. وفي هذه الحالة ينسخ القرآن ويرفع إلى السماء، فلا بقاء له في صدور المغتصبين، ولا ولاية لهم عليه، ويصبح مغتصبو السلطة هم المحرمات والطواغيت. وقد نشأ الصراع منذ قديم الأزل بين الخير والشر، بين الشرعية واللاشرعية، والأمانة هي حمل الإمامة والعودة إلى الشرعية.
33
يختلط الواقع بالأسطورة أو يتحول إلى حلم. إذا ما ضاع الحق واستشهد الإمام فإنه يبقى حيا لا يموت، يعود عن قريب، وينتظره الناس. وإذا ما أفاقت الجماعة فإنها تدرك أن إمامها قد خدعها، فتثور عليه وتقتله. وكلما ضاع الواقع جعلت الأمة همها كله في الإمامة. ضياع الأسفل يتحول إلى وجود الأعلى، وغياب القاعدة يؤدي إلى التركيز على القمة. وكلما ضاق الخناق وقل الانفراج على الخارج، ازداد التقاتل على الداخل، مثل الطفولة اليسارية في حركات المعارضة. وتصطدم الشراذم بالسلطة، وينكشف أمرها، وتزداد تشتتا.
34
والحقيقة أن التعيين بالنص رجوع إلى الوراء، وإسقاط للماضي على الحاضر، وإعادة قراءة الماضي بناء على الوضع النفسي الحاضر؛ فالنص لا يتحدث ولا يتحول إلى معنى، بل يجعله المتأول يتحدث طبقا لما يريد؛ فالأصل هو الواقع الحالي، وهو الذي يعطي النص مضمونه ومحتواه. وبدلا من تحليل الواقع ذاته ومكوناته يتم الاعتماد على حجة السلطة في مجتمع النص فيه مصدر سلطة. أما الواقع التاريخي فكله أصبح بغير ذي دلالة. وماذا يفيد الواقع الآن لمعرفة أيهما كان على حق أو أي الفريقين كان أحق بالخلافة؟ إن الوقائع التاريخية المحددة ليست جزءا من الإيمان أو مضمونا للعقيدة، إنما الدلالة في التعيين بالنص أو العقد بالبيعة. إن إحالة موضوع الحكم إلى الواقع التاريخي القديم لهو تعويض عن الحاضر الضائع والاغتراب عنه، تشبث بالأسلاف في ضياع الأحفاد، والبحث عن الحق بينهم وفي خلافاتهم عجزا عن البحث عنه بيننا وفي خلافاتنا. وبالرغم من جماهير أهل السنة التي نعيش بينها إلا أن الحكم لدينا أقرب إلى الشيعة؛ أي تعيين الإمام بالنص أو الوصية، ضابطا عن ضابط أو أميرا عن أمير أو ملكا عن ملك. وبالرغم من أن الشيعة تقول بالنص والتعيين إلا أنها كانت أقدر على الثورة على الحكم الظالم. وهو تناقض في الصلة بين الموروث القديم والنية الحالية يبعث على التساؤل من جديد: إلى أي حد يقبع الموروث في البنية النفسية للعصر؟ (2) الإمامة عقد واختيار
ليست الإمامة عقدا واختيارا بناء على نص من الوصي، أو بناء على عهد من الإمام السابق إلى الإمام اللاحق، فهذه شروط الابتداء وليست حالة الاختيار. فالاختيار تعبير عن واقع، والعقد إقرار لمصلحة. ولما كان النص كذلك في نشأته تعبيرا عن واقع بفعل أسباب النزول، وحفاظا على مصلحة بناء على مقاصد الشريعة، التقى الاختيار مع النص. فبالرغم من ثبوت الإمامة بالنص وبالعهد وبالإجماع إلا أن ذلك هو البداية فقط؛ أي مجرد افتراض أو اقتراح لا يتحقق إلا بالعقد والاختيار، ببيعة الأمة. فالنص والعهد والإجماع كل ذلك يقوم على حسن الاختيار للأمة. فالعهد يتم بحضور الرفاق، بعض أهل الحل والعقد، ولا ينكره أحد منهم، ومن حقهم الاعتراض على المعهود إليه؛ فالعهد اختيار ضيق قبل البيعة كاختيار موسع. وإن توفي الإمام دون أن يعهد إلى إمام بعده ينادي رجل مستحق لها فيدعوها لنفسه، ثم تأتي البيعة العامة اختيارا من الأمة وعقدا عليه. وفي هذه الحال لا يتحول النداء الذاتي إلى إمامة إلا بالبيعة العامة. فإذا ما عهد الإمام حين وفاته إلى اختيار إمام من كثير، فإن ذلك الاختيار يكون أيضا عقدا من الرفاق تتلوه بيعة الأمة. ويتم ذلك في أقصر وقت منعا للشقاق، وحرصا على المصلحة العامة. ولا يمكن تأجيل رضا الجماعة حتى في حال موت الإمام، أو الاقتصار على رضا الرفاق، أو استنادا إلى العهد دون بيعة عامة. وقد يعهد الأمر إلى رجل ذي شوكة وثقة، فيتولى عقد الجماع واختيار الإمام لجمع الآراء وعقد الحوار واختيار الأصلح.
35
والحقيقة أن كل هذه النظريات إنما هي تنظير لحوادث التاريخ وتبرير لوقائعه في كيفية اختيار الأئمة الثلاثة الأوائل اختيارا أم عهدا أم تفويضا، ومع ذلك يبقى التقابل بين التعيين بالنص والاختيار بالبيعة والعقد تقابلا نظريا يتجاوز حوادث التاريخ، ويعبر عن حقائق الواقع المستمر. (2-1) صفة العقد
لما كان كل عقد يشمل صفة العقد وصفة المتعاقدين، فإن صفة العقد هي أن يقع ممن يصلح للإمامة، ولا يكون ذا عهد من إمام وإلا يقارن هذا العقد عقد لمثله من يصلح للإمامة؛ أي به الشروط نفسها التي للإمام ولا يكون إماما. فلا يصح أن يعقد إمام لإمام أو أن يكون ذا عهد مع إمام أو أن يعقد لمثله. ويمكن معرفة من يصلح للإمامة عن طريق الشروط التي تتوافر في الإمام. والعهد يحتاج فقط إلى بيعة وقبول دون عقد، فالعهد من الإمام السابق إلى الإمام اللاحق بمثابة العقد الجديد. والعقد يكون واحدا حتى لا يعقد لإمامين في وقت واحد. ويقتضي العقد القبول والرضا عن طريق البيعة وإظهار الانقياد لذلك، فلا يكفي في الرضا مجرد التصفيق أو التهليل وإضمار المخالفة خوفا أو نفاقا، بل يتطلب القبول، والقبول صراحة دون تأويل. وقد يقبل عقد دون قبول؛ إذعانا للمصلحة العامة، وتسليما بإرادة الغالبية.
والبيعة تجب النص، وتقوم على الاختيار الحر؛ فالنص لا يعين أحدا، خاصة لو كان نصا من الوحي، وحتى لو كان متفقا مع البيعة. ومع ذلك لا يجوز إثبات العقد والاختيار عن طريق إبطال التعيين بالنص، كما أنه لا يجوز إثبات التعيين بالنص بإبطال العقد والاختيار. فهذا هو برهان الخلف، إثبات الشيء عن طريق إبطال نقيضه، وهو برهان سلبي خالص لا يكفي للإثبات؛
36
لذلك اشتمل الاختيار على ثلاثة جوانب لا اثنين فقط: ماذا تعني البيعة؟ من هم المبايعون أو الذين لهم حق العقد والاختيار؟ ما الدليل عليه؟ فإذا كان من يصلح للإمامة لا يصبح كذلك إلا بعقد يصير به إماما، وبتوافر شروط معينة، فإن الشروط وحدها تحقق المساواة بين الأئمة، إلا أن ما فصل بينهم هو الاختيار. هناك إذن مقياس موضوعي واختيار حر بين متعادلين؛ فالإمامة عقد وبيعة واختيار . والتعيين غير ثابت بالنص، بل بالاختيار؛ وبالتالي كان عقدا وبيعة. ويقوم الاختيار على الاجتهاد وإعمال الرأي والتفضيل.
37
وقد يستعمل لفظ الشورى كمرادف للاختيار.
38
ولكن هل تجوز الإمامة اغتصابا من صاحب شوكة، حتى ولو بايعته الأمة بعد ذلك عن رضا وقبول؟ إن إقرار الواقع وهو اغتصاب السلطة لا يجعلها شرعية. وفي هذه الحالة لا بد من البيعة والرضا والاختيار والقبول. وإن لم تحدث البيعة يصبح الإمام مغتصبا للسلطة لا حق له في الإمامة.
39
والدليل على ذلك الإجماع. فكل من انتدب لنصرة الأمة، وقاوم الظلمة، ودافع عن البيعة، وأقام الثغور، وأعطى الحقوق للمستضعفين، فهو الإمام.
40
وهناك علاقة بين الوجوب وكيفية الثبوت؛ فالوجوب على الله يؤدي إلى إثبات الإمامة بالنص والتعيين، والوجوب السمعي أو العقلي على العباد يؤدي إلى إثبات الإمامة بالعقد والاختيار.
وبالرغم من الشبهات التي تلقى على العقد والاختيار فإنه يمكن إزالتها، ويظل الاختيار هو الطريق الوحيد أمام الجماعة لتنصيب إمامها، فيقال مثلا: لو كان الأصل هو العقد والاختيار لكان الطريق إليها إما العقل أو الشرع؛ والعقل لا يجوز لأن الإمامة حكم شرعي، والطريق إليها شرعي؛ والشرع إما الكتاب أو السنة أو الإجماع، وليس فيها عقد أو اختيار. والحقيقة أن ذلك بناء نظري مغلوط؛ فالاختيار طريقه العقل، وبالرغم من أن الإمامة حكم شرعي إلا أن الشرع يقوم على العقل، وهي وظيفة عملية مصلحية تدرك بالعقل. وإذا كان حكمها شرعيا في الكتاب أو السنة أو الإجماع، فإن الشورى منصوص عليها في الكتاب والسنة، أجمع عليها المسلمون وأقرها الاجتهاد. والإمام ليس خليفة لله أو للرسول لا يجوز إلا بالنص، بل هو خليفة لمن اختاره؛ فالله لا يخلفه أحد، والرسول أيضا لا يخلفه أحد.
41
والرسول لا يتولى الإمامة بنفسه، ولا يوكلها إلى غيره، بل يقضي بها بعد إبلاغ الرسالة، ويقوم الإمام نائبا عن الأمة وليس خليفة للرسول. وفرق بين النبوة والإمامة، ولا قياس بينهما؛ فالنبوة تعيين ونص، في حين أن الإمامة عقد واختيار. وإذا اختص النبي بالعلم عن طريق الوحي، فإن الإمام يختص بالعلم عن طريق الاجتهاد. وإذا كانت وظيفة النبوة نظرية فإن وظيفة الإمامة عملية. النبي يبلغ الوحي ويعلم الشريعة، والإمام ينفذه ويطبقها. الاختيار إذن ليس حتما نصا من الرسول وإن كان كذلك، بل نابع من طبيعة العقل وضرورة المصلحة. وإن القول بالاختيار نصا مثل القول بالنص عقلا. ولا خوف من الخطأ في الاختيار؛ فالأمة لا تجتمع على خطأ، والناس أدرى بشئون دنياهم. وإن تحقيق المصلحة يكون طبقا للغالب، والاجتهاد في النهاية أصل من أصول الشريعة. وفي القياس أصول وقواعد تحميه من الخطأ وتحرسه من الوقوع فيه. وإن من شروط الإمام التقوى والورع اللذان يمنعان ازدواجية الظاهر والباطن؛ حتى لا ينخدع الناس في الاختيار. وإن جواز الوصية والعهد لا يطعن في جواز الاختيار؛ لأن العهد إنما هو اختيار مبدئي في حاجة إلى تصديق من اختيار الأمة في بيعة عامة بقبول جميع الناس ورضاهم. ولا حاجة إلى معصوم يعلم الناس كيف يختارون، فالاختيار يتم طبقا لشروط موضوعية في الإمام، ويحتوي على أكبر قدر من الصحة في الحكم، حكم الجماعة وليس حكم الفرد. وإن اختلاف الأمة إلى مذاهب وفرق لا يمنعها من الإنفاق على إمام، فالمصلحة العامة واحدة، والخلاف لا يفسد في الود قضية. ولا يحتاج الاختيار إلى ضبط آخر غير شروط الإمام وصفات المتعاقدين، ولا توجد إلا رقابة الأمة، ولديها أدوات لخلع الإمام والثورة عليه. وإن خطأ الإمام محدود بالاجتهاد، ومصحح بالرقابة عليه والتذكير والنصح له.
42
وقد تثار شبهات حول طبيعة الاختيار والتناقضات فيه، وهي كلها وهمية يسهل إزالتها. فإذا كان الإمام واجب الطاعة فإن الاختيار يوجبها أيضا طالما التزم الإمام بشروط العقد، فلا تناقض بين الطاعة والاختيار. الاختيار يوجب الطاعة المشروطة، بعكس التعيين الذي يوجب الطاعة المطلقة. وإذا أوجب الاختيار العزل فإن ذلك لا يجعل النص أفضل منه؛ لأن الإمام إذا ما تهاون في الدفاع عن البلاد، أو ظلم وتجبر وقهر، ولم يستمع لنصح أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وجب عزله. العزل إذن واجب كالاختيار، في حين أن المعين بالنص لا يمكن عزله.
43
ولا قياس لمنصب القضاء على الإمامة إذا لم يقع الأول بالبيعة؛ فالقضاء حكم في الخصومات طبقا للشرع، ولا فرق بين قاض وآخر إلا في الحصافة. والقاضي معين من الإمام الذي اختاره الناس؛ وبالتالي يكون مقبولا تعيين القاضي على أساس من الاختيار غير المباشر. القضاء جزئي، والإمامة كلية. القضاء فرع، والإمامة أصل. ولا ضير أن يكون الفرع بالتعيين، والأصل بالاختيار؛ فالفرع يلحق بالأصل وليس العكس.
44
وتقيم باقي الشبهات في المختار، سواء الذي يقوم بالاختيار أو الذي يقع عليه الاختيار، كما يقع البعض الآخر في فعل الاختيار، اختيار إنسان لإنسان آخر كي يمثله نيابة عنه. فإن قيل في فعل الاختيار: لو جاز لمن يختار الإمام ليقيم الحدود لجاز له ذلك بنفسه، وهو أولى؛ لأن الإمام مفوض من الجماعة لتنفيذ الشرع، وليس الفرد مفوضا. ولو كان الفرد كذلك لكان عدد الأئمة مساويا لعدد المؤمنين، كل مؤمن إمام. ولكن الإمام يمثل إرادة الجماعة، ويرعى المصلحة العامة؛ ومن ثم لزم التمثيل، ووجبت النيابة؛ لذلك لو اختارت جماعة من الأمة الإمام لجعلته خليفة على أنفسها. والخلافة تكون على الغير كما تكون على النفس. الإمام تمثيل للنفس وللغير، ونيابة عن الأنا والآخر. وعلى الرغم من كون الإمام أعلم الناس إلا أنه يمكن اختياره لذلك ممن هو أقل منه علما، ولا يكون ذلك طعنا في الاختيار. العلم شيء، والاختيار شيء آخر. الاختيار تعبير عن إرادة الجماعة لا عن علمها. صحيح أن الاختيار يكون إما من كل الأمة، وهذا إهمال للإمامة؛ أو من البعض، وهذا تعسف؛ فليس البعض أولى من البعض الآخر، ولكن لا حل آخر لتسيير أمور الأمة، إما تمثيل الكل للكل، وهو مستحيل عمليا، نظرا لاختلاف قدرات الناس في العلم والفضل؛ وإما تمثيل البعض للكل، وهو الممكن عمليا، والسائد واقعيا. ولا مكان للقرعة أو للتحكيم؛ فالإرادة الحرة أفضل من المصادفة العشوائية في الاختيار، والقصد خير من الرجم بالغيب. وصحيح أيضا أن الاختيار ليس من واحد ولا في الكل، بل من البعض، وأن صفاتهم ليست أولى من الأخرى، ومع ذلك فصفات العلم والفضل والقصد إلى رعاية مصالح الناس صفات موضوعية تجب الكل والجزء، الجمع والفرد. وهي صفات المتعاقدين في حدود الإمكان البشري. وإن عظمة الإمامة لا تستوجب تركها لغير البشر؛ فالبشر هم المئولون والمفسرون للنصوص، ولكن بضمانات أكثر من العامة والخاصة. من الجماهير والعلماء يمكن اختيار الإمام، ولا يوجد بديل إنساني آخر. وإن اختيار البعض دون البعض لا يسبب فتنة أي الفريقين يتبع الآخر؛ فالإمامة مسئولية وبلية، وحسابها عسير من الله ومن الناس، في الدنيا والآخرة. ومن يطلب الإمامة لنفسه تسقط عنه؛ فلا خوف من الشقاق. البعيد عنها خير من القريب منها، والرافض لها أكثر أمنا من الطامع فيها. كما أن وحدة الأمة تمنع الشقاق. تندفع الفتنة لأنه لا تجوز البيعة ثانيا بعد البيعة الأولى. وإن التشكك في صفات المتعاقدين، أهل الحل والعقد، لأنهم لا يعرفون أمورهم، فكيف يولون عليهم غيرهم؟ أو لأنهم لا يتمثلون بصفات العصمة والعلم، والإيمان يقوم على طلب المستحيل، وليس على تحقيق الممكن. فيمكن للإنسان ألا يعرف أموره، ومع ذلك يكون قادرا على اختيار من ينوب عنه في ذلك. وليس منا معصوم، وكل علم أو إيمان يكون في مقدور الإنسان.
45
ولو عقد لإمامين في وقت واحد فالإمامة للبيعة الأولى لو كانت هناك أسبقية، ولكن هل تجوز القرعة لو كانتا في وقت واحد؟ إن القرعة حكم بالمصادفة، وتحكيم للعشوائية، ونفي للقصدية. في هذه الحالة يتم الاختيار من جديد عن طريق الأفضل طبقا لمقاييس التفضيل. ويجوز أيضا تنازل أحدهما للآخر؛ لأن من يطلب الإمامة لنفسه تسقط عنه، والتمسك بها في حالة اختيار إمامين في وقت واحد نوع من طلبها للنفس. الإمام هو المتقدم وليس المتأخر، وكان من واجب المتأخر بيعة المتقدم. لا وجود للقرعة أو للاحتكام، فالقرعة مصادفة، والاحتكام يمكن للأهواء أن تتدخل فيه، والأضمن تطبيق الشروط، ورعاية المصلحة، ووحدة الأمة، وتنازل الأخير للأول. فلو لم يتنازل أحدهما لكان كل منهما راغبا في الإمامة؛ وبالتالي تسقط عنه.
46
ومع ذلك فقد يختلف الأمر إذا اختلف الزمان والمكان، إذا تم العقد لإمامين في وقتين مختلفين نظرا لصعوبة الاتصال الفوري، أو في مكانين مختلفين نظرا لاتساع الرقعة وترامي الأطراف؛ فالأولوية للزمان المتقدم على المكان. وقد تكون الأولوية في المكان لبلد الإمام المتوفى على غيره من البلدان. ومع ذلك فالاتصال اليوم قائم، وتم تجاوز البعدين الزماني والمكاني معا، بل قد يكشف الإسراع في الزمان عن سوء نية وطلب للنفس، كما قد يدل على الغيرة على الحق واهتمام بشئون الجماعة. أما أولوية المكان فتجعل الإمامة محصورة في بلد بعينه لا تتعداها إلى بلد آخر، مع أن المشهود لهم بالتقوى والصلاح ومن تتوافر فيهم شروط الإمامة يتجاوزون بلد الإمام المتوفى.
47
وما الفائدة من وجود إمامين أحدهما ناطق والآخر صامت؛ إذ كيف يدبر الصامت شئون الرعية أو يراجع على الإمام الناطق؟
48
وما الفائدة من وجود إمامين ناطقين في الوقت نفسه؟ أليس ذلك شقا للأمة وانشقاقا فيها؟ وقد يكون هذا الجواز تبريرا لحدث تاريخي خالص في وقت احتار فيه المسلمون بين إمامين، ووجب الاختيار حتى وقعت الفتنة واندلعت الحرب. وقد يهدف تنصيب الإمامين إلى إزالة الصراع بين الشرعية واللاشرعية حتى تضعف الشرعية وتقوى اللاشرعية، ويتكافأ الحق والباطل بدعوى حقن الدماء ووحدة الأمة؛
49
لذلك لا يجوز إلا إمام واحد تعبيرا عن وحدة الأمة وحرصا على مصالح الجماعة.
50
وقد يصاغ التساؤل بطريقة أخرى، مثل: هل يجوز أن تجتمع الأمة على أمر تختلف في مثله؟ أو: هل يجوز أن تختلف الأمة في الشيء في وقت تجتمع عليه بعد الاختلاف؟ أو: هل يعد خلاف أهل الأهواء إذا خالفوا الأحكام إطلاقا؟
51
وهي صياغات أدخل في صفة المتعاقدين، وأقرب إلى باب الإجماع في علم أصول الفقه. والحقيقة أن الأمة لا تجتمع على خطأ ثقة في العقل البشري، وقدرة الإنسان على إدراك المصلحة، وقدرة الجماعة على الحرص على المصالح العامة. والوحي لا يأتي إلى عقل خاطئ مضل، أو إلى صاحب هوى وميل. فاجتماع الأمة في أمر خلافي ممكن، كما أن اختلافها في أمر تجتمع عليه وارد. أما أهل الأهواء فإنهم ليسوا من أهل الحل والعقد؛ فالهوى ليس أصلا في التعاقد، ولكن اختلاف الفرق لا يمكن الحكم عليه بمقياس فرقة أهل الحق؛ إذ إن كل فرقة تدعيها. كما لا يجوز استعمال سلاح التكفير والتفسيق والتضليل دون الحوار والإقناع وفهم الرأي الآخر؛ فلا استحالة في عقد الإمامة أيام الفتنة والاتفاق على أكثر الموضوعات خلافا.
52 (2-2) صفة العاقدين
العاقدون هم أهل الحل والعقد. ولا يعقد الإمام البيعة لنفسه؛ إذ إن العاقد غير الإمام. كما لا يعقد المتعاقد من أهل الحل والعقد الإمامة لنفسه، بل يعقدها لغيره.
53
فمن شروط المعقود عليه ألا يطلبها لنفسه حياء وزهدا، وضرورة اعتراف الغير به، وعقد إرادة الأمة عليه؛ فالحكم مسئولية يتطلب زعامة شعبية وإجماع إرادة الأمة عن بكرة أبيهم، وإنما أراد بذلك الطعن في إمامة علي إذا كانت البيعة والعقد. هل لا بد من إجماع تام على اختيار الإمام أم يكفي البعض؟ وما مقدار هذا البعض؟ قد يصعب إجماع الخاص. وهي القضية نفسها في الإجماع في أصول الفقه، وقضية الاستقراء في المنطق.
54
ولكن مع السيطرة على بعد المكان وتشابك وسائل الاتصال وسرعة الانتقال، فإن الإجماع التام تقل صعوبته، ولكن تبقى قضية اختلاف المصالح باختلاف الأماكن والعادات والأعراف. وقد يكون الإمام المحلي أقدر على فهم مصلحة أمته من الإمام العام للأمة الموحدة مجموع الأمم. وفي هذه الحالة يمكن الجمع بين الاثنين عن طريق الإمام الواحد والولاة المتعددين. ومع ذلك قد يحدث في مراحل الضعف والانهيار أن يضعف الإمام ويقوى الوالي، فيستقل بأمته، وتنشأ حركات الانفصال كما وقع في التاريخ.
فإن كان البعض هو الممكن، فما مقداره؟ هل يكفي واحد؟ ولكن الواحد مفرد وليس جمعا، والاثنان مثنى وليس جمعا، كما أنهما لا يستبعدان التواطؤ، فهل أقل الجمع ثلاثة لإمكانية عقد باثنين، أي بأغلبية اثنين ضد واحد؟ ولكن في هذه الحالة يعود أقل الجمع إلى المثنى من جديد؛ وبالتالي لا تمتنع إمكانية التواطؤ. إذا كانوا أربعة فإنه يمكن التعادل فيه، اثنان في مقابل اثنين؛ وبالتالي تستحيل البيعة. فإذا ما كان الإجماع ثلاثة في مقابل واحد، فإمكانية العقد وتواطؤ ثلاثة أصعب من تواطؤ اثنين. فإذا كان العدد خمسة، وكان الإجماع ثلاثة في مقابل اثنين، فإنه يكون إجماعا ضئيلا، وإن كان أربعة في مقابل واحد يكون الإجماع أكثر قوة، وتزداد صعوبة التواطؤ. وإذا كان ستة كما حدث في التاريخ في اختيار الإمام الرابع، فإن التعادل ثلاثة في مقابل ثلاثة وارد، والأغلبية أربعة في مقابل اثنين، أو خمسة في مقابل واحد، يعقد بها البيعة، وتزداد صعوبة التواطؤ كذلك. أما تحديد العدد ببلد الإمام أو أهله أو ولايته، فإن ذلك أدعى إلى العصبية وأخذ الإمامة لأنفسهم؛ لذلك فإن العدد هو الذي يمنع من التواطؤ قل أو كثر، كما هو الحال في العدد الكافي في التواتر وفي الإجماع، بالإضافة إلى شروط العاقدين وصفات أهل الحل والعقد؛ فالعقد بواحد يخشى منه الهوى والعقد بجميع من في أقطار الأرض تكليف بما لا يطاق.
55
وصفات العاقدين أن يكونوا من أهل الاجتهاد والعدالة. ويشمل الاجتهاد أعمال الرأي والنظر، والقدرة على الاستدلال، وحصافة الحكم، وسعة العلم. أما العدالة فتشمل القدرة على النصيحة، والدفاع عن المصالح، والتقوى والفضل. ولا فرق في ذلك بين الخاصة والعامة، بمعنى الأقلية والأغلبية، أو الصفوة والدهماء. وأهل الاجتهاد والعدالة قادرون على التعبير عن المصالح العامة للغالبية، والجهر بها في مواجهة الحكام. وهو فرض كفاية عليهم، إذا قاموا به سقط عن غيرهم.
56
ولا بد من شهود حتى يحضر العقد للإمام قوم من المسلمين أسوة بالعقود والشهود عليها، وإلا ادعى عقدا سريا لا يعلمه أحد. وليست الإمامة بأقل من النكاح الذي لا يتوافر فيه الإعلان. والإمامة خطب عظيم، وأمر جلل تعم به البلوى، ويمس كل المؤمنين. ولا يوجد حد معين للشهود، أربعة أو غير ذلك أو أكثر كما هو الحال في عدد العاقدين، يكفي الشهود العدل، أو العدد الذي به تتحقق شهادة العدل.
57 (2-3) الواقع التاريخي
يثبت تحقق الإمامة في التاريخ أنها كانت من أوائل الموضوعات التي نشأ حولها الخلاف إن لم يكن أولها على الإطلاق، ويدل ذلك على نشأة علم أصول الدين كله نشأة سياسية.
58
وقد تم تفسير الواقع التاريخي بطرق متعددة، كل منها يفهمه طبقا لنظريته المسبقة التي تدعم اختياره وتقوي موقفه. ومع ذلك يبدو بعض التناقض بين النظرية وتفسير الحدث التاريخي.
59
فإذا كانت الإمامة عقدا واختيارا، فإن الإمام الأول يكون قد تم تنصيبه بناء على إجماع الأمة ورضا المسلمين به، وليس بنص من الله أو بتوقيف من الرسول، سواء كان نصا جليا أم إشارة يقاس عليها مثل إمامة الصلاة. ويمكن أن تكون أفعاله ضمن شروط الإمام مثل قتال أهل الردة. إن كل الحجج النقلية هي في الحقيقة تركيب للنصوص على فرد معين، واستعمال لنص الوعي كنبوءة أو توجيه، ثم اختيار واقعة تاريخية معينة كتحقيق لهذه النبوءة، وتحقيق لهذا التوجيه. وذاك خطأ في التفسير؛ إذ لا يجوز إسقاط الحاضر على الماضي وقراءته فيه، فليست مهمة نص الوحي الإخبار عن المستقبل، بل تأسيس نظرية. ولا يتم اختيار واقعة معينة إلا بناء على مصلحة أو هوى، أو طبقا لرغبة واختيار إنساني؛ مما يجعل الواقعة هي المفسرة للنص، وليس النص هو المفسر للواقعة.
60
والحق أن البيعة تجب النص، فالنص لا يعين أحدا، خاصة لو كان نص الوحي، وحتى لو كان متفقا مع البيعة. فالإمامة عقد واختيار كأساس نظري في الوحي وفي الواقع. وعلى هذا الأساس تم اختيار الخليفة الأول بإجماع الأمة بعد أن توافرت شروط الإمامة فيه.
61
وإن كل الشبهات التي ألقيت عليه لم تمنع من إجماع الأمة على إمامته، كما أنه يسهل إزالتها؛ فمنعه ميراث النبي إنما يستند إلى النبوة ذاتها، فالأنبياء لا تورث ولا تورث، ما يتركونه صدقة. والخلاف على مبدأ لا يراعى فيه الأشخاص حتى ولو كانوا بنات النبي. وإن كثيرا من الأخبار حول سوء معاملتهم موضوعة، وإن القسوة في محاسبة النفس لدرجة الإحساس بأن هناك شيطانا يعتريها أمر يحتاج الحكام إليه. أما طريقة بيعته فقد كانت فلتة عصمت الأمة من الشقاق والفتنة. ولا يعني ذلك أنها خطأ، بل أكدت الاختيار والبيعة. أما استدراك الأفعال ومراجعة النفس في آخر العمر فهو إحساس بالمسئولية، وتعلم بالتجربة، وليس ضعفا أو خطأ. وعهده إلى الخليفة الثاني اجتهاد منه، وليس خروجا على النبوة وتقليدها. عهد أكده الناس بالبيعة عن قبول ورضا. وإن تأخير جيش لهو اجتهاد قائد في حاجة إليه داخليا قبل الحاجة إليه خارجيا، كما أن عدم توليته بعض الأعمال وتولية آخرين إنما هو اختيار طبقا للقدرات، ولا يدل على أي نقص أو شك. ونقص العلم ليس عيبا، إنما يحتاج الإمام إلى العلم النافع في تسيير أمور الرعية دونما حاجة إلى تفقه وتعمق في الدين يحسنه المتفرغ له. وإن إيقاف الحدود لهو من سلطة الإمام كالتعزير، وإيقاف حد على سيف الله المسلول نصرة للأمة وإيثارا للجهاد على الأفعال الفردية. لم يسم نفسه خليفة، بل سماه الناس كذلك. ولم يستنكره نظرا لأنه كذلك بالمعنى الحرفي قبل أن يتحول اللفظ إلى نظرة شرعية. أما دفنه مع صاحبه فكذلك فعل آخرون إيثارا للصحبة، وليس عصيانا لأمر.
62
وكانت إمامة الخليفة الثاني بعهد من الخليفة الأول تلته البيعة أمام جمع من الشهود. والغلاة وحدهم هم الذين لا يتولون الشيخين.
63
وقد تم الاتفاق على الخليفة الثالث بعد الشورى، وعقدت له البيعة بالرغم من بعض الشبهات حول أفعاله عن خطأ في الاجتهاد.
64
وتمت إمامة الخليفة الرابع عقدا واختيارا بإجماع الأمة. ولما حدث الشقاق، وانفصمت عرى الإجماع، ونصب إمام آخر أقل فضلا من الأول، بدلا عن أن يتنازل الثاني، تحولت البيعة إلى نص كرد فعل على سوء اختيار البشر وتحكم الهوى والمصلحة الفردية.
65
وبعد ذلك تحولت الإمامة إلى ملك عضود إلى حكم وراثي في نسل الإمام دون وراثة الروح.
66
والحقيقة أن تحقق الإمامة في التاريخ وإن اختلف فيها القدماء، فإنها لم تعد مشكلة اليوم أو مجالا للاختيار والتحزب. لم تعد الواقعة نفسها بذات دلالة إلا من حيث تحليل المواقف التاريخية في الدراسة العلمية للتاريخ، ورؤية أي المواقف كانت أكثر ثورية من الآخر طبقا للالتزام السياسي لروح هذا العصر. ولا يبرأ هذا التحليل من قراءة الحاضر في الماضي، ورؤية الواقع في التاريخ. ومع ذلك فالدخول فيه وكأننا طرف فيه هو هروب من العصر، ونقص في الالتزام، وابتعاد عن الاختيارات الأساسية فيه. حينئذ يكون الماضي تعويضا عن الحاضر، ويكون التاريخ مهربا.
67
رابعا: صفات الإمام وشروط الإمامة
تبدو أحيانا صياغة المسألة السياسية صياغة فردية، وذلك بالتركيز على صفات الإمام، وكأن النظام السياسي كله بما في ذلك من مؤسسات دستورية ونظم شعبية للرقابة تتحدد بل وتستنبط من صفات الإمام الفردية الطبيعية أو المكتسبة، سواء في التعيين بالنص أو في الاختيار بالعقد والبيعة، مع اختلاف في درجة التشخيص؛ ففي التعيين بالنص تكون الصفات أكثر تشخيصا وتأليها، مثل الخلود، والغيبة والرجعة، والعصمة والتقية، والعلم والتعليم، في حين أنه في الاختيار بالعقد والبيعة تكون الصفات أقل تشخيصا وأكثر إنسانية، مثل العلم والورع والشجاعة. الأولى تكليف بما لا يطاق، والثانية تدخل في حدود الطاقة الإنسانية. بل يستمر هذا النسق المتقابل في علم أصول الدين كله ابتداء من موضوعه الأول، وهو الذات، حتى موضوعه الأخير، وهو الإمامة. فالتجسيم والتشبيه والتشخيص يظهر في كل موضوع، يجعل الإنسان إلها، والحرية جبرا، والعقل سمعا، والعدل ظلما، والخير شرا، والعمل نظرا، والسياسة فردا. وقد استمر هذا النسق موروثا حتى الآن في وجداننا المعاصر في طبع النظام السياسي كله بشخصية القائد أو الزعيم أو الرئيس، بمزاجه وأهوائه وقدراته وطبعه. إذا حسن النظام فلحسن شخصه، وإذا ساء فلسوئها. ويظل الصراع بين القمة والقاعدة موروثا،
1
وبعد أن حسم لصالح القمة في الإلهيات وفي الإنسانيات، في العقليات وفي السمعيات. (1) هل هناك صفات للإمام؟
إذا كان القول بالنص والتعيين يؤدي إلى صفات للإمام تتجه نحو التأليه، وصفات فوق الطاقة البشرية تجعل من الإمام أكثر من إمام، فإن هذه الصفات في الحقيقة هي تعويض عما لحق بالأئمة من ذبح وتقتيل. وكلما زاد القهر والقمع ازدادت الصفات ألوهية، وازداد الإمام عظمة؛ كي يستأنف الكرة ويعود من جديد أقوى مما كان، ليهزم جحافل الظلم وجند الطاغوت. وهذه الصفات هي الخلود، والغيبة والرجعة، والعصمة والتقية، والعلم والتعليم. (1-1) الخلود والرجعة
والقول بالخلود والرجعة هو أكبر رد فعل على موت الإمام ظلما وقتله عدوانا؛ إذ يتحول الفناء المطلق إلى خلود مطلق، وينقلب الموت اللحظي إلى حياة أبدية دائمة مثل حال الشهيد، وتتحول رغبة العدو من إعدام للإمام المعارض إلى إثبات وجوده إلى الأبد، فينقلب الظالم على عقبيه، ويفوت الإمام على أعدائه تحقيق أغراضهم. الرغبة في الخلود إذن شيء طبيعي كرد فعل على الظلم ورغبة في النصر، واستعدادا للانتقام. فالهزيمة ليست نهائية، والحاضر ليس كل الزمان، وخسارة معركة ليست خسارة للحرب. فلا بد للعدل أن يسود على الظلم، ولا بد للحق أن يدحض الباطل، ولا بد للشرعية أن تعود لتمحق اللاشرعية. خلود الإمام إذن إحدى مقدمات نظرية الثورة على الحكم الظالم من أجل سيادة العدل، وإحقاق الحق، والعودة إلى الشرعية. الخلود تعبير عن الرغبة في الثورة، واستمرار القتال، وأمل في المستقبل، وثقة بالنصر. وتنشأ صور الخلود ابتداء من جدل الحس والخيال، والصراع بين الواقع والحلم؛ فبعد قتل الإمام في الواقع يظل حيا في الخيال.
2
ولا ضير أن يقع خطأ في الحواس؛ فشدة الانفعال وفقد الاتزان من هول قتل الأئمة وذبحهم يفقد الحواس القدرة على الإدراك السليم، ويصبح الخيال بديلا عن الحس، والتمني سائدا فوق الواقع، ويخلق الموضوع في الذات بدلا من أن تدرك الذات الموضوع. وفي هذه الحالة لا يهم من الإمام، هذا أم ذاك، ومن من الأئمة هو الحي الخالد؛ فإمام كل فرقة بعد استشهاده هو الحي الخالد. المهم هو الواقعة الحية والتجربة الإنسانية، وليس الحدث التاريخي، الشخص المعين باسمه ما دامت الظروف النفسية واحدة، والأشخاص ما هي إلا «معلقات» عليها وحوامل للدلالات. وإن الاختلاف في الإمام مات أم لم يمت يدل على الصراع بين الموقفين الحسي والخيالي، الواقعي والحالم، عقلية معتدلة أو نفسية متأزمة، موضوعية ومواجهة أو ذاتية وهروب. وإن اختلاف الفرقة في موت الإمام، مات أم لم يمت، لا يحتاج إلى تحقق تاريخي لواقعة الموت؛ لأن الأمر لا يتعلق بحادثة تاريخية موضوعية، بل بموقف ذاتي خالص تعبر فيه الجماعة عن رغبتها في الانتصار على الموت، ورفض الهزيمة عن طريق التمني وبصياغة الخيال. إن كان قد هزم الإمام بالفعل فإن إرادة الجماعة لم تنهزم، وإن كان حسه قد صدم فإن خياله لم يتوقف؛ وبالتالي تتحول الهزيمة في الحاضر إلى انتصار في المستقبل. وتكون الصدمة عندما يموت الإمام الحي فتفترق جماعته فرقتين؛ الأولى تنكر الموت، وأن الذي مات شخص آخر؛ والثانية تثبت الموت، وتنكر الجماعة وتخرج عليها، وتفيق من الخيال. لا يهم إذن الاختلاف في نهاية الأئمة، فتلك ظروف نسبية جزئية تكون مجرد حوامل للظروف النفسية، وأمام واقعة الموت تتهاوى كل دعاوى الخلود، وأمام أهواء البشر ينقشع الغمام، وتظهر الحيل، وتنكشف الاحتيالات، وتفيق الجماعة. وتظل الجماعة متأرجحة بين الواقع والخيال، لا تقوى على مواجهة الواقع، ولا تستطيع الفكاك من الخيال، وتشتد الحيرة، ويقع التشرذم، وتنشق صفوف المعارضين.
3
ويتضخم الإمام الحي الراجع، ويضم مظاهر الطبيعة، ويتشخص فيها. فيصبح الإمام الحي هو السماء وبرقها ورعدها وحركتها، بجبالها وأنهارها ووديانها، بسهولها وسواحلها، بأشجارها ونباتاتها، وبحيواناتها المتوحشة. فالسماء رمز للعلو، وتعويض عن سفل الأرض، وتمسك بالأعلى في حالة ضياع الأدنى والاستئصال منها. فالإمام في السحاب، رمزا للصفاء والبياض والطهارة والنصاعة والشفافية والخلفة والوفرة والخير، في المطر؛ الرعد صوته، والبرق سوطه. الإمام حي في منطقة نائية في جبال رضوى، فالجبل رمز للصمود والفخامة، والضخامة والعظمة، وهي جبال «رضوى» تشخيصا للرضا عن الإمام. أسد عن يمينه ونمر عن شماله يحفظانه، يأتيانه رزقه غدوة وعشية إلى وقت خروجه. وهي الصورة الشعبية الموجودة حول كل فارس ممثل للإيمان تحفظه الأسود والنمور، ويركب الخيل مقاتلا التنين والوحوش الكاسرة، والتي تدل على رغبة جامحة في الانتصار، وعلى وجود شعور بالبؤس أو إحساس بالشقاء، وعلى ضرورة الانتصار حتى ولو كان بالتمني يصنعه الخيال، ويمثل الحق الضائع والأمل فيه عن طريق خلق صور فنية له قد تكون لحيوانات واقعية مثل الأسد والنمر، أو خيالية مثل التنين يشرب من عينيه، عين من الماء وأخرى من العسل، صور من الجنة ومن الصحراء. إن الإيمان بإمام حي مشخص في الطبيعة على هذا النحو تعويض نفسي عن تقتيل الأئمة الذين خرجوا على الحكم الأموي، وتخيله بعيدا في الصحراء عن وحوش المدينة، تحرسه وحوش حقيقية أكثر أمانا من وحوش بني أمية، يعيش مع نفسه، رمزا للصفاء الخالص بعيدا عن شرور الدنيا وآثامها. الإمام المنعزل رمز للطهارة الضائعة التي آثرت العيش في الصحراء بعد أن استحال لها العيش في المدينة. وقد تكون هذه العزلة عقابا للإمام على رضاه عمن ظلموه وظلموا الأئمة من الحكام، وبيعته لبعضهم ورفضه الاستمرار في المعارضة والثورة المستمرة. تكون العزلة حينئذ عن البشر وعن الناس وكأنه سجين الصحراء. وكيف تكون العقوبة الخلود؟ وكيف يرتكب الإمام الذنوب وهو معصوم؟ إن الخيال الشعبي لا يعرف التناقض، ولكنه يصوغ وقائع وحوادث كتجارب حية في الشعور، ويصورها بالخيال دون أن يوجد لها نسقا عقليا مطابقا. كل موقف له بنيته النفسية الخاصة كحالة فردية.
4
ولا يخص ذلك الأئمة وحدهم، بل الصوفية كذلك، ما دامت الظروف النفسية والاجتماعية والسياسية هي التي تخلق العقائد، بل ولا يقتصر ذلك على الشيعة والصوفية وحدهم، بل يمتد إلى كل من يخضع للظروف نفسها، مثل بعض أئمة الخوارج الذين لا يستأنفون القتال فيتحولون إلى شيعة.
5
تنشأ هذه العقيدة من تضخم الذاتية خارج الموضوعية، والقضاء على استغلال الطبيعة، ثم تشخيصها أو السيطرة عليها بالخيال، وتصورها بالافتراض والتمني. كما تخضع الملائكة للإمام تعويضا عن رفضه خضوع البشر له، وتحييه وتبايعه تعويضا عن إنكار البشر لبيعته ورفضهم لها. يعينه بشر، كل منهم يحمل اسما أعظم. له مؤمنون، سبعة عشر رجلا بإيمان صادق تعويضا عن الآلاف بلا إيمان مرتشين. النصر للقلة المؤمنة على الكثرة الباغية. الأرض لهم في المستقبل إن لم تكن لهم في الحاضر. ويبلغ الإمام درجة القرب من الله بحيث يتعاملان معا حسيا وجسديا، يمسح الله بيده على رأسه تحببا إليه. كما يبلغ درجة النبوة؛ إذ يطلب الله من الإمام التبليغ عنه في دار التبليغ. والنطقاء بالشرائع، أي الرسل، سبعة، يعين كل منهم سبعة أئمة يتممون الشريعة. ويوجد في كل عصر سبعة يقتدى بهم؛ إمام يؤدي عن الله، وحجة يبلغ عنه، وذو مص يمص العلم، وأكبر يرفع درجات المؤمنين، ومأذون يأذن العهود على الطالبين، ومكلب يحتج إلى الداعي، ومؤمن يتبعه. ومظاهر الطبيعة أيضا سبعة؛ السموات والأرض وأيام الأسبوع والكواكب السيارة ... إلخ. وقد تحتاج الإمامة إلى الإقامة، ويتلو الإمام القائم. الإمام يعرف الحقائق العلوية والسفلية، والقائم يعرف الكليات في الجزئيات.
6
والرجعة تدل على رغبة في العودة إلى النضال والانتقام والنصر، وأن الهزيمة ليست فاصلة ولا حاسمة ولا نهائية. وما دام حيا لا يموت فهو أزلي من البداية، أبدي في النهاية؛ فخلود الإمام يؤدي إلى الرجعة. الإمام حي قائم خارج أرض الظلم والنفاق في أرض الطهارة والصفاء، يعود حتى يعود الحق معه ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. ويكون القتل الثاني بالحق لا بالظلم. ولا يؤثر فيه السيف كرد فعل على تقتيل الأئمة بالسيوف قبل الخلود والرجعة. ولا يتمتع الإمام وحده بالخلود والرجعة، بل أيضا كل من يتصل به من أهله وأنصاره، بل والعالم كله من أجله، فالخلود يسري بالاتصال، وينتشر بالتبعية، ويعم بالتضامن. كل من اتصل بالخالد فهو خالد مثله، وكأن الإمام يشع خلوده على الآخرين، وتسري عدوى خلوده في جماعته. ليس الخلود إذن صفة ثابتة، بل صفة مشعة. وإن القدرة المطلقة للإمام بعد موته رد فعل على عجزه المطلق في حياته، وتعويض نفسي عن الإحساس بمرارة الفشل. لا بد للحياة من أن تنتصر على الموت، والأمل على اليأس، والروح على البدن. وقد يتجاوز الخلود الإمام أو الموتى إلى الدنيا كلها. وهو إحساس ينتج عن تعويض نفسي بعد فقد الأئمة وتابعيهم لكل شيء في الدنيا. ينقلب الضد إلى الضد، ويتحول العدم إلى وجود، وعندما يضيع الابن يخلد بالصورة. يعود الأصحاب مع الإمام، وتعود الدنيا كلها إليهم، لهم المصير نفسه والمستقبل نفسه.
7
وقد تمت قراءة حوادث التاريخ في النصوص حتى أصبحت النصوص تنبؤات بالحوادث أو توجيهات للوقائع. وإن استحال تأويل النصوص بحيث تتطابق مع حوادث التاريخ أصبحت محرفة مبدلة، أو منسوخة مرفوعة لا يمكن الحكم فيها إلا للإمام المعصوم. وقد يوحي ذلك بأن صفات الإمام الأسطوري نابعة من النصوص، وهي في الحقيقة تعبير عن الأوضاع النفسية والاجتماعية والسياسية لمجتمع الاضطهاد في مواجهة مجتمع القهر والغلبة.
8
فالتجارب الحية داخلية محلية، ثم تم نسج كثير من صور الخلود والرجعة طبقا لنماذج في البيئات الدينية المجاورة بعد أن تم التعرف عليها. وقد كان كثير من المنظرين على علم بها أو ينتسبون إليها قبل الانتساب إلى الحضارة الجديدة الناشئة؛ فقد ظهر من قبل خداع الحواس في رؤية الواقع، كما هو الحال في رؤية المسيح عيسى بن مريم، ولم يمت الإمام حقا، بل شبه لجماعته أنه كذلك، أو أن شخصا آخر قد مات بدلا عنه، وقد يكون الشيطان قد تمثله. صعد الإمام إلى السماء كما صعد عيسى ودانيال وعزرا؛ مما يدل على أهمية تاريخ الأديان في الوعي الاجتماعي كأنماط مثالية ينسج الخيال عليها. وقد كان أوائل المنظرين من اليهود، وعقائد الخلود والرجعة موجودة في الكتب المقدسة السابقة. وإن اتحاد الإمام بمظاهر الطبيعة وتشخيص صفاته فيها معروف أيضا في الأناجيل. وقد حدث ذلك للمسيح ساعة الصلب عندما اكفهر الجو، وأمطرت السماء، واشتد الرعد، وسطع البرق، ووقع الزلزال، واهتزت الأرض، وهبت الريح، وطارت العواصف، تعبيرا عن بشاعة الجرم. وقد ظهر المسيح في رؤيا يوحنا راكبا حصانا أبيض وهو يقاتل التنين وينتصر عليه. كما صارع أيوب الشيطان تعبيرا عن الصراع بين الخير والشر، وأملا في النصر. وكما ينزل المسيح في آخر الزمان ليقتل المسيح الدجال رمز الشر في كل دين، ويخلص الناس من شره، كذلك يفعل الإمام؛ فالإمام هو المخلص. وقد ظهرت هذه العقيدة في كل دين، وقامت بدور هائل إن لم يكن الدور الرئيسي في قيام الحركات الدينية السياسية، وقلب أنظمة الحكم وإقامة أنظمة جديدة؛ ففي اليهودية القديمة ظهرت عقيدة المخلص «المشيانية» الذي سيخلص بني إسرائيل من الأسر البابلي، كما ظهرت في المسيحية الأولى التي اعتبرت المسيح هو المخلص، وفي معظم الديانات التاريخية قامت عقيدة المخلص بأدوار تحررية في تحرير الجماعات من الاضطهاد الداخلي والسيطرة الأجنبية. لا تظهر العقيدة في فترات الانتصار، ولا تظهر إلا أوقات الهزيمة وفي جماعات الاضطهاد.
9
ولا يمنع ذلك من وجود مقاصد لدى المنظرين الأوائل الذين كانوا ينتسبون إلى هذه البيئات الدينية والحضارية المجاورة يجعلهم يروجون لعقائد جديدة دخيلة لتحقيق نوع من الضياع النظري. فإذا كان هناك عجز في مواجهة الدين الجديد على مستوى الفتوح في الأرض، فيمكن الطعن فيه من الخلف، في العقائد النظرية، سبب قوته، في وقت لم تختف فيه الشعوبية بعد، وهي تصور الحكم الجديد للعرب والقديم للفرس دونما مغالاة في التفسير التآمري لحوادث التاريخ.
10 (1-2) الغيبة والانتظار
فإذا كان الإمام خالدا وراجعا لأنه لم يمت، أبديا أزليا، ومع ذلك فإنه غائب يجب انتظاره. ومكان الغيبة في الدنيا، في الجبال أو الفيافي والقفار، إلى أن يحين وقت خروجه قادما من الصحراء إلى الخضر. وتظل الجماعة في التيه لحين ظهور الإمام وحضور ملكه. ولما كانت الأرض لا تخلو من إمام، فهناك القائم نائبه. وقد تكون الغيبة غيبتين؛ الغيبة الأولى يتلوها ظهوره كبشارة أولى وثقة في النصر، ثم تأتي الغيبة الثانية
11
للاختلاف التاريخي حول الغائب، هذا أو ذاك؛ لأن الأمر كله تجربة شعورية لا تدل على وقائع، نشأت في بيئة نفسية واجتماعية معينة. ولما لم يظهر الإمام، ولم يرجع المهدي المنتظر، ولم تنتصر الجماعة، كان مصيرها جميعا بلا استثناء القتل والهزيمة. ومع ذلك تخلق عقيدة المهدية أشخاصها. وما الفائدة أمام غائب يعيش في بطون الجبال والكهوف أو في الصحراء ينتظر القوم رجوعه؟ وما الفائدة من إمام حي لا يفعل ولا يؤثر ولا يتصل بالبشر؟ كيف يقودهم ويخلصهم ويعلمهم ويؤمهم؟ والغيبة غير محددة، قد تطول وقد تقصر، وقد تستمر بالقرون ولا يظهر الإمام المنتظر. يتغير الكون، وتتغير ظروف الجماعة، ويظل الإمام القائد لا يتغير. هل يعلم الإمام الظروف الجديدة؟ هل يظهر أثناء هذه المدة من يأخذ حقهم، مثل نائبه؟ وعقيدة انتظار المخلص معروفة في جميع الأديان، تنشأ من الإحساس بالاضطهاد كما حدث لدى الشيعة، ومن العجز عن استرداد الحق الضائع، يمكن قراءتها في النصوص الدينية حتى يحدث التطابق بين التجربة الحية وحجة السلطة،
12
ولكن النموذج الذهني موجود في الديانات السابقة التي تم التعرف إليها من البيئات الدينية المجاورة؛ فظهرت عقيدة المخلص في اليهودية إبان الأسر البابلي؛ مما ساعد على خلاص اليهود ورجوعهم إلى أرض المعاد. كما ظهرت في العصر الروماني، وأدت إلى ظهور المسيح، وبعد موته ظلت الجماعة المسيحية الأولى في انتظار عودته على قمم التلال وعلى أسطح المنازل. وهذا معروف في التاريخ النفسي للجماعة الأولى باسم واقعة الانتظار
. وفي معظم الديانات التاريخية لعقيدة المخلص دور تحرري في الجماعات المضطهدة.
13
وتظل عقيدة المهدية أكبر صورة فنية للأمل في الحق بعد ضياعه، وفي الإيمان بإمكانية استرداده تعويضا في المستقبل عن هزيمة الماضي. أما فرق المعارضة الأخرى العلنية، سواء في الخارج أم في الداخل، فإنها تحقق الخلاص بالفعل بوسائل أخرى، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو بالثورة على الإمام. والحقيقة أنه بالرغم من بعض الجوانب الإيجابية في عقيدة المخلص، إذ إنها تعطي أملا مستقبليا في الانتصار، وثقة فائقة بالنصر، فالحق لا بد وأن يظهر في النهاية مهما طال الانتظار، وأن العدل لا بد وأن يسود حتى ولو ملئت الدنيا ظلما وعدوانا، كما أنها تعطي طاقة قصوى على التحرر، وعلى ملء الفراغ الذي تتركه غياب الأيديولوجية. وكثيرا ما أدت العقيدة إلى ثورة بالفعل ضد المغتصب بصرف النظر عن وقوع ظلم آخر في مرحلة ما بعد التحرر. بالرغم من ذلك، للعقيدة جوانب سلبية أخرى؛ فهي تعبر في نهاية الأمر عن العجز عن التحرر في الحاضر، وتخلق عالما من الوهم على أمل خادع في المستقبل. تحول الوقائع إلى عقائد، وتحيل الموضوعية الصلبة إلى ذاتية فارغة، وتكشف عن عدم إمكانية الصمود وتقبل الصدمة، وتحليل الواقع عقلا، والرغبة في انتصار سريع حتى ولو بالتمني. كما أن انتظار الخلاص ليس القيام به بالفعل، والعيش في المستقبل تجاوزا لمآسي الحاضر تماما مثل العيش في الماضي زمن الانتصار أيام العصر الذهبي؛ فالهروب إلى الإمام تعليقا للخلاص في المستقبل مثل الهروب إلى الوراء تنعما بالنصر في الماضي وتأملا فيه. والانتظار في النهاية موقف سلبي يخالف الانتظار الذي يصاحب الإعداد لمعركة قادمة. كما تؤدي عقيدة المخلص إلى عبادة الفرد؛ فالمخلص هو فرد وليس تنظيما جماعيا. هو القائد الملهم والمخلص بلا منازع، هو البطل والرئيس والقديس والمعلم؛ مما يتطلب من الناس التسليم المطلق له والثقة العمياء فيه؛ لذلك تؤدي عقيدة المخلص إلى تأليه الفرد، وليس فقط تقبل زعامته أو تعبيره عن مطالب الجماهير. ونظرا لسلبية الجماهير، وطاعتها العمياء للمخلص، وعدم ممارسة الرقابة عليه، ينتهي الأمر إلى أن يقود الخلاص إلى استغلال الجماهير باسم الدين، أو الانقلاب عليه بمخلص آخر قد يكون ثورة مستمرة أو ثورة مضادة. وغالبا ما تكون في البداية دعوة سرية لا علنية، وفي جماعة تقوم بنيتها النفسية على سيكلوجية الاضطهاد، ويتسم فكرها بطابع الجماعة السرية المغلقة والسلوك المزدوج والتفسير الباطني للعالم. ويتم تصور قوى وهمية مشخصة تساعد المخلص، حتى ولو كانت هذه القوى المشخصة مذكورة في النصوص الدينية كصور فنية، وتعبير عن القوى النفسية والمعنوية التي يعتمد عليها أصحاب الحق المهضوم في مواجهة القوى المادية لأنصار الظلم والجبروت. (1-3) العصمة والتقية
قد يبدو بعض التناقض في هذه المفاهيم المزدوجة، مثل الخلود والرجعة، الغيبة والانتظار، العصمة والتقية؛ فكما أن الخالد لا يرجع لأنه باق إلى الأبد، فكذلك الغائب لا ينتظر لأنه لا يعود، والمعصوم لا يخشى شيئا؛ وبالتالي لا يمارس التقية. ومع ذلك ما دام الإمام فوق البشر، أسطوريا، تكون العصمة من صفاته بصرف النظر عن تطبيقها في هذا الإمام أو ذاك؛ فالعصمة رد فعل نفسي على الفتنة وتخبط الآراء. ولما كان أصوبها لم يتحقق أصبح هو الحق الضائع، ولزمت العصمة كملاذ أخير. ويصعب تحققها التاريخي في أئمة بعينهم؛ فإذا كان هناك اعتراف بإمامة الشيخين أو الخلفاء الأربعة فإنهم غير معصومين، وإذا كانت العصمة لأحد الأئمة فإنه قد أخطأ ببيعته للإمام الظالم، وإذا كان الإمام الرابع معصوما فمن الخطأ القول بكفره لأنه لم يقاتل الشيخين على حقه الذي تركه. وهل قال أحد من الخلفاء الأربعة إنه معصوم؟ وهل تمتد العصمة إليهم من الأئمة؟ وإذا امتدت، فلماذا تتوقف عليهم ولا تمتد إلى التابعين وتابعي التابعين إلى ما لا نهاية؟ وإذا كان الإمام معاقبا لبيعته للإمام الظالم، محبوسا في جبال «رضوى»، فكيف يكون معصوما وهو على هذه الحال يلقى هذا المصير؟ وإذا كان الأئمة اثني عشر، فكيف يكون المعصومون أربعة عشر؟ هناك إذن معصومون غير أئمة؛ وبالتالي لا تكون العصمة أحد أوصاف الإمام. وإذا كانت العصمة وصفا له، فكيف لا تكون وصفا ثابتا، بل توجد وتعدم، تأتي وتختفي بعد مدة معينة؟ بهذا المعنى تكون العصمة مرتبطة بالأفعال وليس بالأشخاص. وإذا كانت العصمة ممتدة إلى الخلفاء والأعوان فهي ليست خاصية فريدة للإمام، ولأمكن استغناء الإمام عنها، أو كان الخليفة أو الوالي المعصوم إماما مثل الإمام المعصوم.
14
وإذا كانت العصمة للإمام وحده، فكيف تكون لآل بيته؟ لذلك من الأفضل أن تكون العصمة مجرد وصف نظري دون تحقق عيني في التاريخ. وفي هذه الحالة لا تكفي وحدها على الإطلاق، بل تصاحبها المعجزة والنبوة وتنتهي إلى الألوهية، بل قد يعصي النبي لأن الوحي يصححه؛ وبالتالي تكون العصمة أولى بالإمام من النبي.
15
وحجج عصمة الأئمة اثنتان؛ الأولى ضرورتها للتعليم والتشريع لما كان الإمام هو المعلم والمنفذ للشريعة بصرف النظر عن نوعية العلوم، إلهية كما هو الحال في مذهب التعليم، أو عقلية لمعرفة الواجبات وتقريب الخلق إلى الطاعات، وبصرف النظر عن نوعية الوظيفة، نظرية أم عملية. والثانية حجة جدلية صرفة؛ أن كل معلم في حاجة إلى معلم، وكل إمام يحتاج إلى إمام حتى تصل إلى المعلم والإمام المعصوم. والحقيقة أن الدين واضح بين لا حاجة فيه إلى وظيفة جديدة. ويمكن عن طريق علم الأول الاجتهاد واستنباط أحكام شرعية جديدة. العصمة إذن داخلة في حدود القدرة الإنسانية على الاجتهاد في التشريع وعلى استنباط الأحكام. أما من جهة ضرورة وجود معلم أول وإمام معصوم، فيمكن أن يمثل الوحي بهذا الشأن نقطة بداية يقينية تغني عن العصمة. أما الحجج النقلية فهي قراءة للحالة النفسية في النقص وتأويل له حتى يحدث التطابق بين النص والواقع كما تشعر به جماعة الاضطهاد. وقد تثار حجة شرعية من أن الإجماع يقوم على الإمام المعصوم كأحد المجتمعين. والحقيقة أن حجة الإجماع من داخله وليست من خارجه، من التحاور وتبادل الرأي والمشورة؛ فإذا أمكن خطأ واحد فإن الآخر يقوم بالتصحيح، ولا تجتمع الأمة على ضلالة. كما أن صدق الرواية لا يعتمد على وجود إمام معصوم ضمن الرواة؛ لأن الصحة التاريخية لها شروطها في النقل المتواتر أو في ضبط الراوي وعدالته والتطابق بين السماع والحفظ والأداء إذا كان النقل آحادا. وإذا كان المعصوم علما وعملا فإن الراوي مجرد ناقل لرواية لا يتدخل فيها بعلمه أو بعمله.
16
إن العصمة بهذا المعنى قد تكون إحدى صفات النبوة دون الإمامة. والدليل على أن الإمام غير معصوم أن الأئمة الأوائل لم يكونوا معصومين ولم يثبتوا عصمتهم. كما أن الإمام ليس سلطة تشريعية، ولكنه سلطة تنفيذية، ينوب عن الأمة في تنفيذ الأحكام، ويجوز خلعه إذا ما أبطل شروط عقد البيعة، ومن يجوز خلعه والثورة عليه لا يكون معصوما. وهو بهذا المعنى لا يفترق عن عماله ووزرائه وقضاته وجباة خراجه ومحتسبيه وجنده. إن العصمة لا تعني أكثر من الامتناع عن الفسوق، والحرص على الصدق في القول، والعدل في الفعل.
17
أما التقية فإنها تبدو متناقضة مع العصمة؛ إذ إن التقية تبدو حركة تراجع ونكوص، في حين أن العصمة ثقة بالنفس وإقدام على الفعل. وتكون التقية على مستويات عديدة؛ قد تكون عدم الظهور كلية، والاختفاء عن الأعين والأنظار من أجل عدم التعرف على الإمام؛ فالإمام ظاهر لا غائب، ولكنه مستور محجوب مخفي. وقد تكون التقية في القول، إما عدم الجهر بالإمامة أو حتى بالكذب وإنكارها. وقد تكون التقية أخيرا في الفعل؛ أي ارتكاب المعاصي والذنوب إبعادا لصفة الإمامة عن الإمام حتى تحيد عنه الأنظار، بل قد يظهر الكفر والفسوق حتى تنقلب العصمة إلى ضدها. ويجوز ذلك على الرسول أيضا باعتباره إماما، وليس للإمام وحده باعتباره مثل الخليفة الرابع بقبوله بيعة الخلفاء الثلاثة تقية، ومارسها أبناؤه أمام حكام الظلم. وقد تصل التقية إلى حد التظاهر بالموت طلبا للأمان وخداعا للسلطان.
18
والحقيقة أنه في مجتمع الاضطهاد لا وجود إلا للانغلاق على الذات، وقراءة النفس في الآخر، وتكوين دنيا مستقلة، وتحول الطهارة إلى إباحة. كفى العالم إيمانا وظلما. ومع ذلك لا يخلو الزمان من إمام ظاهر وإمام مستور في حالة التفاؤل. وقد تخلو الأرض من الإمام ظاهرا ومستورا، ويظل الناس بلا حجة، وتنقلب الأمور من الضد إلى الضد، من وجوب الإمامة إلى استحالتها.
19
وهذا لا يمنع من وجود أناس بررة صالحين أطهار في كل عصر. والحقيقة أنه يصعب التمييز في الأفعال بين ما يتم منها معصية وما يتم منها تقية. وإذا كان الإمام معلما وقدوة ونموذجا للسلوك، فكيف يمكن الاقتداء به وأفعاله معاص وذنوب؟ وماذا لو استخدمت التقية من غير الأئمة لتبرير المعاصي أو الاختفاء من الميدان؟ في هذه الحالة تكون التقية مثل «البداء»، وتجويزه على الله لتبرير أخطاء البشر؛ لذلك تظهر التقية في حالات المغالاة والتطرف، الحب الزائد والبغض الزائد. وقد تصل التقية في حالة البغض الزائد إلى درجة قتل النفس، أو تزويج المؤمنة من الكافر، أو القعود عن الجهاد.
20
إذا كانت الدعوة علنية، والجهر بالقول والفعل علنا، فإن التقية لا تجوز. أما الانتظار والتخطيط فليس تقية، بل هو اختيار أنسب الأوقات لضمان نجاح الدعوة والقضاء على الظلم.
21 (1-4) العلم والتعليم
22
والإمام مستودع العلم الذي لا يعلمه غيره، وهو علم قلبي يقوم على الإلهام، أو هو حاجة نفسية وليس علما نظريا خالصا. والعلم متحد بالشخص، والشخص متحد بالعلم. يعرف العلم بالشخص كما يعرف الشخص بالعلم. وهو علم مجمل في مقابل الوحي كعلم مفصل، له ظهر وبطن؛ وبالتالي في حاجة إلى تأويل.
23
وهو فوق ذلك كله علم مستور لا يعلمه إلا العالمون، علم سري، مستودع في القلوب، لا يكشف إلا لأصحابه أهل العلم. وهو علم موروث لا مكتسب، لا يتوارثه إلا الأئمة، إمام عن إمام حتى الإمام الحالي ، فيكون هو العالم وغيره الجاهل، هو المعلم وغيره المتعلم، هو المتصل بمنبع العلم وغيره لا يتعلمه إلا عن طريقه. قد يبز فيه الإمام علم الرسول بكمه وكيفه؛ فالإمامة متممة للنبوة، وليس على الآخرين إلا التقليد للإمام والتبعية له كما يتبع الأعمى البصير.
24
النبوة مجرد حرف بلا معنى، والولي أو الإمام هو الذي يعطي الحرف معناه.
25
وهو علم واحد لا اختلاف فيه؛ فالاتفاق صحة، والاختلاف بطلان. وعلامة الحق الوحدة، وعلامة الباطل الكثرة. والوحدة مع الإمام، والكثرة مع أعدائه. والجماعة مع الإمام، والمجتمع المضاد مع أعدائه. وهناك علم الميزان يمايز بين الاثنين، مستقى من الشهادة، كنفي وإثبات أو كنفي واستثناء في «لا إله إلا الله». فما يستحق النفي باطل، وما يستحق الإثبات والاستثناء حق. وعلى هذا النحو يمكن وزن الصدق والكذب والخير والشر وكل المتضادات، وقياسها به.
26
والإمام يعلم كل شيء، ما كان وما يكون وما سيكون، لا يند شيء عن علمه، في حين أن الرسول كان كاتبا يعلم اللغات والحروف! ويشمل علمه الأمور النظرية والعملية على حد سواء. قد يأتي علم الإمام من الوحي مباشرة أو قد يأتيه من قبل الإمام السابق. فإن لم يحدث تطابق بين العلم والمعلوم تم اللجوء إلى «البداء»؛ أي حدوث تغير في العلم الإلهي! فالإمامة هنا كالولاية متممة للنبوة ومكملة لها. والعلم واحد، فهو يتناسخ من شخص إلى شخص، يكون في شخص نبوة، وفي شخص آخر إمامة، وفي شخص ثالث ولاية. والحقيقة أن وظيفة الإمام عملية صرفة في سد الثغور والدفاع عن الحدود وتجهيز الجيوش وتحصين القلاع ورد المظالم وأخذ الحقوق. وإن تهاون في التطبيق، ولم يستمع للنصح أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجب عزله؛ فالإمامة ولاية لا بمعنى الصوفية، بل بمعنى الوظيفة؛ أي تأدية الواجبات، وهي مستقلة عن شخص الإمام.
27
وتتمثل خطورة العلم والتعليم في اعتباره حكرا على فئة معينة هي المتصلة بالإمام بعد أن كان مشاعا للجميع، بل لا يحق لأحد سوى الأئمة الاطلاع عليه، ولا يجوز لأحد أن يرتفع إلى درجة الإمام حتى يمكنه الاطلاع على العلم؛ لأن الإمام من عصب الإمام الأول. فالعلم حكر على عصب. كيف وقد يخرج الابن جاهلا أو معتوها من أب عالم أو ملهم؟
28
كما يؤدي ذلك إلى إنكار العلم مطلقا لما كان العلم متوارثا وليس كسبا واجبا على كل مكلف. والعلم الضروري منه أيضا ما هو شائع وموجود في كل عقل وفي كل طبيعة بشرية، ولا يمكن توريثه، والنبوة ذاتها لا تورث. العلم المتوارث مضاد بطبيعته للعلم المكتسب وقصر المعرفة على السلالة والأنساب، في حين أن مصدر المعرفة هو الواقع ذاته الذي استمد منه الوحي محاولا تنظيره.
29
وإذا كان العلم سرا فإنه لا يمكن لأي أحد فهمه، ولا بد من انتظار الإمام حتى يكشف له ما غمض عنه من العلم، ويظل الإنسان يجهله، فليس لديه ما يستطيع به أن يعلم أو يعرف، في حين أن الوحي معطى للجميع لا سر فيه، بل إن مقولة السر مضادة بطبيعتها لمقولة الوضوح الذي يعبر الوحي عن نفسه من خلالها. وعادة ما تروج مجتمعات القهر لمقولة السر حتى لا يتساءل الناس، ولا يكشفوا أسباب القهر والاستغلال والزيف. ويفسر منع التساؤل عن الأمور النظرية التي لا تنتج عنها آثار عملية من أجل إرجاع الناس إلى العالم ومنعا للاغتراب عنه، على أنه منع للتساؤل على الإطلاق. مجتمعات السر هي مجتمعات الكبت والتحريم كما هو الحال في مجتمعاتنا المعاصرة القائمة على ثالوث محرم؛ الدين والسلطة والجنس، الكل لا يعلمه، ولا يجوز الاقتراب منه أو الحديث عنه إلا من قبل السلطة وريثة الإمام، وكل ادعاء لعلم سري هو وسيلة إنسانية لتغطية الجهل أو للتعمية، فلا تقوم ثورة على علم سري؛ لذلك كان التعليم وتثقيف الناس وتساؤلاتها حول المحرمات ومعارضتها للأسرار وكل طرق الاستنارة مضادة لنظم القهر، ووسيلة للقضاء عليها.
30
كما تؤدي صفة العلم والتعليم إلى التقليد؛ لأن الإنسان لا يستطيع بنفسه أن يعلم أو يفهم، بل لا بد من تقليد الإمام وانتظاره وسماع شرحه، في حين أن التقليد مدان شرعا وليس أصلا من أصول الدين، وأن النظر أولى الواجبات على المكلف؛
31
وبالتالي تغيب كل إمكانية للتحقق من صدق أقوال الإمام بإرجاعها إلى الوحي أو إلى العقل أو إلى الواقع، فتقبل أقوال الإمام بلا مناقشة أو اعتراض، ويؤخذ عليه العهد بالتسليم والطاعة والقبول. تغيب أية وسيلة لضبط العلم ومراجعته، فهو علم بلا برهان، في حين أن العلم هو طلب البرهان، وأن كل ما لا دليل عليه يجب نفيه، وأن الإيمان لا يكفي دون التصديق؛ فحقائق الوحي على مبادئ العقل ووقائع الحياة الإنسانية التي تكشف عنها التجارب الشعورية، الفردية والاجتماعية.
32
والأخطر من هذا كله هو هدم العقل وإثبات التقليد والتبعية، وتدعيم هذا الهدم بحجج عقلية تثبت دور العقل في الإثبات والنفي. فإذا كان الفتى يعرف بنفسه اعتمادا على العقل والنظر من غير حاجة إلى تعليم معلم أو عن طريق معلم صادق، فإنه يسمح بالضرورة بعلم غيره الذي توصل إليه أيضا بالعقل والنظر. فإذا ما أنكره عليه، فإن هذا الإنكار لا يحتاج إلى معلم، بل يمكن أيضا أن يتم بالعقل. وإذا كان لا بد من معلم، وكان من الضروري قبول معلم الخصم، وبالتالي يتعدد المعلمون، فإن ذلك لا يعني ضرورة وجود معلم صادق؛ لأن الخصم سيدعي أن معلمه هو الصادق؛ وبالتالي يتعدد المعلمون الصادقون. فما هو مقياس صدق المعلم إن لم تكن هناك وسائل للتحقق منها ومن ضمنها العقل؟ وإن صدق الراوي يمكن التحقق منه بشروط الرواية إذا كان الخبر متواترا، وبشروط الراوي إذا كان آحادا. أما ضرورة تحديد العلم الصادق بشخص بعينه حتى لا يتعلم من معلم غير محدد بشخصه، فإنه تشخيص للعلم بلا سبب. فالعلم لا يتحدد بشخص المعلم، والعالم كل من حمل العلم. وإن البحث عن رفيق للطريق، أي عن مرشد للمعلم، يجعل المرشد أهم من المعلم، ومن لا مرشد له لا معلم له. أما حجة الواقع فإنها لا تكون حجة مبدأ. فإذا كان كل معلم صادقا متعينا بشخصه على حق، وكل معلم صادق غير متعين بشخصه ليس كذلك في ظرف تاريخي خاص لجماعة بعينها، فإن ذلك لا يعمم في كل ظرف وفي كل مجتمع.
33
فإذا ما ظهر العقل فإنه يبدو عقلا أسطوريا غيبيا تعويضا عن غياب العقل الإنساني العلمي، العقل الأول، أول ما خلقه الله، والذي منه تفيض الصور على الموجودات، والذي يدخل في حوار مع الله متشخصا كفرد. وهل وظيفة العقل حوار خالقه أم إدراك العالم؟ وهل يعلم العقل بالفيض أم بالنظر والاستدلال؟ وهل هو مرتبط بالنفس أم بالحس؟ وهل هو وجود أم معرفة، شيء أم آلة؟ هل هو أخلاق أم طبيعة؟ هل هو متجه إلى العالم العلوي أم إلى العالم السفلي؟ وأين يعيش الإنسان ومن أين تأتي مآسيه؟ والعقل ليس مقتصرا على النبي أو على الوحي، بل هو عام في كل إنسان، يأتي من طبيعته وفطرته وليس موهوبا من أعلى، ينظر ويستدل دونما حاجة إلى صور موهوبة تفيض عليه من عقل أول. فهو عقل طبيعي موجود في هذا العالم، تعبير عن الفطرة، ولا شأن له بعقل أول، هو أو غيره، سابق على الخلق، لا نعلم عنه شيئا.
34
لذلك ينكر النظر والقياس، وتعتبر المعرفة اضطرارا. ولا يأتي هذا الاضطرار من طبيعة العقل أو من طبيعة الإنسان، أي من الداخل، بل يأتي من الخارج، من فضل الإمام، أو من ضرورة الوحي، أو من كشف وإلهام لا حيلة للإنسان فيه. فالإنسان بطبيعته لا يقدر على النظر والمعرفة. فإذا أقر بمعرفة فإنها لا تأتي عن طريق النظر الحر، بل تأتي بالإقرار بالفرض والإجبار، بل قد تمنع المعرفة وتسفه إذا ما استقلت بنفسها عن الفيض أو عن الإمام.
35
فإذا ما سمح بالنظر والاستدلال فإنه يكون بعد المعرفة الاضطرارية، ولا يؤدي هذا النظر إلا إلى معرفة نظرية دون أية معرفة عملية. وقد يسمح بها اختيارا إما اضطرارا أو كسبا، ولكنها تظل دون التكليف. وقد يسمح بها بعد مجيء الرسل لا قبلهم، ولكن يظل النظر تابعا للنبوة لا مستقلا عنها.
36
وإن إبطال النظر في الأمور النظرية ليؤدي بالضرورة إلى إنكاره في الأمور العملية؛ وبالتالي يستحيل استنباط الشرائع والأحكام ، ويبطل الاجتهاد فيها.
37 (2) شروط الإمامة
إن لم تكن هناك صفات للإمام تجعل منه إماما فوق العادة، وقائدا فوق مستوى البشر، فإن هناك شروطا للإمامة تتحقق أو لا تتحقق في البشر، وتجعل من الإمام إنسانا عاديا في مستوى البشر، وتجعل الاختيار لأفضلهم في حدود الإمكان والقدرات البشرية. ومع ذلك فالشروط أنواع؛ الأولى: لا دخل للإمام فيها، ولا يمكن له تغييرها؛ وبالتالي يمكن رفضها لأنها تجعل الاختيار بين الأئمة غير متكافئ، مثل شرط النسب والدم. والثانية: عادية؛ أي لم تجر العادة بخلافها، وهي أقرب إلى استقراء التاريخ، مثل الحرية والذكورة والبلوغ، وإن جاز لها بعض الاستثناءات. والثالثة: هي الشروط التي يمكن التحقق من وجودها، والتي يتكافأ فيها الأئمة، وتجعل الاختيار بينهم ممكنا، مثل العلم والعدل والتدبير. وهي كلها شروط في حيز الإمكان؛ أي يمكن تحقيقها بالفعل في الواقع، وليست شروطا مثالية يصعب تحقيقها وتكون فوق مستوى البشر. (2-1) هل النسب شرط؟
بالرغم من أن النسب أو الدم من الأوصاف البشرية إلا أنه ليس شرطا للإمامة، وهو من أكثر الشروط اختلافا فيها. فإذا كانت الإمامة عقدا واختيارا لمن هو أصلح للأمة، فكيف يدخل النسب كعامل للاختيار، النسب للرسول، من آل بيته، أو من قبيلته؟ وهل الإمامة وراثة للنبوة أم نيابة عن الأمة؟ وهل الأقرب إلى الرسول نسبا هو من العوامل المرجحة في اختيار الإمام؟ ما الفرق إذن بين النبوة والملكية الوراثية إذا كانت الإمامة وريثة النبوة؟ لو كان الأمر كذلك لظلت الإمامة وراثة للنبوة ولما خرجت عنها، في حين أن النبوة تبليغ من الله، والإمامة نيابة عن الأمة. إن الاختيار على الإطلاق يعارض التخصيص بالقرشية. فلو كان الاختيار صحيحا كانت القرشية أقرب إلى التعيين بالنص منها إلى الاختيار؛ لأنها تحديد وتعيين بالوصف والرسم إن لم يكن بالاسم والشخص، بل العنوان القديم لا معنى له «في بيان جنس الإمام وقبيلته»؛ فالإمام لا جنس له ولا قبيلة، ولكنه مختار من القوم طبقا للبيعة والعقد عليه.
38
والأخطر من ذلك أن يتحول الشرط إلى نسبة وقرابة، وإلى دم وسلالة، وكأن الإمامة في الدم والعصب، في اللحم والعظم؛ وبالتالي تصبح أسوأ من الملكية الوراثية. وما أسهل الاختلاف على الأنساب حتى يمكن إدخال الإمام في نسب يسهل بعده مطالبته بحقه في الإمامة! بل قد يصعب تاريخيا، كلما طالت المدة وبعد الزمان، التحديد بدقة نسب الأئمة وسلالتهم، وهو ما لا يحدث إلا في حدائق الحيوان. وتظهر العصبية في تحديد النسب تأكيدا على بطن دون بطن، أو على فخذ دون فخذ.
39
ويشتد الأمر ضيقا من حيث النسب والسلالة أن يكون الدم من ناحية الأب وليس من ناحية الأم، تعبيرا عن تفضيل القبائل العربية للذكور على الإناث، على عكس اليهودية التي يكون النسب فيها من الأم والرحم، والأم أقرب إلى علاقة الدم من الأب. ولماذا يتم استبعاد الموالي والحلفاء، وهذه بعض عادات القبائل؟ فالولي أو الحليف له الحقوق نفسها وعليه نفس الواجبات، بل كانت الحروب تقام من أجله دفاعا عنه وحفاظا على العهود والمواثيق. ولماذا تنكر الإمامة على المولى والحليف ولا ينكر عليه الدم في الحرب؟ وهل الإمامة أفضل من الحياة، والسياسة أفضل من الموت؟ وإذا اعتمدت القرشية على خبر، فإن المولى والحليف يعتمد على خبر آخر مساو في الصحة وله نفس الثقل، وليس نص بأولى من نص آخر، ولا يؤخذ الأول حقيقة والثاني مجازا، فلا مجاز في الأحكام.
40
ويعتمد شرط القرشية على خبر آحاد معارض بأخبار أخرى لا تقل يقينا أو ظنا عنه، ولا يوجد إلا الدليل النقلي دون إمكانية قيام أدلة عقلية. وإن الأدلة النقلية كلها حتى لو تضافرت لإثبات شيء على أنه صحيح ما أثبتته، ولظل ظنيا، ولا يتحول إلى يقين إلا بحجة عقلية ولو واحدة.
41
وقد يعني الدليل مجرد ثناء ومدح لمقدرة قوم في السياسة، مثل مقدرة قوم آخر في العلم، دون أن يعني ذلك حصر السياسة أو حصر العلم كل منهما فيه اشتهر به في قوم. وقد لا يكون قولا مأثورا من النبي بل من غيره، أو قولا مأثورا متواترا بالمعنى لا باللفظ.
42
والأهم من ذلك كله هو طريقة استعماله، وظهوره في ظرف نفسي خاص، وفي لحظة تاريخية معينة استلت فيها السيوف، وكادت الفتنة أن تقع. فكان من الضروري إظهاره دون التحقق من صحته، بل كان من الممكن وضعه اتقاء للفتنة ودفاعا عن وحدة الجماعة؛ فالضرورات تبيح المحظورات. لقد أذيع الخبر من صاحب النبي وأكبرهم سنا وخليفته في الصلاة، سلطة معنوية تعلن عن سلطة نصية منعا للنزاع وحقنا للدماء كذريعة، حفاظا على وحدة الأمة؛ فالغاية تبرر الرواية. أثر العامل النفسي في الذاكرة درءا للفتنة، واستعمالا لحجة السلطة جريا إلى السقيفة. الغاية العملية الضرورية هي التي فرضت نفسها على الأسس النظرية، والعمل يقين، في حين أن النظر ظن. وقد تم قبول الخبر للغاية نفسها، وحل مشكلة عملية حتى ولو كان الأساس النظري ظنيا. وقد يكون الظرف التاريخي كله وراء ذلك؛ فالقبلية ما زالت حديثة العهد، والجاهلية ما زالت متبقية. كان الظرف إذن خلافا بين قريش وغيرها، وحسم الأمر لصالح قريش دون اعتراض أحد نظرا لما تتمتع به من احترام في الجاهلية وسلطة في الإسلام. وأين قريش الآن؟ من من الحكام الآن يمكن أن يجد أصله في هذا النسب الطويل؟ وإذا كان الخلاف حول النسب قد وقع منذ ذلك الوقت، فكيف به الآن؟ وكل حاكم ينسب نفسه إلى قريش تثبيتا للسلطة وطلبا للطاعة، وكلهم إلى رسول الله منتسب! يستعمل الملوك والأمراء شرط النسب الآن كل منهم يدعى أمير المؤمنين من سلالة السلف الصالحين ضد البيعة والاختيار.
43
وقد تضيق الحلقة أكثر فأكثر، ويتحول شرط القرشية من العام إلى الخاص، فيصبح الهاشمية أو الفاطمية أو الحسينية تأكيدا على أحد الأسباط. فإذا ما حدث صراع سياسي تحول الشرط إلى فرع آخر، من العلوية إلى العباسية. وكلما ازدادت الرغبة في الاستئثار بالحكم ضاق النسب، ووضعت روايات لتبرير النظم السياسية القائمة أو المناوئة. وإذا كانت القربى من الرسول تعني البيت والتربية والتراث، فإن ذلك لا يعني بالضرورة العصب والدم. لا يوجد للرسول عصب، ولا منه إلى بنيه وراثة أو خلافة، لا في الدنيا ولا في الدين، لا في الملكية ولا في النبوة. فالأنبياء لا يورثون ولا يورثون، وما يتركونه صدقة للأمة. وحياة الرسول ليست خاصة به، إرثا لولده من بعده، بل لعامة الناس جميعا.
44
القرشية إذن ليست شرطا للإمامة. وليس السبب في وجودها في غير القرشيين أن الإمام يسهل خلعه، فإن الخلع واجب، سواء كان قرشيا أم غير قرشي؛ لأن الخلع لا يقوم على العصب، بل لعصيان الشريعة. وإذا كانت الأمة قد أجمعت من قبل على أئمة قرشيين، فإن هذا الإجماع لم يتم بسبب القرشية، بل لتوفر شروط الإمامة الواجبة فيهم، سواء كانوا قرشيين أم غير قرشيين، بل قد يكون غير القرشي أولى اتقاء للفتنة، أو مراعاة لمن هو أقل عشيرة، وحتى لا يشعر بالأقلية أمام أغلبية قرشية. إن شرط الإمامة هو العلم بالشريعة، وهو شرط مثالي لا يتعلق بنسب أو عصب أو قرابة، وهو مبدأ عام لا يتغير تحت ضغط الظروف العملية.
45
ولا مجال لقياس الإمامة الكبرى على الإمامة الصغرى؛ فالأولى نيابة عن الأمة، في حين أن الثانية فرض شرعي. شرط الأولى يمكن معرفته بالعقل، في حين أن شرط الثانية سمعي خالص يمكن فهمه بعد ذلك بالعقل. وليس كل من يستحق الصلاة في الإمامة الصغرى يستحق الخلافة في الإمامة الكبرى؛ فشرط الأول أن يكون أقرأ القوم دون بيعة وعقد، في حين أن شرط الثاني البيعة والعقد.
46 (2-2) الشروط العادية (الإسلام والحرية والذكورة والبلوغ)
تعني الشروط العادية الشروط التي جرت العادة على التسليم بها وتحققها بالفعل في التاريخ، ويؤيدها استقراء الحوادث وصفات الأئمة في كل العصور، وعدم شيوع الاستثناء إلا في أقل الحالات. وهي بهذا المعنى شروط ممكنة؛ أي يجوز أن تكون على خلاف ما هي عليه، ولكن الواقع هو الذي يضعها، والواقع أساس الوحي، ولكنها شروط ليست نظرية بمعنى لا تعبر عن مبدأ نظري عام مثل الشروط الواجبة. ويأتي في مقدمتها شرط الإسلام؛ فالحكم شرعي، والإمامة تطبيق لأحكام الشريعة، وأهل الحل والعقد مسلمون، والبيعة تتم لواحد منهم؛ فهذا حكم واقع وليس حكم مبدأ. وليس هناك مانع نظري من أن يكون كتابيا عالما بالشريعة وحريصا على الأمة وعلى مصالحها حرص المسلم تماما، مع توافر الشروط الضرورية فيه. ولكن الواقع شيء والمبدأ شيء آخر، والضرورة العملية غير الضرورة النظرية. تأخذ الضرورة العملية أهواء الناس وانفعالاتهم وكل مكونات الوجود الإنساني؛ لذلك يجوز أن يكون العمال والولاة من أهل الكتاب نظرا للطبيعة العملية التنفيذية للمنصب. ويؤيد ذلك استقراء حوادث التاريخ.
47
أما الحرية فهي قضية تاريخية صرفة، وليست قضية نظرية. فليس هناك عبودية اليوم بعد انتهاء الرق من تاريخ البشرية. كل البشر أحرار بمعنى أنه لا يمتلكهم أحد. وإذا كانت هناك أمم أو أنظمة أو حكام من العبيد، فإن ذلك يكون مجازا لا حقيقة؛ أي فقدان الاستقلال والوقوع في التبعية. فالحرية لا تعني الآن التحرر من الرق، فلا يوجد سوق نخاسة، ولكن هناك الرق السياسي، وهو تبعية الحاكم إلى معسكر أو نظام أو حلف أو الاستسلام للضغوط الخارجية.
48
وطالما قامت ثورات للعبيد يقودهم عبيد. فليس العبد مستحقرا لخدمة سيده يؤمر فيعصى، ولكنه إذا كان ثائرا على الظلم عاملا على تحرير العبيد فهو حر. وطالما هناك أحرار لا يملكهم أحد، وهم عبيد المال والجاه والسلطان والغريب.
أما الذكورة، كون الإمام رجلا، فقد جرت العادة بذلك باستقراء حوادث التاريخ، وقلما يوجد حاكم اختاره الناس بيعة وعقدا وكان امرأة. وهذا لا يمنع من وجود علماء وقواد عظام من النساء. ربما أن البشرية كلها تمر الآن بهذه المرحلة منذ آلاف أخرى من السنين، وليس السبب في ذلك أن النساء ناقصات عقل ودين، فقد يكون السبب في هذين الشرطين، الحرية والذكورة، القدرة على اتخاذ القرار المستقل؛ فطالما أن العبد مطيع لسيده، والمرأة تحت إمرة زوجها، يصعب إيجاد استقلال للقرار السياسي. وما دامت الغاية، وهي استقلالية هذا القرار، قد تحققت، فلا يهم بأية وسيلة كانت.
49
أما البلوغ فلأن العقل شرط التكليف. ولما كانت الإمامة فرضا شرعيا فإن العقل أو البلوغ شرط التكليف فيها؛ ومن ثم لا تجوز إمامة صبي حتى ولو كان هناك أوصياء عليه. كما لا تجوز إمامة المجنون؛ لأنه فاقد للعقل شرط التكليف. وما دام الصبي أو المجنون لا يلي أمر نفسه، فكيف يكون واليا على غيره؟
50
وتذكر هذه الشروط العادية الأربعة في العقائد المتأخرة معا؛ مما يدل على وجودها في نوع واحد، وتضم في العدل بعد أن يفقد معناه الاجتماعي. فيفسر العدل تفسيرا أخلاقيا؛ أي المسلم الحر الذكر العاقل البالغ، كما هو الحال في القضاء والشهادة، والمعنى الشامل لذلك عدم الفسق. وتكفي في العدالة الظاهرة دون الباطنة؛ فالإمامة ولاية عامة تتعلق بمصالح الأمة وبظواهر الأفعال دون بواطنها.
51 (2-3) الشروط الواجبة (العلم والعدل والتدبير)
والشروط الواجبة هي الشروط الضرورية عقلا والتي لا يكون عليها خلاف، هي الشروط المبدئية التي لا تخضع لضرورة الواقع بقدر ما تعبر عن ضرورة العقل نفسه، على عكس الشروط العادية التي تعبر عن ضرورة الواقع لا عن ضرورة العقل. وأولها شرط العلم، فالعلم كمال العقل، والعقل أداة العلم. ولا يعني العلم الأمور الغيبية، أو العلم بجميع مسائل الدين، أو أن يكون الإمام أعلم أهل زمانه، بل المقصود بالعلم ما يتعلق بتدبير شئون الأمة؛ أي علم الفتيا والاجتهاد كما هو الحال في القضاء.
52
والعدل يتلو العلم في صفات الإمامة، فلا عدل عن جهل، ولا علم ينتهي إلى ظلم. والعدل صفة ظاهرية تتعلق بمعاملات الناس، الحيد عنها يؤدي إلى خلع الإمام أو إلى الثورة عليه.
53
أما الصفة الباطنية للعدل فهي الورع؛ أي العدل مع النفس. وقد يكون الورع صفة مستقلة عن العدل، ولكنه في الحقيقة جانبه الباطني. وقد يسمى الورع بأسماء أخرى، مثل العفة والأمانة والثقة، ولكنها في الحقيقة كلها مظاهر للعدل، أو الأسس الباطنية التي يقوم عليها العدل أساسا برد الحقوق لأصحابها في الحياة وفي الأموال.
54
ويؤدي العدل في الظاهر والورع في الباطن إلى تطابق السلوك الشخصي للإمام مع مقتضيات العدل والورع، فيكون مؤديا للفرائض مجتنبا جميع الكبائر مستترا بالصغائر. كما يتصف بصفات القائد والزعيم الذي يألف إليه الناس، فيأخذهم بالرقة والرفق دون عنف أو غلظة حتى لا ينفضوا من حوله. ويكون يقظا عالما بمجريات الأمور. ويكون صباح الوجه مبتسما دون ابتذال حتى يحبه الناس.
55
ولا يعيبه أن يكون فيه عيب خلقي جسمي، أن يكون أعمى أو أصم أو أجذم أو أحدب أو مبتور اليدين والرجلين أو هرما ما دام يعقل، أو ينتابه الصرع ثم يفيق، فكلهما أعراض بشرية، والإمام بشر. الإمامة وظيفة، وما دامت قائمة فلا تهم أوصاف الإمام التي لا تؤثر في الأداء.
56
أما الصفة الثالثة وهي التدبير، فإنها تتعلق بتجهيز الجيوش وسد الثغور وحماية الحدود دفاعا عن البلاد وردا للاعتداء. وتتطلب شجاعة وإقداما في الحرب، وجرأة مراسا فيها دونما لين أو هوادة أو صلح واستسلام وموالاة للأعداء بدعوى السلم أو طلبا للسلام.
57
وكما يتعلق التدبير بالخارج يتعلق بالداخل كذلك؛ أي عدم التهاون في تنفيذ أحكام الشريعة، وإنصاف المظلوم، ورد الحقوق. فإذا ما أخذ الناس حقوقهم طالبهم الإمام بواجباتهم، طبق الحدود وقطع الرقاب. ومن التدبير أن يكون عالما بشئون الأمة وأحوالها، وألا يولي في الأعمال الكبار العمال الصغار؛ حتى لا يطمعوا ويصبحوا عبيدا للوظائف يسهل شراء ذممهم حفاظا على مناصبهم.
58 (2-4) هل تجوز إمامة المفضول مع وجود الأفضل؟
وهو نفس السؤال: هل يجب أن يكون الإمام أفضل الناس؟ ومسألة الأفضل والمفضول ليست مسألة صفات فردية يتمتع بها الإمام، ولكنها مسألة تشير إلى بعض المواقف السياسية التي يتحتم فيها الاختيار بين قائدين، أحدهما يمثل الأقلية المثلى، والآخر يمثل الأغلبية الأقل مثالية. وهو الموقف السياسي المعروف باسم الجذرية والوسطية، أو التشدد واللين، أو المبدئية والعملية، أو الحق النظري والإمكانية الواقعية. فالأفضل في هذه الحالة حق نظري؛ أي تمسك بالمبدأ، ورفض لجميع الحلول الوسطية أو المساومة على الحق. ويسهل إيجاد أخبار ظاهرة متواترة المعنى لتأييد ذلك. وإذا كانت الإمامة من أعظم الأمور فإنه لا يليها إلا الأفضل، وولاية المفضول في هذه الحالة قبح عقلي. ويتفق ذلك مع إجماع الأمة في الصدر الأول على طلب الأفضل، فالإمامة لا تنعقد للمفضول مع وجود من هو أفضل منه. فإن عقدت للمفضول كان أقرب إلى الملوك منه للأئمة .
59
وهي حال اختيار تاريخي وجدت بالفعل في شخص معين كان أفضل الناس، وكان الأئمة أيضا ممثلين في الخلفاء الأربعة كذلك.
60
إمامة الأفضل إذن حق نظري وواقع تاريخي في آن واحد. ومع ذلك قد تجوز إمامة المفضول في حال التعارض بين الحق النظري والواقع العملي، وصعوبة تحويل الأول إلى الثاني. وفي هذه الحال يلزم رضاء الأفضل وقبوله عن طيب خاطر تولية المفضول. وقد يستند في ذلك أيضا إلى حجج عقلية وواقعية إن غابت الحجج النقلية؛ فالأفضل لا يعرف إلا بالظن في ظاهر أمره، ولا يمكن معرفته يقينا في باطنه، ولا يمكن معرفته إلا بنص أو إجماع أو معجزة، وهو مستحيل الحدوث، وقد تفرق الفضلاء في البلاد بحيث لم يعد يحصرهم مكان أو يحدهم زمان، وإن اختلاف الناس وتباينهم في الفضل يجعل من الصعب إيجاد مقاييس لاختيار الأفضل بالرغم من وجود البعض منها، مثل الأزهد والأورع والأسوس والأشجع والأعلم، وهو في النهاية تكليف ما لا يطاق. وإذا كانت الإمامة وظيفة تشريعية عملية وليست نظرية، فيكفي المفضول إذا كانت له القدرة على الممارسة العملية وإن كان أقل علما. وإذا كان النبي أفضل الأمة، وكان لا بد للإمام أن يكون الأفضل، فإن الإمامة تستحيل بعده لعدم وجود من هو أفضل من النبي. وإذا ما وقع الإجماع على المفضول فهو الإمام؛ لأن الأمة لا تجتمع على خطأ.
61
وهناك واقع تاريخي آخر يؤيد ذلك ويحقق إمامة المفضول مع وجود الأفضل، قد يكون السؤال نفسه واختيار المفضول أحد التبريرات النظرية له،
62
ولكن الحجة الأكثر حسما في ذلك هي حجة الواقع؛ أي تحقيق المصلحة ودرء المفسدة على مستوى وحدة الأمة. فلو كانت مبايعة الأفضل تؤدي إلى الفتنة والشقاق في وقت قل فيه الفضلاء وكثر فيه الأقل فضلا، فإنه في هذه الحالة تجوز مبايعة المفضول. هذا بالإضافة إلى أنه لا توجد حجة نقلية أصلا من كتاب أو سنة أو إجماع أو عقل أو قياس أو قول صاحب من أجل مبايعة الأفضل في كل الظروف والأحوال.
63
ويمكن وضع مقاييس للفضل حتى لا يترك اختيار الأفضل ومبايعة المفضول للتقدير الذاتي، بحيث يتدخل الهوى في الحكم؛ فقد يكون في الأفضل علة تخرجه من كونه إماما، مثل نقصه لبعض الشرائط، وقد يكون فيه علة بدنية أو نفسية تجعل المفضول أرجح منه. ولا يدخل عامل النسب، القرشية أو الهاشمية أو العلوية أو العباسية، عاملا مرجحا للمفضول على الأفضل. وقد يكون الأول أكثر شهرة في الفضل وسلامة الحال، تسكن النفس إليه ويحبه الناس. وقد يكون بعيدا عن عهد الكفر لا تنفر منه النفوس. وقد يكون انقياد الناس له أكثر، وقبوله أعظم. الأفضل إذن ليس شرطا على الإطلاق، بل هو شرط ترجيح يخضع للمرجحات التي تكون في المفضول أقوى. وقد يكون في لحظة العقد عارض يقتضي تقديم المفضول على الأفضل، مثل كونه في البلد الذي مات فيه الإمام مع غياب الأفضل في بلد بعيد.
64
ومع ذلك فإن جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل هو بداية السقوط في التاريخ، وبداية التخلي عن المثال من أجل الواقع، وهو تنازل لا يمكن التنبؤ بنهايته ومداه.
خامسا: الثورة على الحكم
إذا كانت أوصاف الإمام وصفات الإمامة قد ركزت على شخص الإمام، فإن الثورة على الحكم تقلل من هذا التشخيص للمشكلة السياسية، وتتناول المؤسسات وأجهزة الرقابة على الحكام. وتتدرج هذه من الوسائل السلمية العلنية، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة في الدين، إلى ضرورة الجهاد. فإذا ما تم استنفاد الوسائل السلمية دون إصلاح الحال، تم اللجوء إلى وسائل أخرى أكثر فعالية حيث لا تجوز طاعة الإمام الجائر؛ وبالتالي وجب خلعه وعزله، وإلا فلا سبيل إلا الخروج عليه. وإنما يتم ذلك كله باسم التوحيد، حيث يجد التوحيد في البداية مصبه وتحققه في النهاية. (1) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ويحدد هذا المبدأ العلاقة بين الجماهير والسلطة، بين الأمة والإمام، بعيدا عن التشخيص السياسي وتركيز المشكلة السياسية كلها على شخص الإمام. وهي إحدى أصول خمسة في العقائد يقوم عليها علم التوحيد؛ أي إنه نتيجة طبيعية للأصول الأربعة الأولى، خاصة لأصلي التوحيد والعدل. وقد يصبح موضوعا منفصلا وتفرد له مؤلفات خاصة؛ فالمبدأ يتعلق بالأصول وليس بالفروع.
1
فماذا يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هناك أربعة مصطلحات: الأمر، والنهي، والمعروف، والمنكر. فالأمر والنهي مقولتان في علم أصول الفقه، صيغتهما «افعل» و«لا تفعل»، يقتضيان الفعل وعدم الفعل. أما المعروف والمنكر فيفيدان معنى الحسن والقبح العقليين. ويتوجه الأمر والنهي نحو الأفعال وليس نحو الأفكار والآراء؛ أي إنه يخص العمليات والشرعيات لا النظريات. وهو مبدأ للحقوق المدنية تتعلق بالأفعال الظاهرة، ولا يخص توجيه الفكر والحد من حريته.
2
ويبدو النهي عن المنكر أهم بكثير من الأمر بالمعروف طبقا للقاعدة الأصولية أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. ويتضح ذلك من قسمة المعروف والمنكر؛ فقسمة المعروف مقتضبة تتعلق بالصورة دون المضمون؛ إذ إنه ينقسم إلى واجب وما ليس بواجب، فالأمر بالواجب واجب، وبالنافلة نافلة، وبالمندوب مندوب، في حين أن المنكر من حيث الصورة واحد، وهو وجوب النهي عنه عند استيفاء الشروط، لا فرق في ذلك بين صغيرة وكبيرة،
3
ولكن الأهم من ذلك قسمة المنكر من حيث المضمون إلى قسمين؛ الأول: ما يختص به ويقع به الاعتداد، مثل غصب فقير ليس له إلا درهم واحد، وهو منهي عنه عقلا وشرعا؛ لأنه سلب لما يقيم به أوده، ونهب لحد الكفاف منهي عنه عقلا لأنه دفع للضرر، ومنهي عنه شرعا لأن خير أمة أخرجت للناس لا يكون هكذا وضعها في التفاوت بين الأغنياء والفقراء. وما يختص به ولا يقع الاعتداد به، مثل غصب غني له أموال قارون درهما، وهو غير منهي عنه عقلا إن كان منهيا عنه شرعا. ولما كان العقل أساس النقل، فإنه يكون غير منهي عنه. وإن السرقة من الغني أقرب إلى إعادة توزيع الدخل بين الطبقات. والثاني: ما يتعداه، وهو المنهي عنه عقلا وشرعا، ولا يحتاج في ذلك إلى تدبير واجتهاد. فالنهي عن المنكر يتوجه أساسا إلى الأوضاع الاجتماعية التي يحكمها توزيع الدخول وتفاوتها بين الطبقات. وقد ينقسم المنكر إلى قسمين آخرين؛ الأول: ما يتغير حاله بالإكراه ويقع ضرره عليه فقط، مثل سرقة الدرهم من خفير. والثاني: ما لا يتغير حاله بالإكراه ويتعدى الضرر إلى الغير، كسرقة الفقراء ونهب العاملين واستغلالهم وسرقة جهودهم. وقد ينقسم المنكر إلى عقليات كالظلم والكذب، والنهي عنه واجب، وهو أقرب إلى الأمور المعنوية والأخلاقية؛ وإلى الشرعيات، سواء ما كان للاجتهاد فيها مجال أو لم يكن للاجتهاد فيها مجال، وهي الأمور المادية كالسرقة، والنهي عنها أيضا واجب. يتجاوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مجال الأخلاق الفردية إلى الأوضاع الاجتماعية، وفي مقدمتها الأوضاع الاقتصادية فيما يتعلق بالمساواة وإعادة توزيع الدخل بين الطبقات. إذا كان المنكر من باب أفعال القلوب غير معروفة ولا يطلع عليها فلا يجب النهي عنها، والمعروفة الظاهرة قد نهي عنها. أما أفعال الجوارح فهي التي يجب النهي عنها لظهورها وآثارها في الحياة الاجتماعية.
4
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان، بل واجبان شرعيان مثل الصلاة. وقد يرجع وجوبهما إلى درجة وجوب المأمور بهما أو المنهي عنهما، فيكون الأمر بالوجوب واجبا وبالمندوب مندوبا، حتى يترك الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر لمن يأمره وينهاه حرية الاختيار والإدراك في حالة المندوب والمكروه. وهو وجوب لطف ومصلحة، لطف من الله ومصلحة للعباد، تقوم به مصالح الناس التي ترعاها الشريعة.
5
وهو واجب عقلا وشرعا. فالظلم يعرف عقلا، يحس به الإنسان وتدركه الطبيعة، ولو لم يكن واجبا عقلا لكان مغريا بفعل القبيح. ويستحيل أن يكون للوجوب أساس في الطبيعة البشرية.
6
ولا يستلزم وجود الإمام، ولا تقوم به الأئمة؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصل للرقابة عليهم. وإن تطبيق الأئمة للشريعة وتنفيذهم للحدود ليس أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، بل هو تطبيق لأحكام الشريعة. وأحيانا يكون دليل وجوب الإمامة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأن الإمامة أصلها ومستندها في الرقابة الشعبية. إنما يجب على عامة الناس قدر الإمكان ندبا، وواجب على علماء الأمة فرضا. وهو ليس فرض كفاية على العلماء إذا قام به البعض سقط عن البعض الآخر، ولكنه فرض عين على كل عالم ما دام قد استوفى شروطه . فالعلماء ورثة الأنبياء، وإلا ارتكن العلماء بعضهم إلى بعض، وأوكل العالم الأمر إلى غيره حتى يضيع الأصل. فإذا ما استعصى على العامة وعلى العلماء، فإنه في هذه الحالة وحدها يمكن اللجوء إلى الإمام حتى لا تستدعي السلطة على الناس بلا مبرر، وحتى يعطي للرقابة الشعبية أكبر فرصة ممكنة.
7
وللأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شروط تضمن وقوعهما وإحداث أثرهما ونجاحهما، وتخفف من حدتهما وثقلهما على النفس، وتقلل أسباب فشلهما، وأهمها ألا يثيران فتنة أو غضبا، أو ينفران الناس من الإسلام والمسلمين، ويبعدانهم عن الأمة وعلمائها؛ فالنصائح صعبة على النفس، والتوجيه ثقيل عليها. فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما يتمان حرصا على الإسلام الذي يشترك فيه الناصح مع المنصوح، فليس الناصح بأكثر إسلاما من المنصوح، أو بأشد غيرة على الإسلام منه. ويشترط أيضا عدم التجسس والتلصص على الناس، وتتبع عوراتهم، وفضحهم على رءوس الأشهاد، بل على العكس، التستر على الناس يجعلهم أقرب إلى قبول النصح وقبول التذكرة عن طيب خاطر. فما الفائدة من الإتيان بأصل مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهدم أصل آخر وهو المحافظة على حرمات الناس؟ وعلى الناصح أن يعلم أن المأمور به معروف وأن المنهي عنه منكر، وإلا أمر بالمنكر ونهى عن المعروف؛ فالعلم شرط النصيحة. وقد لا يغني الظن عن العلم؛ لأن الظن لا يغني عن الحق شيئا، وتترك النصيحة حينئذ لمن هو أهل للعلم لا للظن. ولا بد أن يكون المنكر حاضرا، فلا يعقل أن يتم نهي عن منكر لم يحدث بعد، وإلا كانت النصيحة مجرد إعلان عن النفس، ومزايدة في الإيمان، وطلب منصب أو جاه. فالواقع أساس الممارسة، وأصل عقلي منصوص عليه في الوحي بلا واقع يكون مجرد هراء وظيفته تعمية الواقع دون الكشف عنه أو تغييره. وتتوقف ممارسة الأصل إذا ما أدى النهي عن المنكر إلى منكر أعظم منه، مثل قتل الدب لصاحبه. وطبقا لحساب الضرر فإن الضرر الأقل يبدو مقبولا في سبيل تفادي ضرر أعظم. ولا خلاف بين أن يقع الضرر على الغير ، أي المنصوح، أو الذات، أي الناصح؛ فقد تتوقف ممارسة الأصل إذا ما أدى إلى إلحاق الضر بالنفس، سواء كان ذلك في الحياة أو في المال؛ أي الضرر المعنوي أم المادي. ويترك تقدير هذا الضرر لقدرة العالم الناصح على التحمل، وهو ما يختلف فيه العلماء، كل طبقا لقدراته وطاقاته ووضعه. وأخيرا لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا إذا كان له أثر في الواقع حتى يحقق غرضه. أما إذا لم يكن له تأثير، وكان أشبه بالصراخ أو إقامة الأذان في الصحراء حيث لا مجيب، فإنه يكون أيضا فارغا بلا مضمون. فالشهادة ليست للشهادة، والإعلان ليس هدفه الإعلان، إنما الكلمة تهدف للتأثير والتغيير.
8
أما طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإنها تختلف فيما بينها بالنسبة لكل منهما؛ فالأمر بالمعروف يكفي مجرد الأمر به دون إلزام، أما النهي عن المنكر فلا يكفي فيه مجرد النهي، بل لا بد من الإلزام؛ وبالتالي لزمت وسائل تحقيقه وتنفيذه من أجل إحداث التغيير المطلوب، ويبدأ التغيير بالفعل والذي يرمز إليه باليد؛ أي بالقوة. ويختلف في مداها بالضرب أو بالقتال، كما يختلف في الضرب بالأيدي أو النعال، ويختلف أيضا في القتال بالقبض والسلاح، أي بالسيف، أو بمعركة حاسمة وفاصلة يجمع لها الجنود بالآلاف. فإن صعب التغيير باليد فلا يبقى إلا اللسان؛ أي الكلمة والقول. ويختلف في القول بين القول اللين والقول الخشن. فباستمرار الإعلان يمكن إحداث التأثير، وبدوام القول يزداد وعي الأمة وتضغط بنقلها من أجل إحداث التغيير. فإن استحال القول نظرا لظروف القهر وكبت الحريات ومنع الكلمة لم يبق إلا القلب؛ أي الاستمرار والثبات على الحق دون مخالفة الضمير أو بيع الذمة أو الرضا بالقهر. ولما كان ذلك يتطلب اتفاق القول والعمل مع الوجدان، فإن النهي عن المنكر بالقلب يحرس الإنسان من الوقوع في النفاق وقول ما لا يؤمن به، أو في الممالأة وفعل شيء لا يرضى عنه، ويحرسه من التصفيق والتهليل أو المداهنة والمجاراة، وحتى لا يكون الناس على دين ملوكهم.
9
ولكن تنشأ من ذلك صعوبتان؛ الأولى: هي استعمال العنف ضد الأمة أفرادا أو جماعات، وهو العنف الذي يصل إلى حد القتال والدخول في المعارك بالآلاف؛ وبالتالي شق الأمة وإشعال حرب أهلية داخلية طاحنة. والثانية: قتال من ضد من؟ هل تقاتل عامة الناس وحدهم، أو علماء الأمة وحدهم، أم عامة الناس بقيادة علماء الأمة وحدهم، أم بظهور إمام جديد عادل؟ وهل العامة أو العلماء أو الإمام الجديد الخارج يقوم كل منهم بتغيير المنكر بيده، أم تكفيهم النصيحة ويوكل الأمر إلى الإمام؛ أي إلى السلطة الشرعية لتغيير المنكر، فيكفيهم البلاغ والإعلان؟ وضد من سيقع القتال؟ ضد مرتكبي المنكر من عامة الناس، أو من العلماء ضد الإمام الذي عقدت البيعة له ولم يستمع لنصح؛ وبالتالي تجوز الثورة عليه؟ ألا يكون ذلك مدعاة للخروج المستمر على السلطة الشرعية، وتفتت الأمة وتشرذمها، وإشاعة الفوضى في البلاد؟ ونظرا لهاتين الصعوبتين يمكن قلب طرق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبداية بالتغيير بالقلب؛ أي بعقد العزم والنية على القسط بالحق، والإبقاء على صفاء النفس، وإخلاص الضمير دونما تهاون أو مداهنة أو نفاق، فيصبح المسلم بسلوكه واعتقاده اعتراضا مجسما ورفضا مشخصا لما يراه أمامه من منكر. وهو نوع من المقاومة السلبية للظلم يؤتي ثماره إذا ما شاع وانتشر، فإن لم يفلح فالتغيير بالقول واللسان. ويظل طريق التغيير النصيحة والإرشاد، والإعلان عن الحق في مواجهة الباطل، وإنما بقاء الباطل في غيبة الحق عنه. فإذا ما تراكمت الأقوال وعم الوعي وانتشر الحق، فقد يحدث التغيير الفعلي، فالكلمة فعل، والقول أثر. فإن لم يحدث التغيير لم يبق إلا اليد؛ أي التغيير بالقوة بعد استنفاد كل الوسائل السلمية الممكنة. ومع ذلك تنشأ صعوبتان أخريان؛ الأولى: الاتهام بالطاعة العمياء للإمام، والتسليم بالأمر الواقع، وإيثار الطاعة على الخروج، والرضا على الثورة؛ مما يؤدي إلى القعود عن نصرة الحق. والثانية: ما العمل في الإمام الجائر وحكم البغاة؟ هل يكفي في ذلك النهي عن المنكر بالقلب ثم باللسان ثم باليد، أم أن مقاومة البغي بالفعل فرض شرعي؟ لم يكن هناك مفر إذن من التسليم بأن طاعة الإمام مشروطة بطاعته للشريعة، فلا طاعة في معصية. ومن قاتل دون ماله فهو شهيد، ومن قاتل دون عرضه فهو شهيد، ومن قاتل دون مظلمة فهو شهيد. ولا يكفي أن يكلم الإمام الباغي، بل يجب أن يخلع، فإن لم ينخلع وحب خلعه وسل السيوف إذا اقتضت الضرورة؛
10
لذلك وجب قتال البغاة باعتبارهم أعداء للأمة، مثلهم مثل الكفار. قد يتبع من يولي منهم، ويجهز على جرحاهم أو تغنم أموالهم، وقد يغنم ما في عسكرهم فقط دون أتباعهم الذين لا يقاتلون. وقد يقتلون غيلة إذا كان في ذلك خلاص الأمة لدرجة شهادة الزور عليهم واستباحة نسائهم، وقد لا يقتلون إلا نزالا ومواجهة وقتالا. وقد لا يدفن قتلاهم أو يكفنون أو يصلى عليهم، وقد يدفنون ويكفنون ويصلى عليهم. إلى هذا الحد وصل قتال البغاة.
11
ويتجاوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر داخل الأمة إلى خارجها، ويلحقان بجهاد الكفار. والجهاد قسمان: جهاد بالدعوة إلى الدين، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب وباللسان؛ وجهاد بالسيف، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد. فالدعوة إلى الإسلام تسبق القتال، وواجبة قبل النزال، حتى تستسلم الأمم فتقبل الإسلام، أو تعلن الاستسلام وتكون أمة مستقلة داخل الأمة الكبرى تتعاون معها على البر والتقوى دون الإثم والعدوان. والجهاد بهذا المعنى فرض عين لا فرض كفاية، كل حسب طاقته ووسعه، جهادا بالقلم أو جهادا بالسيف. ولا جهاد قبل تبليغ الدعوة وبلوغ الإسلام إلى الناس، وتقام عليهم الحجة، فإن قوتلوا قبل ذلك وقتلوا وجبت الدية لديهم. الجهاد حركة في الخارج وليس عكوفا على الباطن، وانتشار في العالم وليس انقلابا للداخل، ثورة في الواقع وليس مجرد تغير في الروح المجرد الفارغ من أي مضمون.
أما الجهاد مع أصحاب المذاهب والفرق المخالفة في الرأي فلا يكون إلا بالحجاج حتى ينصر الرأي ويظهر الحق، «أشداء على الكفار، رحماء بينهم».
12 (2) متى تجوز طاعة الإمام ومتى يجوز خلعه أو الخروج عليه؟
ما دام الإمام قد تمت بيعته بناء على اختيار وعقد فإنه يكون مطاعا، وطالما التزم بشروط البيعة من طرفه التزمت الأمة بشروط العقد من طرفها؛ من جانبه تنفيذ الشريعة وتطبيق أحكامها، ومن جانبها الطاعة له. فطاعة الأمة للإمام ليست مطلقة، بل مشروطة بتنفيذ شروط العقد، والعقد شريعة المتعاقدين، فإذا ما نقض الإمام البيعة فإنه يكون قد نقض العهود والمواثيق التي أخذتها الأمة عليه، ويكون نقضه للبيعة بجوره وظلمه وبغيه أو بعدم تنفيذ أحكام الشريعة. وفي هذه الحال يتم خلعه؛ أي سحب البيعة وإعادة الاختيار وفسخ العقد. فإن لم ينخلع على طلب من الأمة أو يخلع نفسه، فإنه يجوز الخروج عليه ومقاتلته بالسيف بناء على ضرورة قتال أهل البغي وفساق الأئمة. (2-1) طاعة الإمام
إذا كانت طاعة الإمام مشروطة غير مطلقة، فإنها لا تجوز إلا في حالة التزام الإمام بعقد البيعة الذي ينص على تطبيق أحكام العدل وتنفيذ الشريعة ومقاتلة الأعداء والذب عن البيضة، ويتطلب ذلك تحقيق مقاصد الشريعة وضرورياتها التي من أجلها وضعت الشريعة ابتداء؛ المحافظة على الدين والنفس والعقل والعرض والمال. وقد يزاد مقصد سادس هو الإنسان الجامع لكل هذه المقاصد. وتستلزم طاعته دفع الزكاة إليه؛ أي إن الالتزام السياسي بالنظام يستلزم التزاما اقتصاديا به. طاعة الإمام إذن لا تجوز على الإطلاق بالرغم من استقرار ذلك في وعينا القومي نظرا لأنه التراث الغالب، والذي استقر بعد أن حسمت الاختيارات في اختيار تراث السلطة، وأصبحت الطاعة من طرف واحد، من طرف الرعية التي تستلزم بالعهود والمواثيق وعقود البيعة والمحافظة على ذمة الله وذمة نبيه وذمة المسلمين، دون أي التزام مقابل من جانب الإمام، حتى لو عصى الإمام وفسق وجار فإن طاعته تظل واجبة! ولا تملك الأمة إلا الدعاء له بالهداية والنصح له بالرشاد، فإن لم يتغير شيء تزداد الدعوات دعوة أخرى، دعوى المظلوم على الظالم، ودعوى الرعية على الإمام، والله مجيب دعوات المظلومين. وتستلزم طاعة الإمام محبته والاقتداء به، بصلاحه تصلح الأمة، وبفساده تفسد الأمة. فالتغيير يأتي من فوق، والأمة مجرد تابع ومقلد لإمامها. العلاقة بين الإمام والرعية إذن علاقة تقليد واتحاد، لا علاقة تمايز واختلاف. ليس أمام الأمة إلا الصبر على جور السلطان وعدم الخروج عليه بالسيف مهما جار وظلم، وطغا وتكبر! بل لا يجوز الخروج عليه حتى ولو فسق وعصى وكفر. يكفي الإمام أن يكون ظاهر الإسلام، مقيم الصلوات، يأتي المساجد، مصلي الجمعة والعيدين!
13
لا ينعزل الإمام بالفسق والجور؛ لأنها شروط في البداية عند عقد البيعة، وليست شروطا في النهاية حين الالتزام بها. وكأن الإمام مخادع كاذب لا يلتزم بالشريعة إلا من أجل البيعة فحسب طمعا في الإمامة، وهو ضد العدل ظاهرا والورع باطنا، وكأنه محتال على الناس ينوي الغدر بهم. والحجة في ذلك هي الواقع التاريخي؛ فقد انصاعت الأمة لأئمة الجور والفسق ولم تخرج عليهم بعد الخلفاء الراشدين؛ مما يدل على أن طاعة أئمة الجور كانت أقرب إلى تبرير الأمر الواقع منها إلى التنظير والتأصيل له. وقد تثار حجة أن عزل الإمام أو الخروج عليه مدعاة لإثارة الفتنة وإحداث الهرج وإضعاف لشوكة الأمة، وهي حجة التسليم بالأمر الواقع والخوف من التغيير، حجة استتباب النظام والأمن في مواجهة قوى التغيير والثورة. وما أكثر الحجج النقلية التي يمكن انتقاؤها لإثبات وجوب طاعة أئمة الجور، وما أكثر الحجج النقلية المضادة لإثبات ضرورة خلعهم أو الخروج عليهم. وطالما استتب الأمن، واستمر أئمة الجور في الحكم، استمر تراثهم النقلي في السيادة والانتشار حتى يصبح هو التراث الوحيد في وعي الأمة. وطالما تضطهد المعارضة وتستبعد من الحياة السياسية العامة، يختفي تراثها ويصبح في طي النسيان. لا يسمح بالعصيان إلا في الحرام والمكروه، مثل ترك الدخان في الأسواق والمقاهي؛ أي في أمور لا تعم بها البلوى ذرا للرماد في العيون، وتملقا لأذواق العامة. أما في الظلم والجور والنهب والسرقة واغتصاب الحقوق، فالطاعة واجبة!
14
ولما كان هذا الموقف طائفيا صرفا يبرر النظام القائم، كان من الطبيعي أيضا أن يحدث رد فعل عليه من الفرق الأخرى، فرق المعارضة، من أجل تغيير النظام القائم بالسلاح نفسه. فقالت بطاعة إمامها الخاص الذي يخرج بالسيف على أعدائها دون أن تتبرأ من القاعدة عن نصرته. فطاعة الإمام من طاعة الله ضد أن تكون طاعة الله من طاعة الإمام، إذا آمن الإمام آمنت الرعية، وإذا كفر الإمام كفرت الرعية، وهو الوضع نفسه في النظام القائم وتراث السلطة، إلا أن هذه المرة من فرق المعارضة وتراث المعارضة.
15
والحقيقة أن الواقع التاريخي بقدر ما يكون البعض منه مع طاعة الإمام فإن كثيرا منه مع الخروج عليه. وإذا كانت طاعة الإمام واجبة على الإطلاق بلا شروط، فلماذا قتل خلفاء من الأربعة الراشدين، أي من داخل نظام السلطة، وليس فقط استمرار الثورات من داخل المعارضة بكل فرقها الداخلية والخارجية، السرية والعلنية؟
وقد يبلغ حد طاعة الإمام إلى قبول الإمام الجائر وحكم الباغي! فالعقد والاختيار يكون فقط في البداية لا في النهاية، طريقا للبيعة يفعل الإمام بعدها ما يشاء! أما إذا بغا الإمام وطغا بعد ذلك فتظل البيعة الأولى قائمة. فإذا ما تغلب إمام آخر عليه بالقهر دون بيعة فإنه يظل إماما ما دامت تتوافر فيه بعض الشروط العادية مثل الإسلام والعقل، غلبة بغلبة، وبغيا ببغي، بل قد لا تلزم بعض الشروط العادية الأخرى مثل الذكورة أو البلوغ. وعلى هذا النحو يتم التشريع لحكم الطغيان ولأمراء العسكر وسائر الجند، كل ينقض على الحكم وينصب نفسه إماما. وقد كان الأمر في البداية مجرد تبرير لحكم البغاة وأئمة الطغيان، ثم تحول التبرير إلى تأصيل نظري مستقلا عن الواقع التاريخي الأول، حتى أصبح يخلق واقعه الخاص، ويفرز أئمة بغاة وحكاما طغاة.
16
إن أقصى ما يمكن للإمام عمله فيما إذا أخطأ أن يرجع إلى الصواب ولا يمضي حكمه، سواء كان ذلك مقرونا بتوبة أو بدونها. وكأن الخطأ في الحكم مجرد خطأ فردي يعود على الحاكم نفسه دون أن تكون له آثاره على باقي الأمة حربا أو سلما، غنى أو فقرا. كما أن مقاطعة الإمام تجاريا، وعدم الدخول معه في عقود بيع أو شراء، تجعل من الحاكم التاجر الأول والصانع الأول والزارع الأول، علاقته بالرعية علاقة مكسب وخسارة! يكفيه العزل الاقتصادي كمقدمة للعزل السياسي ! وهكذا يتراوح الوضع بين الاستسلام للأمر الواقع وطاعة الإمام الجائر، وبين فسخ عقد البيعة والخروج عليه، وإلا إذا قضى الإمام بحكم جور في منطقة كفرت الأمة كلها من أقصى الأرض إلى أقصاها.
17
لقد ركز التراث على طاعة الإمام أكثر من تركيزه على الخروج عليه، وأقام علاقة الإمام بالرعية على الطاعة المطلقة وعدم المعارضة، وعلى تلقي الأوامر وتنفيذها بلا مناقشة، وكأن البشر آلات صماء مهمتهم التنفيذ كما هو الحال في الجماعات السرية والنظم العسكرية والأنظمة التسلطية، وهو قضاء على استقلال الشخصية ودور العقل وحرية الفرد ما دامت علاقة الإمام بالرعية علاقة تسلط وقهر من طرف، وتبعية وخضوع واستسلام من الطرف الآخر. وكثيرا ما كان يخفي تأليه الإمام استغلاله للأمة ما دامت تعتقد في ألوهيته وعصمته وشرعية ما يفعله، وتوجب له السمع والطاعة، وكأن تأليه الإمام كان له هدف سياسي، وهو طاعة الأمة وتبعيتها له. بل لقد أعطى الإمام لنفسه الحق في مطاردة خصومه السياسيين لدرجة قتالهم باعتبارهم أهل الضلالة، واستئصالهم من جسد الأمة؛ فبدلا من قتال أئمة البغي يقاتلون هم معارضيهم والخارجين عليهم، وتتحول طاعة الأئمة إلى إرهابهم للناس من أجل السيطرة عليهم. ويتهم كل من يخرج على الإمام بأنه خارجي بما تحمل من معاني العصيان والخروج على القانون، كما هو الحال في الحركات الإسلامية المعاصرة.
18 (2-2) خلع الإمام
إذا لم يتم فسخ عقد البيعة نظرا لنقض الإمام له بعد عقده وبيعة الناس له، وجب خلعه. وللناس أن يخلعوه إذا ما أخل بأمور الدين وأهمل أحوال المسلمين، وهو ما لأجله أقيمت الإمامة. لا يعزل بالفسوق والفجور فقط، أو بإطباق الجنون عليه، أي بصفات شخصية، بل لإضراره بمصالح المسلمين وظلم الناس وممارسة صنوف التعسف والجور ضدهم وتبذير الأموال. إن كفره وترك صلاته أمور يحاسب عليها في الآخرة، أما في الدنيا فإنما يحاسبه الناس على الظلم واغتصاب الأموال وضياع الحقوق. فإذا استعصى خلعه لقوة شوكته أو لقلة حيلة الناس وضعفهم، فعليهم ارتكاب أدنى المحظورين واختيار أخف الضررين، طاعة الإمام الباغي أو خلعه، وما يترتب على ذلك من الخروج عليه والدخول في معركة غير متكافئة معه. فإذا ما اختارت الأمة الطاعة لأنها أهون الشرين، كانت بمثابة المكره على فعل شيء لا ترضاه، وليس على المكره حرج. إذا كان وجوب العزل لسبب افتراضي مثل وقوع الإمام في يد الأعداء، فإن عزله أوجب لسبب حقيقي، وهو ظلم الرعية والتعسف بها. لا يوجب عزله ظهور من هو أفضل منه، وذلك لجواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل، ومع ذلك يوجب عزله إذا لم يحسن المفضول استخدام القدر من العقل لرعاية شئون الرعية. وقد يكون من الأكرم للإمام المخلوع أن يخلع نفسه بنفسه دون انتظار خلع الناس له إذا ما شعر بعجزه عن تدبير شئون الرعية.
19 (2-3) الخروج على الإمام
ومع ذلك يجب الخروج على الإمام إذا ما عصى وظلم، ولم يقم بشروط العقد من طرفه، ولم يسمع لنصيحة أو لأمر بمعروف أو لنهي عن منكر، ولم يخلع نفسه، ولم يستمع لخلع الناس له. هنا تجب الثورة عليه وإزاحته عن الحكم كفريضة شرعية ما دام قد عطل وظيفة الإمامة. فالخروج على السلطان الجائر فضيلة، ولا يجوز الخروج السري، بل يجب الخروج العلني أمام الناس وعلى رءوس الأشهاد لاسترداد الحقوق وإقامة العدل،
20
بل قد تتحول السلطة ذاتها إلى محرم؛ وبالتالي يتم تكفير كل من لابس السلطان أو جالسه أو عمل معه، فالسلطة مفسدة، وضياع لطهارة القلب ونقاء الضمير.
21
وإذا كان الخروج لا يتم إلا مع إمام، فلأن كل ثورة في حاجة إلى قيادة، وإلا كانت فورة هوجاء بلا تنظيم أو ترشيد. كما أن الإمام لا يخرج بمفرده دون ثورة من الناس على الإمام الظالم ينشأ الإمام من داخلها. وثورة الأئمة بمفردهم دون الرعية تكون أقرب إلى التمرد منها إلى الثورة. فإذا كان التمرد يتم من أجل استرداد حق الإمام الشرعي ضد الإمام المغتصب، فإن ثورة الرعية تتم باسم حق الأمة ضد البغي والظلم.
22
وكما لا يصح الخروج بلا إمام، فإنه لا يصح أيضا بلا جماعة قادرة على إنهاء حكم البغي وإقرار حكم العدل، وإلا فما العمل لو تم الخروج على السلطان مع جماعة قليلة وقتلته، ثم لم يتحرك الناس فاضطروا إلى حملهم عنوة على البيعة، وإلا قاتلوهم؟ ولماذا تكون الجماعة بعدد أهل بدر؟ وهل هو عدد صالح في كل الأحوال دون النظر في النسبة القائمة بين الأقلية والأغلبية؟ وهل يكفي أي عدد؟ وما هو أقل عدد ممكن يستحيل الخروج بأقل منه؟ أم لا بد على الأقل من عدد متساو لنصف أهل البغي، مائة بمائتين، والألف بألفين؟ ولكن لماذا لا يكون أقل من ذلك، والحق دائما مستضعف، والعشرون بمائتين؟ ما يهم في ذلك هو ضمان نجاح الثورة بتحقيق شروطها في التنظيم والقيادة والجماهير.
23
وقد لا يجوز الخروج إلا إذا بدأ السلطان بالعدوان، وأراد إجهاض الثورة قبل اندلاعها، والإجهاز عليها قبل بدايتها، ووأدها في مهدها، واستعان بالأعداء، وتعاون معهم ضد أمته. حينئذ يجب قتال السلطان.
24
ويتحول الأمر من صراع للنظام السياسي وقمة السلطة المتمثلة في الإمام إلى صراع المجتمع بأكمله، فتكون الدار دار حرب وليست دار إيمان. فالدعوة إلى عدم الخروج تؤدي إلى اعتبار الدار دار إيمان، ثم تندرج الدعوة شيئا فشيئا طبقا لمقدار الرغبة في الثورة ضد البغي. فقد تصبح مجرد دار فسق أو دار كفر نعمة أو دار كفر عندما لا يتم إنكار، وتتوقف ممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو دار كفر وشرك وهي على الضد من دار الإيمان. وقد يتم التوقف في ذلك كله وتصبح مجرد دار هدنة.
25
وبالرغم من هذا التدرج يظل التقابل بين دار الإيمان ودار الكفر، ودار الإيمان للنفس ودار الكفر للآخر المخالف. وقد تكون هذه القسمة بداية السقوط في التاريخ والانهيار في الزمن. وتشق وحدة الأمة بعد أن اعتبر فريق نفسه على حق وداره دار الإيمان، والمخالف له على باطل وداره دار الكفر. فالفرقة دارها دار إيمان؛ والفرقة الضالة، وهم أهل الأهواء، دارهم دار كفر. وتتراوح العلاقة بينهما بين علاقة السلم وعلاقة الحرب. فطالما أن أهل الأهواء لا يحاربون الفرقة الناجية تقابلها سلما بسلم وهدنة بهدنة ، ويكون لأهل الأهواء حقهم في الفيء وارتياد المساجد. وإن غلبت الفرقة الضالة في مكان، ولكن كان للفرقة الناجية حريتها في العبادة وحرمتها في البلاد، فإن الدار تكون دار إيمان، اللقيط فيها لا يسترق. أما إذا كانت الفرقة الناجية مضطهدة، فالدار دار حرب، واللقيط فيها يسترق، والغنيمة فيها فيء. تحرم ذبائحهم ونكاح نسائهم، وتوضع عليهم الجزية مثل المجوس. وقد يعتبرون مرتدين لا تقبل منهم الجزية، ولا تجوز إلا سرقاتهم. والشاك في كفرهم كافر مثلهم، وإن اعتبروه مجرد ضلالة فقد لا يكفر. ومع ذلك تجوز مبايعة أهل الأهواء، وإجراء عقود المعاوضة معهم؛ لأن قتلهم بعد الامتناع عن التوبة من واجب السلطان وحده. وأهل الأهواء مثل أهل الحرب، تجوز مبايعتهم بالرغم من وجوب قتالهم، إنما الخلاف في جواز إقامة السيد الحد على العبد. وكأن السيد بالنسبة للعبد بمثابة السلطان بالنسبة للرعية، وهو قياس باطل.
26
والحقيقة أن هذا التقابل بين الفرقة الناجية والفرق الضالة هو خلاف سياسي صرف بين السلطة وهي الفرقة الناجية، والمعارضة وهم أهل الأهواء أو الفرق الضالة. وتتحدد العلاقات بينهما طبقا للصراع على السلطة، وكل فريق يشرع لحقه مستعملا العقائد كأيديولوجيات، إما لتثبيت النظام القائم كما تفعل السلطة، أو لزعزعته والقضاء عليه كما تفعل المعارضة. وهنا تبدو العلاقة الوثيقة بين علم أصول الدين وعلم أصول الفقه، بين العقيدة والشريعة؛ فكل العقائد والتشريعات إنما هي لنصرة فريق ضد الفريق الآخر، فالفرق الضالة بالنسبة للفرقة الناجية، أي المعارضة في رأي السلطان المتشددة، فرق ضالة، أهل أهواء، أقرب إلى المجوس وأهل الكتاب منهم إلى المسلمين، يقاتلون، ويسترقون، ويغنمون، تحرم ذبائحهم ونساؤهم، وتؤخذ منهم الجزية. وقد يكون الأمر أخف من ذلك إذا ما كانت السلطة أقرب إلى اللين. وتشتد السلطة عندما تشعر بالخطر، وتلين عندما يبتعد الخطر وتشعر بالأمان، والشك في هذا الصراع إنما هو في صالح أهل الأهواء؛ وبالتالي فلا حياد بين السلطة والمعارضة، ولا احتمال للمصالحة الوطنية. ومع ذلك، وحفاظا على المصالح الاقتصادية للدول، يمكن عقد المبايعات مع المعارضة والدخول في مظاهر النشاط التجاري معها؛ فالخلاف السياسي يتوارى أمام المصالح الاقتصادية. يظل الصراع إذن بين دارين؛ الإيمان والكفر، السلم والحرب، الإسلام واللاإسلام، باستعمال سلاح الدين وإضفائه على الخلاف السياسي. وكأن دار الإيمان مجتمع واحد لا خلاف فيه ولا تمايز ولا صراع بين طبقاته، وكأن الصراع على السلطة والحفاظ عليها يجب ما دونه من خلافات، هو التناقض الرئيسي، وما دونه تناقضات ثانوية. فإذا ما لانت السلطة في مواقفها تجاه المعارضة، فإن المعارضة تقابلها لينا بلين، فلا تراق دماء الأمة ولا تغنم أموالهم ولا تسبى ذراريهم بالرغم من الحكم على المعاصي بالكفر. لا تكفر القعدة، وتكون الهجرة مجرد فضيلة لا فرضا؛ وبالتالي يخف الصراع على السلطة، ويقل الدافع النفسي، ويحكم العقل. فما زال في الأرض متسع للجميع.
27
وكان من الطبيعي أن تقابل المعارضة السلطة عداوة بعداوة، وتكفيرا بتكفير، ورفضا برفض؛ فالسلطة كافرة مشركة، السيرة فيهم السيرة مع الكفار والمشركين، لا تعامل معها إلا بالسيف. يستولى على الأموال وتسبى النساء. وكما تتشدد المعارضة مع السلطة تتشدد مع نفسها في العبادات، ويقاتل النساء مثل الرجال، والكل أصحاب خيل وشجاعة. أهل السلطة إذن مشركون ودارهم دار حرب. وكلما زاد التشدد مع النفس ومع الآخر حدث الانقسام في صفوفها، وزاد التشرذم، وكفر كل فريق الفريق الآخر، ويقع الجميع في «الطفولة اليسارية» أو الطهارة الثورية، حتى تصبح الثورة بلا ثوار، بلا أئمة وبلا جماعة.
28
وقد يظهر الاعتدال من بعضهم فلا تستحل الأموال ولا تسبى النساء، ويصبح المخالفون لهم كفار نعمة لا كفار شرك، يستمرون في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كتعبير عن العدل والتوحيد.
29
فإذا ما ظهر الاتجاه المتشدد في المعارضة يكفر القعدة عن القتال من موافقيهم وكل من لم يهاجر إليهم، وقد يتم امتحان الولاء لهم فيمن هاجر إليهم. ويقتل المخالفون نساء وأطفالا، ويوالى اليهود والنصارى والمجوس دون مخالفيهم من المسلمين، فالعداء بين الإخوة أعتى وأشرس من الخلاف العقائدي بين الأمم. ويستمر الخروج ولا يتوقف إلى نهاية الزمان، فلا مجال للمصالحة أو الاتفاق مع الخصوم. دار السلطة دار كفر ، دار المعارضة دار إيمان، ولا مصالحة بين الدارين، بقاء أحدهما مشروط بفناء الآخر. ولما كان حكم الكفر اغتصابا، فإن حكم الإيمان قادم لا محالة، وذلك مرهون باستمرار الخروج والثورة. وارتكاب الكبيرة من موافقيهم كفر، والشك في أقوالهم خاصة بعد موت القائلين بها كفر. فالأخذ بالشدة تقوية للصفوف وشحذ للعزيمة وشرط للنصر، لدرجة قتل المؤمن الأسير من مخالفيهم وإلا قتل!
30
وإذا ظهر الاتجاه الأقل تشددا والأكثر لينا، رغبة في المصالحة والحفاظ على وحدة الأمة، وهو ما يكشف عن تكوينه الإنساني العادي، واتجاه الآراء والمذاهب في المجتمعات، فقد لا يتم التبرؤ ممن يرجع عن رأيه. وقد لا يحدث اعتراض بالسيف على الناس، بل قتال للحكام الذين يكونون فقط من أئمة الجور. وقد يحدث القتال بالسيف وبغيره، أي بشتى وسائل المقاومة، لمنع أئمة الجور وإبعادهم عن الحكم، والتفريق بين عسكر السلطان ورعيته المغلوبة عن أمرها. فإذا كان عسكر السلطان دار حرب فإن الرعية المغلوبة على أمرها دار أمان. ولا يؤخذ «المدنيون» بجريرة العسكريين؛ فالمخالفون كفار وليسوا مشركين، لا تجوز مناكحتهم وغنيمة أموالهم وسلاحهم وكراعهم إلا في حالة الحرب وحدها دون وقت السلم. يمكن استتابتهم من تنزيل أو تأويل فيما يسع جهله أو غيره. لا يتبع المدبر منهم في الحرب، ولا يقتل منهم امرأة أو طفل. سبيهم في السر غيلة لا يتم إلا بعد نصب القتال وإقامة الحجة، دماؤهم في السر حرام، وفي العلن حلال. وقتل الأبوين حرام في دار التقية ودار الهجرة.
31
وقد يتحول العداء في الموقف إلى عداء مبدئي، كما يتحول العداء للآخر إلى عداء للذات، إلى كراهية النفس والتقتيل لها، كما يتحول تكفير الناس إلى كفر بالنفس وزهق من العيش وكفر بالحياة، ويتحول الموقف من صراع سياسي في البداية إلى أزمة نفسية في النهاية، مثل الجماعات الإسلامية المعاصرة، ثورة على الناس، وكراهية للعالم، ورفض للمجتمعات، ورغبة في القيادة دون جماهير، وحب في الاستشهاد. وعلى هذا النحو يسهل تشويه صورتهم دون فهم سلوكهم، فيضيع الهدف الأول وهو القضاء على أئمة البغي، وتنشأ أهداف فرعية مثل الانتقام من الناس وتدمير كل شيء، حتى ينتهي الأمر إلى تدمير النفس. ويصل الأمر إلى قتل الأسرى، وحرق الخصوم، واستحلال كل شيء، ما دام في ذلك تفريج عن النفس وتخفيف عن الهم؛ فرؤية النار تخفف عمن يحترق بها. ولن تسلم النساء من السبي، ولا الأطفال من القتل. وما دام الأمر كذلك سهل على خصوم الأمة تقوية هذا التدمير للآخر وللنفس. وتنتهي الثورة بأن تفرغ من مضمونها، ويلحق الثائر بالنور الأعلى، ويغرق في الوهم.
32
ولعبت التناقضات الرئيسية على التناقضات الثانوية، وأطلت الشعوب المغلوبة برأسها من جديد تناصر فريقا على فريق، وتزيد النار جذوة، والقتال اشتعالا.
33
ولا فرق في ذلك بين المعارضة العلنية الانفعالية في الخارج والمعارضة العقلية في الداخل، كفر بالآخر وكفر بالنفس.
34
سادسا: الإمامة في التاريخ، انهيار أم نهضة؟
كان موضوع جواز إمامة المفضول مع وجود الفاضل مقدمة لموضوع أعظم، وهو أن الإمامة في التاريخ تبدأ في الانهيار من الأفضل إلى المفضول، ومن المفضول إلى الأقل فضلا، حتى ينتهي الفضل تدريجيا، ثم تتحول الإمامة إلى خلافة، والخلافة إلى ملك عضود. ولا ينطبق الأمر على الأئمة وحدهم، بل ينسحب أيضا على طبقات العلماء وعلى الأجيال وعلى العصر؛ فالتاريخ في انهيار مستمر، ولن يستطيع الحاضر اللحاق بالماضي، ولن يستطيع المستقبل أن يكون مثله. يقل الفضل، ويخف الصفاء، وتنحسر الطهارة، ويزداد الطمع والتكالب على الدنيا. ومهما حاول أحد فعل شيء فإنه لا يستطيع إلا أن يحبو أثر الماضي؛ فالسلف خير من الخلف، فالخلف قد أضاعوا الصلوات واتبعوا الشهوات. وما دامت الإمامة ليست من مصالح الدين، بل من مصالح الدنيا، فلا يراعى فيها الأعلم والأتقى والأزهد بقدر ما يراعى فيها الأقدر والأقوى؛ دفاعا عن البيضة، وسدا للثغور، وحماية للأمة. وإذا كثر الهرج والمرج، وعظمت الفتنة بسبب التشبث بإمامة الفاضل، فإن الصالح يقتضي تجنبه واتقاءها بتنصيب المفضول؛ وبالتالي يكون للواقع أولوية على المبدأ، وللقوة الأولوية على الحق. وقد يكون في ذلك بقاء للدولة، ولكنه في الوقت نفسه بداية الانهيار.
1 (1) ماذا يعني التفضيل بين الأئمة؟
إذا جازت إمامة المفضول مع وجود الأفضل لأنه أصلح في الدنيا للإمامة، في حين أن الأفضل أكرم عند الله في الآخرة، فإن التفضيل لا يعني الأفضلية في الثواب عند الله، بل اختيار الأصلح في الدنيا في حالة الصراع على السلطة. التفضيل في الظاهر في الثواب عند الله، وفي الحقيقة الأقدر على حسم الصراع على السلطة لصالحه. وليس مقياس التفضيل القرابة من النبي بنسب أو مصاهرة؛ فالنبوة ليست في العصب والدم، وإلا لما كانت الإمامة عقدا واختيارا، وإلا تحولت النبوة إلى ملكية وراثية، وهو ما يصدقه العقل والوحي والتاريخ،
2
بل إن الأفضل عند الله لا يكون بغير اختصاص أو عمل، وإلا كان ذلك أقرب إلى الأخلاق اليهودية القائمة على الاصطفاء بلا مبرر أو سبب من فضيلة أو عمل صالح. الأفضل عنده بناء على عمل واستحقاق؛
3
لذلك كان التفضيل للبشر المكلفين وليس للملائكة أو الحيوانات أو الجماد؛ فالملائكة غير مكلفين، والحيوان والجماد ينقصهما شرطا التكليف، العقل وحرية الاختيار، بل إن الأنبياء أيضا لا يتفاضلون؛ لأن فضل كل نبي على آخر لا يرجع إليه، بل يرجع إلى رسالته ودرجته في تطور الوحي. ومراحل الوحي لا تتفاضل فيما بينها، بل تتكامل، فتمهد المرحلة السابقة للمرحلة اللاحقة، كما تتكامل أعمار الإنسان في مراحل نضجه المختلفة. ولماذا يفضل الملائكة على غيرهم منذ ابتداء الخلق؟ ولماذا يفضل الأنبياء على الجن منذ ابتداء الخلق أيضا وقبل الاستحقاق؟ ولماذا فضل إبراهيم على سائر الأطفال وهو غير مكلف ولم يستحق عملا؟ ولماذا فضلت ناقة صالح على سائر النوق؟ وهل تختلف ناقة عن ناقة في الفضل إذا كان الفضل عن استحقاق؟ ولماذا تكون ناقة صالح أفضل من الناقة التي دخل عليها النبي المدينة، أو أفضل من البقرة التي أمر الله بني إسرائيل بذبحها، أو أفضل من حوت يونس؟ ولماذا ذبيحة إبراهيم أفضل من كل الكباش؟ وهل يعقل أن الكبش الذي نزل من السماء فضله على سائر كباش الأرض؟ وهل هناك تفضيل في الأماكن مثل فضل مكة على سائر البلاد وفضل المدينة على مكة؟ ولماذا تفضل مكة وبها الكعبة على المدينة التي بها قبر الرسول؟ أليس هذا شبها بأقوال اليهود عن تفضيل القدس على سائر المدن، والمسلمون أولى بها؟ ولماذا تكون الحجارة أفضل من بعضها؟ وما فضل الحجر الأسود على غيره من الحجارة؟ لو كان تقليدا من القدماء فالتقليد ليس أصلا من أصول الدين، ولو كان حمل الرسول له بيده فما أكثر ما حمل الرسول من تراب ومعاول في حفر الخندق، وما أكثر ما أمسك به من عصي. ولماذا تفضل الأوقات بعضها على البعض الآخر، الشهور الحرم على باقي شهور السنة، وشهر رمضان على باقي الشهور، وليالي القدر وأيام عاشوراء والجمع وعرفة على سائر الأيام؟ وهل اللحظات المتميزة وأوقات التقوى يمكن تحديدها مسبقا بحركة الأفلاك والأهلة، أم أنها أوقات حرة تأتي بناء على قدرة الإنسان على الخلق والإبداع، وتختلف من فرد إلى فرد، ومن حالة إلى حالة؟ وهل يفضل أحد الأوقات في النهار أو في الليل الأوقات الأخرى فيهما، أم أن لكل وقت فعله الذي يتم فيه؛ وبالتالي لا فضل لصلاة الصبح على العصر أو للعشاء على المغرب؟ ولا تفضل صلاة الفرض على النافلة إلا لأن الأولى واجبة والثانية مندوبة، وبين الواجب والمندوب لا فضل لأن كليهما اقتضاء فعل، بل يفضل المندوب الواجب لأنه أتى تطوعا واختيارا، وليس فرضا أو إجبارا. وما فضل السجود على الركوع إلا أن الأول يدل على مزيد من الاحترام والتواضع، الجبهة في الأرض، وكلاهما رمزان، وإلا كان فضل الركوع على الوقوف. ولما كان الإنسان مطالبا بمزيد من الفضل لوجب الصلاة دائما سجودا دون ركوع أو وقوف.
4
إن التفضيل بهذا المعنى هو حكم قيمي خالص، إسقاط من النفس على الواقع وعلى الأشياء. إنما الفضل يأتي بالاستحقاق بناء على عمل تكليف يتوافر فيه شرطاه؛ العقل والحرية. ويكون التفضيل في الأفعال بناء على عدة أوجه؛ فالتفضيل في ماهية العمل أن يكون العمل هو ماهية استكمال للفروض والنوافل، وألا يكون العمل هو غيره أو عملا بلا ماهية. ويكون فضل العمل بمقدار طهارة قصده وصدق نيته، خالصا لوجه الله دونما كسب خاص أو طلب مديح من الناس. ولا يتعارض صدق النية مع تحقيق المصالح العامة؛ لأن مقاصد الشرع ابتداء، والتي من أجلها وضع، تقوم على الحفاظ على الضروريات الخمس؛ الدين والنفس والعقل والعرض والمال. ويفضل العمل كيفا؛ أي استيفاؤه جميع حقوقه، ونقاؤه وعدم خلطه بأية شوائب، من صغائر أو كبائر. كما يفضل العمل كما ومقدارا، سواء كان فرضا أم نافلة، واجبا أم ندبا. وقد يفضل في الزمان مثل إتيان الصلوات في أوقاتها، فورا لا تراخيا، اقتضاء لا قضاء، في أول الوقت وليس في آخره خشية النسيان. وقد يعني ذلك الفضل في الأسبقية في الإسلام وفي الجهاد وفي التطوع وفي الصدقة، فالسابقون السابقون. ويفضل الفعل في المكان لا بمعنى الشيء، ولكن بمعنى الصحبة، كما تفضل الصلاة مع الفضلاء وأهل العلم نظرا لما يتبع ذلك من زيادة في العلم قبل الصلاة وبعدها دون أن يكون من بينهم نبي؛ نظرا لانتهاء النبوة واكتمال الوحي. أما فضل صلاة نبي على صلاة غير نبي فلا تعني إلا التركيز؛ وبالتالي ترجع إلى الفضل كيفا.
5 (2) التفضيل بداية الانهيار
فإذا كانت هناك مقاييس للتفضيل، فعلى من يتم تطبيقها في الأفراد أو في الجماعات أم الأمم؟ فإذا جاز تطبيقها في الأفراد، فمن هم؟ هل يدخل فيهم نساء النبي وبناته، أم يقتصر الأمر على خلفائه وصحبه؟ وإذا كان الفضل في الجماعات، فهل يكون الفضل للصحابة على التابعين، وللتابعين على تابعي التابعين؟ وإذا كان الفضل للقرون، فهل يكون للقرن الأول فالثاني فالثالث حتى نصل إلى قرننا فيكون أقل القرون فضلا؟ وإذا كان الفضل للعلماء وحدهم، فأي علماء، وفي أي علم؟ وإذا كان العلماء حراس الأمة فلا فرق بينهم وبين حراس الثغور، رفقة الفكر والسلاح. (2-1) هل هناك تفضيل في نساء النبي وبناته؟
إذا كانت القرابة للرسول نسبا ومصاهرة ليست مقياسا للتفضيل، فإن نساء النبي وبناته باعتبارهن من أقربائه أو من صلبه لا تنطبق عليهما مقاييس التفضيل، إنما يمكن اعتبارهن صحابة من أقربائه مثل باقي صحابة الرسول، أعملن علمه، ونقلن عنه، وشهدن الانتشار الأول للإسلام. القرابة ليست مقياسا للتفضيل، فهناك أقرباء للرسول لم يؤمنوا به ونافقوه وعادوه. هل إبراهيم صبيا أفضل من باقي الصحابة؟ وهل أمومة نساء النبي وبناته للمسلمين تقتضي لهن فضلا أكثر مما لسائر الأمهات بكون الجنة تحت أقدامهن بفعل الحمل والتربية والرعاية؟ وإذا لازمته نساء النبي وبناته النبي في حياته الخاصة والعامة، فإن الصحابة لازموه في حياته العامة، ولم يكن يخفي عنهم شيئا من حياته الخاصة. وإن الحياة العامة للرسول لأكثر أهمية للأمة من حياته الخاصة، مع أنها قدوة في السلوك. ولا تزيد نساء النبي وبناته في معرفة الشريعة عن الصحابة شيئا؛ فالكل لازمه وصاحبه واستمع إليه. والوحي تم تبليغه للعامة والخاصة، وهو الأساس. ليس لآل البيت فضل على الصحابة، وليس للرسول كرامة أو شفاعة بفعل قرابته لأحد أو قرابة أحد إليه. كل إنسان بعمله استحقاقا بما في ذلك الرسول نفسه. وكيف يكون لإبراهيم الفضل وهو الصبي الصغير الذي لم يبلغ الحلم على بنات النبي ونسائه لو كان للقربى فضل؟
6
وقد يتعارض هذا التفضيل مع بعض الأخبار الأخرى التي تجعل من الرجال البالغين كل الفضل دون الصبية الصغار؛ وبالتالي قد يرجع تفضيل الصبية على الذكور إلى وضعهم المتميز عند الأعراب على مستوى العواطف والمتعة. قد يكون سبب ذلك بعض التوجهات المعتمدة على بعض الأخبار والروايات التي تجعل للرجال على النساء درجة، أو التي تصف النساء بأنهن ناقصات عقل ودين، أو عدم فلاح القوم الذين يولون عليهم امرأة، ولكن أليست هذه الدرجة وهذا النقص وهذه القيادة في الدنيا لا في الآخرة لتدبير أمور المعاش، وليس لفضل في الثواب؟ وحتى لو صحت هذه التوجهات النقلية، هل يعني ذلك أن للصبي الذي لم يبلغ الحلم الفضل على النساء البالغات العاقلات اللاتي منهن حملة العلم، واللائي هن أفضل نساء العالمين؟ وإن لم تصح هذه التوجهات النقلية، فربما نشأ هذا الوضع في تفضيل النساء من رد فعل على وضعهن في الجاهلية. وإذا استمرت الجاهلية في بعض جوانبها، فقد يكون ذلك رد فعل على كبت وحرمان، سواء كان في الجاهلية أو ما بعدها في مجتمع الذكور. وقد يدل ذلك على تخلف عام في اعتبار النساء جنسا في مقابل الرجال كجنس آخر، وتتناوب المقابلة في التفضيل بين الأعلى والأدنى.
وكما دخلت الملائكة في تفضيل الأنبياء كذلك تدخل الحور العين مع تفضيل النساء والبنات، وكأن التفضيل ليس بين بشر، بل بين بشر وملائكة، وهو ما يخرج عن طاقة البشر. وإذا كانت وظيفة الحور العين متعة أهل الجنة، فهل يدخلن في التفضيل على المستوى نفسه مع نساء النبي وبناته؟ وكما أن الحور العين لسن حملة علم، وليس لهن فضل جهاد، فإن نساء النبي وبناته لسن لهن جمال الحور العين ولا حسنهن، ولا يشاركن في وظائفهن.
7
وعلى فرض إمكانية التفضيل بين الإناث، فأيهن أكثر فضلا، نساء النبي أم بناته؟ اللائي رافقنه في حياته وأصبحن جزءا منه روحا وبدنا، أم اللائي من صلبه وتربيته واللائي لهن حظ من صحبته ورفقته؟ وهل هناك مثل من حنت عليه لحظة نزول الوحي، والتي ظل يذكرها حتى آخر لحظة من العمر؟ وهل هناك مثل من أعطته حب الحياة، والتي أعادت إليه شبابه وعشقه؟ وهل هناك مثل من شغفته حبا بجمالها ونصاعتها وأنوثتها؟ ولكن هناك أيضا من صلبه من كان لها فضل العلم وزوجة الإمام الرابع، ومن صلبها خرج الأئمة أصحاب العلم والفضل. ولكن فضل الأئمة من صلبها لا يرجع إلى الأم وحدها، ابنة النبي، بقدر ما يرجع أيضا إلى الأب صهره وابن عمومته. وهل الفضل يكون للمجموعات والأصناف، نساء النبي أم بناته، أم للأفراد؟ فإذا كان للأفراد، فهل يكون للأفراد داخل كل مجموعة وصنف؛ ففي مجموعة النساء، هل الفضل للتي راعته وحنت عليه وقوته وشجعته وقت نزول الوحي، وأعطته عمرها ونضجها بعده، والتي كانت أم بناته، والتي لم يختلف معها يوما واحدا، وكان أمينا على أموالها وتجارتها؟ هل الفضل يرجع لمنافستها لصغر سنها وطفولتها وبراءتها، والتي أعطت حب الحياة، والتي عشقها، والتي أدخلت عليه السرور والفرح وهو في أواخر العمر بالرغم من نزول حديث الإفك بمناسبتها، ودخولها حربا ضد الصحابة، ومعاداتها للخليفتين الأول والثاني، ومحاربتها الخليفة الرابع؟ هل الفضل يرجع إلى من كانت بمثابة الأنثى والتي أعطته متعة الحياة ومباهجها؟ ولماذا من البنات لم تبرز إلا واحدة، وهي زوجة الخليفة الرابع، دون غيرها؟ هل يرجع الفضل في ذلك إلى زوجها لأنها كانت أقرب بناته إليه؟ وهل بين البنات من هو أقرب إلى قلب الأب؟ إن العواطف لا تنقسم حسابيا وتوزع رياضيا بالتساوي، سواء من الأبناء أم مع الزوجات. أما التوجيهات النقلية فما أكثرها في كل زوجة وفي كل ابنة، سواء صحت روايتها أم ضعفت، كما هو الحال في الصحابة والأخبار المروية في فضلهم. وماذا عن نصوص الوحي التي تجعل «مريم» أفضل نساء العالمين؟ وماذا عن باقي نساء الأنبياء مثل امرأة لوط، أو حتى عن باقي نساء العالمين اللاتي شهد لهن الوحي بالفضل والعواطف الإنسانية مثل امرأة فرعون؟ وماذا عن أمهات الأنبياء اللائي شهد الوحي لبعضهن بالفضل مثل أم موسى؟ ألم يذكر آخر الأنبياء أيضا أمه والتي لا يتذكرها بالمدح والثناء؟ إن دخول ذلك كله في العقائد المتأخرة يجعل الموضوع كله تعبيرا عن تخلف الأمة، وأنها جعلت من اللاعقائد أساسا للعقائد، وتركت التوحيد للتفضيل بين نساء النبي وبناته! وقد تدخل نساء الصحابة في التفضيل مع نساء الأنبياء ونساء النبي وبناته، وكأن الأمر مسابقة جماعية في الفضل بين النسوة!
8 (2-2) هل هناك تفضيل بين الخلفاء الأربعة؟
إذا كان الرسول هو أفضل الأمة بفعل الرسالة والتبليغ، ولأنه قدوة في السلوك، فإن أول خيط التفضيل من بعده يتمثل في الخلفاء الأربعة، الخلفاء الراشدين الذين يتدرجون في الفضل من الخليفة الأول حتى الخليفة الرابع، فينهار التاريخ شيئا فشيئا، ولكن يظل، وبرغم قتل ثلاثة منهم غيلة، وبالرغم من الفتنة في أيام الخليفة الرابع، يظل الانهيار محصورا دون هبوط شديد أو انكسار حاد. يبدأ السقوط إذن من ترتيب الإمامة في التاريخ على هذا النحو المتدرج طبقا لمراتب الفضل. ولكل إمام لقب؛ فالأول الصديق لأنه صدق الرسول، والثاني الفاروق لأنه عدل يفرق بين الحق والباطل، والثالث ذو النورين، نور القرابة ونور الخلافة، والرابع المرتضى الذي رضي الله عنه. وإذا كانت الإمامة بها صلاح الدنيا، ويجوز تولية المفضول دون الأفضل، يكون التفضيل إذن لا معنى له؛ لأن مقياس الإمامة ليس الفضل الفردي، بل رعاية مصالح الناس وتدبير الشئون العملية التي قد ينجح فيها من هو أقل فضلا. ما يتطلبه الإمام العدل والتدبير حتى وإن لم يكن أعلم القوم؛ نظرا لاعتماده على أهل العلم في الاجتهاد والفتيا.
9
وإن معظم الحجج التي تؤيد هذا الترتيب هي حجج نقلية، مع أن نزول بعض الآيات في أحد لا تجعله أفضل من غيره؛ لأن أسباب النزول مجرد وقائع نموذجية تتكرر فيما بعد في وقائع أخرى مشابهة، ولا تقل الواقعة الثانية عن الأولى أهمية، وقد نزلت بعض الآيات في المنافقين والمشركين وهم ليسوا بأفضل الناس، كما أن الوحي لا يتحدث عن أشخاص بعينهم، بل يصف مواقف ولا يهم الأشخاص فيها، وما أكثر ما قيل في فضائل الخلفاء؛ وبالتالي تتكافأ الأدلة النقلية.
10
ومع ذلك قد يحدث بعض الاضطراب في التعيين، فيهتز هذا الترتيب في انهيار التاريخ تدريجيا من الأفضل إلى المفضول. والاهتزاز الأكبر يأتي في الخلاف حول الخليفتين الثالث والرابع، وبالتالي تبادل موقعيهما، فيقدم الرابع على الثالث نظرا لأنه أكثر فضلا منه. وبالرغم من تبادل المواقع يظل سلم التفضيل لا يتغير، من الأفضل إلى المفضول، بصرف النظر عن تعيين الأشخاص.
11
وتظهر الأهواء والمواقف السياسية في تفضيل كل منهما على الآخر، ونادرا ما يحدث اضطراب في التفضيل بين الخليفتين الأول والرابع أو بين الرابع والثاني، والكل مشهود له بالفضل والجدارة.
12
وما أكثر الحجج التي قيلت في تفضيل الخليفة الرابع على الثالث، وهي تعادل في كثرتها الحجج التي تثبت أفضلية الخليفة الأول على الإطلاق، بعضها نصية قد يكون الخليفة الرابع سبب نزولها. وأسباب النزول لا تتعلق بالأعيان والأشخاص في ذاتها، بل هي مجرد وقائع نمطية أولى يتعدى حكمها إلى غيرها، وللوقائع الأخرى المشابهة نفس الصدق التي للواقعة الأولى. كما أن الكثير منها عموم وليس خصوصا؛ لأنها تضع تشريعا عاما لا قانونا خاصا. وإذا كان البعض منها يشير إلى القرابة، فالقرابة ليست شرطا في الخلافة ولا في الفضل، والبعض منها آحادا يعتمد عليها في إثباته كخليفة أول لا يصدقها الواقع ولا التاريخ، وتصديق بعض الأخبار المستقبلة عليه مثل تصديق البعض الآخر على غيره، وإن كل هذه الحجج النقلية إنما ظهرت بعد تجربة الإمامة المستبعدة والخلافة المؤجلة في واقع سياسي معين جعله يبحث عن شرعية، فوجدها في الحجج النقلية في مجتمع النص فيه حجة سلطة. فالواقع هو الذي يخلق النص ويختاره ويوجهه من اللاحق إلى السابق، ومن الحاضر إلى الماضي، وليس النص هو الذي يعين الواقع ويرشد إليه من السابق إلى اللاحق، ومن الماضي إلى الحاضر. الواقع يقرأ نفسه في النص فيوجده ويحييه، وليس النص الذي يخلق الواقع ويتحقق فيه. ولما كثرت النصوص في كل شيء كان من السهل إيجاد الحجج النصية على شرعية كل المواقف السياسية والبراهين على صحة الزعامات بما في ذلك القاهر والمقهور، الظالم والمظلوم، السلطة وجميع فئات المعارضة.
13
أما بالنسبة للصفات الشخصية فما أكثرها أيضا، ولكنها في مجموعها لا تخص شخصا بعينه، بل كانت عامة وشائعة على درجات متفاوتة بين جميع الرفاق. فالعلم كان صفة القوم نظرا لأن الوحي علم يتلقونه بالخبر والرواية، ويشمل العلم التشريع لأن الوحي عقيدة وشريعة، تصور ونظام، أصول دين وأصول فقه. والزهد كان سلوكا عاما مميزا لكل الأصحاب، والكرم كان شيمة عامة يتنافس فيها المؤمنون، والشجاعة صفة غالبة في مجتمع المحاربين، والقوة العضلية ميزة خلقية لا تفاضل فيها، وحسن الخلق وحلاوة الدعابة ميزتان توجدان في أكثر من شخص غير معينتين في شخص واحد بعينه. أما القرابة من الرسول ونسبه له فليست ميزة شخصية ولا فضلا، كما أن أولاده من صلبه بالرغم من إمامتهم، فإن فضلهم يرجع إلى استحقاقهم وليس إلى نسبهم.
14
وكما يحدث اختلاف في الترتيب بين الثالث والرابع، أو بين الأول والرابع، أو بين الثاني والرابع ، وكأن الرابع لا يزاحم الثالث فقط في الفضل، بل يزاحم أيضا الأول والثاني أيضا، يؤخذ الأول على الإطلاق بصرف النظر عما يليه في الفضل، سواء من داخل الخلفاء الثلاثة أو من خارجهم من باب الرفاق. فقد يكون الأول على الإطلاق هو الثاني أفضل الخلفاء الأربعة جميعا. وأي فضل أفضل من العدل وأي أفضل من الفاروق؟ وقد يأتي في البداية أحد من أهل العلم والرواية يتبع في علمه الفاروق، وقد يأتي أحد المناصرين له، أول من آواه في بيته أو نصره بسيفه.
15
وقد يأتي الترتيب في الفضل ثنائيا أو ثلاثيا طبقا لمقاييس العلم والشجاعة، والنظر والعمل.
16
وكلها في الحقيقة اختيارات سياسية لقيادات هي تعطي شرعية للفرقة السياسية التي تنتسب لهذا الصاحب أو لذاك كزعيم سياسي؛ فالموضوع إنما نشأ أصلا تبريرا للتاريخ، وتعبيرا نظريا عن الصراع السياسي بين السلطة والمعارضة، كل منها تحاول أن تجد شرعية لها في التاريخ، سواء في الأمر الواقع أو فيما ينبغي أن يكون. وما الأمر الواقع إلا مؤامرة تمت منذ البداية، والواقع لا يكون مبدأ، والمستقبل الحاصل للشرعية والحق المهضوم الذي لا يضيع، بل لا بد أن يكون أقوى من الحاضر الذي فيه الاستسلام للأمر الواقع وحكم الظلم. وإن ترتيب الخلفاء الأربعة لهو ترتيب زماني صرف طبقا لحوادث تاريخية صرفة، وليس ترتيبا أصلا في الفضل النظري.
إذا كان الخليفة الأول قد مات طبيعيا فإن الخلفاء الثاني والثالث والرابع قد ماتوا غيلة؛ أي بتدخل عوامل خارجية. وكان يمكن للرابع أن يموت اغتيالا قبل الأول، وكان يمكن للثاني أن يعيش قبل الرابع. ويتساوى الأربعة في مشاهدة التنزيل ومعرفة التأويل لو كان التفضيل يعني هذه العموميات ومدح الرفاق والثناء على خصائصهم، ولو كان يعني الفضل عند الله والسبق في الدين.
17
وهو ما لا يعرفه أحد إلا بالنص القاطع دون إمكانية الحكم فيه بالعقل أو بالواقع؛ وبالتالي تغيب عنه الأدلة العقلية والتاريخية، ويصبح خارج علم أصول الدين الذي يقوم على العقل والنقل، والذي يكون فيه العقل أساس النقل؛ لأن الظن لا يغني عن الحق شيئا طبقا لنظرية العلم في المقدمات الأولى. وهي مسألة لا يمكن الحصول فيها على يقين نظرا لصعوبة إيجاد مقاييس للتفضيل إلا العمل والاستحقاق، والحكم فيها بالفضل ليس للناس؛ لأن الاستحقاق في المعاد وليس في الدنيا. وقد وضعها القدماء ورأوا فيها جزءا من العلم كملحق للإمامة عن طريق التقليد، والتقليد ليس أصلا من أصول العلم، فهي فرع للفرع. ونظرا لأن الإمامة فرع فقد وضعت أيضا في بنية العلم عن طريق جريان العادة. وقد كان للموضوع أهميته في الماضي، فقد سالت لأجله الدماء، ولكنه لم يعد بذي أهمية الآن إلا كحادثة تاريخية صرفة يجد فيها كل نظام سياسي حجة شرعية له في الانتساب لأحد الأطراف كما هو الحال في شرط القرابة. قد يتجاوز الأمر دافع الحسد والتعصب لصعوبة تفسير حوادث التاريخ بالعوامل الفردية والانفعالات النفسية وحدها، ولكن الأهم هو أنها حوادث تاريخية لا تهم إلا بقدر ما يقرأ الحاضر نفسه في الماضي، ويبدو الأمر وكأنه اختلاف في تفسير التاريخ.
18
كذلك لعدم نفعه، بل لاحتمال الضرر منه كتعمية الواقع وتغليفه بالماضي، ونسيان الصراع الحالي تحت غطاء الصراع الماضي يمكن التوقف فيه، أو التفويض فيه لله، وهو أيضا نوع من التوقيف، إلغاء للمسألة. ولا يعني ذلك تصويب القاعدين إلا لأنه لم يتبين لهم الحق في الأمر فتوقفوا فيه، ولكن لا يجوز القعود فيه إذا ما تبين الحق فيه، فالإمامة واجبة، والتوقف امتناع أساسا عن تكفير الصحابة والطعن فيهم، وإيثار الفضل للكل. قد يصل حد التوقف إلى إنكار الوقائع التاريخية كلها؛ فالفتنة لم تقع، والحروب بين المسلمين لم تحدث.
19
وإذا كانت دعوة العصمة من بعض الرفاق، والطعن والتكفير من البعض الآخر في الرفاق أنفسهم، وكلاهما رد فعل على الآخر، فمن الأفضل الإمساك عن هذا وذاك، عن التعظيم والتحقير، إما عن طريق الشك في الروايات والأخبار، أو عن طريق تأويلها من أجل الحفاظ على سيرة الخلفاء في التاريخ واستمرارهم قدوة في السلوك. ولقد فعل الجميع بناء على اجتهاد، وللمخطئ أجر، وللمصيب أجران.
20
وأصبحت كل فرقة تدافع عن نفسها ضد تهمة التفضيل التي تعني الثناء على بعض الرفاق والطعن في البعض الآخر؛
21
لذلك كان من الأوفق عدم إدخال هذه المسألة في علم أصول الدين كلية، لا للعوام ولا للخواص؛ فالعوام لهم حاضرهم وعقائدهم لمواجهة مشاكل عصرهم، والخواص لديهم العلم النافع لإرشاد العوام؛ فلا تدخل هذه المسألة ضمن التعليم أو تدرج في المصنفات والآثار؛ لأن التعليم لا يكون إلا بما ينفع، وبما يمس مصالح الأمة في كل عصر.
22 (2-3) هل هناك تفضيل بين الصحابة؟
وقد لا يكون التفضيل بين الأفراد، بل يكون بين المجموعات والأصناف، أو بلغة القدماء بين الطبقات، فهناك مراتب للرفاق، كل مجموعة سابقة في مرتبة أعلى من المجموعة اللاحقة، فالأولون الأولون، والسابقون السابقون. وتتفاوت مراتب الفضل في الزمان ابتداء من عصر النبوة إلى عصر الخلافة. وهناك خمس مراتب: الخلفاء الأربعة، والعشرة المبشرون بالجنة (منهم الخلفاء الأربعة، أي الستة الباقون)، والبدريون الذين شاهدوا أحدا، وأهل بيعة الرضوان بالحديبية. وقد لا تعني المشاهدة الحضور الفعلي، بل يمكن الحضور أجرا؛ أي من له فضل المشاركة بالمال أو بالتأييد بالنية ولكن منعته الظروف من الحضور. وقد تتداخل المراتب ويكون الإنسان في الوقت نفسه خليفة ومن العشرة المبشرين بالجنة وبدريا وأحديا ومن أهل بيعة الرضوان، وذلك مثل الخلفاء الأربعة. وإذا كان فضل الأربعة الأوائل قربهم من الرسول، فإنما كان ذلك عارضا تاريخيا محضا عن طريق بيعة الأمة وعقدها على واحد منهم تباعا، وكان يمكن لعارض تاريخي آخر، كالاغتيال أو الموت أو الاستشهاد، أن يغير نظام الأسبقية في الزمان. أما العشرة المبشرون بالجنة، فإن ذلك يدل على مجرد التعبير عن الاستحقاق؛ لأن الحساب لم يتعد بعد، وإلا كان مصادرة على المطلوب، مصادرة على حق الله، حتى ولو تم ذلك من الرسول. والتبشير في الدنيا مثل الشفاعة في الآخرة مضاد لقانون الاستحقاق. وفضل أهل بدر هو بداية القتال بين الثورة الجديدة وبين النظام القديم، والتحول من الدعوة السلمية إلى الكفاح المسلح. أما فضل أهل أحد فهو الثبات في القتال واستئنافه بمزيد من الطهارة الثورية دونما نظر لمصلحة أو كسب دنيوي. أما أهل بيعة الرضوان فهو الثبات حتى في أضعف لحظاتها، والقدرة على مواصلتها بوسائل أخرى. ولكن ماذا عن الشهداء في كل عصر؟ ولماذا يكون شهيد الحق نصير ثورات المحرومين والمظلومين أقل فضلا من الثوار الأوائل في معارك الثورة الأولى؟ وهل الإنسان مسئول عن وقت قدومه إلى الدنيا والعصر الذي عاش فيه، أم أن مسئوليته في تقبله لها في أي عصر وجد وفي أية معركة فرضت عليه؟ وإن الاختلاف على هذا الترتيب، وإدخال من صلوا إلى القبلتين في مراتب الفضل الأولى، يدل على أن الموضوع كله حكم قيمة لا سند له من الوحي أو العقل أو الواقع.
23
ومما يدل على أن التفضيل حكم قيمة أو موقف نفسي خالص أن أهل بدر ليسوا فقط من الإنس، بل أيضا من الجن ومن الملائكة، يحاربون مع المسلمين. وقد تدخل الملائكة الذين شهدوا بدرا في التفضيل، ليس فقط مع باقي الصحابة في هذا التصور التدرجي المقل للفضل، ولكن أيضا مع باقي الملائكة التي لم تشاهد بدرا. وكأن مشاهدة الملائكة لبدر قرار حر تستحق عليه الثواب، وأن بلاءهم بناء على جهد وفيه مخاطرة واستشهاد يستحقون عليه الخلود. وإذا كانت الملائكة قد تدخلت في نصر بدر، فما فضل أهل بدر؟ وإذا كان الله أنزل على الأعداء النعاس والمطر والرعب في قلوبهم، فالمعركة غير متكافئة، فلا المنتصر قد انتصر، ولا المهزوم قد هزم. وإذا كان عدد الإنس في بدر ثلاثمائة وسبعة عشر رجلا، وعدد الجن والملائكة ثلاثة آلاف، فالنصر يرجع للملائكة وليس لأهل بدر، وقد بلغت الملائكة حدا من القوة تجعلها قادرة على إتمام النصر بأنفسها دونما حاجة إلى بشر يقطفون ثماره، فالملك الواحد يقلع الأرض! ويبدو الخيال الشعبي في تصورهم عددا وعدة وركبا ولباسا وألوانا، فتمثلوا برجال بيض على خيل بلق عمائمهم بيض مرخية على ظهورهم، أو سود أو صفر أو حمر أو خضر، وكأنهم على أنواع مختلفة الألوان، صوف أبيض على نواصي الخيل وأذنابها كدليل على عظمة الركب، ثم جاء جبريل على فرس أحمر، وعليه درعه، ومعه رمحه، كقائد مبارز مبرز. رمى أحد الأعداء بحجر فكسر رباعيته، فلم يولد من نسله إلا أهتم أبجر، وكأن العيب الخلقي متوارث، الأهتم يلد أهتم! ثم دخلت في وجنته حلقتان أخرجهما أحد المؤمنين بأسنانه فسقطت، فكان أحسن الناس هتما. وكأن جبريل وهو بهذه القوة في حاجة إلى من يخرج الحلقتين من وجنته من بشر فان! وهل يصاب جبريل أصلا؟ وإنه ليصاب بحلقتين وهما أكرم من الحجارة، وأكثر زينة للوجنتين. وهل هناك فرق بين هتم من حجارة قبيح وهتم حسن من نزع الأسنان للحلقتين من وجنة جبريل؟ ويدخل الرسول مع الملائكة لإجراء المعجزات مع أنه ليس إلا بشرا، معجزته إعجاز القرآن. وإذا كان الرسول قد تنبأ بمواقع الشهداء على الأرض ومصارعهم، فلماذا لم تحفظهم الملائكة إذا كانت قادرة على الحرب؟ وإذا كان الرسول قد أخذ من الحصى كفا فرمى به المشركين فأصاب أعينهم فانهزموا، فما الحاجة إلى الملائكة أو الجن أو الإنس؟ وإذا كان الرسول قادرا على أن يقلب العرجون سيفا، ورد الشق إلى الوجه، ورد العين المفقودة، فالأولى كان حمايتها منذ البداية.
وذلك كله صور فنية تدل على الإيمان بالنصر لتقوية العزيمة ورفع الروح المعنوية، مثل تثبيت رمل الأرض كصورة للثبات تحت الأقدام، وأن اطلاعه على المستقبل ليعطي ثقة لجنده، ويساعدهم على الثبات في النزال والشدة في القتال والإيمان بالنصر في الحرب. وإذا كان ذلك حقيقة، فلماذا لم يأت للمسلمين في معاركهم وهزائمهم الأخيرة مدد من السماء كما أتى للأوائل؟ وأين كانت الملائكة في أحد؟ إن الأمر كله رغبة وتمن وثقة بالنصر. ومما يؤيد ذلك أيضا ظهور بعض المصطلحات الصوفية، مثل مقام الخوف الذي كان فيه النبي، ومقام الرجاء الذي كان فيه الصديق، نظرا لسيادة التصوف على العقائد الأشعرية المتأخرة.
24
وقد يحدث اختزال لهذه الدرجات الخمس للفضل من الأربعة إلى العشرة إلى البدريين إلى الأحديين إلى الرضوانيين إلى درجتين فقط، المهاجرين والأنصار، أو الأولين من المهاجرين والأولين من الأنصار دون حكم فردي على إنسان بأنه أفضل من إنسان آخر في طبقته، وكلاهما مشهود له بالإيمان دون الكفر، سواء قاتل في الفتنة مع هذا الفريق أو ذاك أم قعد عنها ولم يشارك فيها واعتزل الناس. وقد يزداد تفضيل المراتب ليس فقط إلى درجتين، بل إلى سبع عشرة درجة طبقا للسبق إلى الإسلام بالإضافة إلى الجهاد فيه. ويظهر فضل الأفراد من خلال فضل الطبقات. ويصنف الأفراد طبقا للذكورة أو الأنوثة، للبلوغ أو للقرابة أو للقرشية أو القبلية. ولما صعب تحديد ذلك تاريخيا على وجه الدقة فقد وقع الاختلاف فيه. وبالنسبة للجهاد في الإسلام يصنف المجاهدون في القتال مثل أول من قتل كافرا. وكل سابق إلى الإسلام أسلم على يديه آخرون يأتون في الطبقة الثانية ويأتي أبناؤهم في درجة ثالثة. ثم يأتي الأنصار في مجموعات، وعلى فترات؛ الهجرة الأولى مع الرسول، والثانية حتى الوقعة الأولى، والثالثة حتى الخندق والحديبية، والرابعة حتى فتح مكة. وتزيد المعارك من اثنتين، بدر وأحد، إلى ثلاثة بإضافة الخندق. ثم يأتي المسلمون الذين دخلوا في يوم الفتح، ثم الذين دخلوا أفواجا والباب مفتوح على مصراعيه. ثم يأتي الصبية الذين أدركوا الرسول، ثم الصبية الذين حملوا إليه في حجة الوداع.
25
والحقيقة أن مقياس الأسبقية إلى الإسلام يحكمه عارض تاريخي بقدر ما تحكمه الإرادة الحرة. ويشمل العارض التاريخي الميلاد والوجود في الزمان والمكان والقبيلة والصدفة التي لا دخل للإرادة الحرة فيها. كما أن الأسبقية قد تتعارض أحيانا مع الاستحقاق؛ فقد يكون لأخوين السبق نفسه، ولكن يبايع أحدهما الإمام الجائر بينما يستشهد الآخر في قتاله.
26 (2-4) هل هناك تفضيل بين القرون؟
ويبدأ السقوط التدريجي في الانهيار نحو مزيد من الانحدار، وذلك بالانتقال من الصحابة الذين شاهدوا الرسول إلى التابعين الذين شاهدوا الصحابة، إلى تابعي التابعين الذين شاهدوا التابعين. وهي ثلاثة أجيال متتابعة. الجيل الأول، وهو جيل الصحابة، يتلوه جيلان آخران، جيل التابعين وجيل تابعي التابعين. وعندما تسقط الإمامة من العقائد المتأخرة، يدخل الموضوع كملحق للنبوة. وقد يمثل اعتبار الصحابة بهذا المعنى ورثة النبوة بالرغم من الانحدار التدريجي بعد الغرور باعتبارهم ورثة الأنبياء، خاصة وأن لا أحد منهم يكفر نفسه أو يخطئها. ويمثل كل جيل قرنا، فيكون خير القرون قرن الرسول، ثم القرن الذي يليه. وإذا كان القرن مائة عام، فإن الصحابة والتابعين في القرن الأول، وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ابتداء من القرن الثاني. فكل قرن يضم جيلين لو كان نضج الإنسان يتم وهو فيما بين الأربعين والخمسين. وسمي القرن قرنا لأنه يقرن أمة بأمة، ويواصل جيلا بجيل؛ فتتابع القرون إنما يعني تتابع الأجيال وتواصلها بالرغم من علاقة التدهور والانحدار ومسار السقوط جيلا بعد جيل، وقرنا بعد قرن. ولا يشترط تساوي الأجيال في الزمان؛ فإذا كان طول الصحبة شرط الصحابي مع النبي، فإنه لا يكون بالضرورة شرط التابعي مع الصحابي؛ لذلك اختلفت القرون في الطول، أطولها قرن الصحابي الذي يزيد على مائة عام، وأوسطها قرن التابعي الذي يبلغ السبعين عاما، وأقصرها قرن التابعي الذي يبلغ الخمسين عاما. وكلما توالت القرون قلت المدة لرسوخ العلم واحتواء الرواية وسهولة جمعها وتدوينها جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن. وبلغة العصر، كلما توالت الأجيال كلما ازدادت سرعة الاتصال ونقل المعلومات، وقلت المدة وانتشر الخبر.
27
وقد تذكر مراتب التابعين بالأسماء وزيادة في التفضيل أو بالنسب، مع أن القرابة ليست مقياسا في التفضيل. وقد ترتبط مراتب التابعين في آخرها بمراتب العلماء لما كانوا حملة العلم، كما ترتبط في أولها بمن أدرك العشرة المبشرين بالجنة، كلهم أو بعضهم. وقد تكون الغاية من التفضيل عدم الخلط في الروايات، خاصة في الإسناد الذي يتطلب معرفة عصور الرواة وأزمانهم.
28
وقد يتحول الحساب التفصيلي إلى حساب إجمالي، وتصبح الخلافة استمرارا للنبوة بعدها يسقط التاريخ مباشرة في خط منكسر دونما تدرج، فإما خلافة وإما ملك عضود. فالخلافة نيابة عن النبوة في عموم مصالح المسلمين، وتوقف بنهاية الخليفة الرابع، وبعدها تتحول إلى ملك عضود؛ لذلك كان للخلفاء الأربعة الفضل على باقي الصحابة لرعايتهم مصالح المسلمين وتدبير شئونهم؛ فالملوك والأمراء يضرون بالرعية ولا يرعون إلا مصالحهم الخاصة، لم يأتوا ببيعة من الأمة، بل وراثة وملكا.
29
وإذا ما تم حساب الواقع بالسنين، مدة الخلفاء الأربعة لقاربت على الثلاثين سنة بالشهر وباليوم، سنتان وثلاثة أشهر وعشرة أيام، والثاني: عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام، والثالث: إحدى عشرة سنة وعشرة شهور وتسعة أيام، والرابع: أربع سنوات وتسعة أشهر وسبعة أيام. فيكون المجموعة تسعة وعشرين عاما وخمسة أشهر وأربعة أيام.
30
ولما لم تكتمل المدة ثلاثين سنة تماما، كان لزاما إضافة أحد الأئمة من أولاد الخليفة الرابع الذي انتهى ببيعة الإمام الجائر، أو أحد الخلفاء الآخرين المشهود له بالحق والعدل، وبأنه أعاد سيرة الخلفاء الراشدين! والإشكال الأعظم في إدانة التاريخ مما يسبب حرجا لمبرري الأنظمة السياسية الذين يريدون إلحاقها بالنبوة والخليفة انتسابا إلى الرسول، أو استمرارا للخلفاء الراشدين؛ فيخفف القطع إلى الاحتمال، أو يخفف كمال الخلافة بخلافة ناقصة، ولكنها ليست الملك العضود! وبهذا التبرير يستطيع ملوك اليوم وأمراؤهم إيجاد نسب لهم بالنبي أو صلة لهم بالخلفاء الراشدين. إن الأمر كله لا يعدو مجرد تعويض نفسي عن هزائم العصر ومقارنتها بانتصارات الماضي. ولما كانت إمكانيات العمل في الحاضر مستغلقة تم الانفتاح على الماضي، وظهر هذا التصور المنهار للتاريخ المتساقط المتهاوي المغمور تدريجا أو انكسارا. والحقيقة أن لكل عصر روحا، ولكل نظام سياسي أسسا، ولا توجد روح لكل العصور ولا نظام لكل الأزمان. لو كان المقياس في التفضيل هو الصحبة، فإنه يمكن للمعاصر اليوم أن يكون من رفاق الرسول وصحبه شعوريا بتمثل قيمته وأخذ سلوكه قدوة. وقد يكون التابعي أفضل من الصحابي، وقد يكون تابع التابعي أفضل من التابعي، وقد يكون إيمان مسلم اليوم أقوى وأعمق من إيمان مسلم الأمس. وهل يقل الشهيد في الأرض المغتصبة اليوم الذي يفجر نفسه مع المتفجرات في حصون العدو عن إيمان المسلمين الأوائل؟ وماذا عن جندي اليوم الذي يقف أمام الإمام الجائر ببندقية ينهي بها حكم الخيانة ونظام العمالة والتبعية، ويحمي شرف أمة، ويزيح عار جيل بأكمله؟ وما ذنب الأواخر أنهم لم يولدوا في زمن الأوائل، والميلاد عرض تاريخي لا يدخل في نطاق حرية الإرادة، وبالتالي يكون خارج الاستحقاق؟ تقوم الإمامة في التاريخ إذن على نظرية في التدهور. في البداية كان الكمال والوحدة والفضيلة، وفي النهاية كان النقص والتجزئة والرذيلة. وإذا كانت رؤية النبوة هكذا، فهل هي نبوة أم معرفة بقوانين التاريخ والتطور؟ إذا كان النبي مجرد مبلغ للوحي وليس منبئا بالمستقبل، فإن تحول الخلافة إلى ملك عضود يكون أقرب إلى استقراء الحوادث وسبر التاريخ ومعرفة قوانينه. فكل ثورة تتحول إلى ثورة مضادة، وكل نظام جديد ينتهي وينكسر بمخلفات النظام القديم. إن التفضيل على هذا النحو المنهار إنما يقضي على تعددية النماذج؛ فكل صحابي نموذج في السلوك ورؤية في العمل لا فضل لإحداها على الأخرى. قد يوجد نموذج يعطي الأولوية للمثال على الواقع، وللمبدأ على الحالة الخاصة، وهو نموذج صالح في بعض الأوقات والظروف التاريخية. وقد يوجد نموذج آخر عكسي يعطي الأولوية للواقع على المثال، وللحالة الخاصة على المبدأ، ويكون صالحا أيضا في ظروف تاريخية أخرى؛ فكلاهما صحيح نظرا، وكلاهما يطبقان عمليا في لحظتين تاريخيتين مختلفتين. أما التفضيل بمعنى المراتب واختلافهما بين الأعلى والأدنى أو بين السابق واللاحق، بين السلف والخلف، فإنما يقوم على التصور الهرمي للعالم الذي نتج عن الإشراق، والذي صبت فيه الأشعرية المزدوجة بالتصوف وعلوم الحكمة. إن الأفضلية لا تكون بين فرد وفرد أو أمير وأمير، بل بين نظام ونظام بمقدار ما يحققه كل نظام من رعاية لمصالح الناس وحفاظ على وحدة الأمة؛ لذلك ظهرت تصورات أخرى للتاريخ تضع الأفراد على المستوى نفسه إبقاء على التعددية، أو تصور آخر عكسي يجعل الخلف أفضل من السلف، والقرن المتأخر أفضل من القرن المتقدم؛ فوراءهم تراث طويل وتجارب سابقة، وأمامهم رصيد ضخم من التجارب البشرية وخبرات الأجيال.
31
ولكن هذه التصورات البديلة المتعددة النماذج أو الارتقائية الاتجاه لم تستقر في وعينا القومي لأنها لم تكن التصور الغالب في الذات؛ لأنه كان تصور المعارضة في حين كان التراث تراث سلطة. ولم يستقر هذا التصور الارتقائي إلا في أحد جوانب الوعي في الأمم المجاورة على نحو أسطوري عن طريق انتظار الإمام الغائب الذي سيكون بيده سبيل الخلاص. (2-5) هل هناك تفضيل بين العلماء؟
وإذا كان العلماء ورثة الأنبياء، كما أن الخلفاء نيابة عنهم في مصالح الأمة، وقع تفضيل أيضا بين العلماء. فهل يأتي العلماء بعد الرسل باعتبار أنهم ورثة الأنبياء، أم بعد الخلفاء الأربعة، أم بعد المبشرين بالجنة، أم بعد أهل بدر أو أحد أو بيعة الرضوان؟ وأي علماء أفضل، علماء الأول أم الثاني أم الثالث أم علماء الأمة إلى يوم الدين؟ وأي علماء وفي أي علم؛ العلوم النقلية أم العلوم العقلية أم العلوم النقلية العقلية؟ وهل أفضل في درجة العلم أم في فضائل أخرى تزخر بها مصنفات العلم والعلماء؟ وما هو موقفهم؛ التقليد أم التجديد، التبعية أم الاستقلال، الترديد أم إعادة البناء، التكرار أم الخلق والإبداع؟
32
وهل يمكن رصد كل العلماء حتى يوم الدين حتى يكون الحكم بالفضل جامعا مانعا شاملا صادقا، وإلا كان مبتسرا على علماء قرن أو قرنين؟ في كل الأحوال تنتهي الإمامة بأحكام العلماء والأئمة؛ أي في الإمامة العلمية لا السياسية. قد يغلب أحيانا أئمة الفقه، تصنيف دقيق للعلم والعلماء، ولكن يكشف عن ازدواج الأشعرية بالتصوف، وارتباط الفقه بالحديث، وظهور علوم النحو والبلاغة؛ وبالتالي مزج العلوم النقلية مثل الفقه والحديث بالعلوم النقلية العقلية مثل الكلام والتصوف، وظهور بعض العلوم الإنسانية كالنحو والبلاغة. لا تذكر علوم القرآن والتفسير والسيرة ضمن العلوم النقلية، ولا تذكر أيضا علوم الجغرافيا والتاريخ ضمن العلوم الإنسانية. أما العلوم العقلية الخالصة الرياضية والطبية فتختفي تماما؛ ربما لأن بعض هذه العلوم لم يكن قد ظهر أو انتظم بعد، وربما لأن العلوم المذكورة أقرب إلى العلوم النقلية في مجموعها من العلوم العقلية. ويذكر ترتيب السلطة، ويختفي علماء الفرقة الضالة، أي تراث المعارضة، ويضرب حوله مؤامرة الضعف والنسيان.
33
وفي عرض كل عام تظهر غايتان؛ الأولى: تاريخية؛ أي ترتيب العلماء طبقا للطبقات والعصور، فهذا أولهم من المتكلمين، وهذا أولهم من الفقهاء وأئمة الحديث. وهو تاريخ مذاهب ؛ أي من وجهة نظر الفرقة الناجية وحدها فرقة السلطة في مقابل الفرقة الضالة، وهي فرق المعارضة بكل صنوفها، العلنية منها والسرية، الداخلية منها والخارجية. وتذكر أسماء العلماء وعناوين مصنفاتهم. والغاية الثانية: مذهبية عقائدية لنقد عقائد الفرق المخالفة وتفنيد مذاهبها، وكلها أحكام قيمة من وجهة نظر السلطة القائمة التي تعتبر نفسها الفرقة الناجية؛ فيستعمل سلاح الألقاب، فالمعارضة إما قدرية تنكر القدر، أو خارجية تخرج على الإمام، أو غلاة روافض تتطرف وترفض. وتذكر أقوالها بلفظ «زعم» أو «ادعى»، في حين أن الفرقة الناجية أهل السنة والاستقامة أو أهل الحق أو أصحاب الحديث أو الجمهور؛ أي الغالبية في مقابل الأقلية. كما تذكر أسماء المصنفات في الرد على الفرق المخالفة، والفتاوى من فقهاء السلطان بتحليل دمائهم! وينتزع منها أية شرعية في العقائد، وينكر عليها انتسابها إلى الإمام الرابع أو إلى الصحابة حتى تبدو خارجية أو هامشية أو دخيلة أو منحرفة. والغاية من هذا التاريخ كله هو تشويه الخصوم السياسيين حتى يسهل بعد ذلك عزلهم عن الناس، والتخفيف من آثارهم على الحياة العامة باستعمال سلاح التكفير والتضليل. والاعتماد على آراء الفقهاء وأئمة الحديث وسلطتهم في نقد الخصوم من المتكلمين يهدف أساسا إلى العامة الذين في تصورهم أن الفقهاء على حق والمتكلمين على باطل؛ فإذا ما تصدى الفقهاء المتكلمون من الفرقة الناجية إلى متكلمي الفرق الضالة فإن الحق يتصدى للباطل! كما يضم إلى الفقهاء بعض الصوفية والأدباء والشعراء لما لهم من ثقة عند الناس؛ وبالتالي يشتد الحصار حول الخصوم العقلانيين العنيدين صعبي الفهم والكلام. وإن حددت المناظرات في مجلس السلطان لتدل على استعمال السلطة لفقهائها ضد الخصوم، وأن السلطة السياسية هي الحكم الفصل في خصومات المتكلمين؛ فالعقائد تدور في اللعبة السياسية، والخلاف بين المذاهب إنما يدور حول كرسي الحكم، ويحرسه عسكر السلطان. ويبرز فقيه السلطان الأول ومؤسس مذهب السلطة وزعيم الفرقة الناجية على أنه هو الحق والسلطة والدين، وأن الأمة كلها تابعة له، وأن كل من دونه خارج عليه. وتلاميذه هم القضاة الذين يفصلون بين الحق والباطل، ويحكمون في منازعات الخصوم. وما داموا قد حكموا بتضليل الفرق المخالفة، فإنهم لا يخطئون. وإذا كانوا يحكمون في المناطق النائية حتى الحدود والثغور، فالأولى أن تؤخذ أحكامهم في المناطق القريبة وفي المدائن في قلب البلاد. وإذا كان من تلاميذه كبار المفسرين والمؤرخين، فالأولى بالتتلمذ عليه والسماع إليه عامة الناس.
34
ومن ترتيب أئمة الفقه يظهر مجموع الفقهاء على عقائد الفرقة الناجية، فرقة السلطة، ابتداء من العشرة المبشرين بالجنة والفقهاء الأربعة الذين أجمعوا جميعا على رأي السلطة؛ فالعشرة لهم الآخرة، والأربعة لهم الحكم في الدنيا؛ وبالتالي تكون عقائد السلطة قد فازت بالدنيا والآخرة في آن واحد. وإذا حدث خلاف بين الأربعة اختلفت الأمة، وإذا حدث اتفاق بينهم اتفقت الأمة. وما دامت الأمة قد أجمعت على عقائد الفرقة الناجية وتكفير الفرق الضالة، فعلى هذا النحو تكون الأمة. فإذا ما حدث خلاف بين الفقهاء فإنه لا يكون في أصول الكلام، بل في فروع الفقه؛ وبالتالي لا يحدث خرق للإجماع على عقائد الفرقة الناجية. فإذا ما حدث خلاف في أصول العقائد، فإنه لا يحدث في العقليات، بل في السمعيات، مثل الإيمان هل هو مجرد إقرار ومعرفة أم يصحبه تصديق وعمل، أو في موضوع من العقليات يتم التفويض فيه والتسليم بعجز العقل عن معرفة كنه الأشياء. وقد انتصر الفقهاء لعقيدة الفرقة الناجية، وأبطلوا قول الخصوم في الاستطاعة وخلق الأفعال حتى يتم استسلام الناس لقوى خارجية عنهم يصعب بعد ذلك معرفة أيها من الله وأيها من السلطان. وأكبر الخصوم مراسا هي المعارضة العقلية العلنية الداخلية التي تتطلب المواجهة بالحجة علنا وأمام الناس؛ فالإجماع مع الفرقة الناجية، والتفرق والخروج والاختلاف مع الفرق الضالة. وإن حكم أئمة الفقه، وهم الأصحاب، في أهل الأهواء هو عدم جواز الصلاة خلفهم ورد شهادتهم لأنهم زنادقة!
35
وفي ترتيب أئمة الحديث والإسناد يظهر علماء الفرقة الناجية على أنهم حملة العلم ونقلة الرواية، فيوثق بهم على أساس أنهم ورثة الأنبياء. وهم أصحاب التصانيف والتآليف في الرد على أهل الأهواء، وهم أهل الجرح والتعديل والثقات العدول؛ وبالتالي تقبل شهادتهم، ويتم التسليم بأحكامهم ضد المدلسين الضعفاء، أهل الأهواء.
36
أما ترتيب أئمة التصوف والإشارة، فهم في مجملهم ما يزيد على الألف، وليس من بينهم أهل الأهواء إلا ثلاثة؛ حلولي واتحادي، وهو ما لا تقبله العامة، ومعتزلي طرده الصوفية من بينهم كما يطرد الطيب الخبث! ولما كان الصوفية أئمة العامة والمسيطرين عليهم في الطرقات والزوايا، فإن كلامهم مسموع ورأيهم صائب. وهم أهل التصوف والإشارة الذين يفهمون ما لا يفهمه غيرهم؛ وبالتالي كانت الثقة بهم أعظم لعلومهم الدينية التي لا يجوز الاعتراض عليها.
37
أما ترتيب أئمة النحو واللغة، فهم أولا جميعا من الفرقة الناجية، ولا أحد منهم من الفرق الضالة، وكل تصانيفهم في الهجوم على المعارضة العقلية العلنية الداخلية. وإن كل من يجالسها أو يخالطها أو يصادقها أو يتأثر بها فهو مذموم مكروه مثلها، تهمة يجب الدفاع عنها. وأهل اللغة والأدب مثل الصوفية قريبون من العامة؛ فأذواق العامة في اللغة والأدب لا تقل عن أذواقها الصوفية؛ وبالتالي يمثل علماء اللغة والنحو سلطة أدبية يمكن بعدها الثقة بهم، وتصديق أحكامهم على أهل الأهواء.
38
وبالإضافة إلى هذا كله فإن كل أهل الثغور، أي حدود الأمة وأطرافها حيث تجب الحماية للداخل والصد للأعداء في الخارج، كلهم من عقائد الفرقة الناجية، وليس فيها من عقائد أهل الأهواء شيء؛ فحماية الأمة إذن تأتي من الفرقة الناجية، وخرابها يأتي من أهل الأهواء؛ وبالتالي كان جهاد أهل الثغور بالحجة والاستدلال ضد أهل الأهواء، وفي مقدمتهم القدرية، جزءا من الجهاد ضد الأعداء حماية للأمن وتحصينا لثغورها. الفرقة الناجية هم أهل الفكر والسلاح، والفرق الضالة هم أهل الهوى والخنوع! وهكذا يكتب التاريخ، ويفاضل بين العلماء، دفاعا عن السلطة ضد خصومها بعد أن لبست ثوب الفرقة الناجية، وألبست خصومها ثوب الفرق الهالكة.
39 (2-6) هل هناك تفضيل بين الأمم؟
وتنتهي مراتب التفضيل بالتفضيل بين الأمم واعتبار أمتنا أفضل الأمم،
40
ولكن السؤال: هل هي أفضل الأمم على الإطلاق، أم أنها كذلك مشروطة بشرط أو بشروط؟ فهي أفضل أمة لأن فيها تم اختتام الوحي وإنهاء مراحله المتتالية منذ خلق البشرية حتى الآن، فهي الأمة التي اكتملت فيها التجربة، ولديها رصيد الأمم الأخرى وتجاربها، هي نهاية تطور الوحي وخاتم النبوة؛ وبالتالي تمثل الوعي الإنساني المستقل القادر بعقله وبإرادته على أن يعتمد على نفسه دونما حاجة إلى عون خارجي في فهم الطبيعة أو في التأثير عليها؛ فهي أمة بلا وصاية ولا تبعية. هذا هو الشرط الأول. وهي خير أمة أخرجت للناس، ليس على الإطلاق، ولكن لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؛ أي إنها أمة قادرة على الرقابة، رقابة الشعب على الحكام، ورقابة المؤسسات الدستورية على الأجهزة التنفيذية، وتعلن عن ذلك على الملأ وفوق رءوس الأشهاد؛ فهي أمة حرة في التعبير عن الرأي والقول والعمل، لا تخشى في الله لومة لائم، لا تسكت عن الحق ولا ترضى بالظلم. وهذا هو الشرط الثاني. لم يفصل القدماء هذه المرتبة في التفضيل؛ لأن الأمم الأخرى كانت منضوية تحت الأمة الحضارية الجديدة، فلم تشعر بأهمية التفضيل قدر شعورها بالتفضيل مع الخصوم السياسيين. ومع ذلك يظل السؤال: إلى أي حد تستوفي الأمة حاليا هذين الشرطين، أم أنها الآن مغلوبة على أمرها تابعة وتحت الوصاية، وأن أمما أخرى غيرها استحقت هذه الشروط، وبالتالي تكون أفضل منها؟ (3) التوحيد بداية النهضة
إذا كان التفضيل بداية الانهيار، فإن التوحيد بداية النهضة؛ فبقدر ما توجد شواهد نقلية على سقوط الإمامة وانهيار الخلافة في التاريخ، توجد شواهد أخرى نقلية وعقلية وواقعية على تقدم التاريخ ونهضة الشعوب والاتجاه نحو المستقبل. وإن هذه الرؤية الأولى، الانهيار المستمر للتاريخ، إنما تولدت من شعور بالحزن والأسى على ما وقع في الأمة من فتنة وشقاق وتحول الخلافة إلى ملك، والإمامة إلى وراثة، وركون الناس إلى الدنيا، فكان من الطبيعي أن يخرج هذا التصور للتاريخ على أنه انهيار مستمر. وما أسهل بعد ذلك من وجود نصوص دينية بهذا المعنى حتى يحدث تطابق بين التجربة النفسية والنص الديني. ومع بدايات النهضة الحالية منذ حركات الإصلاح الديني الأخيرة، وحركات التحرر الوطني، ومحاولات التفكير في شروط النهضة، يبرز التوحيد من جديد مرتبطا بالنهضة كرؤية للتاريخ مخالفة للرؤية الأولى، التاريخ كتقدم واتجاه نحو المستقبل، وأنه في الإمكان أبدع مما كان، وأن هناك مجالا للسبق، فالسابقون السابقون، لمن شاء منا أن يتقدم أو يتأخر. (3-1) الإنسان والتاريخ
كشفت محاولة إعادة بناء علم أصول الدين عن وجود بعدين رئيسيين فيه، هما الإنسان والتاريخ، وهما البعدان الناقصان أيضا في وجداننا المعاصر. وقد يكون تغليفهما في علم التوحيد القديم هو السبب في اختفائهما من وجداننا المعاصر.
41
فإذا انقسم العلم إلى قسمين رئيسيين، العقليات والسمعيات، أو الإلهيات والنبوات، فإن القسم الأول هو في الحقيقة مبحث الإنسان؛ فالله هو الوعي الخالص، الذات، أي شعور الإنسان بوجوده، ليس له بداية في الزمان، ينشأ في الشعور ويبقى فيه طالما كان الشعور يقظا. لا يوجد في محل؛ فالشعور زمان لا مكان، ولا يشبهه شيء لأنه وعي خالص، وواجد تعبير عن وحدة الشعور. فإذا ما تعين هذا الوعي الخالص فإنه يتسم بصفات الوعي النظرية والعملية، النظرية مثل العلم الذي يأتي من السمع والبصر ويعبر عن نفسه بالكلام، والعملية مثل الإرادة والقدرة. وهذه الصفات النظرية والعملية إنما هي تعبير عن الحياة اليقظة. والوعي الخالص والوعي المتعين كلاهما يعبران عن الإنسان الكامل، الإنسان المثالي، ما يجب أن يكون عليه الإنسان، سواء كوعي خالص كذات أو كوعي متعين بالصفات. فإذا ما تحول الإنسان الكامل إلى الإنسان المتعين فإنه يظهر كحرية وعقل، والحرية سابقة على العقل لأنه بها يثبت وجوده ويستقل عن الإنسان الكامل، ثم يظهر العقل كأساس للحرية؛ إذ إن الحرية عاقلة. وتبدو حرية الإنسان المتعين في خلق الأفعال؛ أي إنه يكون صاحب أفعاله مسئولا عنها، سواء أفعال الشعور الداخلية أو أفعال الشعور الخارجية، أو أفعال البدن في الطبيعة أو أفعال الإنسان في المجتمع؛ فأفعال الشعور الداخلية من إدراك وعلم أفعال حرة، وأفعال الشعور الخارجية تقوم على الاستطاعة، وأفعال البدن في الطبيعة تجعل فعل الإنسان ممتدا ومنتشرا في العالم ومحدثا لمساره، ويصب خلق الأفعال في النهاية في أفعال الإنسان في المجتمع والتاريخ، حيث يكون مسئولا عن وضع أمة في لحظة معينة وعن مصيرها في التاريخ. ولما كانت الحرية عاقلة برز العقل أساسا للنقل، وأصبح العقل قادرا على إدراك حسن الأفعال وقبحها، وعلى إدراك الصلاح والأصلح وفهم الغائية في التاريخ. ولكن بسبب هذه الرؤية المنهارة للتاريخ لم يظهر الإنسان فيه، وتحول الإنسان الكامل إلى مجرد رمز وأمل ومشجب يتعلق به الإنسان المتهور بلا إرادة مستقلة وبلا عقل قادر. ولم يبق أمام الإنسان المقهور إلا التصوف والإشراق حتى يحدث التطابق بينه وبين نفسه هروبا من العالم، وتعويضا عن اغترابه فيه.
وقد كشفت السمعيات أو النبوات عن البعد الثاني وهو التاريخ، سواء التاريخ العام الممتد منذ البداية في النبوة وحتى النهاية في المعاد، أو التاريخ المتعين بفعل الإنسان الفردي أو بفعل الدولة كنظام سياسي؛ فالإنسان يصب في التاريخ، وكما أن الإنسان كامل ومتعين، فكذلك التاريخ عام ومتعين. والتاريخ العام هو تاريخ الوحي أو تاريخ الفكر، وتاريخ الفكر هو تاريخ الوعي أو الوعي التاريخي، تجارب البشر السابقة، حياة الشعوب، ونهضات الأمم وسقوطها. ويصعب الوعي التاريخي في الوعي الفردي، فيصبح الوعي الفردي وعيا تاريخيا، ويصبح الوعي الفردي مسئولا عن التاريخ ودافعا إياه نحو غايته ونهايته في المعاد. وطبقا لفعل الإنسان في التاريخ، وعيه بالماضي والتزامه بالحاضر، يتحدد مسار التاريخ في المستقبل. وطبقا لهذا التحدد يحدث المعاد كنهاية للفعل وإمكانيات التحقق. كما يتحدد مصير الإنسان فيه بالفناء أو البقاء، طبقا لفعله ووجوده في الحاضر بالعدم أو الوجود. يتعين التاريخ إذن بفعل الفرد الذي يقوم على النظر، والذي يتحول فيه النظر إلى تصديق بالوجدان. ويكون الفعل بالكلمة والإعلان كتعبير عن النظر والصدق، ويكون أيضا بأفعال الجوارح. ولما كان الفرد لا يعيش بمفرده، بل يعيش في جماعة، ظهر النظام السياسي كاكتمال لفعل الفرد، وأصبحت الدولة استمرارا لوجوده وتحقيقا لاختياره؛ فالفرد والدولة تعينان للتاريخ العام، أي إن العمل والسياسة تعينان للنبوة والمعاد. يكشف إذن علم التوحيد عن حضور الإنسان والتاريخ في شقيه العقليات والسمعيات أو الإلهيات والنبوات؛ وبالتالي تأخذ الأصول الخمسة معنى جديدا؛ فالتوحيد والعدل هما الوعي الخالص والوعي المتعين؛ أي الإنسان. والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي السمعيات؛ أي النبوة والإيمان والعمل والإمامة. والأصول الثلاثة تشير إلى التاريخ. وإذا كانت الأصول الخمسة هي أفضل الصياغات القديمة لعلم التوحيد، فإن الإنسان والتاريخ هما الأصلان المعاصران له، وهما في الوقت نفسه البعدان الناقصان في وجداننا المعاصر نتيجة للاغتراب القديم؛ وبالتالي يكون التحدي للعلماء وللساسة هو إيجاد الصلة بين هذين البعدين في علم التوحيد وفي وجداننا المعاصر حتى يعود العلم حيا في القلوب فيملؤها، كما يقضي على الفراغ النظري في الممارسة السياسية المعاصرة، وينتهي هذا الفصام القديم بين التوحيد والواقع، ويقضي في نفس الوقت على الاغتراب الديني لجيلنا بإيجاد الصلة بين التوحيد والثورة. (3-2) التوحيد والثورة
إذا كان الإنسان والتاريخ هما محورا علم أصول الدين، وكان الإنسان قابعا وراء الإلهيات (العقليات)، والتاريخ وراء النبوات (السمعيات)، كان «الله» و«الإمام» هما عصبا العلم. وإذا كان الله هو ركيزة الدين، والإمام هو ركيزة السياسة، أصبح الدين والسياسة هما محورا العلم كما تجلى ذلك في موضوعه الأول، الذات، وموضوعه الأخيرة، الإمامة، الله والسلطان، الدين والدولة، أو التوحيد والثورة، وهما الموضوعان الرئيسيان في العلم. قد يختلطان معا عند القدماء وعند المعاصرون، في الوعي التاريخي القديم وفي الوجدان الشعبي المعاصر، فيصبح الإله سلطانا، والسلطان إلها؛ ويسهل على السلطان التأله، كما يسهل على العامي اعتقاد الإله سلطانا؛ لذلك كان من الظواهر الإيجابية في علم التوحيد الالتزام السياسي؛ فقد ظهر العلم موجها للواقع ومتحدا به. وكما تظهر العلاقة بين التوحيد والإمامة من خلال الله والسلطان، تظهر أيضا من خلال الله والمعارضة؛ فليس إقرار النظام بأكثر اعتمادا على التوحيد من زعزعة النظم والثورة عليها. كان الدين هو أيديولوجية القدماء، وما زال يكون الرافد الأساسي في أيديولوجية الناس. وكما كانت الدعوة إلى الطاعة تتم باسم السلطان، كذلك كانت الثورة عليه تقوم باسم الله، بل إن الثورات المضادة كانت أيضا تقع باسم الله، وكذلك كانت المطامع الشخصية وحب القيادة والرغبة في السلطة كل ذلك تصفية للخصوم. وكانت الثورة سياسية واقتصادية واجتماعية في آن واحد، وما الثورة على السلطان إلا الشكل الخارجي لها.
42
فإذا كان التوحيد لا يتحقق إلا بالثورة، ولا يجد غايته إلا فيها، فإن تحقق الوعي الخالص في التاريخ لا يتم إلا بالفعل، بجهد الإنسان وعمل الجماعة، وكأن الفعل هو المحرك الأول لهذه العملية. وما ظنه القدماء أنه المحرك الأول هو في حقيقة الأمر فعل الإنسان في عملية تحقق الوعي الخالص في التاريخ، وما ظنه القدماء على أنه وجود يمكن إثباته في البداية بالبراهين العقلية هو في حقيقة الأمر عملية الإيجاد ذاتها من البداية إلى النهاية؛ فالوجود صيرورة أو عملية إيجاد، أو كما قال القدماء حال ينتقل فيه الوجود إلى عدم أو العدم إلى وجود. الفعل شرط الوجود عن طريق عملية الإيجاد التي لا تتم إلا من خلال الفعل. فإذا كان الله هو الوعي الخالص، فإنه لا يوجد إلا من خلال عملية الإيجاد من خلال الفعل وبنشاط الذات؛ فقد يوجد وقد لا يوجد طبقا لنشاط الذات، وبناء على القيام بعملية الإيجاد أو النكوص عنها. هو إذن أقرب إلى الإمكان منه إلى الوجوب أو الامتناع. وما دامت عملية الإيجاد مرتبطة بنشاط الذات، فإمكانية الوجود تكون فردية خالصة، توجد بالنسبة لمن يقوم بعملية الإيجاد ولا توجد بالنسبة إلى آخر لا يشارك في الإيجاد. الوجود إذن فردي محض بالنسبة للفرد وبالنسبة للوعي الخالص. الوجود إحالة متبادلة بينهما، بقدر ما يوجد الفرد يوجد الوعي الخالص، وبقدر ما يوجد الوعي الخالص في الفرد يزداد وجود الفرد ووعيه بعملية الإيجاد. وقد تستغرق عملية الإيجاد حياة الفرد كلها؛ إذ إن الوعي الخالص مشروع الفرد. الله إذن مشروع شخصي، وحياة الفرد تحقيق لهذا المشروع، ويتحقق المشروع بتحقيق الفرد لرسالته في العالم. ولما كان نشاط الفرد ممتدا إلى نشاط الجماعة ويصب فيه، فإن عملية الإيجاد تكون جماعية بقدر ما هي فردية. ولما كانت الجماعات تتوالى ويتراكم جهدها، كان مشروع الفرد والجماعة هو ذاته مشروع الإنسانية. باكتمال الوحي تكتمل الإنسانية، ويصبح مشروعها تحقيق الوحي كنظام مثالي للعالم، أو تحويل الأيديولوجية وهي الوحي إلى بناء للواقع. فإذا ما تم ذلك على مستوى النظر والإدراك تحول الوعي الخالص إلى تاريخ على مستوى العمل والسلوك. هذا التحقق في العالم ليس خروجا عنه كما هو الحال في علوم التصوف، بل هو داخل فيه، وقائم على التزام الإنسان بقضايا العالم وليس بتخليه عنها إنقاذا لذاته، وهو يظن أنه قد أنقذ العالم معه؛ ومن ثم هناك خلاف جذري بين عملية التوحيد كإيجاد وحدة الوجود الصوفية بالرغم من أن كليهما حول التوحيد إلى عملية. فوحدة الوجود وحدة نظرية خالصة وليست وحدة عملية؛ إذ لا يتحقق الوحي فيها كنظام مثالي للعالم، ولا يتغير الواقع، بل يظل كما هو عليه. لا تعني وحدة نظرية هنا أنها وحدة عقلية، بل تعني أنها وحدة بلا عالم، وحدة صورية بلا مضمون، مجرد افتراض نظري دون أن تتحقق بالفعل. هي وحدة خالية من أي مضمون اجتماعي، وحدة ميتافيزيقية خالصة، وكأن التوحيد بين الله والعالم هدف في ذاته، في حين أن عملية الإيجاد وحدة عملية تتم بالفعل بين الوحي والعالم، لها مضمون اجتماعي أساسا، وسيلة لتحقيق غاية هي تغيير نظام العالم إلى كمال له، وتحقيق مثال الوحي فيه. وحدة الوجود عملية وهمية من صنع الخيال، وليست عملية واعية تقوم على تحليل الواقع وعلى تنظير القضايا. وحدة الوجود لا تتم إلا في نفس الصوفي، ولا تنقذ إلا إياه، وكأنها وحدة تقوم على أنانية خالصة، ينقذ الصوفي نفسه ويترك العالم، في حين أن عملية التوحيد هي أساسا غيرية تقوم على التضحية بالذات في سبيل خلاص العالم. وحدة الوجود تنتهي بالقضاء على الفردية وإلغاء الشخصية، والغوص في عالم واحد يفقد فيه الإنسان ذاتيته، في حين أن عملية الاتحاد قائمة في البداية على إثبات الذاتية في البداية دون التخلي عنها في النهاية؛ فالشهادة أقوى إثبات لها بتحويل الموت إلى خلود. وحدة الوجود وحدة فردية خالصة لا تتم إلا في نفس الصوفي دون الجماعة أو الحزب أو الجماهير أو التاريخ. والحلقة الصوفية أو الطريقة جماعة محدودة مهمتها عملية محضة في بداية الطريق، ولكن في النهاية تظل فردية خالصة، في حين أن عملية الإيجاد وحدة فردية وجماعية تتم في الفرد وفي الجماعة، في الإنسان وفي الأمة. وحدة الوجود لو تمت كعملية فإنها تتم في الماضي وفي تاريخ النبوة، وتتحقق بالفعل بانتهاء النبوة، ولا تترك للمستقبل شيئا، في حين أن عملية الإيجاد تهدف أساسا إلى المستقبل، وتتحقق إلى الأمام في العالم. تتم وحدة الوجود بتدخل إرادة خارجية تفعل وتنفذ، تختار وتشاء. وشرط ذلك إسقاط التدبير وإلغاء الفرد لحريته وإرادته، في حين أن عملية الإيجاد عملية حرة خالصة، يخلق الإنسان بها ذاته، ويحقق بها مشروعه بفعله الحر. وإذا بدت وحدة الوجود وكأنها عملية تتم لصالح الله وليس لصالح البشر؛ لأنه أحق بالوحدة والاتحاد معه من غيره، فإن عملية الإيجاد تتم لصالح البشر، فهو أحوج إلى الوحدة والتوحيد من غيره.
43 (3-3) الحزب الثوري
إذا كان الوحي كنظام مثالي للعالم يتم من خلال الفرد، وكان العمل الفردي ينفتح على العمل الجماعي ويتحد به، فإن تنظيم العمل الجماعي الأمثل يتم في الحزب. ولما كان التوحيد ثوريا، فإن التوحيد لا يتحقق إلا بالحزب الثوري. الحزب هو الصورة المثلى لتحقيق المشروع والتعبير عن النشاط، والانتساب إلى حزب هو أول خطوة لتحويل النظر إلى عمل. الحزب هو التعبير عن الحياة في أعلى صورها، وهو النشاط المحقق للمشروع. الحزب هو لب مسألة التوحيد، والحل لانفصام التوحيد عن العدل، والإنسان عن التاريخ. هو الذي يحقق الكلمة على الأرض، ويثبت وجودها بالفعل، لا بالبراهين العقلية والأدلة النظرية. الحزب هو الذي يحول الوحي إلى نظام مثالي للعالم، هو المحقق للمطلق في التاريخ. والحزب هو عصب الدولة، وعماد النظام السياسي. الحزب خليفة شعب الله المختار الذي أدى دوره من قبل في إتمام الوحي في صورته النهائية، وفي تربية الشعور الإنساني حتى أصبح شعورا فرديا مستقلا عن الجماعة، يتمتع بحرية كاملة في النظر والعمل. لا يتحقق التوحيد كنظام مثالي في العالم عن طريق إنشاء حكم إلهي في دولة وضعية، بل بإعلاء نظام العالم تدريجيا حتى يتحد مع نظام الوحي؛ أي بتطوير الدولة القائمة وجعلها أكثر قربا من نظام الوحي. يظل الوحي من جانب المعارضة والرقابة في الدولة في مواجهة السلطة الفعلية. وإقامة الدولة الإسلامية لا تأتي مرة واحدة، بل تقوى أقرب الدول إليها دون القضاء على الكل من أجل إقامة المثل الأعلى من البداية إلى النهاية طبقا لجدل الكل أو لا شيء.
44
والحزب هو اتفاق الجماعة واجتماعها على هدف مشترك، وليس مجرد ائتلاف لجماعات متضاربة الأهداف مختلفة المشارب متنافرة الغايات، يمثل مصلحة الناس لا مصلحة طبقة أو فئة، ويلتحم الحزب بجماهيره لأنه ليس طبقة تعلو عليها أو تتكسب على حسابها، بل هو المعبر عن إرادتها، والموجه لعملها السياسي، والمحقق لأغراضها، والقائد لنضالها، والموحد لجهودها، والمنظر لسلوكها. مهمة الحزب التوجيه والمعارضة أكثر من التنفيذ والتبعية؛ لأنه سلطة معنوية لا سلطة تنفيذية. ويقوم بدور التوعية للجماهير قبل أن يبدأ الممارسة الفعلية بعملية التغيير حتى يمكنه أن يكسبها في صفوفه. وتعني التوعية تغيير البناء النفسي للجماهير، وهو شرط لثورتها على الواقع. ويعتمد الحزب أساسا على الشباب الذي يضفي عليه جدته وخلقه وإبداعه وحركته ونماءه. فكثيرا ما يثقل الفكر والممارسة بطول العمر. ويقوم تربية الأفراد تربية للكوادر التي تتم من خلال الممارسة داخل الجماعة، الحزب. لا تعارض إذن بين البداية بتربية الفرد أو تربية الجماعة. تربية الأفراد تربية للكوادر التي تتم من خلال الممارسة داخل الجماعة، وتغيير الجماعة لا يتم إلا بعمل الكوادر من خلالها. ودور الحزب الأساسي بعد التكوين قيادة الكفاح المسلح؛ فالكفاح المسلح ليس فقط جزءا من البناء الأيديولوجي، بل هو واقع العصر، عصر التحرر من الاستعمار والإقطاع.
45
ولفظ «الحزب» وإن كان غريبا على روحنا المعاصرة بعد أن شوهته الأحزاب التقليدية والحديثة، أو بعد أن غاب تماما من وجداننا المعاصر نظرا لقيام السلطة بدوره، فإنه تصور إيجابي عن احتياج الجماهير. وهو لفظ مألوف في تراثنا القديم بمعنى فرقة، وهو مذكور في الوحي مرة بالجمع مما يوحي بتعدد الأحزاب، ومرة مثنى مما يوحي بنظام الحزبين، ومرة مفردا مما يوحي بنظام الحزب الواحد؛
46
فتعدد الأحزاب الذي يقوم على التشتت والاختلاف والتضارب يؤدي بالجماعة إلى التفتت والانهيار، وإلى التناحر والشقاق؛ مما يؤدي إلى الانهيار التام للجماعة وضياع وحدتها وقوتها.
47
وينتهي تعدد الأحزاب إلى تفتتها إلى عدة أحزاب، كل منها قائم بذاته، لا يجمعها جامع.
48
ولا يعني تعدد الأحزاب بالضرورة اختلافات فكرية وتعددا في المناهج وتباينا في الأطر النظرية، بل قد تكون متعددة وكلها مجتمعة على الباطل، وكلها يبغي الاستغلال والسيطرة، ويكون الخلاف فقط في قسمة الغنائم والصراع على السلطة. ونظام الحزبين بالضرورة يجعل أحدها ناصرا للحق أكثر من الآخر؛ لأن الحق لا يختلف عليه اثنان.
49
وأما الحزب الواحد فهو الحزب الحق المعبر عن الفكر، والمدافع عن مصلحة الجماهير، والحريص عليها، في مقابل حزب مضاد لا يمثل مصلحة الجماهير ولا يعبر عنها.
50
يصب التوحيد إذن في معترك السياسة، وتنتهي الوحدة الأولى إلى التفرق والتحزب، ويظهر التوحيد في الصراع السياسي بين الشرعية واللاشرعية. وهنا تبدأ مرحلة أخرى لكتابة التاريخ، تاريخ الانتقال من الوحدة إلى الفرقة، ومن الفرقة الناجية إلى الفرق الضالة. وهو في حقيقة الأمر الصراع بين السلطة والمعارضة، بين الدولة والخصوم، بين السلطان والخارجين عليه. ولما كان السلطان بعد انهيار التاريخ قد اغتصب البيعة، قامت المعارضة لإعادتها عقدا واختيارا. كانت المعارضة الأولى إذن مجرد محاولة لاسترداد الشرعية، ولولا تفتتها وانقسامها وتشرذمها وصراعها فيما بينها على السلطة لأمكن توحيدها والقضاء على السلطة الباغية. ومحاولة للسلطة للدفاع عن نفسها شهرت سلاح التكفير ضد الخصوم، وتوحدت بالفرقة الناجية، واتهمت خصومها بالكفر والضلال.
51
خاتمة: من الفرقة العقائدية إلى الوحدة الوطنية
بعد انهيار الإمامة في التاريخ، وانحدار التاريخ تدريجيا من جيل إلى جيل، وتحول الخلافة إلى ملك عضود، وتناقص الفضل في الأئمة، والابتعاد عن عصر النبوة، وترتيب العلماء في طبقات من الصحابة إلى التابعين إلى تابعي التابعين، يكتب تاريخ علم أصول الدين من هذا المنظور في «تذييل للإمامة» كخاتمة لها أو كأصل مستقل عنها. وإذا كانت الإمامة في التاريخ تسير في خط هابط، من الكمال إلى النقص، ومن الحق إلى الباطل، ومن النجاة إلى الضلال، ومن الوحدة إلى التفرقة، فإن الماضي يحتوي على الحق والصدق أكثر مما يحتويه الحاضر أو المستقبل. ولا يمكن بلوغ هذه الفترة الأولى لأنها فريدة في التاريخ لا تتكرر، والزمان لا يرجع إلى الوراء؛ ومن ثم كان الانهيار يعبر عن ضرورة تاريخية لا مهرب منها ولا مفر. وينتهي ذلك إلى رفض الحاضر والإقلال من شأنه، بل ومعاداته واليأس منه ورفض تطويره، ثم العيش بالوجدان في عصر ذهبي ماض لا يمكن العودة إليه إلا بالخيال؛ فينتهي الأمر إلى انفصام في الشخصية الوطنية بين واقع مزر، وماض مزدهر، ومستقبل ينازعه الانهيار المستمر أو العودة به إلى الماضي، وكلاهما مستحيل. ينتهي الأمر كله إلى وقوع في ثنائية الحق والباطل، الإسلام والجاهلية؛ مما ينتج عنه التغيير إما بالجمعيات السرية أو الاغتيالات السياسية، أو بتدبير الانقلابات حتى يمكن أن تتحقق العودة إلى الماضي واللحاق بالعصر الذهبي اعتمادا على أنه لا يصلح هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
1
ولما كان علم أصول الدين قد دون بطريقتين؛ إما كعلم للعقائد، وهي الطريقة التي كتب بها هذا المصنف «من العقيدة إلى الثورة»؛ أو كتاريخ للفرق؛ فقد تحول تاريخ الفرق ابتداء من القرن الرابع إلى موضوع في علم العقائد كتذييل للإمامة أو كملحق لها، كدليل على الانهيار في سورة التشرذم والتفرق والتبعثر، والقضاء على الوحدة الأولى التي كانت في العصر الأول، عصر النبوة والخلافة، قبل أن تتحول الخلافة إلى ملك وإمارة؛ لذلك قد يأتي التذييل التاريخي بعد الإمامة في باب «اللطائف» والطبيعيات لبيان نشوء التفرقة عن وحدة الفكر الأولى.
2
وقد يتحول هذا التاريخ إلى إدانة؛ إذ تصدر الفرقة الناجية أحكاما بالكفر على الفرق الضالة الهالكة؛ مما يستبعدها من الجماعة ويحاصرها فيها. فالحكم بالكفر العقائدي إنما يترتب عليه تحديد العلاقات الاجتماعية بالقطيعة بين الفرق الضالة وسائر الأمة. وعلى هذا النحو يصبح تاريخ الفرق جزءا من نسق العقائد كملحق للإمامة، كما أن الإمامة كلها ملحق للتوحيد، وكأن السياسة والتاريخ ملحقان للعقائد ولا يدخلان في جوهرها؛ وبالتالي يمكن استرداد تاريخ الفرق، وهي الطريقة الثانية التي كتبت بها العقائد داخل علم العقائد، الطريقة الأولى؛ وبالتالي يتحول التاريخ إلى بنية، والتطور إلى نسق، وتكتمل مادة العلم بشقيها في بنية واحدة.
3
تاريخ الفرق إذن أحد الموضوعات في نسق العقائد، وهو مسألة الفكر في التاريخ أو تاريخ العقائد أو عقائد التاريخ. ونظرا لأهمية مسار الوحي في التاريخ فقد أتت به إحدى الحركات الإصلاحية الحديثة في البداية، وليس في النهاية كتذييل أو كملحق للإمامة؛ وبالتالي يكون أدخل في نظرية العلم في المقدمات الأولى أو بديلا عنها. فبدلا من نظرية العلم يؤرخ العلم لذاته، وكيف انتقل التوحيد من وحدة العقيدة إلى فرقة المذهب، وبداية ظهور البدع والمؤامرات في التاريخ، وانقسام الأمة إلى طوائف، وغلو طرفين منها وتوسط طرف ثالث، وبداية الاشتغال بالعلوم بناء على وحدة الدين والعقل، وكأن هذا المسار سنة كونية تكشف عن حكمة إلهية، ثم تعود من جديد في آخر مبحث النبوة في الحديث عن الإسلام كنظام آخر وكمرحلة من مراحل النبوة، ثم انتشار الإسلام في التاريخ؛ مما يدل على ارتباط النبوة بالتاريخ وبالتحقق فيه، بالرغم من ظهور بعض الموضوعات الأخرى مثل أخبار الآحاد والرؤية، والأول يتعلق بنظرية العلم، والثاني بالذات والصفات. يظهر التاريخ إذن في نهاية علم التوحيد ابتداء من النبوة والخلافة والإمامة؛ فالنبوة حركة التاريخ، والخلافة الأولى مثله ونمطه الأول، والإمامة استمراره وبقاؤه. أما الفرق فهي ضياع للتاريخ.
4
وقد قامت مصنفات تاريخ الفرق أيضا على التاريخ الموجه بحديث الفرقة الناجية، وهو ليس تاريخا موضوعيا للفرق، بل تاريخ ذاتي خالص من وجهة نظر الفرقة الناجية ومؤرخيها وعقائدها لاتهام الآخرين وتنجية النفس تحت ستار بيان وحدة الأمة الأولى، وضياعها وتشتتها وانتقالها من الوحدة إلى الفرقة؛ مما يوحي بضرورة العودة من الفرقة إلى الوحدة من جديد. ويتم التاريخ الموجه بطريقتين؛ الأولى: محايدة دون نقد، مع أن مجرد تصنيف الفرق إلى غلاة ومتوسطة يتضمن نقدا مبطنا واتهاما غير مباشر، بل إن مجرد تصنيف الفرق هو إحدى وسائل عرضها من وجهة نظر الفرقة الناجية. والثانية: ناقدة على أساس عقائد الفرقة الناجية، وذلك من أجل إرجاع الفرقة إلى الوحدة، والشتات إلى الجمع، حفاظا على وحدة الأمة المتمثلة في وحدة العقيدة.
5
وكما كان التفضيل بين الأمم من مستويات التفضيل، فقد ظهرت حضارات الأمم أيضا ضمن تاريخ الفرق، ابتداء من الحضارة الإسلامية كلها بما في ذلك علوم الأصول وعلوم الفروع؛ إذ تؤرخ بعض المصنفات في تاريخ الفرق لبعض العلوم الإسلامية الأخرى وليس لعلم الكلام وحده، فيضم علماء الكلام في أهل الأصول المختلفة في التوحيد والعدل والوعد والوعيد، وعلماء أصول الفقه في أهل الفروع المختلفين في الأحكام الشرعية والمسائل الاجتهادية؛ وبالتالي يدخل علم الكلام في إطار باقي العلوم، ومنها العلوم النقلية.
6
فإذا ما حدث تكفير عقائدي في علم الكلام، أي في علم الأصول، فإنه ينتج عنه تكفير شرعي في علم الفقه، أي في علم الفروع. وقد يوضع علم العقائد في إطار أعم من العلوم النقلية داخل الحضارة الإسلامية؛ في إطار علم تاريخ الأديان، إما مباشرة أو عن طريق غير مباشر؛ مباشرة عندما تخصص أجزاء مستقلة للملل والنحل، أو بطريق غير مباشر عندما يضم إلى الكلام في بعض موضوعاته - خاصة العقليات - بعض المقارنات مع أنساق العقائد الأخرى مع نقدها، مثل: رفض أن الله جوهر، ونقد التثليث في إثبات أن الله واحد، ونقد الاتحاد والحلول في إثبات التنزيه، ونقد النصوص الدينية في معرض إثبات مناهج النقل وعلى رأسها التواتر، ونقد اليهودية في معرض إثبات النسخ ونفي اليهود له. كما تم نقد جميع المذاهب الثنوية من مرقونية وديصانية ومجوسية في إثبات وحدانية الله.
7
ثم يوضع علم العقائد في دائرة الحضارات. فكما ورث علم العقائد الإسلامية علوم العقائد الأخرى من الديانات المجاورة، كذلك ورثت الحضارة الإسلامية تاريخ الحضارات القديمة لتؤرخ مذاهبها وفرقها. وهنا يدخل تاريخ الحضارة البشرية كله في علم الكلام في أجزاء مستقلة عنه، وفي مقدمتها الحضارتان اليونانية والرومانية، أزهى حضارتين قديمتين.
8
قد توضع المقالات غير الإسلامية خارج مصنفات علم التوحيد؛ حتى يظل علم التوحيد نسقا إسلاميا خالصا دون تحوله شيئا فشيئا، ومن دائرة إلى دائرة، إلى معادل للحضارة الإسلامية، أو صورة للحضارات البشرية كلها.
9
أولا: مقدمة: هل يجوز تكفير الفرق؟
يعتمد تكفير الفرق على حديث «الفرقة الناجية»،
1
سواء تم عرضها على نحو موضوعي محايد أو على نحو ناقد مفند؛ ففي كلتا الحالتين يتم حصر الفرق وجمعها وتصنيفها وتكفيرها طبقا لهذا الحديث. وهو حديث مشكوك في صحته، وليس متواترا، والتواتر هو شرط اليقين في الأدلة السمعية، والاتفاق مع الحس والعقل أحد شروط التواتر. وهل يعقل أن تكون اجتهادات الأمة كلها ضلالا؟ ألا يعارض ذلك القواعد الأصولية من أن للمخطئ أجرا وللمصيب أجران، ومن أنه إذا كان الحق العملي واحدا فإن الحق النظري متعدد؟ إن اختلاف صيغ الحديث في متنه ليدل على عدم صحته؛ إذ يتراوح المتن بين العموم والخصوص، بين الإطلاق والتقييد. فإذا كان المعنى صحيحا في بدايته إطلاقا، فإن تخصيصه وتقييده، سواء في عدد الفرق الهالكة أو في تعيين الفرقة الناجية، يشكك في صحته؛ فالصيغة الكبيرة تشير إلى افتراق اليهود إحدى وسبعين فرقة، والنصارى اثنتين وسبعين فرقة، والمسلمين ثلاثا وسبعين فرقة، وكأن الافتراق سنة الكون، وقانون التطور، ومسار التاريخ! ووجود العدد سبعة في كل الأرقام الثلاثة يكشفه عن رمزية الأعداد في البيئات الدينية الشرقية القديمة، يونانية أو مسيحية أو إسلامية. وهل صحيح تاريخيا افتراق الأمم الثلاثة طبقا لهذه المتوالية الحسابية؟ وهل يطابق هذا الإحصاء الواقع التاريخي؟ وهل هذا الإحصاء للفرق في الماضي، أم في الماضي والحاضر، أم في الماضي والحاضر والمستقبل؟ وهل يمكن إحصاء فرق لم تحدث بعد، بل قد تحدث في المستقبل، أم أنها نبوءة في المستقبل تدل على معجزة للرسول؟ ولماذا تزيد كل أمة فرقة على الأمة السابقة؟ هل يدل ذلك على رقي بدليل الزيادة المطردة، أم على تأخر بدليل أن الفرقة تشتت مضاد للوحدة؟ وفي هذه الحالة الأخيرة يكون اليهود خيرا من النصارى، وكلاهما خيرا من المسلمين؛ لأنها أقل فرقة وتشتتا ولو بفرقة واحدة على الأقل. وقد ينتهي الحديث دون تعيين للفرقة الناجية، ويتوقف عند «إلا واحدة»، ويترك الاستثناء دون تعيين. وهو أقرب إلى العقل والتجربة؛ حتى تظن كل فرقة أنها الناجية فتعمل صالحا؛ لأن اليقين عملي وليس تاريخيا. وكأن الاعتقاد هو الذي يولد اليقين، وكأن كل فرقة تعتقد أنها ناجية فتعمل صالحا تكون كذلك تاريخيا، وهي المقصودة. وهي كذلك بالفعل، بعملها الصالح، تكون ناجية؛ فالقصد الفعلي هو القصد التاريخي. وقد يتم التعيين للفرقة الناجية، «هي ما أنا عليه أنا وأصحابي»، وذلك بالتأكيد على فرقة تاريخية بعينها، والتأكيد مرتان بلفظ «أنا»، أي الرسول وأصحابه، وهما جماعته التابعون له، جماعة تاريخية معينة هم الصحابة دون غيرهم. وهذا ما يناقض روح الإسلام وسلوكه العملي؛ فكل من يتبع الرسول ويأخذه قدوة فهو مثل صحابته، بدليل أن أهل السنة والحديث في كل عصر حتى يوم الدين. ومع ذلك لم ينفع التحديد التاريخي النظري، وطغى عليه التحديد السلوكي العملي، وادعت كل فرقة أنها الفرقة المقصودة بالنجاة، فهي أحق باتباع الرسول من غيرها، وحدث التقاتل بينهما، فأيهما الفرقة الناجية؟ والجواب أنها أصبحت كلها هالكة بفعل التقاتل وإراقة دم الأخوة؛ لأن القاتل والمقتول في النار. وزيادة في الإيحاء بصدق التعيين يتدخل السائل في صيغة الحديث بعد التعداد الأول، «قيل يا رسول الله: ما هي؟» فالتعيين إنما جاء على طلب خاص وسؤال محدد، وليس مجرد تخصيص للعموم. وكي يحدث التطابق التاريخي بين العدد والواقع التاريخي في الماضي والحاضر فحسب، فقد خلط بين الفرق الكبيرة والفرق الصغيرة، ثم تم تقسيم الكبيرة إلى فرق متعددة صغرى حتى يمكن إكمال العدد ثلاثة وسبعين. فالفرق الكبيرة في الحقيقة ثلاث، والأقل منها في الكبر خمس، فيكون مجموع الفرق الكبرى نسبيا ثمانية. ثم تنقسم الفرق الثلاث الكبرى؛ الأولى إلى عشرين، والثانية إلى اثنتين وعشرين، والثالثة إلى عشرين. وتنقسم اثنتان من الخمسة الأولى إلى خمس فرق، والثانية إلى ثلاث، في حين تبقى الثلاثة الأخرى من الخمس بلا قسمة.
2
وهناك فرق متشابهة تم الفصل بينها لضرورة إكمال العدد.
3
أما الفرقة الناجية فهي واحدة لا قسمة فيها، مع أن بها عشرات الفرق المتمايزة فيما بينها، وكلها من الفرق الناجية. وقد تدخل بعض الفرق الصغرى مع الفرقة الكبرى.
4
كما أن البعض منها متداخل يصعب الفصل بينها.
5
وقد تنقسم فرقة صغرى إلى فرق أصغر حتى يصعب العدد ويضطرب، ولا يعرف هل يصح للفرقة الصغرى عدد أم للفريقات الصغرى فقط.
6
وقد ذكرت الفرق دون مراعاة لترتيب تاريخي أو ترتيب من حيث الكبر أو الأهمية، بل يكفي فقط المطابقة للعدد السبعين المذكور. ومن الطبيعي أن تأتي الفرقة الناجية في النهاية، فختامه مسك، وما بعد الضلال إلا الهداية. وبقدر ما يتم التفضيل في الفرق الضالة وتقسيمها إلى فرق، والفرق إلى فرق أصغر، تعرض الفرقة الناجية وحدة واحدة، متحدة متماسكة، وكأنها هي رأي الأمة والجمهور، الأصل والجذع، وما دونها الفروع والشتات. الفرقة الناجية تجمع، والضالة تفرق. الأولى توحد، والثانية تبعثر. وهو حكم قيمة مسبق يقوم بالكشف عن موقف السلطة السياسي تجاه المعارضة، وموقف الدولة تجاه خصومها السياسيين؛ فالسلطة هي الأساس، والمعارضة خروج عليها. والحقيقة أن الفرقة الناجية تكون أيضا من فرق، بل ومن فرق صغيرة عدة، ولا تمثل إجماعا واحدا على رأي واحد، سواء في المسائل النظرية أو في الموضوعات العملية. يجمعها جميعا التسليم بالأمر الواقع والإقرار بالسلطة القائمة.
7
وقد استعمل سلاح الألقاب لنصرة الفرقة الناجية، وحصارا للفرق الهالكة، استعملته السلطة ضد فرق المعارضة؛ فالمتكلمون أهل الأهواء، والمعتزلة معطلة مجوس الأمة، والثوار خوارج، والرافضون شيعة أو روافض ... إلخ. وقد استمر هذا التقليد متبعا حتى الآن في اتهام فرق المعارضة بالعمالة والإلحاد والكفر والخروج. وقد أتت معظم التسميات والأوصاف والألقاب من الآخرين، أي من الخصوم، وليس من الفرقة ذاتها موضوع الاتهام؛ فالمعتزلة والشيعة والخوارج، وهي فرق المعارضة الرئيسية الثلاثة، كلها نعوت من الفرقة الناجية، وتوحي كلها بالخروج على النهج القديم والصراط المستقيم؛ فالمعتزلة من الاعتزال من الجماعة، والشيعة من التشيع والخروج على الحياد والموضوعية، والخوارج من الخروج على الإمام ورفض السلطة وإعلان العصيان.
8
وتسمي فرق المعارضة الفرقة الناجية بالأموية، وأنصارها بالأمويين؛ أي السلطة. فإن صعب الحصول على اسم متميز يدين ببنائه اللفظي، فإنه يمكن استعمال أسماء أخرى من مضمون الفرقة الهالكة واتجاهها، مثل الباطنية لقولها بالباطن دون الظاهر، أو الحرمية لإباحتها المحرمات، أو السبعية لقولها بالأئمة السبعة. وقد يشتق الاسم من اللباس، مثل المحمرة للبسهم الحمرة، أو تسميتهم المسلمين حميرا. وقد يشتق الاسم من الأسماء الوثنية التي ينتسبون إليها، مثل البابكية أو المزدكية. فإن استعصى ذلك كله نسبت الفرقة إلى اسم مؤسسها، وكأنها فرقة شخصية تدور حول زعيمها، وليس لها موقف فكري أو اتجاه نظري، وكأن الخلاف بين الفرق هو صراع على السلطة. وما دامت السلطة بيد الدولة فإن خصومها عصاة خارجون على القانون. وقد يستمد الاسم من المكان حتى ترتبط بمنطقة وبلد دون جماعة وأنصار، ودون فكر ورأي. فإذا ما ارتبطت الفرقة باسم الرأي والعقيدة، فإنها في الغالب عقائد ضالة، مثل إنكار القدر والجبر والتشبيه والتأليه.
9
وكثيرا ما يتم الاعتماد على بعض الأحاديث المشكوك في صحتها لتأييد التسمية واستعمال سلاح الألقاب، مثل «القدرية مجوس هذه الأمة». وكثير من هذه الأحاديث تشير إلى عقائد ظهرت في وقت متأخر بعد عصر النبي، وقد وضعت من أجل حصار الخصوم السياسيين، وهدم عقائدهم باستعمال الحجج النقلية، سلطة سياسية تعتمد على سلطة دينية. معظمها أحاديث ظنية ضعيفة السند، يعارض متنها العقل والحس والمشاهدة.
10
وعلى الضد من ذلك تستعمل ألقاب المدح والثناء لوصف الفرقة الناجية، مثل أهل الحق والإثبات، وكلها في مقابل أهل الأهواء، أهل الزيغ، أهل الضلال، أهل البدع. وينجح سلاح الألقاب في مجتمع يفضل الحق على الباطل، والاستقامة على الاعوجاج، والسنة على الاجتهاد، والتقليد على البدعة، والإثبات على النفي، والجماعة على التفرد؛ فأهل السنة يسيرون على الطريق الرئيسي دون تشعيب أو تفريق، وأهل الحديث يأخذون بالحديث دون تنكر له في مجتمع تحولت فيه سلطة القرآن إلى سلطة الحديث، وتشخصت فيها النبوة في شخص النبي، وتحول الحديث فيه إلى السيرة. وأهل السلف أفضل من الخلف الذين تركوا الصلوات واتبعوا الشهوات. وهم الأصحاب، جمهور الأمة، الجماعة، وليسوا الأعداء أو إحدى فرق الأمة أو أحد شعابها. إذا ما سميت أشعرية فلأن مؤسسها نصير أهل السنة والمدافع عن الحق ضد أهل الأهواء. الفرقة الناجية هي التي بها خلاص الأمة، فرقة الدولة، وحزب السلطة. ولكن يظل السؤال: ناجية عند من؛ عند الله أو عند السلطان؟
11
وقد يحدث نزاع حول الفرقة التي ينطبق عليها الاسم المذموم «القدرية»، هل هم نفاة القدر أم مثبتوه؛ من ينفي القدرة عن الله ويثبتها للإنسان، أم من يثبتها لله وينفيها عن الإنسان، وذلك في حالة صحة الخبر؟ وبالتالي يستعمل سلاح الألقاب في كل الأوجه وعند جميع الفرق كسلاح وكسلاح مضاد، مع أن فرق المعارضة لها أسماؤها من نفسها، مثل «أصحاب العدل والتوحيد»، ولكن الذي اشتهر هي أسماؤها من الخصوم الذين كتبوا التاريخ ودونوا عقائد الفرق.
12
ويتضح سلاح الألقاب أيضا في صياغات العبارات، أي في ألفاظ الحديث؛ فإذا كان الأمر يتعلق بذكر رأي لفرقة ضالة، فإن اللفظ يكون «زعم» أو «ادعى» أو «افترى» أو «كذب». أما إذا كان الرأي للفرقة الناجية، فإن اللفظ يكون «قال» أو «أجمع» أو «اتفق». ويقوم المؤرخ أحيانا باستجلاب اللعنات على صاحب الفرقة الهالكة، أو توعده بالسلطان، أو استعداء الجمهور عليه. ويتجاوز نقد أفكاره إلى الطعن في شخصه وأخلاقه وسيرته، كأن الغرض من مصنفات الفرق هو الدفاع عن مذهب الفرقة الناجية، والتعريض بآراء الخصوم تحت ستار التاريخ.
والحقيقة أن التكفير سلاح سياسي ضد الخصوم تحت ستار العقائد، سلاح متبادل بين السلطة والمعارضة، بل وسلاح متبادل بين فرق المعارضة بعضها ضد البعض الآخر؛ مما يسبب في تبعثرها وتشتتها وتفرقها، فتضعف أمام السلطة الواحدة. وكما يصل تكفير الفرقة الناجية إلى حد تكفير كل فرق المعارضة، فإن إحدى فرق المعارضة في المقابل تكفر كل من لابس السلطان، أو اتصل به، أو زايد في الإيمان.
13
وماذا يبقى من فرق الأمة لو كفر الجميع؛ لو كفرت الفرقة الناجية الفرق الهالكة ضد الخصوم تحت ستار المعتقدات والمزايدة في الإيمان تملقا للعامة ودفاعا عن السلطان؟ بل إن العقائد ذاتها هي أيضا سلاح نظري عند كل فرقة تدافع به عن مواقفها الاجتماعية والسياسية. لا يوجد إذن تكفير نظري أو عملي، بل يوجد تباين في المواقف السياسية، وبالتالي اختلاف في الأطر النظرية. فإذا ما تم إرجاع «الإلهيات» إلى «الإنسانيات»، وبالتالي العودة إلى التجارب الإنسانية الأولى التي منها نشأت الإلهيات، ينتهي سبب التكفير؛ فقد كان في أحسن الأحوال وبفعل الفقهاء حكما شرعا على صور فنية ونظريات دفاعية أو هجومية لها تأويلها في التجارب الإنسانية، وليس بناء على أحكام عقلية أو شرعية. وإذا ما تم الاتفاق على حد أدنى من المواقف السياسية والاجتماعية، ودون الوقوع في المزايدة الإيمانية أو تبعية للسلطات السياسية، فإنه يمكن نزع سلاح التكفير، والسماح باختلاف الأطر النظرية على أساس أنها اجتهادات نظرية في مواقف اجتماعية مختلفة. وتظل كلها شرعية في إطار الوحدة الوطنية لأمة واحدة.
ثانيا: هل هناك تكفير عقائدي نظري؟
كان تكفير الفرقة الناجية للفرقة الضالة الهالكة تكفيرا عقائديا نظريا بالأساس قبل أن يكون تكفيرا عمليا، إخفاء للمواقف العملية، وإبرازا للعقائد النظرية؛ تملقا للعامة ودفاعا عن السلطان. فهل يتم التكفير طبقا للآراء النظرية أم للأفعال؟ إن الآراء النظرية ما دام لا ينتج عنها فعل فإنها تظل خارج نطاق التكفير، بل إن تعريف الفرقة الناجية للأمة هو كل من نطق بالشهادتين؛ فالإيمان قول قبل أن يكون نظرا أو تصديقا أو فعلا. فكيف يتم التكفير النظري والنظر ليس من الإيمان عند الفرقة الناجية؟ وكيف يتم التكفير في أصلي التوحيد والعدل؟ هل يكفر أحد في التوحيد والعدل؟ لماذا يكفر من يرى أن هناك ذاتا لها صفات وأن هناك إنسانا حرا عاقلا ومسئولا؟ ولماذا تكفر باقي الأصول الخمسة، الوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ وإذا اتفقت فرق المعارضة الرئيسية الثلاث على أصلي التوحيد والعدل، فإن ذلك يعني التكفير النظري لها جميعا.
1
والحقيقة أن الفرق إنما نشأت أولا بسبب موضوعات عملية، وفي مواقف عملية، وبناء على اختلافات عملية وليست نظرية؛ فقد نشأ صراع حول السلطة وحول الشرعية، حول البيعة والعقد، ثم تحول هذا الخلاف إلى مسألة نظرية في الإيمان والكفر، والطاعة والعصيان. كانت المسألة إذن عملية في إطار نظري مثل مرتكب الكبيرة أو التحكيم، ثم أخذت بعد ذلك طابعا في مسألتي الأسماء والأحكام وفي الإمامة، ثم انتقل العرض النظري لها إلى عرض نظري آخر على مستوى الأصول العقلية في التوحيد والعدل. كان الخلاف إذن حول الموضوعين الأخيرين في السمعيات، ثم انتقل بعد ذلك إلى العقليات؛ أي نظرية الذات والصفات والأفعال التي هي أساس أصلي التوحيد والعدل. لم يكن الخلاف حول النبوة والمعاد، أي حول التاريخ، في الماضي وفي المستقبل، بل كان حول الحاضر، الفرد والجماعة، العمل والدولة، ثم امتد الخلاف بعد ذلك طابعا نظريا في مسألتي الأسماء والأحكام وفي الإمامة، ثم انتقال وكأنها موضوعات مستقلة بعيدة عن نشأتها العملية. ولما كان نسق العقائد يقوم على مقدمتين نظريتين، نظرية العلم ونظرية الوجود، وعلى قسمين رئيسيين؛ الأول عن الإلهيات، وهي الإنسانيات؛ الوعي الخالص (الذات) والوعي المتعين (الصفات)، وهو الإنسان الكامل، ثم خلق الأفعال والعقل الغائي، وهو الإنسان المتعين؛ والثاني عن السمعيات أو النبوات، وهو التاريخ، تاريخ الوحي (النبوة) ومستقبل البشرية (المعاد)، وهو التاريخ العام، ثم النظر والعمل (الأسماء والأحكام) ثم الحكم والثورة (الإمامة)، وهو التاريخ المتعين وتذييلها عن انهيار التاريخ (تكفير الفرق)؛ فإن التكفير العقائدي ينصب على كل موضوع على حدة. (1) هل هناك تكفير في المقدمات النظرية؟
يبدأ علم أصول الدين بمقدمات نظرية أولى، نظرية العلم إجابة على سؤال «كيف أعلم»، ونظرية الوجود إجابة على سؤال «ماذا أعلم». والسؤال عن الذات العارفة يسبق السؤال عن موضوع المعرفة، وهي موضوعات نظرية صرفة تنبع من طبيعة الذهن، ولا يكاد يختلف عليها عاقلان. ومع ذلك كفرت فيها الفرقة الناجية الفرق الضالة. (1-1) نظرية العلم
إن الموضوعات التي تكفر فيها الفرقة الناجية الفرق الهالكة فيما يتعلق بنظرية العلم في حقيقة الأمر ليست عقائد، بل هي مجرد نظريات في العلم أو طرق في النظر والاستدلال يختلف فيها النظار دون أن يكفر بعضهم أو كلهم. فإذا كان من ضمن نظرية العلم قسمة المعرفة إلى ضرورية واستدلالية، فإن التركيز على المعارف الضرورية، واعتبار أن كل المعارف ضرورية، حتى إن الكسبية منها تكون ضرورية كذلك ويقوم على ضروري، ليس كفرا، بل تثبيت للمعارف واعتبارها مغروزة في النفس؛ وبالتالي تحول نسق العقائد كله إلى معارف فطرية غير مكتسبة، تأتي من طبيعة النفس وليس من الخارج، وهو ما يجعل الإيمان واجبا عقليا.
2
وما الحكمة في التركيز على المعارف المكتسبة؟ هل السبب في ذلك الرغبة في تلقين الناس نسقا للعقائد يعارض الفطرة ويأمر بالخضوع للسلطان والتسليم لأولي الأمر؟ ولكن ذلك سلاح ذو حدين؛ إذ يمكن أيضا رفض ما تلقنه السلطتان السياسية والدينية للناس ما دامت معارفهما مكتسبة، وتوجيه المعارف الفطرية، مثل الثورة على الظلم والخروج على الإمام الجائر، ضد المعارف المكتسبة. وفي النهاية، الضروري أقوى من المكتسب، وأرسخ منه في النفس، وأقوى منه كباعث ومقصد. ولماذا يكفر القول بأن المعرفة تتولد من النظر؟
3
أليس هذا هو الخلق والإبداع؟ ومم تأتي المعرفة إن لم تتولد من النظر؛ أي من طبيعة العقل ومن التركيز على المعارف الضرورية؟ يبدو أن الباعث أيضا هو إبعاد الذهن عن التفكير، وجعله مجرد حصيلة لمعارف خارجة تأتي من السلطتين الدينية والسياسية، وهما بيدهما توجيه المعرفة ووسائل التلقين. ولماذا يكفر القول بأن المعرفة واجبة بالعقل قبل الشرع؟
4
أليس ذلك احتراما لعقل الإنسان وتأسيسا للشرع على العقل؟ ولماذا جعل العقل خاويا من أية معارف، وأن المعرفة لا تجب إلا بالشرع؟ فإذا كان المتحدث باسم الشرع هو السلطة السياسية، وهو في الوقت نفسه السلطة الدينية، لزم على الإنسان طاعة أولي الأمر دون إعمال للعقل. ولماذا يكفر القول بأن التواتر لا يحتمل الكذب، وأن الإجماع والقياس ليسا بحجة؟
5
وما العيب في جعل التواتر يفيد الصدق ولا يحتمل الكذب؟ هل القصد من ذلك الطعن في التواتر وتجويز الكذب عليه بحجة الإجماع أو القياس؟ وإذا كان الإجماع يحدث من فقهاء السلطان وليس من علماء الأمة، فإنه لا يكون مصدرا للعلم. وإذا كان القياس أيضا إنما يقع لتبرير حكم السلطان الجائر، فإنه لا يكون حجة. إن الدفاع عن الإجماع والقياس في مواجهة النص المتواتر ترجيح للسلطة البشرية على سلطة النص؛ وبالتالي احتكار التأويل. إن الإجماع يتغير من عصر إلى عصر، والإجماع السابق لا يلزم الإجماع اللاحق. والقياس في نهاية الأمر اجتهاد فرد واحد، مجرد رأي وظن. وإذا كان الحال كذلك فيقين التواتر أولى. فهل هذا ضلال يستحق التكفير؟ وما العيب في التشدد في الروايات وقد تطايرت الرقاب اعتمادا على روايات تروجها السلطة ضد الخصوم؟
6
وإن تحديد عدد الرواة بعشرين، وأن يكون من بينهم من لا يتطرق إليه الكذب مثل واحد من المبشرين بالجنة، لا يستدعي التكفير، وإنما يستوجب نقد شروط يصعب تحقيقها. والحقيقة أن تكفير هذه الاتجاهات في نظرية العلم إنما يتعارض مع نظرية العلم لدى الفرقة الناجية ذاتها؛ مما يدل على أن للتكفير هدف إبعاد الخصوم السياسيين، ولكنه تحت ستار العقائد وباسمها؛ فالأدلة النقلية دون أدلة عقلية ظنية؛
7
وبالتالي لا استحالة في القول بالمعارف الضرورية، أو توليد المعارف بالنظر، أو وجوبها قبل الشرع؛ بل إن بدايات نظرية العلم كنظرية في المنطق، في التصورات والتصديقات، وفي أنواع الحقائق بسيطة أو مركبة، وأنواع التعريفات بالمثل أو بالمشابهة أو باللفظ، إنما يعتمد على تحليل العقل الخالص، وأن اللفظ نفسه تكون دلالته واضحة وظاهرة على المقصود.
8
وإن إنكار المعارف الفطرية والواجبات العقلية لهو اتفاق مع بعض نظريات العلم عند فرق المعارضة؛ مما يدل على أن الغاية من التكفير ليس الخلاف حول العقائد بقدر ما هو استبعاد الخصوم السياسيين.
9 (1-2) نظرية الوجود
وكما كفرت الفرقة الناجية الفرق الضالة في بعض آرائها في نظرية العلم، كذلك كفرتها في بعض آرائها في نظرية الوجود في بحث الجواهر والأعراض. فما العيب في اعتبار الأعراض أجساما، وأن يكون الجوهر مؤلفا من أعراض؟
10
أليس هذا ما يعرفه الجميع، وما يتفق مع الموروث الفلسفي العام، بل ومع إيمان العوام؟ هل بالضرورة لا بد أن تكون الأعراض مجرد صفات، وأن يكون الجوهر وحده هو الجسم؟ إن تصور علاقة الجوهر والعرض على أنها علاقة مركز محيط، يكون أقرب إلى تحقيق أهداف السلطة في تصور العلاقة بين الحاكم والمحكوم؛ وبالتالي يكون كل تصور مخالف يعطي العرض بعض الاستقلال عن الجوهر، أو يكون مشاركا له في صفة مثل الجسمية؛ يكون كفرا! وإن بعض نظريات الفرق الضالة إنما تشابه نظريات الفرقة الناجية، مثل جواز خلو الجوهر عن الأعراض، وجواز قيام العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر بالميت، ولكن بهدفين مختلفين؛
11
عند المعارضة جواز وجود الحاكم من غير محكوم، وضرورة وجود مظاهر الحياة الحسية؛ وعند السلطة لأن الله قادر على كل شيء، حتى على فعل المتناقضات، فلا يصمد أمامه قانون عقل أو طبيعة. أما اعتبار المعدوم شيئا، وبالتالي يكون له جوهر وعرض، فربما للتأكيد على وجود العدم، بل نفيه وإنكاره، وحتى يصمد العدم كطرف مقابل للوجود، وحتى يتساوى الطرفان، ولا يكون الوجود إيجابا والعدم سلبا مطلقا.
12
وما المانع من دراسة الأفعال الإنسانية دراسة طبيعية من خلال مفهومي الجوهر والأعراض؛ وبالتالي تتساوى الأعراض فيما بينها كأعراض لجوهر واحد وإن لم تتساو من حيث الحكم النظري؟ فالإيمان علم، والجهل كفر، وكلاهما أعراض للفعل أو للنظر من حيث هو جوهر. والأهم من ذلك كله هو تكفير نظريات الكمون والطفرة والخلق المستمر والتقدم والتأخر والظهور في الطبيعة.
13
ما العيب في أن يكون الخلق قد تم دفعة واحدة، ثم يستمر الخلق من تلقاء نفسه، فتظهر الصفات الكامنة فيه؟ وما الحاجة إلى الخلق المتقطع من الخارج، كل شيء في حاجة إلى خلق؟ ولماذا يكون الخلق المستمر نظرية هالكة، والخلق المتقطع نظرية ناجية؟ وأيهما أكثر تنزيها لله، ورعاية لمصالح العباد، وأكثر اتفاقا مع العقل والعلم؟ وما العيب في الطفرة التي تشير إلى الخلق الإلهي في الطبيعة، وتجعل الكيف مخترقا للكم، وتضع الحرية ليس في الإنسان فقط بل في الطبيعة كذلك؟ وما الكفر في القول بأن الجنة والنار لم تخلقا بعد طالما أنه لا توجد حاجة الآن لهما، أو أنهما كامنان في الوجود وسيظهران بالخلق المستمر ؟ وما الكفر في القول بأن الله خلق الأجسام، ثم تظهر الأعراض في الأجسام بعد كونها فيها بفعل الخلق المستمر؟ هل كل فعل لا بد وأن يأتي من الخارج وليس من الداخل، وكأن كل ما يحدث في الكون إنما يقع بفعل إرادة خارجية، وليس بفعل إرادة ذاتية؟ وما المانع أن تجذب النار أهلها بنفسها دون أن يدفعهم أحد فيها، وكأن كل شيء يتحرك بطبيعته نحو غايته؛ فغاية النار إحراق من يستحقها، ونهاية من يستحقها الوقوع في النار؟ ولماذا تكون نظرية الجزء الذي لا يتجزأ التي رفضها الفقهاء هي النظرية الناجية، في حين تكون نظريات الطفرة والكمون والظهور هي النظريات الهالكة؟ إن القول بالطفرة والكمون والظهور ما هو إلا رد فعل على القول بالجزء الذي لا يتجزأ، ورد الاعتبار الكيفي الحيوي للطبيعة بعد سقوطها في التصور الكمي الآلي. إن المذهب الطبيعي الذي يظنه الناس دعامة الإلحاد القائم على العلم الطبيعي هو عند الطبائعيين أنفسهم دفاع عن التوحيد ضد المشبهة والمجسمة، وإبقاء على الحسنيين معا، الدنيا والآخرة، العلم والدين، الطبيعة والله، دون التضحية بأحدهما من أجل إثبات وحدانية الآخر. وإن اتهام مذهب الطبائع بالإلحاد لهو حكم من السلطتين السياسية والدينية قائم على تصور وحدانية الله بمعنى وحدانية الحاكم، وإنكار استقلال الطبيعة والإرادة الذاتية للشعوب.
14
إن الخلق من عدم الذي يظنه الناس تعبيرا عن الإيمان هو في الحقيقة إفراز السلطتين السياسية والدينية للتعبير عن المزايدة في الإيمان، والتملق لشعور العامة، وإيقاع لها في السحر بهدف إثارة الإعجاب وسحر اللب والخيال؛ وبالتالي فإن عقيدة الفرقة الناجية ليست بأقرب إلى الإيمان من عقائد الفرق الضالة. إن الرغبة في التعظيم والمغالاة لتؤدي إلى عكس المقصود؛ فمثلا جواز الاقتصار على خلق السموات مغالاة في التعظيم؛ لأن الإرادة المشخصة قادرة على كل شيء، ولكنه إنكار في الوقت نفسه للعناية واصطدام بالحكمة، وهما من صفات الذات المشخصة كالإرادة تماما، بالإضافة إلى أنه رفض لتكوين العلم وبنائه وتدمير للحياة فيه، وكأن الحياة كان يمكن أن تكون على غير ما هي عليه ، وافتراض عالم آخر ممكن مخالف لهذا العالم الواقع، واستبدال التمني بما هو موجود بالفعل، وإنكار لواقعية العالم، وافتراض عالم آخر لا وجود له إلا تعبيرا عن قدرة مشخص يغالي في تعظيمها إلى حد تدمير كل ما سواها. وإن افتراض وجود أجسام لا ترى لا من حيث الوجود ذاته، بل من حيث إمكان رؤيته، هو افتراض وجود علم خارج نطاق المعرفة الإنسانية. وإن افتراض عالم متوهم هو هدم وإنكار لعالم الواقع. وإذا قويت الرؤية بوسيلة ما، وإذا استطاعت العين أن تمد بصرها من الداخل أو من الخارج، فيمكنها أن ترى الأجسام. يمكن رؤية باطن الأجسام الشفافة بنفاذ الشعاع، كما يمكن رؤية باطن الأجسام المعتمة باستعمال المناظر المكبرة. الرؤية ممكنة ما دامت الأجسام موجودة، فإذا لم توجد الأجسام تستحيل الرؤية. وإذا وجدت عين تتوافر فيها شروط الرؤية تكون الرؤية ممكنة.
15
إن الخلق له معان كثيرة، وليس أحدها بأولى من الآخر أو أكثر منه. كلها تصورات طبقا لمدى الإحساس بالتنزيه، ولاستقلال الطبيعة، وإثبات الحرية الإنسانية. فقد يعني الخلق التقدير المسبق ونشأة الكون كله بناء على قدر سابق. حينئذ تتم التضحية بالحرية الإنسانية التي لا تخضع لأي قدر مسبق، بل تعبر عن الإمكانيات البشرية الخالصة. الخلق بهذا المعنى قضاء على فعل الإنسان وفعل الطبيعة معا، ويوحي بأن هذا العالم لا يفعل فيه إلا من هو أقوى منه، وأن الإنسان لا يستطيع أمامه شيئا. يقف عاجزا لا يفعل إلا ما قد قرره القدر المسبق، وفي الوقت نفسه لا ينشأ العلم الذي يهدف إلى السيطرة على الطبيعة ما دامت خارج كل سيطرة إنسانية.
16
وقد يعني الخلق إثبات قدرة قديمة أمام كسب الإنسان بقدرة حادثة من أجل إنقاذ الحرية الإنسانية داخل تصور عام للخلق. وهذا إرجاع للخلق إلى مشكلة القدرة بين القدم والحدوث.
17
وقد يعني الخلق إثبات قدرة مطلقة مسيطرة على الطبيعة، والقضاء التام على استقلال ظواهرها، وسلب أية قوة كامنة فيها، في طبائع الأجسام، وأن إثبات الله فاعلا للطبيعة ومجعلا لها قضاء عليها وعلى استقلالها.
18
وقد يعني الخلق الفعل لا بآلة.
19
وهنا يتميز الخلق الإلهي عن الخلق الإنساني الذي يحتاج إلى آلة الخلق، وجود من وجود بلا توسط آلة، وإلا كان صنعا. ولكن يظل التصور الإنساني هو أساس التصور الإلهي للخلق عن طريق القلب. وقد يتحول الخلق إلى تجسيم مادي مشخص بتحول الخالق إلى صانع، والمخلوق إلى مصنوع.
20
ولا يفترق تصور الفرقة الناجية عن أي تصور ثنائي للعالم وقسمته إلى قديم ومحدث؛ فهي قسمة مادية. القديم لا مادة، والمحدث مادة. والقسمة تتحدد على أساس مادي. ويسهل أن يتحول التصور إلى تجسيم خالص حتى يكون أكثر اتساقا بدل التجسيم المقنع، وهو القول بالقديم الذي يتحدد بنفي المادة الحادثة عنه. ومن أجل رد اعتبار المادة، والتي جعلها الخلق سالبة محضة حين سلب عنها كل قوة، فقد تحولت إلى مادة خالقة تشارك الذات المشخصة في فعل الخلق.
21
كما أن هناك تصورات عديدة لكيفية حدوث الخلق، ليس أحدها بأولى من الآخر. هناك الخلق من عدم بفعل الإرادة وبأمر «كن»، وهو خلق للشيء من لا شيء.
22
وقد يحدث الخلق لا بالإرادة وحدها، بل بالإرادة والحركة. فلا تحدث الإرادة والذات ثابتة، بل تتحرك الذات كلها، والحركة هي الإرادة.
23
وقد يحدث الخلق في الذات المشخصة نفسها، فالذات المشخصة محل للحوادث. ولا يحدث الخلق بالإرادة بل بالقول. وكما أن الذات المشخصة باقية، كذلك لا تعدم الحوادث ولا تخلو منه الأجسام. وقد نشأ هذا التصور كرد فعل للتصور الأول الذي يجعل الله خارج العالم ومنفصلا عنه.
24
وقد يحدث الخلق على درجات كما هو معروف عند الحكماء في نظرية الفيض، وتكون بدايته أشرف نقطة، ثم تقل مراتب الشرف كلما هبطنا حتى نصل إلى أقل الدرجات. قد تكون البداية جسما في التجسيم، وقد لا تكون جسما في التنزيه، أو قد تكون أسطورة قائمة على التفسير الحرفي للنصوص.
25
وتتنوع تصورات الخلق إلى درجة نفي الذات المشخصة كلية، ولا يهم بعد ذلك أن يكون قدم العالم حسيا ماديا أو معنويا صوريا من حيث الإمكانية.
26
كل هذه تصورات للخلق ليس أحدها بأولى من الآخر، وكلها تمثل ردود أفعال على بعضها البعض، بما في ذلك تصورات الفرقة الناجية التي كانت السبب في حدوث تصورات بديلة عند الفرق الهالكة. لا يكون أحدها أصوب من الآخر، أو أحق بالإيمان وأبعد عن الضلال. وهناك أسئلة نظرية خالصة ناتجة عن التوتر بين التنزيه والتشبيه لا يمكن تكفير أحد فيها؛ فهي كلها آراء نظرية طبقا لدرجة قرب الفكر من التنزيه أو من التشبيه. فإذا كان السؤال: هل خلق الشيء هو الشيء أم غيره؟ فإن جعل الخلق غير الشيء يركز على جانب الفاعل والإرادة، أي من جانب الخالق، في حين أن التوحيد بين الخلق والشيء يجعل الخلق من جانب المخلوق. الرأي الأول يجعل أهم عامل في الخلق هو الفعل الإرادي أو العلة الفاعلة، في حين يركز الرأي الثاني على العلة المادية. التصور الأول يضع تمايزا بين الذات والموضوع، بين الأنا والآخر، في حين أن الثاني يوحد بين الذات والموضوع، بين الأنا والآخر. تتصل الإلهيات بالطبيعيات في الخلق؛ فعندما تطغى الإلهيات الخلق هو الشيء أو يكون الشيء بلا صفة. في التصور الإلهي يطلق للإرادة الحرية في أن تخلق إلى ما لا نهاية، في حين أنه في التصور الطبيعي تتحدد الإرادة بأفعالها وبخلقها المتناهي.
27
والتصور الطبيعي يقضي على التشخيص، ويرى الخلق في الشيء، والإرادة في الطبيعة، والحياة في المادة، وهو أساس نشأة العلم. والحقيقة أن ذلك ليس تفكيرا في الخلق باعتباره صفة إلهية، بل في الخلق باعتباره عملية إنسانية؛ ثم يحدث التمايز بين الإنسان والله بحجة الأولى أو المفارقة. فإذا كان الخلق هو المخلوق في الإنسان، فإن الخلق يكون مخالفا للمخلوق في الله. وقد يحدث تمايز بين أفعال الخلق، فيكون الخلق هو المخلوق في البداية، ولكن الإعادة غير المعاد في النهاية إثباتا لتطور الخلق وتغايره. فإذا كان الخلق صفة فإنه يصعب بعد ذلك معرفة هل هي صفة للخالق أم صفة للمخلوق، مجرد محاولة للخروج من إشكال قديم عن طريق إلغائه.
28
وتستمر الإشكالات العقلية في كل تصور دون حل، خاصة في التصور الثنائي الأول. فإذا كان الخلق غير المخلوق، فهل يكون الخلق مخلوقا؟ وهنا يكتمل التصور الثنائي بتصور أحادي، فيكون الخلق مخلوقا هروبا من قدم العالم. فكل تصور مكمل للآخر، التغاير والتماثل، الاختلاف والاتفاق. ويدخل بعد الحقيقة والمجاز في التصورات؛ مما يدل على أنها جميعا صيغ إنشائية، وليست أحكاما على واقع، وإنما جميعا تقوم على قياس الغائب على الشاهد.
29
والعجيب أن الفرقة الناجية اختارت تصورا دون آخر على أنه التصور الحق، وهو أن خلق الشيء هو المخلوق اعتمادا على عدم جواز وجود واسطة بين الخالق والمخلوق؛ وبالتالي تكون أقرب إلى التصور الأحادي الطبيعي. وفي هذه الحالة لا يجوز تكفير المشبهة والمجسمة.
30
وكما لا يجوز تكفير أحد التصورين الإلهي والطبيعي، فإنه لا يجوز أيضا تكفير التصور الإنساني؛ فالخلق صفة إنسانية خالصة، بل إنها أولى صفات الإنسان، وأخص ما يميزه وما يعبر عن حريته. يبدو ذلك عند الفنان الخالق المبدع. ولكن الإنسان نظرا لاغترابه عن العالم وعجزه عن الدخول فيه، نسب إلى الذات المشخصة أفضل ما لديه، وتعبد صفة الخلق بدلا من ممارسته. أما العالم فإنه ينشأ في الشعور لحظة الوعي به؛ فقد لا يكون العالم موجودا على الإطلاق عندما يكون خارج الشعور، وقد يكون موجودا في إنسان لأنه نشأ في شعوره، وغير موجود بالنسبة إلى إنسان آخر لم يعه بعد. ليست النشأة إذن مادية كونية، فذاك موضوع علم نشأة الكون، بل نشأته في الشعور. السؤال عن النشأة الكونية نظرة مادية خالصة، في حين أن النشأة الشعورية نظرة إنسانية مثالية. الأولى ادعاء وغرور، والثانية تصف الواقع على ما هو عليه. (2) هل هناك تكفير في العقليات (الإلهيات)؟
تبدأ العقليات في علم العقائد بالأدلة على وجود الوعي الخالص (الله)، ثم بوصفه بأوصاف ستة ثم بصفات سبع، فهل هناك تكفير فيها؟ هل هناك رأي واحد صائب ناج بينما تكون الآراء كلها ضالة هالكة؟ فإذا كانت الأدلة كلها تبدأ من العالم، ومن تحليل الطبيعة ابتداء من نظرية الجوهر والأعراض، فما وجه الكفر في القول بأن الأعراض لا تدل على الباري؛ إذ كيف يدل الأدنى على الأعلى؟ وكيف تستعمل الأعراض للدلالة على الأجسام؟ وكيف تستعمل الطبيعيات كمقدمة للإلهيات؛ وبالتالي ربط الثوابت بالمتغيرات؟ بل إن رأي الفرقة الناجية بالإجماع على حدوث العالم ووجود الباري فيه تدمير للعالم لإثبات الله، وكأن الأعلى لا يثبت إلا بعد فناء الأدنى. وإذا كان النظر الصحيح هو المفضي إلى العلم بحدث العالم، فالعلم بحدث العالم ما هو إلا مقدمة لإثبات القديم؛ أي إنه النظر المفضي إلى الإلهيات عن طريق إثبات حدث العالم.
31
وهل يمكن البدء بالطبيعة والانتهاء منها إلى ماهيتها عن طريق الذهاب من الدليل إلى المدلول، ومن الآية إلى معناها؟ يتضمن العقل أوليات أو مقدمات هي التي تؤدي إلى التوحيد؛ فعلم التوحيد يقوم أساسا على نظرية في أوائل العقول وبداهاته. ليس التوحيد تشخيصا أو تجسيما أو تشبيها، بل هو بناء عقلي يقوم على مجموعة من المسلمات البديهية. التوحيد مجموعة من الحقائق الأولية تنشأ من طبيعة العقل، أو هو بناء أولي للعقل.
32
ولكن هل يفضي الإثبات بالدليل إلى إثبات المدلول أو إلى إثبات العلم بالمدلول؟ هل يؤدي الدليل على حدث العالم إلى حدث العلم نفسه أو إلى العلم بحدث العالم؟ ما دام الأمر متعلقا بنظرية العلم، فالدليل يؤدي إلى المدلول من حيث هو علم لا من حيث هو واقع؛ ومن ثم لا ينقسم المدلول إلى وجود وعدم أو قدم وحدوث، ولا يمكن أن تتحول نظرية العلم إلى نظرية وجود. وتكون تقسيمات الوجود هي تقسيمات العلم؛ أي أحكام عقلية على المعلوم.
33
والانتقال من الدليل العقلي إلى المدلول الواقعي يقوم على حكم مسبق، وهو تطابق عالم الأذهان مع عالم الأعيان، وهو حكم منطقي يقوم على افتراض ميتافيزيقي، وهو الدليل الأنطولوجي. وهو ما يتطلب الاقتضاء والتوليد، توليد النظر للعلم، واقتضاء الذات الموضوع.
34
إن تكفير الفرق الهالكة لإنكارها وجود الله لم يؤد بالفرقة الناجية إلى إثباته نظرا لتغاير العلم والمعلوم، واختلاف الدليل والمدلول؛ فالإنكار هنا أكثر صراحة من وهم الإثبات. وإن ارتباط الدليل بالمستدل يجعل إثبات وجود الله أو إنكاره مشروط أولا بوجود الناظر؛ وبالتالي يأتي ثبوت وجوده أولا قبل إثبات وجود موجود آخر. المعرفة سابقة على الوجود، والذات العارفة سابقة على موضوع المعرفة؛ لذلك أتت نظرية العلم سابقة على نظرية الوجود. ولا سبيل إلى التطابق بينهما إلا تدريجيا بتحقيق الوعي الخالص في الوعي المتعين، وتحقيق الوعي المتعين في حرية الأفعال والعقل الغائي، ثم تحقيق التاريخ العام في التاريخ المتعين، وتحقيق التاريخ المتعين في الفرد والدولة، في فعل الفرد وفعل الجماعة، وباختصار عن طريق تحقيق الإنسان في التاريخ. (2-1) الوعي الخالص (الذات)
ولماذا يكون القول بأصلي التوحيد والعدل هوى وضلالا، ويكون القائلون بهما في النار؟ أليس التوحيد هو التنزيه، والعدل هو الحرية والعقل والغائية والصلاح والاستحقاق؟ وما العيب في نفي الصفات لو كان ذلك هو شرط إثبات التنزيه واتقاء مخاطر التشبيه؟ وما العيب في إثبات الصفة تكون هي عين الذات لدرء تهمة النفي والتعطيل، واقترابا من الرأي الآخر دون الوقوع في محاذيره؟ وهل إثبات الصفات مع مخاطر التشبيه أولى بالإيمان وأبعد عن الكفر من نفي الصفات مع إثبات التنزيه؟ ولماذا يكفر القول بأن الصفات أحوال لا قديمة ولا حادثة، لا معلومة ولا مجهولة، وضعا للسؤال من جديد، وإيجادا لحل وسط بين الإثبات والنفي، وتحويل المسألة كلها من المستوى الطبيعي في الجوهر والأعراض إلى المستوى النفسي للذات والأحوال؟ فإذا كان الله لا يوصف بالقدم ولا بالبقاء، فلأن كل وصف له هو وقوع في التشبيه. لا يوصف الله بالقدم لأن القدم من صفات البشر وخصائص الأشياء، كالحب القديم والجبن القديم والعرجون القديم.
35
صحيح أن القول بإلهين مضاد لوصف الوحدانية، ولكنه أثر من آثار الديانات القديمة، خاصة إذا كانا غير متساويين؛ واحد قديم، والثاني حادث يحاسب الناس يوم القيامة، كما هو الحال في المسيحية في العلاقة بين الله والمسيح، ويكون ذلك أقرب إلى تاريخ الأديان منه إلى علم العقائد الإسلامية.
36
وما المانع من أن يصير أهل الآخرة إلى جمود حتى لا يشاركوا الله في صفة الخلود؟ إن التضحية بخلود أهل الجنة والنار من أجل إثبات خلود الله أقل خطورة من المشاركة في الخلود، والتضحية بخلود الله من أجل خلود النعيم أو العذاب. فما لا نهاية له صفة للذات؛ أي البقاء. وكما أن الله لا أول له فإنه لا آخر له، عكس الإنسان الذي له أول، وهو الخلق أو لحظة وعيه وإثبات وجوده، وله نهاية، وهو الموت أو لحظة عدمه وخموله.
37
وما المانع من نفي الرؤية، رؤية الله، ولماذا يكفر من ينكرها؟ وهل الله شيء أو موضوع في مقابل الذات يمكن رؤيته بالعين؟ وهل الله موضوع أم ذات شخص أم مبدأ، شيء أم فكر؟ إن الإنسان لا يرى وعيه، بل يشعر بنفسه، ولا يرى أي وعي خالص، بل يشعر بحضوره ويتعامل معه. هل الله ذات أم موضوع، شخص أم مبدأ، جسم أو تصور؟
38
أما باقي الصفات السبع فإن نفيها أو تأويلها إنما كان حرصا على التنزيه؛ فالعلم ذاته والسمع والبصر إنما هي وسائل للعلم، وليست صفات مستقلة، والقدرة والإرادة ليستا في محل، والحياة ضد الآفات، والكلام مخلوق حتى لا يوصف الصوت والحرف بالقدم. أليس ذلك كله دفاعا عن التنزيه وحرصا من مخاطر التشبيه؟ إن اعتبار الكلام مخلوقا محدثا إنما كان غرضه تنزيه الله عن الحدوث، وإثبات الفعل الإنساني والفهم الإنساني، وتحقيق الإنسان بعلمه للوحي في التاريخ. لقد أرسل الوحي للإنسان وليس لله، وفهمه الإنسان بعلمه، وعبر عنه بلغته، وقرأه بصوته؛ وبالتالي يكون كلام الله هو كلام الإنسان المفهوم والمقروء والمكتوب والمتحقق. أما اعتبار الإرادة حادثة لا في محل، فإن الغرض منه نفي المكانية عنها كما نفيت من قبل عن الذات، ومن أجل إنقاذ الحرية الإنسانية.
39
أما الأسماء فإنه لا يجوز إطلاقها على الله نظرا لما توحي به أيضا من تشبيه يقوم على قياس الغائب على الشاهد.
40
إن الأوصاف والصفات والأسماء كلها إنما هي تدل على الحياة الكاملة بلا آفات أو نقص، تعبر عن الإنسان الكامل باعتباره وعيا خالصا ومتحققا في العالم. (2-2) الوعي المتعين (الصفات)
وكما يتم تكفير أصلي التوحيد والعدل، فإنه يتم أيضا تكفير القول بالتأليه والتجسيم.
41
وكما يرتبط التوحيد بالعدل وحق الإنسان في أن يكون حرا وعاقلا، يرتبط التوحيد أيضا بالإمامة نتيجة للقول بألوهية الأئمة. وبالرغم من وجود أنماط سابقة في الديانات القديمة لتأليه الإنسان أو الطبيعة، كما هو الحال في اليهودية والمسيحية، أو في الديانات الشرقية في فارس والهند والصين، وبالرغم مما قد يكون وراء ذلك من نيات ومقاصد لإفساد العقيدة الجديدة، وبث الفرقة، وضياع القوة، والتشويش على التوحيد، فإن تأليه الإنسان أو الطبيعة إنما يخضع لظروف نفسية واجتماعية وسياسية محلية. ففي مجتمع الاضطهاد تسود العواطف والانفعالات العقل والرؤية، وتتشخص الألوهية في الإمام المنقذ المخلص، ويظهر حالا في كل شيء، في الإنسان وفي الطبيعة، في النفس وفي العالم. يتحول ظلم الإمام واستشهاده إلى نصره، ويؤدي النقيض إلى النقيض، وينقلب السلب إلى الإيجاب، من لا شيء إلى كل شيء، من النقص إلى العظمة، من العجز إلى القوة، ومن النصر إلى الهزيمة، ومن الإنكار إلى الإثبات. يحل الله في الإمام بعد أن رفض البشر الاعتراف به والانقياد به. وهو حي لم يقتل؛ فالحق باق لا يموت، وكل من اتصل به من ذرية أو أصحاب أو جماعة فإنه يكون مثله.
42
وكما أن الله والإنسان شيء واحد، فكذلك الله والطبيعة شيء واحد، لا فرق بين الخالق والمخلوق في أسطورة الخلق حتى يكون الله قريبا من الطبيعة، وتكون هي قريبة من الله؛ فالتركيز على الروح يحيلها إلى روح شامل يضم الطبيعة، وصاحب الهدف يرى غايته في كل شيء. والخلق يكون من طبيعة الخالق، نورا في مقابل الظلمة، حقا في مواجهة باطل. كل مظاهر الطبيعة صفات له وآثار لقدرته، السحاب والريح والرعد والبرق. يتم الخلق بالكلمة وليس بالإرادة، كلمة الحق في مقابل كلمة النفاق. ويتم الكلام بالاسم الأعظم، وليس باسم الملوك والأمراء والسلاطين. فرض الخلق على غيره لأن غيره هو الخلق، وهو ذاته. الله يخلق من ذاته إلها يكون هو نفسه مثل المسيح.
43
والله جسم، موجود واقع مرئي، وذلك أن ضياع الواقع والأرض والدولة يتحول إلى وجود جسمي ملموس حق، فيكون الله جسما. الإمساك بشيء بدلا من فقده، والتمسك بشيء بدلا من تلاشيه. والجسم مكان تتلاقى فيه الأبعاد وليس مسطحا، له عمق فيبعد عن السطحية. يتكون من نور، أو نظائر مشعة، أو معادن معتمة؛ نظرا لاجتماع النور والظلمة في الجسم. إله يلمس ويمسك به تعبيرا عن رغبة الإنسان في الإمساك بالضائع والتمسك بالمفقود. يقوم ويقعد، يتحرك ويسكن، وليس موتا وثباتا. ما زال النشاط موجودا فيه تعبيرا عن الرغبة في المقاومة، واستمرار حياة النضال في مجتمع الاضطهاد؛ فالإرادة حركة، والحركة إرادة.
وتعويضا عن سلطان الدنيا وملك الأرض يكون الإنسان الإله ملكا على رأسه تاج، فإذا ما تكلم فإن التاج يقع من على رأسه من هيبة الكلام وقوة الصوت. الخير والشر نور وظلمة كونيان. تعبر لغة الملوك والتيجان عن الإمامة الضائعة والملك المفقود والحكم المغصوب. وهو على صورة إنسان؛ إذ إن الإنسان الضائع يتحول إلى إله عليه وفرة سوداء كالحصان العربي، وما يتصف به من قيم جمالية. النصف الأعلى مجوف حتى يمتلئ بالعلم والمعرفة. والمجوف أكثر شفافية من المصمت، وإن كانت المصمت أكثر صلابة. للأجوف رنين وصوت، وللمصمت سكون وموت. وهو مماس للعرش، لا وجود لمسافة بينهما تدل على عدم تطابق أو عدم تناسب؛ مثالا للعظمة والإحكام. تحمله الملائكة وهو أقوى منها، مثل الكركي تحمله رجلاه، تصويرا أقرب للناس وأقل تجريدا. له لون وطعم ورائحة، له مذاق، وليس كالماء، أو الإله المجرد، أو الطعم المائع الذي يصيب الإنسان بالقيء والغثيان. تنبع الحكمة من قلبه؛ مما يدل على العلم الضروري الفطري المغروز في النفس، وفي الوقت نفسه علم تجريبي بناء على خبرة العالم ومعرفة البشر وعرك الحياة. وبقدر ما يكون العلم باطنيا داخليا يكون أيضا تجريبيا خارجيا يتغير طبقا للأحداث، فتبدو أشياء ثم تتغير المعارف طبقا لتطور الواقع وتغير الأحداث، ويتم ذلك خارج الخطأ والصواب؛ فالمعرفة كشف للشيء، وما دام الشيء يتغير فالمعرفة كذلك، وهذا ما بدا في النسخ. وذلك تعليم للبشر للجمع بين العلمين القبلي والبعدي، الفطري والكسبي ، الضروري والنظري، الحدسي والاستدلالي.
44
لا فرق إذن بين القول بحدوث الصفات أو نفيها والقول بالتجسيم، كلاهما كفر.
45
ولكن هل التشبيه هو الإيمان؟ هل إثبات الصفات وقدمها هو الرأي الصائب، وما دونه هو الضلال؟ وما الفرق بين تشبيه الله بالإنسان وبأن يكون له وجه ويد وعين، وبين تجسيم الله في صورة إنسان يقوم ويقعد ويتحرك، والأمر في كلتا الحالتين يتجاوز اللغة والصورة الفنية إلى الشيء نفسه؟ وما الفرق بين تصور التجسيم لله على أنه جسم، وتصور التشبيه له على أنه جسم حي، لحم ودم وعظم؟ وهل السبب في استثناء الفرج واللحية نفاق السلاطين وتربية لحاهم، ثم فسادهم وانحلالهم وإطلاق العنان لفروجهم؟ إن الفرق بين التجسيم والتشبيه ليس فرقا في النوع، بل هو فقط في الدرجة. التجسيم أكثر صراحة من التشبيه، والتشبيه أكثر خوفا. كلاهما يقوم على تصورات الملأ والمحاذاة والبعد والتناهي والجهة والتحت والفوق والعلو والسفل.
46
ما الفرق بين إثبات نزول الله وصعوده إلى السماء الدنيا في التشبيه، وبين القيام والقعود والحركة في التأليه والتجسيم؟ وأيهما أكثر تنزيها لله، إثبات الأعضاء لله أم تأويل النصوص، فيكون الاستواء هو الاستيلاء، والقدرة والاحتواء، وأن يكون الوجه هو الحضور، واليد المقدرة، ويكون العين والسمع والبصر هو العلم، والجنب بمعنى الأمر، والفوق بمعنى العلو والتعالي؟ هل المطلوب المحافظة على المعاني الحرفية للنصوص والوقوع في التشبيه، أم تأويل النصوص حفاظا على التنزيه؟
47
أيهما أفضل؛ التفسير الحرفي للنصوص والوقوع في التشبيه، أم التأويل العقلي لها حرصا على التنزيه؟ وما الحكمة في تصوير اليد والقبضة كيد فعلية إلا الرغبة في البطش؟ وأيهما أفضل؛ الشيئية المادية المشخصة لله، أم النظرة الإنسانية العامة العقلية له؟ وأيهما أفضل؛ أن يكون لله وجه وعينان وشفتان وأذنان ووجنتان وأنف وجبهة وذقن، أم يكون له ما هو بمثابة الحضور والذات والنفس؟
48
وأيهما أفضل؛ أن يوصف الله بأنه «فوق» عباده حقيقة في المكان، أم أنه المستولي عليهم والأعلى منهم؟ وأيهم أكثر تنزيها؛ وصف الله بأنه متين، أي تخين جسما، أم أنه قوي؟ وأيهما أكثر فهما ؛ وصف الله بأنه شديد بمعنى القوة العضلية، أم بمعنى أن حكمه نافذ؟
49
وأيهما أكثر عقلا؛ إجراء النصوص على ظواهرها، أو تفويض معناها، أو تأويلها؟ إن التفسير الحرفي يوقع في التجسيم أو التشبيه، والتفويض تسليم بالعجز وهدم للعلم، لم يبق إلا التأويل حرصا على التنزيه ودفاعا عنه.
50
وهل الصواب مع الفرقة الناجية التي ترفض التأويل وتقبل النصوص على ظواهرها، فتقع في التشبيه وتلحق بالتجسيم، أم مع الفرق الضالة التي تقبل التأويل حرصا على التنزيه؟ أليس العقل أساس نظرية العلم؟ ألا يشمل التفسير الحرفي للأدلة النقلية القطعية للعقل؟ وإن فريقا من الفرقة الناجية لينضم إلى الفرق الهالكة في التأويل إيثارا للتنزيه دفعا للتشبيه.
51
كما يرفض فقهاء الأمة وحماة عقائدها التشبيه، ويبقون على التميز بين المستويات؛ فقياس الغائب على الشاهد يوقع لا محالة في التشبيه، وعلى هذا القياس تقوم عقائد الفرقة الناجية.
52
ومع ذلك فإن كل عقائد الفرقة الناجية في حاجة إلى برهان، هي مجرد تكرار لعقائد الإيمان بالاعتماد على الحجج النقلية دون تأصيل أو تأسيس لعلم الأصول، ولا مفر من الدفاع على التنزيه ولو بأسلوب النفي، كما هو الحال في «آيات السلوب». بالنفي يتم استبعاد مظاهر النقص الإنساني، وبالإثبات يتم استبقاء مظاهر الكمال الإنساني.
53
فالأوصاف والصفات كلاهما في الوصف وليس في الموصوف، في الذات وليست في الموضوع. أما الخبر فإنه لا يتوجه إلى وصف الأشياء مباشرة دون عقل الذات وفهمه له.
54 (2-3) خلق الأفعال
فإذا ما تركنا التوحيد إلى العمل، من الإنسان الكامل (الذات والصفات) إلى الإنسان المتعين (الحرية والعقل)، فما الكفر في القول بخلق الأفعال وإثبات حرية الإنسان، وبأنه قادر على أفعاله مسئول عنها؟
55
وما دام هذا المبدأ قد ثبت، وحرية الإنسان أصبحت واقعا، فما المانع من الاتساق العقائدي واستنباط النتائج من المقدمات حتى يتولد العدل من التوحيد، ويخرج منه خروج الإنسان المتعين من الإنسان الكامل؟ قد يتطلب هذا القول بفناء مقدورات الله دفاعا عن حرية الإنسان.
56
والأمور كلها تشبيه في تشبيه، إنما الخلاف في الصياغات، واختلاف الإحساس بها طبقا للعواطف الدينية . تؤدي حرية الإنسان إلى استحقاقه للمدح أو الذم، وقانون الاستحقاق لا يخرق لأنه نتيجة للحرية. وإذا كان الإنسان خالق أفعاله، وعلى ذلك يتم الاستحقاق، فما المانع القول كإحدى مسلمات التوحيد ومقتضيات العدل بأن الله لا يقدر على ما يقدر عليه الإنسان؟ فالله هو العلم والاتساق والواجب والصدق، أي إنه المبدأ النظري، في حين أن الإنسان هو الفعل والتحقق، أي الواجب العملي. لا تعارض إذن بين الإنسان الكامل والإنسان المتعين، بين المثال والواقع. هذا التفرد للإنسان إنما يتم بخلق الأفعال؛ وبالتالي لا يمكن وأد المولود الجديد باسم الأب الذي منه تولد. إن إرادة الله لفعل الإنسان تعني فقط أنه أمر به أو أخبر عنه، لا أنه فعله وقام به بدلا عنه، وإلا لزاحم الله الإنسان، ولنافس الأب الابن. وكيف يتولد الابن ويمنع عنه الماء والهواء؟ وإذا كان الله لا يقدر على ما أخبر بعدمه أو علم عدمه، في حين أن الإنسان قادر عليه، فليس ذلك تعجيزا لله وإثباتا لقدرة الإنسان الفائقة، بل لأن الله هو التطابق والاتساق؛ تطابق النظر والعمل، اتساق الفكر والوجود، في حين أن في الإنسان هناك توترا بين الاثنين. فالإنسان قادر على أن يفعل ما لا يعرفه بعد، ويعلم ما لم يفعله بعد. هذا هو التمايز بين الإنسان الكامل حيث يتطابق المثال والواقع، وبين الإنسان المتعين حيث يتغايران. ولما كان العقل والصدق متناقضين، وكان الإنسان الكامل هو التطابق والاتساق، فإنه لا حرج من القول بأن الله يقدر على ذلك كله. وخطأ الصياغتين هو افتراض تعارض القدرة والعقل، وكلاهما صفتان متسقتان في الإنسان الكامل. وإن كفر إعطاء الأولوية للعقل على القدرة ليس بأكثر من الكفر الناتج عن إعطاء الأولوية للقدرة على العقل. وإذا كان العقل مداد الاتساق فإنه لا حرج أيضا، زيادة في التأكيد عليه، ورغبة في مزيد من التعين، من القول بأن الله لا يقدر على تعذيب الأطفال والمجانين. وإذا كانت الغاية من الإعجاز التحدي، فما المانع من قبول الإنسان الدخول في هذا التحدي، وجعل الإنسان قادرا على أن يأتي بمثل العمل المعجز؟ وهل التحدي محكوم عليه سلفا بعدم قدرة الإنسان الدخول فيه وقبوله والإتيان بالمثل؟ لو كان الأمر هكذا لما كانت هناك فرصة متكافئة بين الطرفين المتنافسين،
57
بل إن أية محاولة أيضا لأخذ قدرات أوسع في الاعتبار متشابكة مع القدرة الإنسانية، وذلك مثل قدرات الطبيعة بما فيها من دوافع وموانع يتم أيضا تكفيرها حتى يتم استئثار الله بكل القدرات. وكأن الإيمان لا يصلح إلا بهذا التصور الأحادي المطلق للقدرة. وقد يتولد الفعل من فعلين، وقد تتعلق القدرة بمقدورين أو قادرين، ولا يعني ذلك شركة في القدرة الإلهية، بل اعتراف بالقدرة الإنسانية وتشابكها مع باقي القدرات في الطبيعة، بل قد تتولد الأعراض في الطبيعة من تلقاء ذاتها دونما حاجة إلى قدرة إنسانية أو غيرها، فالطبيعة خالقة تكمن فيها الظواهر ثم تبدو تدريجيا أو بالطفرة.
58
وإذا ما ركزت الفرقة الناجية على الجوانب الغيبية في القدرة، فهل هو كفر من الفرق الضالة أن تركز على الجوانب الحسية، وأن تعتبر القدرة في سلامة البنية وتأثيرها في الطبيعة؟ ليس للإنسان فعل غير الإرادة، وكل ما سوى أفعال الإنسان حادثة بالطبيعة، بل إن الإرادة من الميل الطبيعي في الإنسان وليس خموله، يقظته دون سهوه وغفلته. وهل التركيز على طبائع الأشياء كفر، واللجوء إلى إرادة خارجية قاهرة تفعل ما تشاء كسلطان أعظم لا يرده أحد هو الإيمان؟ بل إن تصور أفعال الله تتم طباعا أقرب إلى الطبيعة الخيرة، حيث تكون إرادة الله تعبيرا عن حريته، لا كارها ولا مكرها؛ ومن ثم كانت حرية الإنسان خلق الله له في العالم، وأمره إياه دون إجباره وقهره، بل تركه لطبيعته الحرة المماثلة لطبيعة الخالق.
59
وهل الإيمان بالضرورة هو إثبات قدرة قادرة على ما لا يكون وعلى ما لا يعلم القادر، ضد حرية الإنسان وضد قانون الطبيعة؟ وهل الغاية من ذلك هي عتبة السلطان الجائر؟ فما أسهل بعد ذلك إذا ما قامت العقيدة بإعداد البناء النفسي للناس على هذا التسليم للإرادة وإنكار فعلها وقدرتها وحريتها، أن تستسلم لإرادة السلطان الجائر والرضوخ لأوامره.
60
وقد انتهى ذلك في العقائد المتأخرة إلى عودة العدل إلى التوحيد بعد أن خرج منه، وتدمير العالم كله، حرية الإنسان وقانون الطبيعة. وأصبح العالم دائرا بين قطبين؛ الأعلى موجب يستغني عن كل ما سواه، والثاني سالب مفتقر كل ما عداه إليه؛ وبالتالي تأسست أنظمة القهر في الذهن وفي النفس على أسس تصورية كونية خالصة قبل أن تتأسس في الواقع كأنظمة سياسية تعتمد على العسكر والجند.
61
التكفير إذن سلاح مشهور ضد الخصوم السياسيين، حتى ولو كانت عقائدهم تشارك عقائد الفرقة الناجية، ولكن تستعمل لحساب المعارضة والثورة، وليس لحساب الخضوع والاستسلام. فإثبات القدر ونفي قدرة الإنسان لو كان ذلك من أجل قدرة الثورة على الظلم، واتباع التكليف الذي هو أصل البقاء، فإنه يكون كفرا. أما إذا أدى إلى الخضوع والتسليم فإنه يكون إيمانا! وإثبات الجبر، والاعتراف بالقضاء والقدر، لو كان الهدف من ذلك الثورة ضد الظلم والانتصار للحق ضد الباطل - وهو ما حاولته الحركات الإصلاحية الحديثة باعتبار أن الإيمان بالقضاء والقدر يولد قوة هائلة على التحرر؛ لأنه يمنع من التردد والإحجام والشك والتذبذب - فإنه يكون كفرا. أما إذا ولد الإيمان بالقضاء والقدر الاستسلام للأمر الواقع، والخضوع للسلطان، فهو لب الإيمان!
62
إن الفرقة الناجية في موضوع خلق الأفعال تعلن عن الإيمان، وهو تحصيل حاصل دون برهان أو إقناع. وإذا كان عمل العقل في التوحيد غالبا ما يكون تحصيل حاصل، إلا أن عمله في خلق الأفعال يقوم على تحليل السلوك الإنساني. وما الفائدة من الدفاع عن حق الله وحقوق الإنسان أولى بالدفاع؟ ألا تؤدي عقائد الفرقة الناجية في موضوع الأفعال إلى تدمير الإنسانية المستقلة، والقضاء على المبادرة الحرة، وإنهاء أية إمكانية للخلق والإبداع؟ ألا ينتهي ذلك إلى تبرير نظم القهر والطغيان، فما أسهل أن يتمثل السلطان دور الله، ثم يزحزحه شيئا فشيئا حتى يتحول إلى سلطان إله، ويتحول الله إلى إله سلطان؟ هل النجاة في الاستسلام للأمر الواقع، وإنهاء أية إمكانية للتغيير في الحاضر أو المستقبل؟ (2-4) العقل الغائي
ولا يظهر سلاح التفكير كثيرا في موضوع العقل الغائي، الشق الثاني من أصل العدل في الإنسان المتعين؛ إذ تتفق الفرق جميعا الناجية والضالة في أن للعقل دورا في فهم النقل، وهو أساس نظرية العلم في المقدمات النظرية الأولى، بل يحتاج التشبيه إلى عقل من أجل الأحكام النظرية. ولا غرابة أن يكون أول الخلق حيا حتى يصح منه الاستدلال؛ إذ لا استدلال بلا حياة.
63
وإن تحليل الألفاظ في النقل لا يتم إلا بالعقل، وإلا لكان استعمالا لحجة سلطان بلا برهان. ولا سبيل إلى إحكام الألفاظ المتشابهة، أو إلى تحقيق المجاز، أو تخصيص العام، أو تقييد المطلق، أو الاستثناء، إلا بإعمال العقل في اللغة. والألفاظ إما من الوحي أو من الاستعمال أو من العقل؛ فالعقل الذي يشمل الحس والاشتقاق قرينة لفهم النص مع الاصطلاح والعرف. وإن تحليل الترادف والاشتراك والتضاد إنما يتم ذلك كله بالعقل. وإذا كان اللفظ إنما هو وسيلة لحمل المعنى ودال على دلالة، فإن المعنى أو الدلالة لا يمكن فهمها إلا بالعقل.
64
لا سبيل إذن إلا استعمال التأويل؛ فإذا كان التفسير الحرفي يوقع في التجسيم والتشبيه، فإن التأويل الباطني يوقع في تجسيم مضاد، وتشخيص للنص، وتعيين له في واقع نفسي معين. فإذا كان التجسيم والتشبيه يتمان في مجتمع السلطة، فإن التأويل الباطني يتم في مجتمع الاضطهاد. فكل مضطهد يثور على الاضطهاد يكون بيانا للناس، وهو المخاطب بالوحي، وهو الذي يحل روح الإله فيه، ويكون الظالم هو الطاغوت والشيطان.
65
فإذا كان التأويل الحرفي إنما يتبع المتقدمين ويقلد السابقين دون إعمال لقواعد اللغة أو لمصالح الأمة، فإن التأويل العقلي إنما يهدف إلى تنزيه التوحيد وتثبيت العدل. إن الفهم الحرفي للنصوص يؤدي إلى تحويل الصورة الذهنية إلى شيء، والأثر النفسي إلى واقعة مادية، والخيال إلى حس، حتى ولو اصطدم ذلك بالعقل والطبيعة والحرية وخالف المسئولية والقانون والعدل، في حين يبدو أن العقل هو السبيل لفهم حقائق الوحي، وتحويلها من الصورة الذهنية إلى المعنى العقلي، من التشبيه إلى وجه الشبه. التأويل العقلي إذن هو السبيل إلى التنزيه وفهم الوحي، والقضاء على كل أساس مادي أو حسي في التجسيم، والرجوع من الصور الذهنية إلى المعاني العقلية، والانتقال في النهاية من التشبيه إلى التنزيه. العقل هو الوسيلة التي بها يمكن إحكام التشابه في النصوص؛ إذ إن كثيرا منها مجازيا لا يحتوي على فكرة بقدر ما يوحي بصورة فنية الغرض منها التأثير على النفوس؛ فالتأويل ضرورة للتنزيه.
66
فإذا كان العقل أساسا للنقل فمن المستحيل تكفير القول بالواجبات العقلية، أو تبرئة الله عن فعل القبائح، وتنزيهه عن فعل الشرور والآثام، أو الصلاح والأصلح، والغائية والعلية، أو اللطف والألطاف، أو العوض عن الآلام. فما العيب في الإنسان العاقل؟ أليس الحسن والقبح العقليان أفضل من الحسن والقبح الحسيين وأوسع نطاقا وشمولا؟ وما الضرر في العقل الغائي؟ ما العيب في ارتباط أفعال الله بمصلحة الإنسان وتبرئة الله عن الشرور والظلم والقبح؟ وما الضرر في اعتبار الإنسان حرا مسئولا، وأن الخير والشر من فعله بدلا من نسبتهما إلى الله وتدمير حرية الإنسان، أو تبرئة الله واتهام الإنسان؟ وأيهما أفضل في تصور العالم؛ العشوائية أم الغائية، اللامعقول أو العلية؟
67
إن عقائد الفرقة الناجية إنما هي دفاع عن الله، في حين أن عقائد الفرق الهالكة إنما تدافع عن الإنسان. وإلى أي الدفاعين نحن أحوج؟ ويؤدي الدفاع عن الله إلى الدفاع عن السلطان؛ فكلاهما دفاع عن السلطة المطلقة، فتختلط السلطتان، سلطة الله وسلطة السلطان، في أذهان العامة وفي نفوس الجماهير. في هذا التصور لا وجود لقانون معروف مطلق وشامل، بل يوجد قانون مشخص بإرادة السلطان. لا وجود للغائية والقصدية، لا وجود للمراجعة والتظلم، أو الرقابة والسيطرة الشعبية، لا وجود للعدل كمقولة بعد أن ابتلعها التوحيد من جديد، وأصبح مسيطرا على كل شيء. لا وجود للثورة على الظلم بعد أن أصبح كل واقع في العالم عدلا.
68
فكيف ينجو الإنسان بنفسه بعقائد الفرقة الناجية؟ ولم الاتهام بالضلال وللقول بأن الإنسان هو الروح، وأن البدن آلتها؟
69
أليست هذه هي النظرة المثالية السائدة عند كل الفرق وفي إيمان العوام والموروث العقائدي للأمة؟ ألا يتفق هذا التصور مع النظرة المثالية للعالم؟ إن عقائد الفرقة الناجية إنما تمت صياغتها من وجهة نظر الله، فيضع المتكلم نفسه مكان الله وينظر إلى العالم، فيراه ذاتا وصفاتا وأفعالا، ويرى إرادته المخالفة لإرادات الناس، ويراه الآمر والناهي في الأشياء، ويرى كل ما في العالم خاضعا له. بينما تمت صياغة عقائد الفرق الهالكة من وجهة نظر الإنسان، فيرى المتكلم ذاته محضة لا يمكن ردها إلى صفات أو إلى أفعال، ويرى الإنسان حرا مريدا قادرا له عقل يدرك به الحسن والقبح. فالفرق الهالكة أقرب إلى الموقف الإنساني، أما بالنسبة للفرقة الناجية، فالله وحده هو القادر على إثباتها؛ لأن عقائدها متضمنة في العلم الإلهي. الفرق الهالكة أقرب إلى التواضع ووصف الأمور على ما هي عليه، في حين أن الفرقة الناجية أقرب إلى الغرور والادعاء وهي يتصف الأمور من خارج الموقف الإنساني، فتنتهي إلى تحطيمه، وتقع في الاغتراب. فإذا ما قارنا فترتين من التاريخ، كل منهما تعبر عن روح العصر وروح الحضارة، الأولى عصر الازدهار، والثانية عصر الانهيار، لوجدنا أن الإجماع السابق إنما نشأ في عصر معين، في مجتمع منتصر عبر عن نفسه في نسق عقائدي مركزي، لاهوت القوة والسيطرة والخضوع والطاعة. كل شيء يدور في كنف هذه السلطة المركزية ممثلة في الله أو في السلطان أو في الأمير أو في رب الأسرة. ولما كانت روح العصر وروح الحضارة قد تغيرا حاليا نفسيا واجتماعيا، أصبح هذا اللاهوت القديم أحد أسباب مآسيه، يستغله الطاغية لتركيز سلطانه في نفوس الناس. وما أسهل انقياد الجماعة للطاغية إذا كان لديهم من قبل الاستعداد النفسي لذلك. وفي هذا العصر حيث بدأت حركات التحرر، ينشأ لاهوت التحرر أو لاهوت الثورة، وينشأ إجماع جديد؛ إذ إن لكل عصر إجماعه يعبر عنه وعن مصالح الناس، يثبت القدرية على خلق الأفعال وسلطة العقل وحق الجماعة وضرورة الثورة على الظلم ورفض السلطة المركزية، وما يتبعها من خضوع وطاعة وولاء. (3) هل هناك تكفير في السمعيات (النبوات)؟
تشمل السمعيات موضوعات أربعة: النبوة ؛ أي تاريخ البشرية في الماضي وتطور الوحي. والمعاد؛ أي مستقبل البشرية وإمكانية حياة أخرى بعد الموت. والإيمان والعمل. وأخيرا الإمامة. وكلها من السمعيات التي لا يجوز تكفير أحد فيها؛ لأنها لا يمكن إثباتها بالعقل. فإذا جاز تكفير أحد في الإلهيات، أي العقليات، لأنها من القطعيات، يستطيع الإنسان أن يصل فيها إلى يقين، فإنه لا يجوز تكفير أحد في السمعيات، أي النبوات؛ لأنها من الظنيات التي لا يستطيع الإنسان أن يصل فيها إلى يقين نظرا لاعتمادها على النقل فقط، والنقل لا يعطي إلا الظن، والظن لا يغني من الحق شيئا؛ وبالتالي فإن تكفير الفرق الضالة في السمعيات هو في ذاته خروج على عقائد الفرقة الناجية. (3-1) تطور الوحي (النبوة)
ففي موضوع النبوة، ما العيب في القول بأن نظم القرآن ليس بمعجزة في ثقافة تقوم على الإبداع الشعري واللغوي؟ ولماذا لا يكون الإعجاز خارج النظم في الفكر والتشريع والمنهج، وهو ما لم يعرفه العرب كثيرا من قبل؟ وما الذي يمنع الإنسان من أن يثبت جدارته، قابلا التحدي، قادرا على النظم شعرا وإبداعا وخلقا متشبها بالله دون تقليد للقرآن ما دام الإعجاز ليس في النظم بل في الفكر، ليس في الصورة بل في المضمون؟ ليس القرآن كتاب تحليل وتحريم، بل كتاب فكر، وليس الغرض منه تغليف العالم بقوانين وتقييد السلوك الإنساني بقواعد، بل مساعدة الطبيعة على الازدهار، والحياة على النماء. وإن إنكار سورة منه مثل سورة يوسف نظرة تطهرية صرفة، وكأن الجنس عيب وتحليله رذيلة، وكأن الصمت فيه واجب والتستر عليه فضيلة. وإذا كان القرآن حادثا فهو جسم؛ وبالتالي ينطبق عليه التحول إثباتا لدخول الوحي في العالم، قراءته وسماعه بالصوت، وكتابته ورؤيته بالحرف، وفهمه بالذهن، وتطبيقه بالفعل. فما دام القرآن قد نزل فقد أصبح جزءا من العالم ولم يعد صفة أزلية للذات الإلهية كما هو الحال في الكلام. وكلما ركزت الفرقة الناجية على الكلام الأزلي والقرآن القديم، حدث رد فعل عند الفرق الهالكة بإثبات الكلام في العالم والقرآن الحادث. وما أسهل أن يولد الدفاع عن حق الله دفاعا مضادا عن حق الإنسان. ولماذا إثبات كرامة الأولياء وتعميم المعجزة على غير الأنبياء؟ أليس ذلك خرقا لقوانين الطبيعة، وإيهاما للناس، وقضاء على العقل والفعل والمبادرة والمسئولية الفردية؟ وكأن من الطبيعي أن يولد تركيز الفرقة على الأنبياء كدليل على صدق النبوة واستمرارها في الأنبياء قول الفرق الهالكة بجواز بعثة الرسل بلا دليل.
70
وفي مجتمع الاضطهاد من الطبيعي أن يصير الإمام نبيا إن لم يكن إلها؛ فهو صاحب رسالة وبلاغ، صاحب دعوة وحق، إحساسا بالدعوة والرسالة من أجل شحذ الهمة ولم الشمل وتجنيد الدعاة. وكرد فعل على اغتصاب السلطة من الإمام الجائر يرتفع الإمام المظلوم إلى مصاف النبي. وكأن النبوة أساس للإمام وليست للنبي. ولكن الذين أخذوا مكان الإمام، أئمة الزور، هم الذين منعوه. والقول بأن جبريل أخطأ في تبليغ الرسالة إلى الرسول الحق هو مجرد تشبيه ومغالاة من أجل إعادة الحق الضائع إلى الإمام المهضوم. وإذا كان النبي يأخذ النبوة من الله بواسطة جبريل، فإن الإمام نبي من الله مباشرة، يمسح الله رأسه بيده، ويطلب منه التبليغ للناس مباشرة بلا حاجة أو واسطة، وهي درجة في القرب أعظم. والوحي متصل لا ينقطع، تتواصل النبوة في الإمامة؛ مما يجعلها أكثر قدرة على تجنيد الناس. وقد تعمم النبوة، ويصبح كل مؤمن نبيا حتى ينشأ الفرد الداعية صاحب الفكرة والمحافظ على المبدأ. وقد يبلغ إيمان البعض إيمان الملائكة؛ فليس صعبا إنشاء الإنسان المتوفق «السوبرمان». ينالون الخلود، ويرفعون إلى السماء كما هو الحال في تاريخ الأديان في اليهودية (أخنوخ، دانيال)، وفي المسيحية (المسيح). وقد يغلب الواقع الحلم فيموتون. النبوة والرسالة صفتان غير الوحي. والوحي هو الشيء المحمول، والرسالة علاقة النبي بغيره (البعد الأفقي)، أما النبوة فعلاقة النبي بالله (البعد الرأسي). إذا ما تطورت النبوة ثبتت الإمامة؛ لأن تطور النبوة إثبات للإمامة وتحقيق لغايتها. كل مرسل رسول، وليس كل رسول مرسلا. وذلك إثبات آخر للإمامة؛ لأن الإمام مرسل، وبالتالي فهو رسول. والمعجزة والعصمة ليسا حكرا على النبي، بل يعمان الإمام. الخلاف إذن بين الفرقة الناجية والفرق الضالة خلاف في الدرجة وليس في النوع؛ فكلاهما يثبتان المعجزة والكرامة والعصمة، ثم يختلفان في الثبوت فيه؛ النبي وحده أم النبي والإمام. وإن الظروف النفسية لمجتمع الاضطهاد، عزل الإمام وتثبيت خلفاء النبي، هي التي ولدت رد فعل دفاعي مضاد، تثبيت الإمام حتى ولو أدى ذلك إلى عزل النبي.
71
إن الفرقة الناجية لا تميز بين مراحل الوحي السابقة وبين آخر مرحلة، وتقضي على الفرق في النوع بين العموم والخصوص، بين تطور النبوة واكتمالها، بين الحاجة إلى المعجزة كبرهان خارجي، والحاجة إلى دليل داخلي في الفكر والتشريع. فالوحي في آخر مرحلة عندما تكتمل النبوة لا يفعل الأعاجيب، ولا يقوم على المعجزات، بل يكون قد أدى غرضه، وهو الإسراع في تطور الوعي الإنساني وتحقيق كماله، حرية الإرادة واستقلال الذهن. فإذا ما تحققت الغاية لم يعد الإنسان بحاجة إلى نبوة، يكتمل الوحي وتنتهي النبوة، ويصبح العلماء ورثة الأنبياء؛ أي استمرار الوعي النظري والممارسة العملية في قيادة الأمة وتأسيس الدولة. وهو أيضا ما أكدته الحركة الإصلاحية الأخيرة.
72 (3-2) مستقبل الإنسانية (المعاد)
وفي موضوع المعاد، لماذا يكفر قانون الاستحقاق؟ ولماذا الاعتراض على منع التوبة في حالة الإصرار عليها والعلم بها والقدرة عليها؟
73
وما العيب في أن يكون العقل مناط التكليف؟ أليست هذه كلها أيضا من عقائد الفرقة الناجية؟ ليس المهم إذن هو التكفير العقائدي النظري، بل مدى توظيف هذه العقائد دفاعا عن السلطة كما تفعل الفرقة الناجية، أم الثورة عليها كما تفعل الفرق الضالة. وأيهما أفضل؛ الاستحقاق أم الشفاعة، التوبة أم العفو، الشهادة أم البشارة كطريق للجنة؟ ونظرا لأهمية التكليف والإيمان، فمن الطبيعي أن يكون اليهود والنصارى والزنادقة والمجوس والأطفال والبهائم لا يدخلون جنة ولا نارا؛ فالعقل والتبليغ أساس التكليف. وهو لا يختلف كثيرا عن عقائد الفرقة الناجية. وفي تشخيص قانون الاستحقاق بعد الموت، فإن القول بالتناسخ هو نوع من إثبات خلود الروح والمادة معا، كما هو الحال عند آخر الحكماء في خلود العقل الكلي ضد الفردية والتقطع من أجل الشمول والتواصل، بالرغم من الاعتراضات الفقهية عليه. وقد يكون الدافع لإنكار القيامة هو حدوث الهول والزلزلة في الدنيا، فلم يعد هناك فرق بين الواقع والخيال؛ إذ يتحول الواقع إلى خيال، والخيال إلى واقع. فالنعيم والعذاب في الدنيا وليسا في الآخرة، دون حاجة إلى تعويض عن الدنيا في الآخرة. وقد يحدث تشخيص للجنة والنار، فتصبح الجنة رجلا تجب موالاته وهو الإمام، والنار رجلا تجب عداوته وهو عدو الإمام، يتحول كل شيء إلى الإمام ونقيض الإمام. ولماذا تخلق الجنة والنار الآن ولا حاجة لأحد بهما؟ من يقطن فيهما؟ وما الفائدة منهما وهما بلا سكان؟ وأيهما أفضل؛ مشاركة الجنة والنار صفة البقاء، أم القول بفنائهما حتى يبقى الله وحده؟ وما دام الأمر كله تشبيها وتشخيصا، فالقول بأن الجنة والنار لم يخلقا بعد هو أقرب إلى العقل، وأكثر سيطرة على الخيال.
74
إن عقائد الفرقة الناجية في أمور المعاد تشخيص وتشبيه وتصوير، كما هو الحال في التوحيد، دون تمييز بين قانون الاستحقاق وصوره المشخصة. تقضي على قانون الاستحقاق، وتوقع الإنسان في عالم لا يضبطه قانون ولا يحكمه فكر، وتتحول الفرقة الناجية إلى أهل هوى وضلال.
75 (3-3) النظر والعمل (الأسماء والأحكام)
ويبدو أن التكفير العقائدي النظري في أصلي التوحيد والعدل كان الغرض منه استبعادا عمليا لفرق المعارضة. فإذا وقع التكفير في الموضوعات العقلية الأربعة، الذات والصفات وخلق الأفعال والعقل والنقل، فإنه لم يقع إلا في موضوعين سمعيين، النبوة والمعاد، دون الإيمان والعمل والإمامة، مع أن هذين الموضوعين هما بيت القصيد. النبوة والمعاد يشيران إلى التاريخ العام، في حين أن النظر والعمل والإمامة تشير إلى التاريخ المتحقق. والقصد كله هو تكفير العمل الفردي والعمل الجماعي. الأول متمثل في الفعل، والثاني في الثورة. القصد من الأول إخراج العمل من الإيمان حتى لا يتم تكفير السلطان، والثاني الغرض منه الطاعة لأولي الأمر حتى لا يقع الخروج عليهم. العمليات إذن هي الغاية من التكفير تحت غطاء النظريات.
76
ففي موضوع الإيمان والعمل من الطبيعي أن يتحول الإيمان في جماعات الاضطهاد إلى ثنائية متصارعة بين النور والظلمة في نسيج أسطوري. الإيمان نور، والكفر ظلمة. والإيمان للمضطهدين، والكفر للبغاة. الإيمان هو نور الكون وحلو المياه، والكفر ظلمة الأشياء وملوحة البحار. وإذا كان الإيمان قديما في عهد الذر حيث شهد الخلق على أنفسهم بالإيمان بقولهم «بلى» في عهد «ألست»، فهو باق في الجميع إلا المرتدين. وإذا كان إيمان المنافق مثل إيمان الأنبياء، فذلك للضيق بالجميع وفقدان القدرة على الحكم، والانتهاء إلى التناقض والعدمية في كل شيء.
77
وكان من الطبيعي استحلال المحرمات في مجتمع الاضطهاد، في عالم كفر بالقوانين والشرائع، يجعل الظلم دولة، والحق سجنا، والعدل استشهادا. وإذا سقطت الشرائع فإن ذلك دفاع عن النفس ضد الآخر، فالشرائع تطبقها دولة الظلم ويرفضها مجتمع الاضطهاد، يكفي فهمها حتى تسقط كما هو الحال عند الحكماء والصوفية. وإذا كانت جماعة الاضطهاد هي أقلية مضادة، فإن إبطال الشرائع يكون هدما لمجتمع الأغلبية، غيره من المجوس، وانتقاما لزوال دولتهم. إن طبيعة المجتمع المغلق تؤدي إلى تكييف القانون طبقا للجماعة، فتجوز شهادة الزور على المخالفين، واستباحة المحرمات فيما بينهم؛ فالحلال والحرام طبقا لنوع المجتمعات مغلقة أو مفتوحة، ولنوع نظم الحكم قاهرة أو معارضة؛ فالحلال والحرام وسيلة السلطة للضبط الاجتماعي، كما أن الإباحة وسيلة المعارضة لزعزعة أركان النظام.
78
وما العيب في استقطاب الناس وتجنيد الجماهير ونشر الدعوة وبث روح المعارضة من أجل القضاء على حكم الظلم والطغيان؟ وإذا كانت الدولة صاحبة فتوح باسم الدعوة، فإن الثورة صاحبة الحق. وإن تجنيد الناس في الثورة عن طريق الإقناع الفردي لهي وسيلة للانقضاض على النظام من الداخل عن طريق خلق فراغات فيه، وتكوين بؤر ثورية من داخله، حتى يقوم النظام كله على فراغ، فينهار لانحسار أمته وفقده مساندتها له.
79
ولا يتم فقط تكفير مجتمع الاضطهاد المغلق لإسقاطه الشرائع كلية، بل يتم أيضا تكفير مجتمع المعارضة المفتوح.
80
والعجيب تكفير من يسقط الشرائع ومن يثبتها، وكأن الشرائع مجرد ذريعة فقط لتكفير المعارضة أيا كان نوعها. فما العيب في جعل الإيمان علما والكفر جهلا؟ ألا يشير العلم والجهل إلى مستوى النظر والمعرفة في السلوك؟ وما العيب في القول بالمنزلة بين المنزلتين، ومحاولة إيجاد حكم لمرتكب الكبيرة بين الإيمان والكفر حفاظا على وحدة الأمة، وفي الوقت نفسه حفاظا على وحدة الإيمان والعمل؟ ليس في القول بالمنزلة بين المنزلتين تهاون مع الصغيرة أو مع الكبيرة؟ فمن الفساق من هم أشر من الزنادقة والمجوس. المهم هو زعزعة الأحكام المتناقضة على طرفي النقيض، مثل رفض الإجماع على حد الشرب، واعتبار سارق الحبة منخلعا عن الإيمان، وإيجاد حكم يستجيب إلى مطلبي النظر والعمل، ضرورة الوحدة في النظر والتمايز في العمل. وعلى هذا يقوم قانون الاستحقاق.
81
وقد تم أيضا تكفير الاتجاهين المتعارضين في الإيمان والعمل، اتجاه الشدة واتجاه اللين،
82
وكأن الهدف هو تكفير كل فرق المعارضة، تجريح سلوكها، سواء أسقطت الشريعة أم قالت بالتوسط فيها، سواء أخذت موقفا متشددا أو أخذت موقفا لينا. فما العيب في القول بضرورة النظر السليم ومعرفة الحلال والحرام كرد فعل على الخلط النظري في الإيمان كأساس معرفي للسلوك؟ ما الخطأ في التركيز على المعرفة كأساس للسلوك في التفرقة بين الإيمان والتكفير؟ أليست معرفة الله ضرورية للإيمان ضرورة الفعل والسلوك؟ وإذا كانت أسماء الله معايير للسلوك، فإن الإيمان يكون معرفة الإنسان بها والكفر جهله بها، ببعضها أو كلها، ومع ذلك يمكن العذر بالجهالة؛ وبالتالي لا يمكن تكفير الفرقة الناجية لذلك إلا إذا كان القصد من التكفير استبعاد المعارضة، والتستر على ذلك بالآراء والمواقف النظرية.
83
أما بالنسبة للعمل، فلماذا يكفر من يأخذ الأمور بالشدة في وقت عز فيه العمل، وعم الجهل والخلط، وازدهر فيه النفاق، وتم التشريع فيه للفسق؟ وما العيب في جعل العمل جزءا متمما للإيمان، فالإيمان بلا عمل فارغ، والعمل بلا إيمان أهوج؟ لقد كان ذلك رد فعل طبيعي على إخراج العمل عن الإيمان، أو اعتبار مرتكب الكبيرة مؤمنا؛ حماية للسلطان، ودفاعا عنه، واتقاء له من مخاطر الثورة ضده. فمرتكب الكبيرة كافر نظرا لأهمية العمل والعمل المؤثر. وقد يصل إلى حد تكفير النبي إذا ما ارتكب الكبيرة. ومع ذلك قد يظل مرتكب الكبيرة وموحدا، وإن كان غير مؤمن، أو يكون كافر نعمة وليس كافر ملة. وفي هذه الحالة لا يمكن للفرقة الناجية تكفيره نظرا لتوحيده.
84
ولما كان الطرفان يلتقيان فقد تتحول الشدة مع الآخر إلى اللين مع الذات؛ الشدة مع مجتمع القهر، واللين مع مجتمع الاضطهاد، فلا حرام إلا ما حرم القرآن. وهذا مظهر من مظاهر التشدد مع الآخر كرد فعل على الاحتكام إلى أهواء الناس. والسكر من الشراب الحلال حلال؛ لأن العبرة بالبداية لا بالنهاية، هذا مظهر من مظاهر اللين مع النفس. وإيقاف الحدود للقاذف والزاني تلبية لمطالب المجتمع المغلق في مواجهة مجتمع القهر، الطهارة في مواجهة النجاسة. وإن الإبقاء على الحدود وعدم التكفير على الإطلاق هو إبقاء على بعض الصلاة بالمجتمع الأم، ومع ذلك يؤدي نظام القرابة والمصاهرة من بين مجتمع القهر وأخذ الزكاة من العبيد إلى تقويته، وإحكام غلقه في مواجهة مجتمع القهر. ويمكن قبول طاعة لا يراد الله بها ما دامت تؤدي إلى صلاح النفس، فالطاعة حسن في ذاته.
85
ومن مظاهر التشدد اعتبار الأطفال كالآباء إيمانا وكفرا في مجتمع القهر. وما المانع أن يتحمل الأطفال المسئولية منذ الصغر مع الكبار، سواء مع الآخر أو مع النفس؟ وقد تجب البراءة من الطفل حتى يدعى إلى الإسلام، ودعاؤه إليه بعد البلوغ.
86
والإمام هو عصب مجتمع الاضطهاد؛ لذلك ارتبط موضوع الإيمان والعمل بموضوع الإمامة؛ فتطبيق الحدود لا يجوز إلا للإمام، فهو السلطة الشرعية فيه في مقابل السلطة اللاشرعية للسلطان الباغي في مجتمع القهر. والأولوية لإيمان الإمام أو كفره نظرا لآثار ذلك على إيمان الناس وكفرهم؛ لذلك يرفض التحكيم بصرف النظر عن مطالبة أنصار الإمام به، فلا تحكيم بين الحق والباطل. ويتم تكفير القعدة عن القتال في صف مجتمع الاضطهاد، فذلك خنوع واستسلام، ومساومة على الحق، وتأييد للظلم. وقد تمارس بعض مظاهر العنف، مثل اغتيال المخالفين، للقضاء على نظام البغي والتسلط. ويدخل الله مع مجتمع الاضطهاد في موالاته ومعاداة مجتمع القهر.
87
والحقيقة أن مشاركة كثير من الفرق الضالة في العقائد نفسها، مثل أصلي التوحيد والعدل، تجعل الفرق الضالة تمثل تيارا رئيسيا في عقائد الأمة، وليس مجرد فرق متفرقة بينها فروق؛ مما يدل على إمكانية التوحيد بينها في عقائد مضادة ضد النسق الحضاري للفرقة الناجية؛ وبالتالي تكون العقائد اثنتين؛ عقائد حكم وعقائد ثورة، عقائد سلطة وعقائد معارضة.
ويصل حد التكفير إلى حد تكفير الفرقة الناجية لنفسها وتضليلها لعقائدها، وذلك باعتبار الإيمان مجرد معرفة أو إقرار أو تصديق، وإخراج العمل منه وإرجائه إلى يوم الدين، يكفي أن يكون الإيمان معرفة بالله وخضوعا ومحبة بالقلب بصرف النظر عن الأفعال، ولا تضر مع الإيمان معصية، ولا تنفع مع الإيمان طاعة، وأن إبليس كان مؤمنا لأنه كان عارفا بالله، وكفر فقط لاستكباره ورفضه الخضوع والسجود، ولا يحكم عن إنسان فاسق على الإطلاق، بل أنه فسق في فعل خاص، ولا تهم الوقائع التاريخية كمصداق للإيمان؛ فالإيمان له مضمونه الداخلي وليس الحدث الخارجي، ومحمد كشخص تاريخي، ومكة كمدينة، والكعبة كمكان خارج مضمون الإيمان. الإيمان مكتف بذاته، منعكف على ذاته، لا شأن له بالعالم الخارجي.
88
وواضح من هذا الموقف الرغبة في تبرئة السلطان، وذلك بالفصل بين إيمانه وعمله. تكفيه معرفة الله ومحبته ورجاء أفعاله إلى يوم الدين، يحاسب عليها في الآخرة، ولا تحاسبه الأمة عليها في الدنيا. وقد يكون تكفير الفرقة الناجية للإرجاء نوعا من التعمية والتستر على مواقفها الخاصة المشابهة للإرجاء. (3-4) الحكم والثورة (الإمامة)
أما موضوع الإمامة فيكشف عن المواقف السياسية للفرق، واستعمال الفرقة الناجية سلاح التكفير ضد الخصوم السياسيين؛ فليست الإمامة كلها رجعة وتقية وعصمة وألوهية للإمام، بل هي أيضا أحكام تاريخية تكشف عن اختيار سياسي، ثم نسجت النظرية حوله فيما بعد. وفي شدة الأزمة وفي قلب الفتنة يتم تكفير الجميع حتى الإمام الذي لم يقاتل؛ فاليأس من الحفاظ على وحدة الأمة أدى إلى التشرذم والتقوقع، وتحولت الأمة إلى أمم صغيرة، كل منها على حق، والجميع على باطل. وكان من الطبيعي التمسك بالإمام المظلوم وبأولاده ونسبه زيادة في التمسك به لما تحولت الخلافة إلى ملك عضود؛ فابن الإمام أولى بالحكم من ابن الملك أو الأمر! ولكن لماذا يكون الخلاف السياسي مدعاة للتكفير؟ وهل الصراع على السلطة أمر عقائدي؟ ولماذا تكفير من يجمع بين النص والشورى، أو من يقول بالشورى كما تقول الفرقة الناجية، أو من يقول بالدعوة والخروج قتالا للإمام الظالم، وهو ما تقوله أيضا الفرقة الناجية؟ ولماذا تكفير من يتوقف عن التكفير؟ هل لا بد من إشهار سلاح التكفير في مجتمع ديني حتى يسهل عزله سياسيا، فيتم حصاره بين رفض السلطة له وترك الجماهير له؟ فإذا ما تحولت الإمامية إلى موقف سلفي خالص، فهل ستظل سببا للتكفير؟
89
وفي مجتمع الاضطهاد من الطبيعي أن يحيا الإمام باستمرار في وجدان المضطهدين، وإن غاب فإنه يعود من جديد من عزلته وتقيته ليقود الثورة. وهل يكون للظلم الكلمة الأخيرة؟ وهل يكون الاستسلام للأمر الواقع هو الحل النهائي والسلوك الأمثل؟ هل يموت الإمام ظلما دون أن يستأنف دورة أخرى من القتال؟ لقد عاد المسيح معلما، ولماذا لا يعود الإمام منقذا ومنجيا؟ إن المهدية و«الميشانية» صنوان في تاريخ الأديان بالنسبة لمجتمع الاضطهاد. إن تناسخ الأرواح بين الأئمة يعني الاتصال التاريخي بينهم، ووجود روح في التاريخ وقانون باطني يحكم بانتصار الثورة على الظلم. ليس الأئمة مجرد أفراد منفصلين متقطعي الأوصال. الاتصال أقوى من الانفصال، والتواصل أمضى من الانقطاع. إن حياة الإمام وخلوده لرد فعل طبيعي في مجتمع الاضطهاد على موته ظلما واستشهاده في القتال. كما تدل عصمة الأئمة على مدى ثقة الناس في الزعيم، وعدم جواز الخطأ عليه، في حين أن النبي لا يحتاج إلى ذلك لأنه مؤيد من الله. ولماذا لا يكون الإمام معلما بعد أن ضاع العلم من صدور الناس؟
90
وإذا شهر سلاح التكفير ضد فرق المعارضة السرية من الداخل، فالأولى أن يشهر ضد فرق المعارضة العلنية من الخارج الذين يقاومون السلطان، ويجعلون العمل جزءا لا يتجزأ من الإيمان، ويكفرون مرتكب الكبيرة. وهل كان من يرفض شرط القرشية يكون ضالا؟ إن القرشية شرط حتى لا تخرج الإمامة من قبيلة بعينها، في حين أن شروط الإمامة العلم والعدل والورع، وليس فيها النسب أو الحسب. وإن عدم وجود نصب الإمام لينتج عن إيمان بالفطرة الخيرة دونما حاجة إلى سائس يسوسها، على عكس الفرقة الناجية التي تصر على وجوب الإمامة والطاعة له. وإذا وجبت الحرب فإنها لا تكون إلا ضد عسكر السلطان، ولا تكون الغنيمة إلا من أموالهم. وهي آراء سياسية لا تستوجب الكفر أو الضلال.
91
ويتم أيضا تكفير فرق المعارضة العلنية في الداخل؛ لأنها ترفض تكفير الفرق المتنازعة والدخول كطرف في نزاع تتطاير من أجله الرقاب، فهل رفض التكفير كفر؟ ألا يكفر من قال لأخيه أنت كافر؟ وإن عدم تفسيق أحد الفريقين لهو أقرب إلى لم الشمل وجمع الكلمة مثل عدم تفسيق أحد بعينه. ولا يوجد حل ثالث ممكن في إطار وحدة الأمة، ورفض الدخول في النزاع بين الأطراف، واستمرار نزيف الدم من رقاب المسلمين. وما العيب في الميل إلى مجتمع الاضطهاد، والتعاطف مع آل البيت وتقدير شهدائهم، وبأحقية الإمام المهضوم وفضله، وربما النص عليه لظرف خاص دون أن يكسر ذلك النظرية العامة في الاختيار والبيعة؟ وقد يكون أبلغ رد فعل على عقائد الفرقة الناجية باعتبارها عقائد السلطان هو تكفير كل من لابس السلطان ونافقه وبرر صنعه. ونظرا لأهمية الوحدة في الأمة فإن وقوع الاختلاف بينها يجعل الإمامة صعبا. وهذا حكم واقع وليس حكم فكر، ولكنه يطعن في شرعية الإمام الجائر. ونظرا لشدة التوتر النفسي في الفتنة فقد كان أحد الحلول إنكار الوقائع التاريخية، وجعل الأمر كله أهواء وأغراضا وميولا، وكأن الهوى هو الذي يخلق الواقعة وليس فقط العقيدة. إن التكفير في الفروع وارد، والاجتهاد فيها لا يضل ولا يضلل، وإلا كان الفقهاء كلهم موضع اتهام بالضلال. هناك علم للاختلاف في أصول الفقه أنشئ لذلك الغرض، وهو أولى من علم الفرق واختلافات المتكلمين، وأخف وطأة من الخلاف في العقائد.
92
إن ما يهم الفرقة الناجية هو وجوب نصب الإمام والطاعة له، وتعيين ذلك في التاريخ ابتداء من الخلفاء الأربعة على التفضيل، ثم بداية السقوط والانهيار ، حتى يظل التاريخ مشدودا إلى الوراء نحو هذا النموذج الأول في العقائد وفي الحكم. وإن كان ذلك صحيحا فتجب الثورة على النظم الحالية التي أصبحت ملكا عضودا أو إمارة، أو غلبة معسكر تحت ستار عقائد الفرقة الناجية وبتبرير منها. ولا يكون للسلطان الحكم في الدنيا، بل تكون له أيضا الجنة في الآخرة حتى يطيعه الناس في دينهم ودنياهم. وهل يستوي شهداء الإسلام في معاركه الأولى، ومن أراقوا دماءهم في سبيل الدعوة، مع من آزروها سلما وبيعة ونصرة؟ إن النصرة بالدم أفضل ترتيبا من النصرة بالقلب أو اللسان. وإذا لم يجز تكفير أحد من أهل القبلة فلا يجوز تكفير أحد لآرائه النظرية في العقليات أو في السمعيات، وإن حدث ذلك فإنه يكون ستارا عقائديا لإخفاء العزل السياسي للخصوم. وحكم الفقهاء ليس هو حكم المتكلمين، وعلماء أصول الفقه لا يصدرون أحكاما إلا على الأفعال، في حين يصدر علماء أصول الدين أحكاما على الأقوال.
93
وبالرغم من أن الفرقة الناجية قديما قد تكون هي الفرقة الضالة، وأن تكون الفرق الضالة قديما هي الفرقة الناجية، إلا أن جيلنا يرد الاعتبار إلى الفرق الضالة قديما، ويعيدها إلى حظيرة الأمة بشرعية وعلانية، وينهي عزلها السياسي عن جماهير الأمة.
ثالثا: هل هناك تكفير شرعي عملي؟
لم يكن التكفير العقائدي النظري إلا وسيلة لتكفير أعظم وأهم، وهو التكفير الشرعي العملي بغية العزل السياسي لفرق المعارضة، ودفاعا عن النظام القائم. تلك طريقة إدارة الصراع السياسي في المجتمعات التي تكون فيها الحجج نقلية اعتمادا على سلطة التراث. ليس الأمر إذن مجرد فرق عقائدية، بل يتجاوزها إلى حقوق الأفراد المدنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ لذلك ارتبط علم أصول الدين بعلم أصول الفقه، والعقيدة بالشريعة، والأصول بالفروع. وقد اعتبر هذا الموضوع خارجا عن علم الأصول وأدخل في علم الفروع، مسألة فقهية لا تدخل في علم أصول الدين.
1
وإذا كان موضوع التكفير الشرعي العملي لا دخل للعقل فيه، وإنما يعتمد على الأدلة السمعية وحدها، فكيف يكون موضوعا في علم أصول الدين الذي يعتمد على الأدلة العقلية والسمعية معا، والذي تكون فيه الأدلة العقلية أساس الأدلة السمعية حتى يتحول ظن النقل إلى يقين العقل، على ما هو معروف في نظرية العلم في المقدمات النظرية؟ إن أقصى ما يمكن عمله هو اعتباره من السمعيات، مثل النبوة والمعاد والأسماء والأحكام والإمامة، التي ليس فيها يقين، وتظل ظنية خالصة، ولكن تزداد الخطورة أكثر لأن الموضوعات السمعية الأربعة نظرية خالصة لا يترتب عليها كفر شرعي عملي، في حين أن الكفر الشرعي العملي تترتب عليه آثار اجتماعية واقتصادية وسياسية تؤدي إلى الحصار والعزلة لمن يشهر ضده سلاح التكفير، بل إن معرفة الكافر تأتي من أضعف الروايات، من الأخبار عن حال الآخرة وأمور المعاد، وأنه في النار على التأييد أولا، ثم حكمه في الدنيا ثانيا فيما يتعلق بالقصاص والنكاح وعصمة المال؛ أي فيما يتعلق بحقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
والعجيب أنه طبقا لعقائد الفرقة الناجية أن القول الكاذب أو الاعتقاد الجاهل ليس موجبا للتكفير، وعلى أسوأ الأحوال بالسمع، في حين أنه يمكن معرفة الكذب والجهل بالعقل. وقد يكون الدافع على هذا التأكيد رفض المحاجة في الأحكام الشرعية، واعتبار الحكم على الناس بالكفر لا رجعة فيه ولا مراجعة لأنه لا دخل للعقل فيه، مع أن كل الأحكام الشرعية التي بها قطع وظن تصدر عن أصل واجتهاد، واحتمال المراجعة فيها وارد، ومع ذلك فالأمر كله لا يخلو من تعصب وهوى. كل فرقة تكفر ما سواها؛ فالتكفير سلاح ضد الخصوم. وتاريخ الفرق ليس تاريخا موضوعيا محايدا؛ لأنه لا يوجد مقياس واحد لصحة العقائد. ولما كانت الفرقة الناجية هي فرقة السلطان كانت هي المحك الذي تقاس صحة عقائد فرق المعارضة.
2
ومع ذلك وضعت الفرقة الناجية مقياسين للتكفير؛ الأول إنكار أصل شرعي معلوم بالتواتر، والثاني ما علم صحته بالإجماع. وكأن التكفير ليس للعقائد، بل لمناهج النظر وطرق الاستدلال، هو تكفير منهجي وليس تكفيرا موضوعيا؛ فالتواتر مصدر للعلم ولا يمكن إنكاره؛ لأنه جزء من نظرية العلم، وشرط يقين الحجج النقلية؛ وبالتالي هو أساس التسليم بالأصول والمصادر الشرعية. وشروط التواتر الأربعة؛ العدد الكافي، استقلال الرواة، الإخبار عن حس، التجانس في الزمان؛ تجعله يقينيا. ولكن هل هناك من ينكر أصلا شرعيا معلوما بالتواتر بالفعل أم أنها حالة افتراضية خالصة؟ وإن وجدت، فهل هي فرقة من فرق المعارضة أم فرقة من فرق الأمة، من داخل الأمة، من داخل الحضارة أو من خارجها؟ في الحقيقة لا يمكن لأحد إنكار التواتر شرعا أو عقلا؛ لأنه أساس المعرفة التاريخية قديما وحديثا. وهو أحد أبواب علم أصول الفقه للتحقق من الصحة التاريخية للمصدر الثاني للتشريع، وهو السنة. ولكن يظل السؤال بالنسبة لعلم أصول الدين قائما: هل يكون مضمون الإيمان الوقائع التاريخية، الأشخاص والوقائع والحوادث والبلدان، تعرف بالتواتر شأن المعارف التاريخية، أو حتى الشعائر والطقوس بما في ذلك التجارب التاريخية ورصيد الشعوب من الخبرات المشتركة؟ هل مضمون الإيمان الفتنة ووقائعها، وحياة الرسول مناكحه وأزواجه وأصحابه، أم نسق من العقائد تعطي تصورات للعالم ودوافع للسلوك؟ فقد يحدث إنكار للوقائع التاريخية كأحد الحلول للمشاكل النظرية بصعوبة إصدار أحكام على الأحداث، أو إغراقا في الذاتية والانفعال ضيقا بالعالم. فهل يكون الصوفية بهذا المعنى كفرة نظرا لأن الواقع الصوفي شعوري وليس واقعا تاريخيا، وكذلك المعتزلة في تأويلهم صفات التجسيم والتشبيه؟ ليست الوقائع التاريخية ووجود الأشخاص أصلا من أصول الدين، بل المعاني والدلالات كتصورات للعالم وبواعث للسلوك ومقاصد للتحقيق. ولما كان لا تواتر إلا في المحسوسات؛ لذلك لا يمكن إثبات حدوث العالم بالتواتر لأنه غير محسوس، إنما يمكن إثباته بالدليل العقلي، وإذا كان واضعو شروط التواتر وجامعو الأحاديث من الفرق الناجية، فإن هذا القياس الأول للتكفير «إنكار أصل شرعي معلوم بالتواتر» يظل سلاحا في الفرقة الناجية ضد الخصوم السياسيين.
3
أما القياس الثاني «إنكار ما علم صحته بالإجماع»، فإن الإجماع حجة غير قاطعة لورود شبه كثيرة، وإن تطابق العدد الكبير على رأي واحد لا يوجب إلا العلم الشرعي دون العلم النظري. ولا يشهد التواتر بحجية الإجماع؛ فهذا إثبات شيء بشيء آخر مطلوب إثباته، فيلزم التسلسل. لا يستند الإجماع إلى دليل شرعي متواتر، وإلا لما كانت هناك حاجة إلى الإجماع. وإنكار الإجماع دليل عقلي قطعي؛ لأن فيه تنازلا عن الرأي حتى تجتمع الآراء كلها على رأي واحد، وإن كان هناك تواتر فإنه يحتمل التأويل. ولا يمكن الحكم على تأويل النصوص بالإجماع؛ لأن الإجماع سابق على العقل، كما أن السنة سابقة على الإجماع، والكتاب سابق على السنة. لا يمكن إذن اتهام أحد بأنه خارق للإجماع؛ لأن الإجماع فيه شك، وهو المطلوب إثباته. إنما أتى إثبات الإجماع لناحية عملية صرفة، ولأن إنكاره يجر إلى «أمور شنيعة». وإذا كان الإجماع هو إجماع السابقين، وملزما لإجماع اللاحقين، فإنه يتحول إلى حجة سلطة في أيدي الفرقة الناجية. والأمثلة على إنكاره كلها قياسات إخراجية، مثل الخروج على الإجماع على اكتمال الوحي ونهاية النبوة. ويدل ذلك كله على أن مسائل علم أصول الدين تجد حلها في علم أصول الفقه.
4 (1) حقوق الأفراد
يترتب على التكفير الشرعي العملي نتائج تتعلق بحقوق الأفراد والمساس بها. وإن إنهاء العقائد النظرية بهذه الأحكام الفقهية العملية لتدل على مدى ارتباط علم أصول الدين بعلم أصول الفقه، وكيف أن الهدف النهائي للعقائد هو هدف سياسي بالأصالة، اعتبار الفرد جزءا من الأمة مطيعا لأولي الأمر أو خارجا عليها خارجا على السلطان. الهدف من التكفير إما الضم السياسي للفرد مع النظام السياسي، أو العزل السياسي له وحصاره بين رجال الشرطة وفقهاء السلطان.
وتنقسم حقوق الفرد إلى حقوق يحصل عليها أثناء حياته، مثل الشهادة والإسلام وأكل الذبيحة والتزاوج ... إلخ، وحقوق يحصل عليها بعد مماته، مثل الصلاة عليه ودفنه والإرث منه. ولا يمكن تقسيمها أيضا إلى حقوق فردية وحقوق اجتماعية؛ لأنها كلها حقوق اجتماعية؛ فإمامة الصلاة عمل فردي وقيادة جماعية، والسلام عمل فردي ولكنه يدل على علاقة اجتماعية، والشهادة عمل فردي ولكنه حكم على الآخرين. ولكن يمكن تصنيف حقوق الأفراد إلى اجتماعية واقتصادية وسياسية بالرغم من إمكانية التداخل بينها أو الجمع.
5 (1-1) الحقوق الاجتماعية
تشمل الحقوق الاجتماعية إمامة الصلاة أثناء حياة الفرد، أو الصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين بعد مماته، ورد السلام عليه وأكل ذبيحته والتزاوج معه. فصاحب الرأي الذي سمي الضال أو صاحب الهوى، وهو المعارض للنظام السياسي وممارساته، لا تجوز له إمامة الصلاة؛ لأن إمامة الصلاة هي الإمامة الصغرى التي تقود إلى الإمامة الكبرى، ونظرا للقوة المعنوية والثقة الدينية التي يتمتع بها الإمام. وما دام يقول الحق، ويقوم بخطبة الجمعة، ويلقي الدروس، يستمع إليه الناس، ويكون مؤثرا في طاعتهم أو ثورتهم على الحكم. كما أن الصلاة عليه بعد موته اعتراف من الجماعة بإمامته وقيادته للثورة كما هو الحال مع القادة العظام. أما الدفن في مقابر المسلمين فهو أيضا اعتراف بالوحدة في الحياة والموت بين الإمام وجمهور المصلين، وبأنهم معه في الحركة والثبات، فوق الأرض وتحت الأرض، روحا وبدنا، ثورة وثرى.
6
وكيف للناس الدخول في قلوب الناس، والتفتيش في ضمائرهم، والتعرف على عقائدهم، ثم الحكم عليهم بالنجاة أو الضلال، بالإيمان أو الكفر؟ وما أدراني أن يكون المؤمن منافقا؟ أما رد السلام فإنه يشير إلى الترابط الاجتماعي بين الناس طبقا للنصيحة: «ألق السلام على من تعرف وعلى من لا تعرف.» فإلقاء السلام بداية التعارف، والإعلان عن رابطة مبدئية بين الناس، ورد السلام هو استجابة لهذا النداء الأول. وبعد السلام يأتي الكلام.
7
أما الشهادة فهي عنوان الثقة، ودليل على قول الحق؛ فالساكت عن الحق شيطان أخرس. الشهادة هي الإعلان؛ لذلك كان أول فعل للشعور إعلان الشهادة حتى ولو سقط دونها شهيدا. ولا تقع الشهادة فقط على الصغائر، بل على الكبائر، لا تقع على الجرائم الفردية للمحكومين، بل على الجرائم الجماعية للحكام. ولما كانت شهادة المعارضة على جبروت السلطة مؤثرة في الناس، وجب استبعادها وإسقاطها من فقهاء السلطان.
8
أما أكل الذبيحة فإنه دليل على وجود ترابط اجتماعي أقوى من مجرد إلقاء السلام والرد عليه، بل التزاور والتعارف والتصادق والتحالف والعشرة «العيش والملح». وإن تحريم الفرقة الناجية أكل ذبائح الفرق الضالة لهو حصار اجتماعي، وقطيعة بين الأهل والجيران والمعارف والأصدقاء. وكيف تحرم ذبائح المسلمين وقد ذكر اسم الله عليها؟ ألم تحلل ذبائح أهل الكتاب؟ هل أهل الكتاب الذين لا يشاركون المسلمين في العقائد أقرب إليهم من أهل الأهواء الذين يشاركون المسلمين في العقائد ولكن يختلفون فقط في تأويلها؟ وكلما حرم فقهاء السلطان ذبائح الفرق الضالة ردت عليهم هذه بالمثل، وزادت القطيعة، واحتنقت القلوب، وزاد الغيظ في النفوس، ولم يعف أحد عن أحد، وانهارت العروة الوثقى التي لا انفصام لها.
9
أما التزاوج فهو قمة الترابط الاجتماعي بعد الصلاة والسلام والشهادة والطعام، اختلاط الدم والنسب، وتحويل الترابط الاجتماعي إلى لحم ودم. فإذا ما تم عزل الفرق الضالة من المصاهرة والنسب مع باقي الأمة، فإنه يسهل بعد ذلك استئصالها واستبعادها، فتضمر وتموت. وهل يدخل الزوج في عقائد الزوجة حين طلبها للزواج؟ وإذا كنا نتزاوج مع أهل الكتاب الذين يخالفون الأمة في العقائد، أفلا نتزاوج من أهل الرأي الذين يختلفون مع فقهاء السلطان في تأويلها؟ وهل يصل الأمر إلى فسخ العقد ووجوب العدة والصداق؟
10 (1-2) الحقوق الاقتصادية
فإذا ما تم العزل السياسي الاجتماعي يستمر إحكام العزل اقتصاديا، ويحرم صاحب الرأي من حقوقه الاقتصادية، مثل حقه في الإرث، وحقه في الغنيمة والفيء، وحقه في المبايعة والعقود. فبالنسبة للإرث لا يرث صاحب الرأي ولا يورث، وهو حكم مخالف لنص القرآن الذي يجعل الإرث مشروطا برابطة الدم وحدها كعامل من عوامل توزيع الثروة مع الوصية، أي إرادة الميت، وقضاء الدين، أي حق الآخر. وقد يزداد الحصار الاقتصادي بتصفية أموال صاحب الرأي ومصادرتها، وتسربها إلى الجماعة باسم الإرث؛ فهو لا يرث من الأمة، ولكن الأمة ترثه؛ وبالتالي تنتهي أموال المعارضة ويتم تصفيتها اقتصاديا. وهل يسهل التمييز بين الكسب قبل البدعة والكسب بعدها من أجل تحليل الإرث قبلها وتحريمه بعدها، وكأن الرأي يتم في وقت معلوم؟ وهل المسلم صاحب الرأي أشر على الأمة من الكتابي المخالف لها في العقيدة، ويحرم عليه من التوارث بينما يحل للكتابي؟
11
كما يحرم على صاحب الرأي المبايعة وعقود المعاوضة؛ حتى يتم أيضا حصاره اقتصاديا عن طريق النشاط التجاري، وهو المورد الرئيسي للثروة في المجتمع، فلا يحق له البيع والشراء. ويحكم الحصار عندما يحرم عليه العوض؛ وبالتالي يجوز حرق ممتلكاته وإتلاف زراعته وتبديد ثورته دون أن يكون له حق العوض! ثم ترك حق قتله للسلطان، أي التصفية الجسدية الأخيرة، بعد أن تمت تصفيته من قبل اجتماعيا واقتصاديا.
12 (1-3) الحقوق السياسية
ويعتبر صاحب الرأي المخالف عدوا للأمة يجب قتاله، أمواله غنيمة للمحاربين وفيء لبيت المال، داره دار حرب. وإن كان فيها مسلم ينتسب إلى الفرقة الناجية تكون داره دار إسلام. يعلن الحرب عليه، القتال أو الجزية، وكأنه عدو للمسلمين، يبلغ بالدعوة، الإسلام أو القتال أو الجزية. وإن كان أهل السنة في داره ظاهرين، يظهرون السنة بلا خفير ولا جوار من مجير، حينئذ تكون داره دار إسلام ما دامت الغلبة للفرقة الناجية! واللقيط فيها حر مسلم ما دامت الأغلبية فيها لأهل السنة. وإن لم تكن الأغلبية لأهل السنة فهي دار حرب، واللقيط فيها كاللقيط في دار الحرب، وما يؤخذ منها غنيمة وفيء بخمس أو بغير خمس. وأهل الدار تجب عليهم الجزية مثل المجوس، لكن المرتدين لا تقبل منهم الجزية مثل الكفار. وقد يجوز استرقاقهم واسترقاق أولادهم من بعدهم، فيؤخذ الصغار بجريرة الكبار! فالحكم على المخالفين في الرأي إنما يتحدد بمقدار حضور أهل السنة معهم، أغلبية أم أقلية، كما هو الحال في الأخلاق اليهودية عندما يشفع للأغلبية العاصية من أجل القلة المؤمنة، ولكن هذه المرة يشفع للأغلبية المعارضة من أجل الأغلبية السائدة أصحاب السلطة.
13
فماذا يبقى لصاحب الرأي المخالف كحياة اجتماعية دون الصلاة مع جماهير المسلمين، وإلقاء السلام عليهم، والشهادة معهم، وأكل ذبيحتهم، والتزاوج منهم، والتوارث والمبايعة والعقود معهم؟ وهل وصل الأمر إلى حد اعتبار المخالف في الرأي أشد على المسلمين من أعدائهم، داره دار حرب، يعرض عليه إسلام الفرقة الناجية أو القتال أو الجزية، أمواله غنيمة وفيء؟ وهل يحارب المسلمون المخالفون في الرأي على أحكام فقهية ظنية عليها خلاف بين الفقهاء، ومعرضة للصواب والخطأ؟ وماذا عن روح الشريعة التي تسمح بالتعدد في الرأي وتصويب المجتهدين؟ لقد وصل الأمر أيضا إلى حد عدم جواز السماح بالشك في كفر أهل الأهواء، وضرورة تكفيرهم قطعا. وهذه قطعية وجزم في أمور نظرية صرفة، في موضوعات خلافية يجوز فيها الصواب والخطأ. ومن هنا ينشأ الرأي الواحد والفكر الواحد والمذهب الواحد، وكأن الأمر سباق متبادل في تكفير الشاك بين الدولة وخصومها. أليس الشك في تكفير الآخر هو بداية المصالحة الوطنية بغية المحافظة على وحدة الأمة؟
14 (2) فرق الأمة
وتصنف فرق الأمة ليس بناء على عقائدها النظرية واختلافها حولها، بل طبقا لما يترتب على ذلك من أحكام شرعية؛ ففرق الأمة إما أن تكون خارجة على الأمة كلية، ضدها في كل الأحكام، أو تكون خارجة عليها جزئيا، معها في بعض الأحكام وضدها في البعض الآخر. في الخلاف العقائدي النظري ينشأ الاختلاف التشريعي العملي، ومدى الاتفاق أو الاختلاف في العقائد هو الذي يحدد طبيعة العلاقات الاجتماعية. الفرق الأولى المخالفة للأمة كليا هي الفرق التي تنتسب إلى مذاهب وعقائد انتشرت داخل الحضارة ومن خارجها، وأصبحت تكون روافد فيها. والفرق الثانية المخالفة للأمة نسبيا هي فرق المعارضة التي تأتي من داخل الحضارة، وتعطي تأويلا لعقائدها مخالفا لتأويل الفرقة الناجية، حزب السلطان. وقد تنضم غلاة فرق المعارضة إلى الفرق الأولى نظرا لسهولة تعرضها لآثار من البيئة الحضارية والمذاهب المجاورة التي دخلت ضمن الحضارة الجديدة الناشئة. وإذا تم التقارب مع الفرقة الناجية، فإن ذلك يتم على مستوى الدفن والفيء والغنيمة والصلاة، ولكن تظل فرق المعارضة معزولة عن جماهير الأمة؛ إذ لا تجوز الصلاة عليها أو خلفها، أو أكل ذبيحتها، أو التزاوج منها؛ حتى يظل الحصار الاجتماعي مضروبا حولها.
15
وعلى هذا النحو يصبح علم أصول الدين هو الحاوي لتاريخ الفرق داخل الحضارة وخارجها. وتضم الفرق داخل الحضارة ليس فقط الفرق الكلامية، بل أيضا باقي العلوم، مثل الحكمة وأصول الفقه والتصوف، بل وباقي العلوم النقلية والعلوم العقلية والعلوم الإنسانية، وتدور كلها حول موضوع الحضارة. الإنسان هو موضوع الحضارة وبؤرتها؛ فالإنسان قابع في قلب الوحي، مقصد الله له، والكلام ذراعه الأيمن لدفع التأليه والتجسيم والتشبيه، والحكمة ذراعه الأيسر لدفع قدم العالم وفناء البدن، والأصول قدمه اليسرى يقف بها على الأرض ويثبت نفسه في الواقع، والتصوف قدمه اليمنى يرفعها إلى أعلى ليستريح من هموم الدنيا. فالعلوم الأربعة هي أطراف الإنسان الأربعة، والوحي قلبه في صدره، وكلها مرتبطة بالفهم في الرأس ومركز الحركة للأطراف. وتضم الفرق خارج الحضارة كل المذاهب والديانات والعقائد التي أتت من البيئات المجاورة ثم أصبحت محلية بعد انتشار الحضارة الجديدة الناشئة فوقها، وضمها إياها، واحتوائها لها. وأحيانا لا ينفصل الحديث عن الفرق خارج الحضارة، أي فرق الأمة، عن الفرق داخلها، أي فرق المعارضة. فهي حضارة واحدة أصبحت ممثلة للبيئات الحضارية القديمة المجاورة، بعد أن تم التعرف عليها وترجمتها وتمثلها، ومبدعة لفرقها الخاصة؛ وبالتالي أصبحت الحضارة حلقة من تاريخ الحضارات البشرية، كما أصبح علم أصول الدين ممثلا لعلم تاريخ الأديان.
16
وغالبا ما يحكم التصنيف الأصول لا الفروع، مناهج النظر لا نتائجه، رغبة في التأصيل دون التفصيل، بل إن التكفير العقائدي النظري ذاته إنما يرجع إلى التكفير المنهجي النظري على الرغم من غلبة النظرة الفقهية أحيانا، والكلامية أحيانا أخرى، والأصولية أحيانا ثالثة.
17 (2-1) هل هناك كفرة لا تقبل منهم الجزية؟
وتصنف فرق الأمة ابتداء من الكفر العام إلى الكفر الخاص؛ فهناك الكفرة الذين لا تؤخذ منهم الجزية، والذين لا صلح معهم أو مهادنة، إما الإسلام وإما القتال، وكأن الفرق الكلامية الحضارية قد تحولت إلى فرق عسكرية تستدعي النزال بالسيف. وإن حصرها في خمس عشرة فرقة أمر تعسفي خالص، ورغبة في الإبقاء على هذا العدد الرمزي في تبويب الأصول وتأصيل الأبواب. ولا يوجد ترتيب معين بين الفرقة والموضوع الذي عرفت به. واتفاقا مع العدد المقترح تكررت المواقف نفسها في فرق متعددة.
18
ويدخل معها مشركو العرب؛ فالعرب كلها لا بد وأن يكونوا مسلمين، والإسلام دين الجزيرة، موحدا لقبائلها. لا يوجد فيها وثني، وإن أمكن كتابي أو صابئي أو مجوسي.
19
فوحدة الجزيرة مقدمة للانطلاق بوحدة خارجها. ولكن طبقا لنسق العلم ومنظومة العقائد الثلاثية بين المقدمات النظرية الأولى (نظرية العلم ونظرية الوجود)، والإلهيات (العقليات)، والسمعيات (النبوات )، يمكن القول إن معظم الفرق تتعلق بنظرية الوجود، ويتم تكفيرها بسببها، وهي مجرد مقدمة نظرية للإلهيات، يتلوها التوحيد ثم النبوة والمعاد. ولكن لا يظهر على الإطلاق أصل العدل أو موضوع الإيمان والعمل أو موضوع الإمامة؛ لأنها موضوعات عقائدية صرفة لا تمس الفرق الحضارية، في حين أنها الموضوعات الرئيسية لفرق المعارضة.
ففي نظرية العلم تبدو السوفسطائية أولى فرق الكفرة الذين لا تؤخذ منهم الجزية؛ فهي إنكار للحقائق، والحقائق أساس الاعتقادات؛ فالسوفسطائية تنكر العلم، وتنكر وجود أي شيء يمكن معرفة حقيقته. وإن خفت فإنها تقف موقف اللاأدرية بين الإثبات والنفي. وإن وجدت مثل هذه الحقائق فإنها تكون تابعة للاعتقادات؛ أي نسبية خالصة دون إمكانية الاتفاق عليها موضوعيا. تكفي إذن السوفسطائية ولا تقبل منها الجزية، إما الإسلام أو القتال. فالحقيقة موجودة ويمكن معرفتها، وتكون معرفتها شاملة وموضوعية. ويهم الفرقة الناجية القطع والحسم والإثبات حتى يمكن تربية جماهير الأمة على الاعتقاد الثابت الذي يقترب من التعصب؛ فالسلطان موجود، وشرعيته معروفة ولا خلاف عليها. فالشك يولد التفكير، والتفكير يؤدي إلى الرفض. وقد انتهى الأمر إلى القطيعة الخالصة؛ فبانتهاء الشك ينتهي الفكر، مع أن الشك أساس اليقين. أما السمنية فإنها تقر بشيء يمكن معرفته، ولكنها لا تثبت إلا المعرفة الحسية فقط. أما النظر فتتكافأ فيها الأدلة، وتتعادل فيه الحجج؛ وبالتالي يبطل النظر كطريق إلى المعرفة؛ فهي أيضا لا يقبل منها الجزية، إما الإسلام وإما القتال. فلا يكفي التسليم للسلطان حسيا عن طريق القوة والغلبة والعسكر، بل لا بد من التسليم عقليا وشرعيا حتى يتأصل الاعتقاد، ولا يأتي سلطان آخر أكثر غلبة يدركه الحس فيستسلم له. وقد أدى إنكار المعرفة الحسية إلى أن أصبح وجداننا القيمي لا يعتمد عليه، وهو في النهاية أساس النظر، وأصبح النظر خاويا من غير مضمون.
20
أما بالنسبة لنظرية الوجود فتتنوع الفرق، وتشمل الدهرية وأصحاب الطبائع وأصحاب الهيولى وأصنافا من الفلاسفة وكفرة المنجمين. فعند الدهرية، العالم قديم طبيعة وإنسانا، لا أول له، والتسلسل إلى ما لا نهاية غير مستحيل. وهل لا بد أن يوجد إنسان أول أو سنبلة أولى أو علة أولى منفصلة عن معلولها؟ ألا يؤدي ذلك إلى التشخيص وتصور الإله على أنه صانع؟ وإذا هوت الأرض أبدا إلى ما لا نهاية فإن طاقتها تتناقص. إن القول بعدم البداية الأولى ليس إلحادا، بل هو أكثر عقلانية من حيث الفهم. التواصل أقرب إلى العلم، والانقطاع أقرب إلى الدين. والعالم موضوع علمي، والقول بقدمه فكر علمي. أما الخلق فموضوع ديني، والقول بحدوثه فكر ديني. ولكن لماذا تكفير الدهرية وهي تؤمن بوجود الله، ولكنها فقط تتصور العالم قديما بقدمه حتى لا تتصوره صانعا، وبناء على حجج عقلية تثبت قدم العالم، وفي مقدمتها قدم العلم، وقد كان العالم فكرة في الذهن الإلهي قبل خلقه بالإرادة أو الأمر؟ أما أصحاب الطبائع فيقولون بقدم العناصر الأربعة، وكل أنواع النبات والحيوان والجواهر مركب منها، وقد اختلفت باختلاف الصور لاختلاف المزاج في التركيب. والأفلاك طبيعة خامسة قديمة غير قابلة للاستحالة والتغير. والصانع قديم، لوجوب سبق الفاعل للفعل. فالقدماء ستة؛ العناصر الأربعة والفلك والصانع. وهي تصورات فلسفية ممكنة سادت الحضارة لا تستوجب التكفير والقتال.
21
ولا يفترق أصحاب الهيولى عن أصحاب الطبائع إلا في التفاصيل؛ فعند أصحاب الطبائع للعالم هيولى قديمة وأعراض حادثة، وأن الأعراض تظهر من الجواهر القديمة طباعا، ولكل جنس من العالم هيولى مخصوصة؛ أي إن الهيولى الأولى تتعين في جواهر خاصة، كل منها قديم. وهو تصور ممكن لا يستوجب التكفير أو القتال. أما الفلاسفة فإنهم أصناف؛ صنف يقول بقدم العالم ونفي الصانع، وصنف ثان يقول بقدم العالم وأن له علة قديمة، وصنف ثالث يقول بأن الصانع متصور بالعقل. فالصنف الأول القائل بقدم العالم ونفي الصانع يعطي الأولوية للموضوع على الذات، ولا يقع في التشخيص، ويتصور أن لكل شيء علة، وأن الشيء هو معلول؛ أي مفعول وليس شيئا. وهي بداية القسمة بعد ذلك في السياسة إلى حاكم ومحكوم. والصنف الثاني القائل بعالم قديم وعلة قديمة يظل على الموقف الأول الطبيعي، ولكنه يقترب من الثاني الديني دون الوقوع في التشخيص، فيكون الشيء علة ومعلولا، ذاتا وموضوعا. والصنف الثالث القائل بأن الصانع متصور بالعقل هو قمة الإيمان العاقل، فالعقل أساس النقل، وبداية علم أصول الدين، والانتقال من الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة عن طريق الأدلة على وجود الله. فهل في هذا كفر يستوجب القتال؟ وهل تأويل الفلاسفة مخالف لنصوص الشرع أم أنه تعقيل لها لمزيد من الإنسانية والعقلانية والروحانية والشمول؟ أليس إنكار علم الله بالجزئيات صورا إنسانية عن العلم الاستنباطي ضد العلم الاستقرائي، وهو أقرب إلى الفلاسفة، على حين أعطى علماء أصول الفقه الأولوية للمنطق الاستقرائي على المنطق الاستنباطي من أجل إصدار الأحكام على الجزئيات؟ أليس إنكار حشر الأجساد، والتعذيب بالنار، والتنعيم في الجنة بحور العين والمأكل والمشرب والملبس من أجل إثبات المعاد الروحي والنعيم الروحاني، أقرب إلى العقل والإنسانية؟ أليس القول بتقدم الله على العالم هو تقدم بالرتبة كتقدم العلة على معلولها دون أن يعني ذلك تقدما في الزمان، إحدى التصورات الممكنة التي لا يرفضها العقل؟ إن تأويل الفلاسفة للنصوص والانتهاء إلى هذه القضايا الثلاث إنكار علم الله بالجزئيات، وإنكار حشر الأجساد، والقوم بقدم العالم، ليس تكذيبا للنبوة وللرسالة، بل تحويل للعقائد إلى معان عقلية تتفق وطبيعة العصر والروح المثالية للفلسفات القديمة؛ نعمة العقل، ومنهج الاستنباط، ولذة الدهشة والمعرفة. وإن التعديل الفاسد ليس كذبا أو كفرا، بل هو اجتهاد خاطئ له أجر. فهل يستوجب قول الفلاسفة تكفيرا أو قتالا؟
22
أما كفرة المنجمين فإنهم يقولون بقدم الأفلاك والكواكب، وبأن حركاتها سبب وقوع الحوادث في العالم. يقول البعض منهم بألوهة الشمس وعبادتها، والبعض الآخر بألوهة الشمس والقمر. الأول سلطان النهار، والثاني سلطان الليل. ويقول فريق ثالث بعبادة الكواكب السبعة مدبرات العالم. ويفضل فريق رابع القول بقدم زحل وحده لأنه أعلاها. كلها فرق جعلت العالم العلوي بين الإلهيات والطبيعيات كخطوة انتقال من الفكر الديني إلى الفكر العلمي. فهل تكفر وتستباح دماؤها؟ ولماذا اعتبرت الصابئة، وهم عبدة الكواكب، مع أهل الكتاب يقبل منهم الجزية ويبقون على عقائدهم؟
23
أما بالنسبة للإلهيات فيكفر الذين عبدوا إنسانا محدودا ، مع أن المسيحية تقول بذلك أيضا بتأليه المسيح، بل وتقول الفرقة الناجية أيضا بتأليه الإنسان الكامل.
24
كما يكفر الذين قالوا بعبادة رأس مخصوصة من رءوس الناس وكتمان الدين على غيرهم. فهل هذا دين؟ وما دام أمره مكتوما على العامة، فلم تعم به البلوى، وليس له دلالة إلا من حيث عبادة الإنسان وتأليهه.
25
ويكفر الذين يقولون بعبادة الملائكة، مع أنها جواهر مفارقة مثل العقل والنفس والله، فلا غرابة أن تكون موضوعا للعبادة، ووضعها كذلك في كل دين وملة، هي أقرب إلى الإناث منها إلى الذكور، وتعكس طبيعة التكوين الاجتماعي ووضع المرأة في تفضيل الذكور على الإناث. وفي النهاية هي فرق تاريخية صرفة لم يعد لها وجود، ولكن يظل سلاح التكفير مشهورا ضدها إلى حد القتال منعا للخروج على عقائدها الفرقة الناجية؛ وبالتالي منعا للخروج على السلطان.
26
أما الحلولية فإنها تقول بعبادة كل صورة حسنة لأن الله حل فيها، أو بحلول الله في الأنبياء ثم في الأئمة.
27
وهي أقرب إلى الرومانسية الأدبية التي توجد في مجتمع الاضطهاد من أجل رفع العالم بعد سقوطه، وتثبت الزعماء بعد استشهادهم أو اختفائهم. ومثلها التناسخية التي تقول بانتقال الأرواح في الأجساد ثوابا وعقابا.
28
وبالنسبة للسمعيات تكفر البراهمة بالرغم من إقرارهم بحدوث العالم وتوحيد صانعه وعدله وحكمته؛ لأنهم أنكروا النبوات والشرائع، وأثبتوا تكليف المعرفة من وجهة خواطر العقول؛ فقد كلف الله العباد بأن يعرفوه بعقولهم، وأن يشكروه على نعمه، وألا يظلم بعضهم بعضا. وحرموا ذبح البهائم وإيلامها بلا ذنب. وإيلام الله لها في الدنيا لأجل عوضها في الآخرة. فأين الكفر في ذلك؟ ألا يتفق ذلك مع اكتمال الوحي وانتهاء النبوة، واكتمال الوعي الإنساني باستقلال العقل والإرادة؟ وما العيب في قانون الاستحقاق، وأنه لا ذنب دون استحقاق إلا بعوض؟ وما المانع من نظرة إنسانية عامة ترفع الحيوان من حيث هو روح إلى مستوى الإنسان؟ أليست البراهمة أولى بالاعتبار من اليهود والنصارى الذين ينكرون خاتم النبوة؟ وهل يكفر أحد في السمعيات أم أنه لا كفر إلا في العقليات؟
29
أما النظر والعمل فيكفر كل من ينتهي إلى الإباحة. وقد تحدث الإباحة نتيجة للقول بالحلول، فيحدث اطمئنان داخلي لتأييد الروح للبدن؛ أو نتيجة للقول بإلهين والصراع بين النور والظلمة، فإذا ما تغلب النور حدثت الإباحة؛ أو نتيجة للقول بالطبائع، فيصبح الشرعي هو الطبيعي. والإباحة رد فعل طبيعي على النفاق في التمسك بالشريعة في الظاهر وعصيانها في الباطن، ورد على قهر الأوامر، ورد اعتبار إلى ميول الطبيعة التي يتم إثباتها في علم أصول الفقه، كما هو الحال في التوحيد بين المباح أو الحلال وبين الطبيعي وهو ما تمليه الفطرة.
30 (2-2) هل هناك كفرة تقبل منهم الجزية؟
وهؤلاء أقل شرا من الكفرة الذين لا تقبل منهم الجزية؛ إذ يمكنهم أن يتعايشوا مع الأمة، وأن تقبلهم الفرقة الناجية بين ظهرانيها، ولديهم خيار ثالث بين الإسلام والقتال، وهو خيار الجزية حفاظا على عقائدهم، وأمانا للأمة من عداوتهم. وهم أربع فرق؛ الصابئة واليهود والنصارى والمجوس. فهل هذه الفرق الأربع على مستوى واحد؟ هل الصابئة والمجوس مثل اليهود والنصارى؛ وبالتالي تتساوى ديانات خارج الوحي مع ديانات الوحي؟ وهل عبادة الكواكب عند الصابئة، والقول بإلهين عند المجوس، مقبول من الفرقة الناجية؟ ولماذا إذن تكفير الدهرية وأصحاب الطبائع والهيولى والفلاسفة والمنجمين، وهم يقولون بقدم العالم والأفلاك، وهي تشارك الصابئة في عبادة الكواكب؟ ولماذا تكفير من يقول بإلهين والمجوس تقول به؟ وهل الصابئة عبدة أوثان أم عبدة طبيعة؟
31
تقول الصابئة بحدوث العالم وإثبات الصانع، وأنه لا يشبه شيئا، ولكن الصانع خلق الفلك حيا ناطقا سميعا بصيرا مريدا مدبرا العالم، والكواكب ملائكة. وهو قول مشابه للتوحيد باستثناء حياة الأفلاك. وما دام الأمر كله تشبيها، قياسا للغائب على الشاهد، فلا فرق بين إسقاط الحياة والسمع والبصر على الوعي الخالص أو على الطبيعة. وهو مشابه لقول الفلاسفة. فلم لا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتال دون الجزية ويقبل من الصابئة الجزية؟ وإن عدم الوصف بصفات الإثبات أفضل من الوقوع في التشبيه، كما أن نفي صفات النقص عنه أقرب إلى التنزيه؛ فلا يقال حي عالم قادر، ولا يقال ليس بميت ولا جاهل ولا عاجز. وإن الزيادة في عدد الأنبياء لا يخرج عن النبوة؛ وذلك لأن الوحي قص بعض الأنبياء ولم يقصص البعض الآخر. كما أن ممارسة الشعائر مثل الصلاة والصيام كيفا لا تستلزم كما معينا، ولا تتطلب الالتزام بقوانين الطعام أو قواعد الطهارة شكلا خاصا ما دام الاتفاق قد تم على الجوهر والقصد. وقد تكون الأحوال الشخصية أكثر إحكاما، فلا طلاق إلا بحكم ولا جمعا بين امرأتين. إن لم تكن الصابئة قد وجدت في الماضي، فإنها ستوجد في المستقبل برسول من العجم ينزل عليه كتاب من السماء جملة واحدة ينسخ به الشرائع السابقة، ويعلن الاتفاق بين دين الوحي ودين الطبيعة ودين الأخلاق.
32
والسؤال: هل ما زالت الفرق القديمة موجودة حتى يمكن التعامل معها؟ وإن لم تكن موجودة ولم توجد بعد، فكيف يتم إصدار حكم عليها؟ وهل توجد فرق حاليا ليس لها حكم شرعي حتى يمكن التعامل معها؟ وهل تشير الصابئة إلى فرق تاريخية معينة، أم أنها اختيار نظري من طبيعة العقل لدين الطبيعة؟
أما اليهود فهم أهل كتاب بالرغم من اختلافهم فيما بينهم، وتعدد فرقهم واختلافهم حول توراتهم وشرائعهم وعدد أنبيائهم، وحول النسخ وإثبات اكتمال الوحي ونهاية النبوة. وهناك فرق أخرى أقرب إلى توحيد المسلمين قديما وحديثا، وتشاركهم في أصلي التوحيد والعدل؛ وبالتالي يصعب تكفيرهم في العقليات.
33
أما النصارى فليس كلهم مشركين غير موحدين، وإن كانت الغالبية تقول بالتثليث على اختلاف درجات التركيز حول طبيعة المسيح، إله أو ابن الله أو ثلاثة أقانيم في جوهر واحد، وعلى اختلاف درجات تصور اتحاد الله بالابن بين الاتحاد على الحقيقة، وبين ظهور النقش في الطين والشمع وظهور الشعاع على ما ظهر عليه. وهي أقوال لا تختلف كثيرا عن أقوال الصوفية في الاتحاد بالله، وحلول الله في الإنسان ووحدته في العالم. وهي تصورات نظرية ترفضها فرق أخرى قديما وحديثا تقول بالتوحيد. وتظل الممارسة العملية لبعض الفرق التي تمارس التقوى والفضيلة، وتأتي بالأعمال الصالحة، هي المحك في ولايتها، التزاوج منها وأكل ذبائحها واعتبارها ضمن فرق الأمة.
34
وأخيرا أشكل الأمر في المجوس؛ هل هم أهل كتاب أحدثوا القول بصانعين، أحدهما بخلق الخير والآخر بخلق الشر، ثم رفع كتابهم كما هو الحال في رفع السيد المسيح؟ هل هم ثنوية في الأصل من أصحاب النور والظلمة ودانوا بعبادة النار؟ هل تؤخذ منهم الجزية كأهل الكتاب، ويكونون كأهل أوثان في الذبائح والنكاح؟ وما دية المجوسي، مساوية لدية المسلم نفسا بنفس، أو لا تساويها لأن المسلم لا يقتل بالذمي؟ وما دية الذمي، نصف دية المسلم أو ثلثها؛ وبالتالي تكون دية المجوسي خمس دية الذمي أو جزءا من خمسة عشر جزءا؟ ألا يساوي إنسان إنسانا آخر في القصاص؟ وهل يتدخل الخلاف العقائدي في قيمة الإنسان، أم أن الغرض من ذلك كله هو تجويز فشل المخالف في الرأي والتخلص منه؟
35 (2-3) حكم من لم يبلغهم الإسلام أو المرتدين عنه
وهذه ليست فرقة بقدر ما هي جماعة لم تبلغها دعوة الإسلام، أو بلغتها ثم ارتدت عنه. الأولى معذورة لأنه لا حكم إلا بعد البلاغ، والثانية لا عذر لها للنكوص والارتداد. وفي كلتا الحالتين تنبع قيمة الإنسان من فكره، ويستمد وجوده من عقيدته؛ فالذين لم تبلغهم دعوة الإسلام إن كانوا وراء السد أو في طرف من أطراف الأرض ولم تبلغهم دعوة الإسلام، وكانوا معتقدين لما دل عليه العقل من حدوث العالم وتوحيد الصانع وصفاته، فهم كالمسلمين؛ فالعقل والوحي طريقان يوصلان إلى الحقيقة نفسها، ولكن لما كان الإسلام عقيدة وشريعة يظل السؤال: هل لا بد لهم من شريعة؟ لو بلغتهم دعوة الإسلام فإنهم يدعون إلى أحكام الشريعة. فإن امتنعوا عن قبولها ولم يكونوا على شرع أهل الكتاب، صاروا كالوثنية الذين لا تقبل منهم الجزية. وفي هذه الحالة ألا تشفع لهم معارفهم النظرية، خاصة إذا ما أدت إلى السلوك الفاضل والعمل الصالح؟ ألا تكفي شريعة العقل العملية، شريعة الطبيعة والفطرة، وهو الإسلام الطبيعي؟ وإن كانوا أهل كتاب ولم تبلغهم دعوة الإسلام، ثم امتنعوا عن قبوله بعد إبلاغهم، صاروا مثل أهل الجزية، ولا يجوز قتلهم قبل دعوتهم إلى الإسلام وإقامة الحجة عليهم، فلا عقيدة بلا حجة. ولكن ما العمل إذا غلبوا بالحجة، أو إذا لم يقتنعوا بالحجة وأصروا على طلب البرهان؟ وما ديته في حالة القتل؟ أيكون بغير دية ما دام بغير عقيدة، فقيمة الإنسان بعقيدته، أم له دية المسلم، فلا فرق بين إنسان وآخر من حيث قيمته، أو كدية أهل دينه يهوديا كان أم نصرانيا، أو كدية المجوسي إن لم يكن له دين؟
36
أما المرتد فإنه يستتاب وإلا قتل، ولا تقبل منه الجزية حتى تستباح دماء المخالفين في الرأي باعتبار الرأي المخالف ردة. ولما كان الرجال هم أداة المقاومة أكثر من النساء، فقد خف الحكم على المرأة المرتدة. قد يكون حكمها كالرجل تستتاب، ولا تقتل دون أن تسترق أو لا تقتل. فإن لحقت بدار الحرب جاز استرقاقها بعد السبي حتى لا تفكر في المقاومة والخروج على السلطان. ويجب قضاء الصلوات والصوم المتروكين في حالة الردة دون الحج. وقد لا يوجب ذلك، وإنما الذي يوجب هو الحج قبل الردة. وأداء الشعائر لا يتم إلا بالعقيدة، حيث يجب الاستسلام المطلق لعقائد الفرقة الناجية ولأوامر السلطان. أما أولاد المرتدين فيجوز استرقاقهم إرهابا للآباء، وقد يتركون لحالهم رحمة بالآباء. وارتداد الصبي غير صحيح، ويظل على عقائد السلطان. أما إسلامه فصحيح أيضا إلا إذا رجع عنه بعد بلوغه فيصير مرتدا. وإن إظهار الصبي الإسلام يفرق بينه وبين أبويه حتى لا يفتناه عن دينه، وإن رجع إلى دين أبويه كان من أهل الجزية وليس من المرتدين. وإذا ارتد الزوجان انفسخ النكاح إن كانت الردة قبل الدخول، ويوقف على العدة إن كانت بعد الدخول، فإن انقضت التوبة قبل الرجوع إلى الإسلام انفسخ النكاح، وإن أسلما قبل العدة بقيا على النكاح الأول. وقد يبقى النكاح إعطاء للأولوية للعشرة التي تجمع بين الزوجين على العقيدة التي تفرق بينهما. وهكذا تصبح الفرقة العقائدية وسيلة لفك أواصر الرباط الاجتماعي، وكأن السلطان هو الأب والزوج لجميع المؤمنين، يشاطرونه عقائده ويمتثلون لأوامره. إنما الغاية من الحكم على المرتد عزله اجتماعيا، فلا تحل ذبيحته ولا نكاحه، ولا دية له، ولا قصاص على قاتله.
37
وكثيرا ما يستعمل قانون الردة حاليا للإرهاب الفكري والسياسي. وهي واقعة لا تعم بها البلوى، وتبلغ ندرتها إلى حد استحالتها. وأين السبي والاسترقاق الآن، ومن الذي يمارسه؟ إنما تقضي الردة الآن الرجوع إلى الوراء وتبني مرحلة سابقة من مراحل سابقة من مراحل الوحي دون مرحلته الأخيرة، حيث يكتمل الوحي وتختتم النبوة، ويعان عن استقلال الإنسان عقلا وإرادة؛ فالردة نكوص وتراجع، في حين أن الإسلام تأكيد لتحقيق الوحي لغايته، تقدم الوعي الإنساني حتى يصل إلى مرحلة الاستقلال. (3) فرق المعارضة
فرق المعارضة في مقابل فرق الأمة هي التي تنشأ من الداخل أساسا قبل أن تنشأ من الخارج، وتعبر عن قوى اجتماعية وسياسية داخلية، ثم تلتحم فيما بعد مع فرق الأمة لتقوية مواقفها وتدعيم عقائدها. وهي على ثلاثة أنواع؛ الأول فرق المعارضة السرية في الداخل التي تقوى على المعارضة العلنية في الداخل أو في الخارج، والتي تعبر عن مجتمع الاضطهاد عن الأقلية المحاصرة من الأغلبية. رفضت المساومة، وعجزت عن استئناف المقاومة بعد أن استشهد أئمتها، فتحولت إلى حركة سرية تحت الأرض تنتظر الفرصة السانحة لمعاودة النشاط العلني واستمرار المقاومة الفعلية. والثاني المعارضة العلنية في الخارج التي تستأنف النضال العلني، ولكن في جماعات منفصلة على هوامش المجتمع وفي محيطه، وليس في وسطه ومركزه، لتقويض مجتمع البغي بالانقضاض على أطرافه من الخارج بدل تقويضه من الداخل، عن طريق إفراغ قلبه وهدم سلطته. والثالث المعارضة العلنية في الداخل، وهي المعارضة المستمرة التي تبغي الدخول في الصراع العقلي أولا؛ فهي مقدمة للصراع الفعلي وشرطه. تعتمد على العقل والحوار، وعلى استعمال الحجج والبراهين. تقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علنا بالحق مستوفية شروطه كأصل من أصول الدين، ولا تستعمل إلا السلاح العقلي من أجل تنوير الناس وتثوير الجماهير. فإذا غاب الانفعال والفعل على الفريقين الأولين، فإن العقل والتنوير هما الغالبان على الفريق الثالث. وإذا سهل اتهام الفريقين الأولين بقلب نظام الحكم واستعمال العنف، فإنه يصعب اتهام الفريق الثالث لأنه يجهر بالحق ولا يخفي شيئا، ويدعو إلى إعمال العقل ويطلب البرهان، ولا يتسلح إلا بحرية الفكر الذي لا يعيش القهر والبغي إلا في غيابه؛ لذلك كان الهجوم الأكبر من فريق السلطان على المعارضة العلنية في الداخل؛ فالأولى يسهل حصارها عقائديا لمغالاتها في تصوير العقائد وقيامها بالنشاط السري، والثانية يسهل حصارها عمليا لانقضاضها بالسلاح على جماهير الأمة. أما الثالثة فيصعب حصارها نظريا لقوة أصليها، التوحيد والعدل، وعمليا لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتنصح الحكام، وتدعو إلى الشورى علنا والناس شهود، وليس أمام السلطان إلا الإقناع أو الاقتناع.
38 (3-1) المعارضة السرية في الداخل
وتشمل كل الفرق التي ظهرت في مجتمع الاضطهاد، يغلب عليها طابع التحول إلى الداخل، والانقلاب إلى الباطن، والمغالاة في الرفض، والتشيع والتحزب لفريق دون فريق.
39
تغلب على عقائدها موضوعات الألوهية والنبوة والإمامة، دون العدل بعد أن كفروا بالعدل في الدنيا، ودون المعاد بعد أن رفضوا العدل في الآخرة. وفي مقابل الاختيار الإنساني يضعون القدر، وفي مقابل العقل يضعون الروح. ويرون الإيمان نفاقا، والعمل تبريرا للظالم. غرض المعارضة السرية في الداخل تقويض الدولة وهدم النظام، والقضاء على السلطة اللاشرعية. فإذا ما اتحدت مصالحها مع إحدى فرق الأمة الحضارية، فإن المؤامرة تتحول إلى نظام الإسلام ذاته من أجل ضياع شوكته، ابتداء من ضياع العقيدة والقضاء على أسباب قوتها. ففي الإلهيات تظهر الثنائية بديلا عن التوحيد؛ ثنائية الله والشيطان، الخير والشر. ومع أن الأول خلق الثاني إلا أنهما معا مدبران للعالم؛ وبالتالي يقضى على الدين الجديد القائم على التوحيد، وتعاد الثنائية القديمة، وتساعد ثنائية الخير والشر فرق المعارضة على مقاومة سلطة البغي؛ لأنها عقائد صراع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين المقهور والقاهر، وكما تساعد عقائد التوحيد عند الفرقة الناجية على قهر المعارضة باسم الإله الواحد والسلطان الأوحد. وبالنسبة للنبوات، لما كان تركيز فرقة السلطان على أن المعجزة هي الدليل على صدق النبوة، فقد أنكرت المعجزات الخارقة للعادة من أجل إنكار النبوة وتقوية الأئمة. كما تم إنكار الملائكة من السماء الحاملين للوحي في معرض إنكار النبوة من أجل تقويض مصدر النبوة في الوحي. وتم تأويل الملائكة لحساب المعارضة؛ فجبرائيل وميكائيل وإسرافيل زعماؤها، أما الشياطين فهم مخالفوهم، الأبالسة علماء السلطان.
40
ليس الأنبياء سحرة، بل قادة. هم قوم أحبوا الزعامة، فساسوا العامة بالنواميس والحيل طلبا للزعامة وبدعوى النبوة، ثم استعبدوهم بالشرائع من أجل إبقاء الناس تحت إمرتهم، على عكس الأئمة الذين يأتون لتحرير الناس، لكل نبي دور سبع، إذا انقضت ظهر في دور آخر. يقومون بتأويل الشرائع حتى تخف قبضتها على الناس ويتحررون منها؛ فالصلاة الثناء على الإمام، والزكاة دفع الخمس إليه، والصوم الإمساك عن إفشاء أسرارهم عند مخالفيهم، والزنا إفشاء أسرارهم بغير عهد. وينتهي التأويل إلى إسقاط العبادات والحدود؛ فيباح الخمر، ويباح نكاح ذوات المحارم، ويعود دين المجوس. فإذا كانت الثنائية عقيدة صراع لمجتمع الاضطهاد في مقابل عقيدة التوحيد لمجتمع الغلبة، فإن الإمامة أيضا تكون في مجتمع الاضطهاد ووسيلة تحرر من النبوة كعنصر قهر في مجتمع الغلبة. وإذا كان تطبيق الحدود والشرائع في مجتمع القهر وسيلة للضغط الاجتماعي، فإن تأويل الشرائع في مجتمع الاضطهاد وسيلة للتحرر من الشريعة حتى تسقط نهائيا، ويتحرر الإنسان مع نفسه أولا قبل أن يتحرر من الآخر، وإلى الداخل قبل أن يتحرر إلى الخارج؛ فالإباحة رد فعل طبيعي على الكبت. وإن طبيعة السلوك في المجتمع المغلق هو التحرر في إطار الانغلاق، التحرر المنعكس على الذات كوسيلة لتقويض مجتمع القهر من الداخل.
41
وكان من الطبيعي أن تحكم عليها فرقة السلطان بأنهم مجوس، تؤخذ منهم الجزية، وتحرم ذبائحهم ونكاحهم، أو بأنهم زنادقة تقبل توبتهم إذا جاءوا تائبين، ولا تقبل بعد ضبطهم متلبسين في خلاياهم السرية.
42
وقد تعتمد عقائد أخرى للمقاومة السرية لا على الثنائية المتعارضة بين الخير والشر، بل على الحلول، حلول الله في الإنسان، وحلول الروح في البدن. فنتيجة لإبعاد الله عن العالم يأتي إليه، ونتيجة لإبعاد المظلوم وإنكار حقه فإنه يتأكد بحلول الله فيه. يظل الله حاضرا حتى ولو فني الإنسان، فالحق باق حتى ولو انهزم أنصاره. وكما يحل الله في الإنسان يحل في الكون، ويصبح الله والإنسان والطبيعة شيئا واحدا. هذا الإنسان الذي يحل فيه هو الإنسان المتميز، القائد الزعيم، وهو الإمام الذي يقوم بالتبليغ عن الرسالة ثانية باسم الله إلى الأمة ليمحق الظلم، ويعيد الحق، ويؤسس العدل. فإذا ما حلت الروح في البدن أصبح سلوك الجوارح شرعيا بفعل الروح، فتسقط العبادات والمحرمات والشرائع التي تمارسها وتطلبها فرقة السلطان، وتكون للجماعة السرية شريعتها الخاصة التي تقوم على التحرر الذاتي مع النفس إن استحال التحرر من الآخر في الخارج. وتجوز شهادة الزور على مخالفيهم، بل وخنقهم تقوية لأواصر الجماعة السرية، وتفكيكا لنظام جماعة الغلبة والقهر. كل من عداهم كافر، كافرون الذين لا يناصرون الإمام الحق، وكافر الإمام الحق الذي يترك قتال أعدائه. ونتيجة ذلك كان حكم فرقة السلطان عليهم بالردة، وحكمهم حكم المرتدين.
43
وقد تأخذ عقائد المعارضة صورا أبسط بدلا من الثنائية بين الله والشيطان، أو حلول الله في الإمام، وهي عقائد التجسيم والتشبيه؛ ففي التجسيم يكون لله حد ونهاية من جهة السفل، ومنها يماس عرشه، ويكون محلا للحوادث، يرى الشيء برؤية تحدث فيه، ويدرك ما يسمعه بإدراك ما يحدث فيه. وفي التشبيه يكون الله على صورة إنسان. وإذا ما عبد الإنسان الله فإنه يعبد إنسانا مثله. والحقيقة أن التجسيم والتشبيه إنما يمثلان رد فعل على إبعاد الله عن حياة البشر، واعتباره الفوق المطلق الذي ليس كمثله شيء، ثم يعتمد السلطان على هذا التصور ليتمثله ويصبح هو الله. فبدلا من الله السلطان أو السلطان الله، هناك الإله التاريخ أو التاريخ الإله، الذي يحدث فيه كل ما يقع في العالم من حوادث ومآس. وهناك الإله الإنسان والإنسان الإله، أي إنسان وليس السلطان القريب من المباشر والشبيه به. ولا يعني ذلك إفساد دلالة الحدوث على التوحيد؛ لأنه إن لم يكن العالم حادثا ثم يكن هناك طريق لمعرفة الصانع، فالعالم ليس سلما لغيره، وإثبات الله لا يكون على حساب العالم بنفيه. فالله هو العالم، والعالم هو الله. وبالتالي تعود الروح إلى الطبيعة كي ترفعها إليه. وكلهم في حكم الكفرة عبدة الأوثان عند فرقة السلطان.
44
وفي صياغة أخرى لعقائد المعارضة بالإضافة إلى الثنائية المتعارضة بين النور والظلمة، أو حلول روح الله في شخص الإمام، أو القول بالتجسيم والتشبيه، يتم الإعلان عن ألوهية الأئمة. فالإمام لم يمت، بل هو حي قائم في الجبال يعيش مع الأسود والنمور وفي الكهوف والوديان، تأتيه الملائكة برزقه غدوة وعشية، لا يموت إلا بعد أن يعيد الحق إلى نصابه، ويملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا. يتحد بالعالم وبالكون فيأتي في السحاب. والتصديق به داخلي محض عن اقتناع باطني، وليس عن شهادة حسية، حتى ولو أوتي أنصاره بدماغه سبعين مرة لم يصدقوا بموته.
45
وما دام الإمام إلها حيا لم يمت فإنه يعود ويرجع، ينتظره الناس حتى يقودهم للقضاء على نظم البغي وشرائع البطلان. ومن الطبيعي في مجتمع الاضطهاد أن يتحول الموت إلى حياة، والهزيمة إلى نصر، والزعيم إلى إله؛ فالتقصير في حق الإمام يؤدي إلى الغلو فيه. وقد ترتبط ألوهية الأئمة بالتجسيم، فيكون الرب سبعة أشبار بشبر نفسه؛ نظرا لأن العدد سبعة عدد رمزي، والله يكون مقياس نفسه ذاتا وموضوعا، ولا يقاس بشيء غيره. لحم ودم على صورة إنسان ترد عليه الشمس مرتين، على رأسه تاج، أعضاؤه على عدد حروف الهجاء، الألف للساقين. لما أراد أن يخلق تكلم باسمه الأكبر، فوقع التاج؛ فالله كلمة، أي إن جسمه حروف، وعدد أعضائه بعدد الحروف، الألف للساقين، والخلق جزء منه بالكلمة، تاج على رأسه. فالله إنسان وكون، ثم يتحول التوحيد إلى العدل عندما يكتب الله بأصبعه أعمال العباد من المعاصي والطاعات؛ أي إنه كل شيء مقدر سلفا، ولا حرية ولا اختيار للعباد. ولما كانت رؤية المعاصي مثيرة للإزعاج والغضب، انفض عرقا واجتمع منه بحران؛ الأول مالح مظلم للمعاصي، والثاني عذب نير للطاعات. وكأن العالم في البداية أصله الشر. فلما رأى ظلمة في البحر وأتى ليأخذها، طار وأخذه، وقلع عيني الظل، وخلق منه الشمس وشمسا أخرى، الكفار من الملح المظلم، والمؤمنون من العذب النير. هذه أسطورة تمثل الصراع بين الخير والشر بين العدل والظلم، بين مجتمع الاضطهاد ومجتمع القهر. مصائر البشر طبقا لخطة كونية، وليست طبقا لاختيار العباد بعد أن أساء العباد الاختيار، أو وقعوا تحت ضغوط الرشوة والتعذيب، فتأففوا واختاروا على غير ما اعتقدوا.
46
وإذا كان الله قريبا من العباد فإن علمه محدث، لم يكن يعلم شيئا حتى أحدث لنفسه علما. والله يريد الشيء ويعزم عليه، ثم تبدو له البداوات؛ لأن علمه حادث متغير. وقد رجع ذلك إلى قوة الحوادث وإلى قرب الله، وأن الله يصبح كصفحة للتاريخ تسطر فيها الحوادث، وتسجل مآسي البشر.
47
وفي السمعيات، تظهر النبوة على أنها الموضوع البارز في عقائد المعارضة السرية في الداخل، فالنبوة تعني القدرة الخارقة، وهي مستمرة في الأئمة. وهم مثل خاتم الأنبياء حرفيون، بشر عاديون، وليسوا من الأشراف بالضرورة. فكما تحل روح الله في الأئمة تستمر النبوة فيهم.
48
وقد تأتي النبوة للإمام من الأساس بعد غلط جبريل وخلطه بين محمد والإمام. وبصرف النظر عن تعارض ذلك مع العقل، كيف يغلط جبريل سهوا أو عمدا والملائكة لا تخطئ، وإن أخطأت فالله يصححهم كما يفعل مع الأنبياء؟ وكيف يتعمد جبريل الخطأ وهو مطيع بالضرورة، معصوم من الخطأ؟ وهل يمكن الخطأ بين أوصاف خاتم الأنبياء وأوصاف الإمام النبي؟
49
والإلهام طريق المعرفة وللإمام، وهو أوثق من القرآن الذي بدل وزيد فيه ونقص منه.
50
كل ذلك إنما يهدف إلى إعطاء قوة لزعيم جماعة الاضطهاد حتى يستطيع الوقوف على قدم المساواة مع النبي في مجتمع القهر والغلبة. وفي المعاد تفنى الجنة والنار، ويكون الثواب والعقاب في هذه الدنيا إلى أبد الآبدين دونما انتظار إلى حياة بعد الموت ما دامت الأرواح تتناسخ؛ الخيرة في ملائكة، والشريرة في حيوانات. الخيرة هم دعاة مجتمع الاضطهاد، والشريرة زعماء مجتمع الغلبة.
51
وفي الإيمان والعمل، وطبقا لطبيعة المجتمعات السرية، فإنه تسقط الشرائع التي تمثل أداة ضغط وضبط اجتماعي في يد مجتمع القهر والغلبة، ويباح كل شيء. وفي الوقت نفسه يخلق المجتمع السري شريعته الخاصة التي تساعد على تماسكه الاجتماعي، ويخلق محرمات جديدة فيه؛ فيتراوح سلوك المجتمعات السرية بين التوسع والتضييق، بين الإباحة والتحريم، بين اللين والتشدد، دون توسط أو اعتدال؛ فالسلوك باستمرار في أحد الطرفين.
52
وفي الإمامة الكل كافر، من بايع غير الإمام، والإمام لرفضه حرب من لم يبايعه. وقد كان الإمام مرتدا قبل أن يتولى الإمامة. وقد يكون النبي هو المسئول عن هذا الخطأ لعدم توضيحه الأمر عن الإمامة من بعده.
53
ويبدو أن النماذج الدينية من البيئات الحضارية المجاورة قد ساهمت في إثراء الصور الفنية وتنوع أشكال التعبير، خاصة من اليهودية والمسيحية. وقد شاركت اليهودية مجتمع الاضطهاد في الظروف الاجتماعية والسياسية نفسها فيما يتعلق بألوهية الأنبياء والأئمة، أو مشاركتهم في الخلق باعتبارهم أول المخلوقات، ونزولهم آخر الزمان أو رجعة الأموات. وقد تداخلت البيئتان ليس فقط بفعل الترجمة، ولكن بفعل التعايش بين الأمم داخل الأمة الكبرى. ولكن يظل العامل الغالب هو الظروف النفسية والاجتماعية لمجتمع الاضطهاد الذي قد ظهر في شكل سياسي كما هو الحال في فرق المعارضة، أو في شكل احتفالي كما هو الحال في جماعات الصوفية.
54 (3-2) المعارضة العلنية في الخارج
وتشمل كل فرق المعارضة التي آثرت حمل السلاح لتقويض دولة الظلم علنا. ولما استحال ذلك في الداخل لاصطدامها مع فرقة السلطان والعسكر والشرطة، فإنها خرجت على أطراف الأمة للعودة إليها غزوا وفتحا جديدا. ويستحيل تكفير عقائدها في الإلهيات؛ لأنها تقوم على أصلي التوحيد والعدل، كما هو الحال في المعارضة العلنية في الداخل، ولكن يأتي التكفير أساسا موجها ضد السمعيات (النبوات)، خاصة في موضوعي النظر والعمل والإمامة، أي في عمل الفرد وعمل الجماعة، فعل الفرد وفعل الدولة. فإذا كانت قوة المعارضة السرية في الداخل في الإلهيات في عقائد التأليه والتجسيم والتشبيه، فإن قوة المعارضة العلنية في الخارج في النبوات في النظر والعمل وفي الإمامة. ويصعب على فرقة السلطان تكفير التنزيه وتكفير أصلي التوحيد والعدل. ونظرا لأن المعارضة العلنية في الخارج أهل عمل وليسوا أهل نظر، متحمسون سياسيا ، فإنهم يعتمدون في نظرهم على المعارضة العلنية في الداخل، وهم أصحاب النظر والمعارضة العقلية.
55
ففي السمعيات لا يظهر موضوع النبوة إلا قليلا؛ فتحت وطأة المعارضة لفرقة السلطان وللنظام اللاشرعي تستلهم نبوة أخرى قادمة من قوم آخرين تنسخ النبوة التي تحولت إلى شريعة ظالمة. تستمر النبوة ولا تنقطع؛ لأن تحول النبوة إلى خلافة ظالمة لا تقضي عليها إلا نبوة جديدة. ويكون الدين الجديد عودا إلى الدين الطبيعي بعد أن انهار دين الوحي ومثلته دولة ظالمة. ويكون للدين الجديد كتاب آخر مطابق للدين الطبيعي ينزل مرة واحدة، ويكشف الحقائق مرة واحدة دون تغير أو تطور أو نسخ طبقا لمصالح أحد، حتى ولو كان الإنسان نفسه أو جماعة المؤمنين. ويكفي للإيمان الشهادتان حتى ولو كانت النبوة للعرب وحدهم، والتزم الناس بالشهادة الأولى، ثم طبقوا شرائع اليهودية أو النصرانية؛ فشريعة خاتم الأنبياء تحولت على أيدي الناس إلى شريعة ظالمة. في هذه الأمة إذن شاهدان؛ الأول خاتم الأنبياء، والثاني شاهد آخر قد لا يتعين ظهوره قبله أو بعده. وهنا تلحق المعارضة العلنية في الخارج بالمعارضة السرية في الداخل في إثبات الحاجة إلى إمام آخر؛ أي إلى قيادة جديدة للأمة. وتعبيرا عن التطهر والتزهد والتعفف تنكر إحدى سور القرآن التي تشير إلى الغواية تمسكا بالنقاء والطهارة الروحية.
56
وبصرف النظر عن إشارة عابرة إلى المعاد، واعتبار أن عذاب النار ليس هو العذاب الوحيد، وأن العذاب لمخالفيهم وليس للموافقين معهم، لغيرهم وليس لهم، فإن الموضوع الغالب على المعارضة العلنية في الخارج في السمعيات هو النظر والعمل والإمامة. وهما متشابكان؛ إذ إن الثاني، إيمان الإمام أو كفره، يقوم على الأول، تحديد معنى الكفر والإيمان. فمرتكب الكبيرة كافر، ومن لا عمل له لا إيمان له، ولا وسط بين المؤمن والكافر، فاسقا كان أم عاصيا أم منافقا؛ ففي لحظات المقاومة لا وجود للحلول الوسط، ولا يثبت إلا طرفا الصراع، الشيء ونقيضه. وكيف يوجد وسط بين الإيمان قولا دون التصديق وجدانا أو التحقيق عملا؟ والمعصية جهل، وليست مجرد ارتكاب فعل مخالف للإيمان . ومن أتى بكبيرة فقد جهل، ليس من أجل الفعل، ولكن من أجل المعرفة؛ فالفعل معرفة، والعمل نظر؛ فلو ضاع الفعل والعمل ضاعت المعرفة والنظر. وقد تكون المعرفة بالله والمعرفة بالنبي؛ فمن عرف الله وكفر بالنبي فهو كافر لا مشرك، ومن جحد الله أو جهله فهو مشرك. فالمعرفة بالله، أي التوحيد، أساس الإيمان والكفر تأصيلا للأصول وبحثا عن الجذور.
57
وإذا كانت الكبيرة هي ما طبق فيه الحد، فإن أي فعل مهما كان صغيرا وكان به الإصرار كان كبيرا.
58
ويظهر التأرجح بين الشدة مع الخارج واللين مع الداخل في قوانين الطعام والنكاح؛ فيكفر الإمام في كل مكان، وتحرم المياه كلها لو وقعت فيها قطرة خمر! ويحرم طعام أهل الكتاب، وتحرم أنواع من الطعام مثل ذكر الحيوان، رمز الحياة والقوة والعنف، أو طهارة واستحياء وتعففا، والقضاء على من نام في رمضان فاحتلم واجب، ويحرم أكل السمك حتى يذبح، ويكفر من يخطب في العيدين، الفطر والأضحى. ومن مظاهر اللين الشرب من ماء الحموم، ولا صلاة واجبة إلا ركعة واحدة بالغداة وأخرى بالعشي، وأن الواجب في الزكاة نصف العشر مما سقي بالأنهار والعيون، والحج في جميع شهور السنة، ولا تؤخذ الجزية من المجوس، بل يصل الأمر باللين إلى تصور أن أهل النار في لذة مثل لذة أهل الجنة. ويمكن إسقاط حد الخمر، ويجاز نكاح البنات وبنات البنين وبنات الإخوة وبنات الأخوات حفاظا على جماعة المؤمنين.
59
وتبلغ حماية مجتمع الاضطهاد ولذاته ومقاومته لمجتمع الغلبة ونصرته لإمام العدل في مواجهة الإمام الظالم في تكفير المخالفين. ولا فرق بين البالغين والأطفال، بين الرجال والنساء. وكل من قعد عن نصرتهم أيضا فهو كافر؛ فالحق مع الخروج على الإمام الظالم، ولا سبيل للقضاء على الظلم إلا بالخروج بالسلاح، واستعمال العنف، وقتل المخالفين، والقسوة على المخالفين أشد من القسوة على أهل الكتاب.
60
وبالرغم من استطاعة الناس الاستغناء عن الإمام نظرا لطبيعتهم الخيرة، والتي لا تفسد إلا بالسلطة الجائرة، فإن الإمام هو الذي يقوم بتطبيق الحدود؛ وبالتالي هو الذي يحدد الكفر، وإذا كفر الإمام كفرت رعيته معه مهما امتدت أطراف البلاد شرقا وغربا، ومن مات قبل أن تبلغه الرسالة فقد كفر أيضا. يكفرون الأمة، والأمة تكفرهم، ومع ذلك يمكن التعايش بينهم ما داموا لا يحملون السلاح؛ فالمحك هو الطاعة لأولي الأمر والإذعان للسلطان.
61 (3-3) المعارضة العلنية في الداخل
وتمثل المعارضة العلنية في الداخل أقوى أنواع المعارضة وأمضاها؛ نظرا لأنها معارضة شرعية تقوم على النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس في أصولها النظرية الخمسة، التوحيد والعدل والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما يستوجب التكفير إلا عن سوء نية وتعمد حصار. وهي معارضة عقلية لا انفعالية، علنية لا سرية، تعتمد على الحجة والدليل، وتطلب مقارعة الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان. يصعب إذن تكفيرها على مستوى العقائد النظرية أو الممارسات العملية. وهي التي أنشأت الحضارة؛ لأنها تعمل عقليا من الداخل، كما أنها كانت الدافع على صياغة عقائد فرقة السلطان كرد فعل عليها، ولتحقيق غايات مضادة لها. ويمكن عرضها بطريقتين؛ الأولى بعقائدها الرئيسية، ثم بعقائدها الفرعية طبقا لتنوعات الفرق داخلها؛ والثانية طبقا لموضوعات علم أصول الدين بصرف النظر عن فرقها الرئيسية أو الفرعية. الأولى الموضوعات من خلال الفرق، والثانية الفرق من خلال الموضوعات.
62
وإن تسمية الفرق بأسماء مؤسسيها لأولى وسائل الإبعاد والمحاصرة، وكأن الفرقة تدعو لأفكار مؤسسها وليست نسقا عقائديا مكتملا يبني موضوعات عقائدية وأصولا عقلية، بل توضع مع المشبهة، وفرق بين التنزيه والتشبيه؛ أو مع الجبرية، وفرق بين الجبر وخلق الأفعال.
63
ولا تذكر من فرق الأمة إلا فرق المعارضة دون فرق التأييد مثل الصوفية، مع أن عقائدهم مخالفة تماما لعقائد فرق السلطان؛ مما يدل على أن مقياس التكفير ليس العقائد، بل طاعة السلطان. فالصوفية ليسوا من قوى المعارضة، بل نزعة هروبية من العالم في البداية، وتنتهي بالاستسلام والرضوخ والإذعان. تؤيدها الدولة نظرا للمصالح المشتركة بينهما في إبعاد الناس عن العقل، والوقوع في أسر الشعوذة والسحر. وقد قامت عقائد الفرقة الناجية وازدوجت بعقائد الصوفية ما دامت الغاية واحدة. كما تم استثناء الفلاسفة عن التكفير، وعقائدهم شبيهة بعقائد المعارضة السرية من الداخل، ويعتمدون على التأويل مثلهما. ولا تقسم الفرق حسب العقائد، بل حسب التطرف والاعتدال، الإسراف والاقتصاد، المغالاة والتوسط، وكأن الهدف هو القضاء على التطرف والإسراف والمغالاة حتى يبقى النظام قائما على الحلول الوسط بعد استبعاد وحصار كل الحلول الجذرية. فكل الفرق تقوم على التأويل، والتأويل مشروع بناء على حق الاجتهاد؛ فدماء المسلمين وأموالهم محرمة فيما بينهم بواقع الشهادتين، وإن ترك ألف كافر في الحياة خير من الخطأ في سفك دم مسلم واحد. التكفير إذن ليس من أجل العقائد، بل من أجل المواقف السياسية، وهذه تتحدد بالتطرف أو التوسط تجاه السلطان.
64
ففي المقدمات النظرية الأولى في نظرية العلم، ما العيب في القول بأن المعارف ضرورية؟ أليست المعارف الضرورية هي المعارف الفطرية المغروزة في النفس، والتي تدل على أن الطبيعة البشرية عاقلة؟ أليست المعرفة الضرورية شرطا للمعرفة الاستدلالية، وكلاهما شرط التكليف؟ إن رفض المعارف الضرورية من فرقة السلطان، والتركيز على المعارف المكتسبة، إنما يهدف إلى زعزعة ثقة الإنسان بعقله، وإيمانه بالمعارف الآتية من الخارج، والتي تأتي من نظام الدولة، وليست من داخل الفرد. وإن الصراع بين المعارف الداخلية والمعارف الخارجية هو صراع سياسي بين الحرية الطبيعية والقهر الاجتماعي، بين المساواة الطبيعية واللامساواة الاجتماعية. أما التدقيق في شروط التواتر وتصعيبها، فإن ذلك رد فعل على التساهل فيه، ومن أجل التخفيف من سلطة النقل؛ فتحديد العدد بخمسة، وأن يكون من بينهم ولي، إنما هو إمعان في الدقة، وتركيز على شرط الأمانة الداخلية والورع في النقل، بعد أن خضع النقل أحيانا للهوى والتحزب والمصلحة.
65
ولكن الغالب في التكفير هو نظرية الوجود؛ لأنها تتعلق بالعالم والسيطرة عليه؛ فالوجود في ظاهره طبيعيات، ولكن في حقيقته إلهيات مقلوبة على الطبيعة؛ وبالتالي أمكن التكفير فيها لأنها ليست مسائل طبيعية خالصة لا تمس العقائد. فإذا تكونت نظرية الوجود من الأمور العامة (الميتافيزيقا) ومبحث الأعراض (الظاهريات) ومبحث الجواهر (الأنطولوجيا)، فقد كان الغالب هو مبحث الأعراض والجواهر أكثر من ميتافيزيقا الوجود الخالصة التي هي مبادئ صورية عامة يحكمها العاقل، مثل الوجود والماهية والعدم والوحدة والكثرة والعلة والمعلول والوجوب والإمكان والاستحالة، باستثناء إثبات المعدومات أشياء على الحقيقة لا نهاية لها، وذلك تعبير عن قوة الإحساس بالظلم من أجل إثبات الشر، وليس مجرد تبخيره بتفاؤل المتنصر الذي بيده الأمر.
66
وفي مبحث الأعراض غلب مبحث الكيف على أنه تحليل للحواس، وخاصة الرؤية. والقول بأن الحواس أكثر من خمس، سبع مثلا، من أجل التركيز على أهمية المعارف الحسية وتنوعها.
67
ويطغى مبحث الجواهر والأجسام على مبحث الأعراض والكيف؛ وذلك تكفيرا للقائل بالموقف الطبيعي من أجل هدم القانون وإثبات لقدرة الله المطلقة القادرة على إيجاد جواهر بلا أعراض، أو أعراض بلا جواهر، وإنكار نظريات الكون والطفرة والتولد وخلق الأجسام لأعراض بذاتها؛ وبالتالي يتم تدمير الطبيعة لحساب الله، أي القضاء على العالم لحساب السلطان، مع أن خلق الطبيعة لذاتها ليس إنكارا للخلق. والخلاف هو: هل الخلق من الخارج أم من الداخل؟ هل هو خلق وفق إرادة مطلقة أم أنه يتم وفقا لقانون؟ وكيف يخلق الله الشرور والآثام والعقارب والحيات والآفات؟ وهل يصدر عن الخير شر، وعن الحكمة سفه، وعن الإتقان خلل؟ وأيهما أكثر تنزيها لله؛ أن يكون هو خالق الشر أم أن يكون الإنسان مصدر الشر؟ وإذا كان الخير من الله، والشر من الإنسان، أليس سوداوية صرفة، واتهاما للذات أن يكون السلطان مصدر الخير، ولا يفعل إلا الخير، وأن الشر مصدره الإنسان الشرير، وهو المعارض الرافض لأوامر السلطان؟ ولصالح من إنكار العلل الثانية، وإرجاع كل شيء إلى العلة الأولى؟ ألا يعني ذلك إنكار إرادات البشر، وتحويلها كلها إلى إرادات واحدة يصعب بعدها معرفة إرادة من، إرادة الله أم إرادة السلطان؟ ولماذا تكفير القائل بأن الأعراض كلها من جنس واحد؟ ولماذا التمايز في المادة؟ إن الهدف من الفكر العلمي هو إيجاد قانون مطرد، وإيجاد المتشابهات في الأشياء، في حين أن الهدف من الفكر الديني هو إيجاد الاستثناءات والمختلفات في الأشياء. وإن إثبات الأعراض حركة أقرب إلى العلم من إثباتها أشياء ثابتة. ولماذا تكفير القبائل بأن الأجسام خلقت الأعراض بأنفسها؟ وهل يحتاج كل عرض إلى خلق مستقل وتدخل الإرادة الإلهية في كل لحظة، وكأن الشيء ليس له قوة طبيعية من داخله؟ وما الكفر في أن يخلق الله قوانين الطبيعة، وأن تكون هي أسباب الحركة والثبات في الكون؟ وما العيب في أن يكون الإنسان خالقا للإدراكات على سبيل التولد؟ أليس الإنسان صاحب أفعاله الجسمية العضوية؟ وهل تدخل قدرة الله في عمل العين أو الأذن؟ هل هذا تنزيه لله وتقديره حق قدره أم هو تصور اللاهوت القاهر ضد العلم وضد قوانين الطبيعة؟ وأيهما أقرب لإثبات القدرة الإلهية؛ خلق الأعراض أم خلق الأجسام؟ ما العيب في القول بأن الإنسان مدبر الجسد، وأن الله مدبر الكون، وأن مملكة الإنسان في بدنه كما مملكة الله في الطبيعة؟ هل هذا شرك؟ وهل من عظمة الله الاستئثار بكل شيء دون قوانين ودون أسباب أو وسائط؟ أليس ذلك تبريرا للسلطة المطلقة في السياسة والاجتماع، أو في غيرها من النشاطات الإنسانية ابتداء من بنية النفس وتصورات الذهن؟ وما المانع من إثبات أعراض لا نهاية لها؟ وهل يوقع ذلك في الشرك لأن الله لا نهاية له؟ وهل التفرد بالوحدانية يعني الاستئثار بها أم تعميمها حتى تكون الوحدانية في كل شيء؟ ألا يمكن التفكير في الطبيعة دون حدود لاهوتية؟ إن اللاهوت موقف نفسي خالص، وليس موقفا علميا، يعبر عن وضع وجداني تجاه العامل، وليس عن اتجاه علمي نحو الطبيعة. وما العيب في القول بالطباع أو قانون الجاذبية وباقي قوانين الطبيعة؟ هل مهمة اللاهوت إدانة العلم وإثبات العقيدة ضد قوانين الطبيعة وتصور الله مضادا للعالم؟ ألا يؤدي ذلك إلى النتيجة العكسية بإثبات الطبيعة ضد الله، وقوانين العلم ضد قواعد الإيمان؛ ومن ثم ينتهي علم العقائد إلى القضاء على نفسه بنفسه، وإثبات شرعية مكتسبة للعلم؟ وما المانع أن تكون الرؤية بين الرائي والشيء المرئي تفاعلا مشتركا بين الذات والموضوع، وأن تكون الأجسام كيفيات محضة تتلاقى فيها الذاتية والموضوعية، بدلا من الذاتية الخاصة والموضوعية الخالصة، ووضع الله كذات مطلق يرى الأشياء بدل الإنسان ولا ينفعل بها؟ وما الداعي لإدخال الله في خلق الإدراكات الحسية بعد تقابل الذات والموضوع؟
68
ولماذا تكفير القائل بأن الإنسان جسد لا روح؟ وماذا يكون الإنسان إذن إن لم يكن هذا المرئي أمامنا؟ إن علاقة الله بالعالم مثل علاقة الروح بالبدن، مدبر له دون أن يكون حالا فيه. وما العيب في تعريف النفس بأنها ماهية لا وجود، ماهية خالصة؟
69
وفي الإلهيات كان القول بحدوث الصفات حرصا على الذات الإلهية، وتنزيها لها من الشرك والقول بتعدد القدماء، الذات والصفات، واعترافا بأن الصفات هي في النهاية تشبيه، تطلق على الإنسان حقيقة، وعلى الله مجازا. وإنكار الصفات ليس وقوعا في التعطيل، بل حرص على التنزيه الخالص، وعلى أن الله ليس كمثله شيء، تعالى عما يصفون. كما أن ذلك سيحل قضية خلق الأفعال، ويعطي الإنسان القدرة على خلق أفعاله بنفسه؛ فإنكار الصفات أو القول بحدوثها هو إثبات سلبي لحرية الأفعال عن طريق القضاء على موانعها، وفي مقدمتها علم الله المسبق وإرادته المطلقة. فلماذا إذن تكفير القائل بقسمة العلم إلى قسمين؛ الأول العلم بالعام والشامل، والثاني العلم بالخاص؛ الأول قبلي، والثاني بعدي؟ ليس في ذلك وقوع في التناقض أو إثبات جهل الله، وليس ظاهره علما وباطنه جهلا، إنما الغاية إثبات العلم الاستقرائي الإنساني الذي يقوم على الكسب والمعارف الخارجية، ثم إنقاذ الحرية الإنسانية من علم الله المسبق الحاوي لكل شيء. وإن اعتبار الصفات أحوالا هو تحول الموضوع من مستوى الطبيعة، الجوهر والأعراض، إلى مستوى النفس، فأحوال النفس هي أحد الحلول الوسط بين الذاتية والموضوعية، بين الإثبات والنفي، بين القدم والحدوث، بين التشبيه والتنزيه، بل إن التجسيم أيضا دافعه عند الصوفية وعند جماعات الاضطهاد. فالواقع أبلغ من الفكر، والمادة أكثر حضورا من الروح، والحس مشاهدة، والعقل تصور. وإن اعتبار الأفعال من العرش وليس من الله هو زيادة في التنزيه حتى يبقى الله، وليس كمثله شيء، غير متصل بالحوادث. والسمع والبصر وسائل للعلم، وليسا صفات مستقلة حتى يمكن رد التشبيه إلى التنزيه. وما المانع أن يقال إن الله عقل وعاقل ومعقول كما هو الحال عند الحكماء، فالمثل الأعلى هو وحدة الذات والموضوع؟ إن إثبات الحدوث في الذات أو في الصفات هو في النهاية إثبات للزمان والتغير والحركة والتاريخ، ورفض تصور الله فاعلا بلا مضمون، فالله محل للحوادث، وكل ما يحدث في التاريخ إنما يحدث فيه، فلا شيء خارج الله ما دام الله هو كل شيء. وإن خلق الأشياء على منوال سابق ونمط في الذهن صورة إنسانية لما يكون عليه الخلق يقاس فيها الغائب على الشاهد. وإن نفي الرؤية إنما هو رفض لتحويل الذات إلى موضوع، والوعي الخالص إلى مادة. وفي الوقت نفسه يكون إثبات حدوث الكلام عودا إلى تجسيم الكلمة وتحقيقها في التاريخ، ما دامت أصبحت مقروءة ومسموعة ومكتوبة ومرئية كصوت وحرف، أو محققة ومطبقة كمعنى وشريعة. وإنه لمن الأجدى الاعتراف بأن الإنسان لا يقدر على أن يصف الله في ذاته، بل أن يدركه قياسا للغائب على الشاهد، وأن الأصل في الوصف هو النفي؛ نفي النقائص الإنسانية وقلبها إلى أوصاف الكمال الإلهي.
70
وفي أصل العدل، لماذا يكون خلق الإنسان لأفعاله ومسئوليته عنها كفرا؟ ولماذا تكون حرية الاختيار كشرط للتكليف كفرا؟ إن استرداد الإنسان لأفعاله، وجعلها إما له أو للطبيعة، لأنه لا يمكن أن يكون لا فاعل لها أصلا، أو أن يكون فاعلها هو الله، لأن الله لا يفعل مباشرة في الطبيعة، ذلك ليس تجديفا على الله أو إنكارا لسلطانه؛ لأن قوانين الطبيعة من خلق الله، وسنن الكون من وضعه. ليس في خلق الأفعال أي خروج على التوحيد، بل هو إكمال له وإثبات للوسائط والأسباب. وهل الله ساحر ومشعوذ، يقلب القوانين رأسا على عقب، يجعل الشيء ساكنا متحركا أو في مكانين معا أمام دهشة الناس؟ إن بعض العبارات بالرغم من صياغتها التي قد تصطدم بإيمان العوام تحت سيطرة فرقة السلطان تدافع عن القدرة الإنسانية والقانون الطبيعي. إن القول بفناء مقدرات الله إنما يهدف إلى إثبات حرية الإنسان، وإن إثبات الإنسان خلق أفعاله ليس وقوعا في الشرك، بل وحدانية الفعل ومسئولية الإنسان، بدلا من إعزاء الوحدانية والمسئولية إلى الله كما هو الحال في الجبر، أو إثبات الشركة بين الله والإنسان كما هو الحال في الكسب. وما المانع، بصرف النظر عن الصياغة، أن يقال إن الله مطيع لعباده إذا فعل مرادهم؟ لهذا الحد بلغت قيمة الإنسان واحترامه لنفسه ولفعله.
71
وما العيب في أن تكون للإنسان استطاعة قبل الفعل لأخذ القرار، ومع الفعل للتنفيذ، وبعد الفعل لاستمرار النتائج وبقاء الأثر؟ وهل في إثبات استطاعة الإنسان وقدرته أي خروج على العقيدة أو الشريعة؟ وكيف تقام الشريعة إن لم يكن للإنسان استطاعة على الفعل؟ وكيف يقع التكليف والاستحقاق دون استطاعة؟ ولماذا لا يكفي القول بالجبر وإنكار الاستطاعة والفعل؟ هل العدل أقل قيمة من التوحيد؟ ولماذا لا يكفر القول بالقضاء على حرية الإنسان وعقله؟ هل التكفير فقط في حق الله وليس في حق الإنسان؟ وهل يكفر الإنسان لقوله بفناء الجنة والنار أو بحدوث علم الله، ولا يكفر لقوله بالجبر وإنكاره المسئولية، وكأن إيمان الناس بالجبر في صالح فرقة السلطان، ويظل القائل به مؤمنا مطيعا ومواطنا صالحا؟ يكفر الإنسان إذا ما قال بعقائد فرق المعارضة، ويؤمن إذا قال بعقائد فرقة السلطان!
72
وفي العقل الغائي الشق الثاني في أصل العدل، ما الكفر في القول بالصلاح والأصلح أو بالعلية والغائية في الخلق؟ ما العيب في أن يوجب الله على نفسه القانون درسا للإنسان وتعليما له بأن كل شيء يخضع لقانون، وأن لا شيء متروك للهوى أو للمصادفة؟ وبصرف النظر عن الصياغة التي قد تبدو متناقضة - كيف يوجب الله على نفسه فعلا وكيف يخضع نفسه لقانون - وبصرف النظر عن النتائج المتخوف منها - كيف تكون أفعال الله الحادثة - فإن الغاية هي تصور عالم يخضع لقانون حتى يمكن تسخيره والعيش فيه. إن وجود قانون خلقي أو طبيعي لا يعني تحديد أية قدرة مطلقة؛ وذلك لأن صفات هذا القانون الاطراد والعموم والشمول، وهي صفات مطلقة يدركها الإنسان ويمتد بها، فيكون قادرا على خلق أفعاله وممارسة حريته. وما العيب في أن يكون الإنسان خالقا، والتضحية بالله في سبيل الإنسان يرضاها الله؟ بل إن خلق الإنسان لأفعاله لا حدود لها، ويستطيع المسلم أن يفعل حسنات أكثر من النبي لو طال عمره. ولماذا سد الطريق أمام إمكانيات الإنسان وتفاؤله؟ بل إن الله يزيح علل العباد حتى يجعلهم أكثر قدرة مما هم عليه. وهو لا يفعل بهم إلا الصلاح، ولا يختار إلا الأصلح لهم. لم يخلق الإيمان ولا الكفر ولا أفعال العباد، ولكن العباد هم خالقو أفعالهم الداخلية والخارجية والطبيعية والاجتماعية. وهو لا يظلم أحدا، ولا يخرق قانون الاستحقاق، ولا يقلب الأضداد، ولا يفعل الشر. وأيهما أكثر تنزيها لله إذن؛ جعل الله وهو الخير مصدر الشر، أم تبرئته عن فعل الشر؟ أيهما أخطر؛ ارتكاب خطأ في الصياغة اللغوية بقول «الله لا يقدر على ...» أم ارتكاب خطأ فعلي وهو جعل الله مسئولا عن الظلم؟ الله خير محض ولا يفعل الشر، بعكس الإنسان الذي يفعل الحسن والقبيح. ليس معنى ذلك أن الإنسان أقدر من الله، بل إن للإنسان حرية الاختيار، ولله ضرورة الخير. فما البديل عن هذا التصور بحيث يحفظ لله ضرورته، وللإنسان حريته؟
73
وبالنسبة للسمعيات، فإن القول باستمرار النبوة هو رغبة في استمرار المقاومة بالسلاح الفكري نفسه. ولما أولت فرقة السلطان النبوة لصالحها، فإن فرق المعارضة قالت باستمرارها. فليس من العدل أن تتحول النبوة إلى خلافة ظالمة، ولا تستمر كي تحقق غايتها من إقرار العدل. فالنبوة مستمرة في المقاومة، والإمام العادل وليس الإمام الظالم هو خليفة النبي، والزمان لم ينته بعد، والتطور لم يكتمل بعد، والنبوة لم تحقق غايتها بعد طالما أن حكم العدل لم يتحقق، وأن حكم الظلم هو الذي يسود. ولا يتطلب ذلك إلهاما من الله أو وحيا منه بالضرورة، بل يمكن أن تكون النبوة مكتسبة؛ فكل من بلغ الغاية من الصلاح وطهارة النفس أدرك النبوة، فالنبوة ليست هبة أو اختصاصا أو وقفا على أحد، بل هي عامة في كل من يبغي الإصلاح ويهدف إلى الكمال؛ فكل داعية رسول، وكل رسول داعية. الرسل مثل الزعماء والقادة والمصلحين والثوار، يهدفون إلى تغيير مجتمعاتهم إلى ما هو أفضل، ولا حاجة إلى ألقاب مثل رسول الله أو نبي الله خشية أن يتحول اللقب إلى شخص، وتنقلب اللغة إلى وجود، والمظهر إلى الحقيقة، والنداء إلى مناد. يكفي النداء على الرسول أو على المصلح باسمه دون ألقاب؛ منعا للتأليه أو التعظيم الزائد كما حدث في الديانات السابقة. والقرآن هو تجسيد النبوة، ليس بالضرورة في المصاحف المكتوب في الورق بالحبر بين دفتي الكتاب، بل هو إحدى صياغاته أو رواياته أو حكاياته؛ فالوحي أكثر من صياغاته الزمانية، وتجربة أعم من التجسيدات الوقتية. ولا حرج في إنكار بعض حروف القرآن، أي قراءاته؛ لأنها اجتهادات شخصية تصيب وتخطئ.
74
وفي موضوع المعاد، لماذا لا يكون العقاب في الدنيا قبل الآخرة، في العاجل قبل الآجل؟ وهل يتحمل العقاب على الظلم التأجيل؟ وإذا كان الأمر كله مجرد تشبيهات وصور وقياس للغائب على الشاهد، فلماذا يكون تشبيه أفضل من آخر وأولى منه؟ إن العقاب في الدنيا أفضل من العقاب في الآخرة، ويعطي المظلوم أملا لرفع الظلم عنه في الدنيا برؤيته عقاب الظالم والقصاص منه تطبيقا لقانون العدل، وإلا كان فارغا من غير مضمون بلا زمان ولا مكان، بلا شعب وبلا تاريخ. وأيهما أفضل؛ تصور الثواب في جنة حسية بها طعام وشراب ونكاح، أم جنة روحية أرفع قدرا بها معرفة وحكمة وتأمل؟ وأيهما أفضل؛ القول ببقاء الجنة وأهلها فيشاركان الله في صفة البقاء، أم القول بفناء الجنة وأهلها حتى يظل الله متفردا وحده بالبقاء؟ وإذا كان الأمر كله تشبيها في تشبيه، وقياسا للغائب على الشاهد، فما المانع أن تجذب النار أهلها طباعا لما كانت الطبائع أساس الحركة والاندفاع؟ أليست كل إلهيات طبيعيات مقلوبة، كما أن كل إلهيات طبيعيات مقلوبة؟ وإذا عم قانون الاستحقاق على كل كائن حي، فلماذا لا يحشر يوم القيامة الكلاب والخنازير والحشرات وكل مخلوق حي؟ وما المانع أن يكون العقاب على كل كائن حي ترابا؛ أي تنعدم منهم حياة الوعي ويقظة الشعور؟ وهل يألم الأطفال وهم غير عاقلين مكلفين، والهدف من العقاب تصحيح حياة الوعي وبناء الشعور؟ وإذا كان الأمر كله أمنيات وتمنيات، فما المانع أن يرى الله يوم القيامة في صورة يخلقها ويكلم عباده منها؟
75
وفي النظر والعمل، لماذا تكفير القول بالمنزلة بين المنزلتين؟ ألم يؤد دورا في التخفيف من حدة تكفير العصاة أو التضييق على جعلهم مؤمنين؟ لماذا لا يكون المسلم فاسقا أو عاصيا أو منافقا إذا ما ارتكب الكبيرة، ويكون وسطا بين المؤمن والكافر بحيث يتأكد على رد الفعل وأثره في كمال الإيمان؟ وإذا كان من شروط التوبة ترك الزلة في الحال، والندم على ما فات، والإصرار على عدم العودة عليها في المستقبل، فما وجه الضلال في ذلك؟ وإذا كانت التوبة من ذنب تقتضي التوبة من جميع الذنوب، فإن ذلك لتحميس التائب وجعله أقرب إلى الكمال الكمي بالإضافة إلى الكمال الكيفي. لا يكون ذلك قسوة بقدر ما هو سلوك مبدئي لا يعرف الاستثناء؛ فالمعصية تساوي جميع المعاصي، ومن قتل النفس فكأنما قتل الناس جميعا. والسلوك المبدئي العقلي في المعارضة العلنية لا يفترق عن أسلوب التطرف والمغالاة عند المعارضة السرية في الداخل. وإن العاصي قد تتحول عنده المعصية إلى طبيعة ثانية، فيطبع على قلبه، وتنتهي لديه حرية الاختيار، ولا يمكن تغييرها إلا بطبيعة ثانية أقوى، أو بالرجوع إلى الطبيعة الأصلية الأولى. والشهادة لا تطلب للشهادة؛ لأنها تعني إنهاء المقاومة وتغليب الظلم، بل تعني الإعداد للنصر، وأن تكون فرص النجاح أكبر من احتمال الهزيمة. وإذا كان أساس الجزاء والعقاب هو قانون الاستحقاق، فمن الطبيعي ألا يدخل الأطفال أو غير العقلاء؛ إذ ليس لهم ثواب ولا فضل، ويصيرون ترابا؛ أي يتحولون إلى جماد. وإذا كانت الحياة نعمة وتقدما بالنسبة إلى الجماد، ولا يمكن إرجاعها إلى الوراء، فقد يصير الأطفال إلى الجنة لتغليب الحياة على الموت، ونظرا لطبيعة الخير. وما المانع من البعث الروحي دون الجسدي، والروح أفضل من الجسد؟ وما المانع من بقاء المادة دون فنائها، والقول بدورات لا متناهية، وتحول المادة وتعاقب الأشكال والصور على مادة لا تفنى؟
76
أما بعض المسائل العملية الأخرى، فإنها ترتبط بطبيعة مجتمع المقاومة من أجل توثيق الروابط الاجتماعية فيه وشحذ المقاومة، ولمزيد من الضبط والإحكام في مواجهة الآخر، وفي الوقت نفسه التراضي والتسامح واللين مع النفس تخفيفا عنها؛ فقد يحلل شحم الخنزير ودماغه وتفخيذ الذكور، وقد يحرم أكل الثوم والبصل، ويوجب الوضوء عن قرقرة البطن. ونظرا للحساب العقلي الكمي للمعارضة العقلية العلنية، فقد يحدد نصاب السرقة تحليلا رياضيا دونما مراعاة للقصد والنية، دون أن يستوجب ذلك الكفر أو الضلال.
77
وينتهي موضوع الإيمان والعمل في موضوع الإمامة الذي يتراوح أيضا بين الشدة واللين؛ الشدة مع مجتمع القهر، واللين مع مجتمع المعارضة؛ التصلب مع الخارج، والتراخي مع الداخل؛ القسوة مع الآخر، والعطف مع الذات. فإذا كانت الثروة في مجتمع القهر أقرب إلى الحرام منها إلى الحلال في صناعة أو تجارة، فإنه لا يجوز للمعارضة إلا قوت يومها تعففا عن المال الحرام، وتكون دماء مجتمع القهر وأمواله مباحة. وفي مقابل هذا التشدد مع الآخر يجوز نكاح المتعة تساهلا مع النفس. ولا يجوز الطلاق بكنايات وإن قارنتها نية الطلاق تعبيرا عن الدقة المتناهية والتشدد في حقوق الغير. ويمكن الشك في شهادة المجتمع كله تحريا للعدالة.
78
فإذا ما صعب تجريح عقائد المعارضة فإنه يسهل اتهامها بالعمالة للخارج، وتبعيتها لأفكار أجنبية، وترويجها لأفكار مستوردة من الكفار، سواء من البراهمة أو النصارى أو المجوس،
79
ويصبح حكم المعارضة العلنية في الداخل حكم المجوس أو المرتدين،
80
وتتوحد الفرقة الناجية بالأمة كلها، وتكفر فرق المعارضة بأنواعها باسم الأمة، وهي في النهاية إحدى الفرق، فرقة السلطان. فإذا شابهت عقائد الفرق الضالة عقائد الفرق الناجية نجت، وإذا خالفتها هلكت.
81
ونظرا لضيق فرق المعارضة بفرقة السلطان فإنه ينتهي ضيقها ببعضها البعض، ويكفر بعضها بعضا، كل منها يعتبر نفسه الوريث الشرعي لها، فتفتت المعارضة، وينتهي الأمر بمزيد من السيطرة لفرقة السلطان. (4) فرقة السلطان
إذا كانت الفرق الهالكة هي فرق المعارضة بأنواعها، فإن الفرقة الناجية هي فرقة السلطان . وعلى هذا الأساس، الاختلاف في الموقف السياسي، يتم التكفير تحت ستار الخلاف العقائدي. ولكن هل عقائد الفرقة الناجية تعلو على النقد ولا تجد من يجرحها ويخطئها؟ ومن هي الفرقة الناجية؟ هل هي فرقة واحدة أم فرق عديدة؟ وهل هناك عقائد موحدة لها أم أن الخلافات بينها لا تقل عن الخلافات بين الفرقة الناجية والفرق الضالة؟ يرفض التراث الفقهي كل علم العقائد بما في ذلك عقائد الفرقة الناجية، ويبين أنها لا تستقيم مع العقائد كما تعرضها النصوص الدينية، كما أنها لا تستقيم مع العقل. وهو نقد عقائدي صرف، وليس نقدا سياسيا تحت ستار العقائد؛ لأن الفقهاء في معظمهم ليسوا من فرقة السلطان ولا من فرق المعارضة، بل هم حماة الشرع والمدافعون عن مصالح الأمة دفاعا مباشرا، متجاوزين الأحزاب السياسية ودوائر البلاط. وتتعدد الفرق داخل الفرقة الناجية بحيث تتشعب داخل فرق المعارضة، وتصبح لا وجود لها إلا من خلال بعض فرق المعارضة. فالجميع أهل سنة وحديث. وهي فرق خاطئة في تصورها وصياغتها للعقائد، ولكن دون تكفير أو تضليل.
82
ويتوجه النقد الفقهي لعقائد الفرقة الناجية مباشرة إلى الإلهيات في الذات والصفات، ثم إلى السمعيات في النبوة والإيمان والعمل، دون التعرض للمقدمات النظرية الأولى، نظريتي العلم والوجود. فمصطلحا الذات والصفات ليسا مصطلحين شرعيين، ولم يردا في الوحي، باستثناء لفظ الاسم. إنما هي كلها تشبيهات إنسانية وليست مصطلحات، يستعملها الإنسان طبقا لمعانيها ومدى تطابقها مع التجارب النفسية الفردية والاجتماعية. الاسم من الشرع، أما التسمية فمن الإنسان، لا تشبيها ولا تنزيها، بل خروجا أصلا على المصطلحات الشرعية ولغة الوحي. ليس لله إلا اسم واحد شرعي، والباقي كلها تأويلات للإنسان، وتعبيرات عن أحواله وتجاربه وأذواقه. وإن وصف الذات أو الصفات أو الأسماء ليدل على خلقها كلها. فماذا يعني أن صفات الله ليست باقية ولا فانية ولا قديمة ولا حديثة، ولكنها لم تزل غير مخلوقة بالرغم من القول بأن الله باق؟ فإن استعصى مفهوم الصفة يستبدل بمفهوم الحال أو المعنى، وهما مفهومان إنسانيان صرفان مثل الصفة. وماذا يعني أن للناس أحوالا ومعاني لا معدومة ولا موجودة، ولا معلومة ولا مجهولة، ولا مخلوقة ولا غير مخلوقة، ولا أزلية ولا محدثة، ولا حق ولا باطل، وهي علم العالم بأن له علما ووجود الواجد لوجوده؟ هذا كله هوس، مثل القول بأن الحق غير الحقيقة، وهو ما ليس في لغة ولا شرع. هل الكفر حقيقة وليس بحق؟ إن القول بصفات قديمة فيه إبطال للتوحيد، وإثبات للتعدد والشرك. وإن إثبات علم الله وقدرته لا يأتي بطريقة إثبات صفات قديمة؛ إذ لا يجوز تسميته إلا بنص وبلفظ شرعي، من كلام الله ذاته، وليس من كلام الإنسان.
83
ومهما تم من إثبات التغاير بين علم الله وعلمنا، وبين قدرة الله وقدرتنا، فنظرا لاشتراك الاسم فإن كلا العلمين والقدرتين يدخلان تحت صفة واحدة هي العلم أو القدرة. فهل يجوز أن يشارك الإنسان الله في صفاته، أو أن يشارك الله الإنسان في تسمياته؟ ومهما تم من إثبات قدم علم الله وقدرته، وحدوث علمنا وقدرتنا، يظل الاشتراك قائما في وقوع العلمين أو في وقوع القدرتين تحت جنس واحد. ومهما أفردنا الله بهذه الصفات، وأطلقنا عليه وحده هذه التسميات، فإن الإنسان محتاج إليها، والخلق يوصف بها، والحاجة تقتضي التلبية؛ وبالتالي زاحم الإنسان الله في الصفات والأسماء. صفات الله إذن هي نسبة الإنسان صفاته له، ولا يمكن فصلها بعد نسبتها إلى الله عن الإنسان قياسا للغائب على الشاهد. وإذا كان المعنى صوابا فإن التسمية خطأ. وإذا كانت النية صحيحة فإن النتيجة خاطئة. لم يخلق الله الإنسان إذن على صورته ومثاله، بل إن الإنسان هو الذي سمى الله على صورته ومثاله؛ فبدلا من أن يكون الله تصورا حديا أو فكرة محددة للإنسان، أصبح الإنسان هو التصور الحدي أو الفكرة المحددة لله. وبدل أن يكون الإخلاف هو الأساس بين الغائب والشاهد، أصبح التماثل هو الأساس. إذا كان الله مريدا بنفسه فإن الإنسان مريد بإرادة، أو إذا كان الإنسان مريدا بإرادة فإن الله، لأنه أعظم، مريد بنفسه. كما أن الأمر بالشيء لا يدل على كونه مرادا، والنهي عنه لا يدل على كونه مكروها، إلا بناء على قياس الغائب على الشاهد.
84
لم تمنع عقائد الأشاعرة إذن من الوقوع في التجسيم والتشبيه، ولم يمنعها الاحتراز بقولها «بلا كيف» عن ذلك؛ لأنه مجرد تحصيل حاصل، خطوة إلى الوراء وخطوة إلى الخلف، هروب والعقل إقدام. إن القول بقدم الصفات يؤدي إلى القول بأزلية الكلام؛ وبالتالي أزلية القرآن وهو كتاب، حبر وورق، كما يؤدي إلى القول بأزلية العالم لما كان العالم مخلوقا بالعلم الإلهي والإرادة الإلهية.
85
وقد أدى هذا التصور لقدم الصفات إلى خطأ أعظم في تصور قانون للطبيعة بدعوى الرد على الدهرية والحكماء والثنوية في القول بحتمية قوانين الطبيعة، وانتهى الأمر إلى إنكار سنن الله في الكون، ورفض العلل المباشرة، وإنكار حرق النار وإذابتها، وسكر الخمر، وشبع الخبز، وري الماء للشجر، وبرودة الثلج، وشبع الطعام، وسقوط الحجر، وحلاوة العسل، ومرارة الصبر، وكأن الله خلق ذلك عند اللمس والذوق، حتى ولو بدون حواس، عندما يكون لقشور العنب رائحة، وللحصى والفلك طعم ورائحة. وهو حمق أدى إلى إنكار الطبائع. كما انتهى الأمر إلى الوقوع في الأساطير الكونية، مثل أن يكون في الأجرام جسم عظيم يمسكها من أن تهوي، ثم أفناه وخلق غيره إلى ما لا نهاية، وإنكار قوانين الجاذبية.
86
أما فيما يتعلق بأصل العدل، فإن نقد الفقهاء لعقائد الفرقة الناجية إنما يتجه نحو سوء استعمال العقل في تأصيل العقائد، وهو أيضا نقد الحكماء لعقائد الأشعرية.
87
فالعقل عند الفرقة الناجية لا هو عقل ولا هو نقل؛ فالحجج العقلية لا تستقيم، وتأويل النصوص بعيد؛ فلا هي أحسنت التأويل، ولا هي تركت النصوص على ظاهرها. وقد اقتربت الفرقة الناجية من بعض نظريات العدل عند المعارضة العلنية في الداخل فيما يتعلق بوجوب الصلاح والأصلح، واستحالة الظلم والفساد على الله، وهو ما يناقض عقائد الأشعرية بأنه لا يجب شيء على الله، وبأن القول بالصلاح والأصلح تكذيب لله، وبأن عدم قدرته على إظهار المعجزات على يد كذاب تعجيز لله.
88
وتأخذ السمعيات نصيبا أوفر من نقد الفقهاء للفرقة الناجية، خاصة النبوة والإيمان والعمل. فبالنسبة للنبوة كان محمد رسول الله في الماضي، في فترة نبوته وفي حياته، ولكنه ليس كذلك اليوم. فالنبوة موقوتة بزمان، وظاهرة في عصر؛ لأنها تعبير عن تطور الوحي طبقا لتطور الوعي البشري. وليس السبب طبيعيا، أن الأرواح أعراض تفنى ولا تبقى وقتين. أما الدليل على صدق الرسول فليس إطعامه المئين والعشرات من صاع شعير
89
مرة بعد مرة، وسقيه الألف والألوف من ماء يسير ينبع من بين أصابعه، وحنين الجذع، ومجيء الشجرة، وتكلم الذراع، وشكوى البعير، ومجيء الذئب؛ وذلك لأنه لم يتحد الناس بذلك، ولا توجد آية إلا ما تحدى به الكفار فقط. وهي معجزات بها كثير من الخيال الشعبي وأنماط البيئات الحضارية الأخرى.
وعلى العكس من ذلك وفي مواجهة المعارضة العقلية يكون النظر في دلائل الإسلام فرضا، ويكون الشك في صحة النبوة شرط النظر، وهما طرفا نقيض، إما الخرافة أو الشك. في الأول لا فرق بين النبي والساحر، وفي الثاني لا فرق بين النبي والفيلسوف. وقد يأتي يقين النبوة من التواتر. أما إعجاز القرآن فإنه قد يكون النظم وهو ما تقول به فرق الأمة كلها، أو القرآن القديم الذي لم ينزل، ولم يقرأه أحد، ولم يسمعه أحد! فكيف يكون هذا المجهول معجزا؟ وكيف يدخل به الناس التحدي؟ والقرآن الذي بين دفتي المصحف فإنه مقدور عليه، أقل سورة منه ليست كذلك، بل مقدور على مثله. أما تقسيم آيات القرآن وترتيب مواضع السور فمن الناس، وليس من الله؛ وبالتالي ينكر بعض الأشاعرة التوقيف. هو من الإجماع وليس من النبي. ويمكن قراءة القرآن بالفارسية على خلاف إجماع الأمة على قراءته بالعربية. وعند أحد الأشاعرة، خالف كل من فقهاء الأمة الإجماع، إما في سجدة في قراءة القرآن، أو في اعتبار البسملة جزءا منه، أو إبطال القياس مصدرا من مصادر التشريع.
90
أما بالنسبة لشخص النبي فلا يلزمه زكاة مال؛ لأنه اختار أن يكن عبدا، والعبد لا زكاة عليه، فلم يورث ولم يرث، وخشي العامة. وقد اختلفت الفرقة الناجية في كون النبي أفضل أهل زمانه حالة إرساله أو ما بعدها حتى موته، والناس فيه بين مقصر ومطول، بين مخصص ومعمم. وتجوز الكبائر من الأنبياء حاشا الكذب في البلاغ، وقد يجوز للنبي الكفر بعد الرسالة، وجميع المعاصي الصغار والكبار، بما في ذلك قتل النساء وتعريضهن، وتفخيذ الصبيان. ولما ازدوج التصوف بالأشعرية، وأصبح كل منهما يدعم الآخر لحساب السلطان؛ الأول صعودا إلى الله واتحادا به، والثاني نزولا من الله وطاعة له؛ فقد جعل بعض الصوفية الأشعرية الأولياء أفضل من الأنبياء والرسل، فسقطت عنهم الشرائع، وحلت لهم المحرمات، واستباحوا نساء غيرهم. وفي الوقت نفسه رأينا أنهم يرون الله ويكلمونه، ويقذف الله في قلوبهم علما لدنا! يجالسون الله ويرونه في صورة إنسان لحما وعظما، فرحا وحزنا، يعيش معهم في الأزقة وهم وراءه كمجنون الحارة!
91
وفي أمور المعاد تفنى الجنة والنار حتى يبقى الله وحده لا يشاركه أحد في صفة البقاء. وتسري الروح وتنتقل من جسم إلى آخر كما تنتقل أرواح الشهداء إلى حواصل خضر، فالروح تبعد وتقرب، تسكن وتتحرك. تعود الحياة إلى «عجب الذنب»، منه خلق ومنه يعود من جديد.
92
ويظهر موضوع الإيمان والعمل أكثر من الإمامة، وبه كل نقائص الصلة بين الإيمان والعمل؛ فقد يكون الإيمان قولا وإقرارا باللسان فحسب، أو تصديقا بالوجدان فقط، أو معرفة نظرية صرفة، أو عملا أهوج لا يسنده نظر. فالإيمان ليس معرفة فقط، وإن كفر فرعون وإبليس لم ينشأ من نقص في المعرفة. ولا يمكن أن يكون الإيمان عقدا بالقلب فقط وتصديقا بالوجدان بلا تقية، وإن عبد الأوثان أو التزم باليهودية أو النصرانية وعبد الصليب وأعلن التثليث، وإلا ففيم الإيمان؟ وكيف يتخارج في قول أو في فعل؟ ولا يمكن أن يكون الإيمان بالقول وحده، وإن اعتقد الكفر بقلبه، وأن تكون له الجنة، فالقول ما هو إلا دليل على الوجدان، والوجدان تصديق للمعرفة، والكل يتخارج في الفعل. ولا يكفي أن يكون الإيمان فعلا ظاهريا بالإسلام وتكذيبا باللسان بلا تقية؛ فالقول تعبير عن معرفة وتصديق، ولا يمكن إخراج الفعل من الإنسان حتى لا تضر مع الإيمان سيئة، ولا تنفع مع الكفر طاعة. ولماذا لا تقبل التوبة إذا ما استوفت شروطها من الندم على ما فات، وترك الزلة في الحال، وعقد العزم على عدم العودة لها في المستقبل، وتكفي في ذلك معصية واحدة دون كلها؟ ولماذا لا يغفر الله الصغائر بارتكاب الكبائر؟ فإذا ما تم اقتران المعرفة بالتصديق بالقول بالفعل ظهر الإيمان الكامل المؤدي إلى الجنة بالضرورة دونما كسر لقانون الاستحقاق، فالبداية الحسنة تؤدي إلى النهاية الحسنة دونما تدخل في علم الله أو إرادته.
93
وفي موضوع الإمامة يشترط البعض أن يكون الإمام أفضل أهل زمانه، ويجيز البعض الآخر وجود إمامين في وقت واحد. وفي العمليات لا يجيز البعض تنفيذ حكم شرعي اجتهادي في نازلة بعد الانتقال إلى نازلة أخرى، بينما يحرم البعض الآخر ذبائح أهل الكتاب، ويخطئ فريق ثالث حروب الردة، ويرى الصواب في الرجوع.
94
وفرق المعارضة بأنواعها هي في الأساس أحزاب سياسية اتخذت العقائد سلاحا لتثبيت السلطة أو للقضاء عليها؛ وبالتالي لا تفهم العقائد إلا من خلال المعارك السياسية. وكان سلاح التكفير في أيدي السلطة وخصومها سلاحا سياسيا متسترا وراء الدين في مجتمع العقائد فيه مصدر سلطة، والنص مرجع وحكم. ولا فرق بين فرقة ناجية وفرق ضالة، كلها سواء. وما كفرته الفرقة الناجية هي نفسها وقعت فيه، وأتاها الفقهاء يضللون عقائدها كما ضللت هي عقائد الفرق الضالة. ومن أعلى من الفقهاء سلطة في مجتمع ديني أو سياسي يقوم على الدين؟ لقد تبارت جميعها في الكلام وتركت الفتوح، وشقت وحدة الأمة، وزرعت الأحقاد، وأشعلت الفتن فيها، وسفكت الدماء باسم العقيدة، كل منهم يدافع عن إله السماء ويترك إله الأرض. وجرى الحكام مجراهم وراء المذاهب النظرية، فتحولت السلطة السياسية إلى حكم بين المذاهب، وأصبح السيف هو الفيصل بين الأقلام. لا فرق إذن بين تراث السلطة وتراث المعارضة، بين فرقة السلطان وفرق المعارضة، في ضياع جهد الأمة فيما لا يفيد تأكيدا لاغتراب الناس عن مواقعهم، وتعمية للناس عن مشاكلهم الحقيقية ورؤية واقعهم. وإن لجوء الفقهاء إلى النص الخام أقرب إلى العودة إلى منبع الطاقة الحية والقوة الضاربة الطبيعية ضد صياغات الفكر ومتاهات العقول. ومع ذلك يظل هو أيضا سلاحا متبادلا بين الفقهاء، فقهاء الأمة وفقهاء السلطان.
95
رابعا: من الوحدة إلى التفرق أو من التفرق إلى الوحدة
إذا كان تاريخ الفرق قد دخل كملحق للإمامة وتذييل لها في بعض مصنفات العقائد، فإنه هو الموضوع الرئيسي في معظم مقدمات مصنفات الفرق.
1
تبدأ المقدمات ببيان أوجه الخلاف وكيفية وقوعه، وكيف تحولت الوحدة الأولى إلى كثرة، وكيف تشعبت الأمة إلى فرق، وكيف تحولت موضوعية الدين والعقائد إلى ذاتية الأهواء والمصالح، وكأن علم الكلام الغرض منه هو إعادة الرتق والعودة من التفرق إلى الوحدة، ومن الهوى إلى العقل، ومن المصلحة إلى الفكر، ومن الذاتية إلى الموضوعية.
2
والوحدة الأولى هي وحدة الجماعة التي وحدها الوحي لأول مرة؛ فهي إذن ليست فقط وحدة الفكر، بل وحدة الأمة، ووحدة الأمة في وحدة فكرها وهو الوحي. ولما كان الفكر ما هو إلا عمل قبل أن يتحقق تعني وحدة الأمة وحدة الفكر والعمل على السواء.
3
ولا يكفي أن تؤمن الأمة بإحدى مراحل الوحي، نبوة بعينها، بل بالوحي الشامل في كافة مراحله حتى ختم النبوة وتحقيقها في التاريخ. ولا تكون وحدة الأمة في وحدة العمل الرمزي الممثل في ممارسة الطقوس والشعائر؛ لأن العمل أوسع من ذلك بكثير، عمل مباشر، فكر يتحقق.
4
وحدة العمل الرمزي تعبير عن وحدة الفكر والعمل في الواقع العريض، وليس العمل المتقوقع على ذاته المنفصل عن الواقع. كما أن وحدة الفكر ليست وحدة العقائد المنفصلة عن الواقع، بل هي وحدة المقاصد والغايات التي تتحقق في الواقع كأنظمة مثالية تعبر عن طبيعته وكماله.
5
والتفرق ليس هو الخلاف حول المسائل العملية، بل هو التفرق في المسائل النظرية. المسائل العملية الخالصة أدخل في علم الفقه وفي علم أصول الفقه منها في علم أصول الدين. قد تثير بعض المسائل العملية إشكالات نظرية، وتكون بداية لاتجاه كلامي، كما هو الحال في موضوع الإمامة، والتي أصبحت عنوانا لفرقة بأكملها، ومثل موضوعات الإيمان والعمل والكفر والطاعة والمعصية، والتي كانت مسائل عملية برزت في الفتنة لتحديد سلوك الناس، ثم نشأت حولها فرق بأكملها.
6
والفرق الفقهية التي تدور خلافاتها حول المسائل العملية لا تدخل تحت أية فكرة موجهة، سواء تلك التي تشير إيجابا أم سلبا إلى الفرق أو إلى أحدها بالنجاة أو الهلاك. ففي المسائل العملية كل الحلول صواب ما دام يبذل فيها الجهد، أو يكون أحدها صوابا والآخر خطأ دون تعيين. وإذا عين الخطأ فلا يعني ذلك الضلال، ويكون الصواب هو النجاة، بل يعني الاجتهاد في كلتا الحالتين، ويظل الأمر ظنيا نظريا وإن كان يقينيا عمليا. وقد يتغير ذلك من فرد إلى آخر، ومن عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان. فالمسائل العملية قائمة على تعدد الحقائق على المستوى النظري. ولا فرق بين علم أصول الدين وعلم أصول الفقه في الجمع بين الفرق أو المدارس المختلفة. صحيح أن التفرق في أصول الدين أخطر منه في أصول الفقه؛ لأنه تفرق على الأصول النظرية، إلا أن التفرق في أصول الفقه يدل على تفرد الواقع وعلى تكيف فهم الوحي حسب الزمان والمكان. لا يوجد صواب نظري واحد في علم أصول الفقه، فالكل مصيب.
7
وقد يرجع التفرق على الأصول النظرية أيضا إلى مواقف عملية، الموقع من السلطة، أصول السلطان أم أصول المعارضة، ولكنها في كل الأحوال تظل أصولا نظرية. (1) أصول التفرق والوحدة
هل التفرقة والوحدة طبيعيان أم أن لهما أصولا يردان إليها؟ وهل هذه الأصول جغرافية طبيعية أم قومية حضارية أم عقائدية مذهبية؟ وماذا تعني ألفاظ الدين والملة والحنيفية والشرعة والمنهاج والسنة والجماعة؟ (1-1) هل التفرق جغرافي طبيعي؟
قد ينقسم الناس جغرافيا حسب الأقاليم، وتتحدد طبائعهم وأمزجتهم بل وأفكارهم حسب طبيعة كل إقليم. وفي الجغرافيا القديمة لما كانت الأقاليم سبعة، فالأمم سبعة. وقد ينقسم الناس حسب الاتجاهات الأربعة، ويحدد كل اتجاه سلوك الناس وطبائعهم وآراءهم، بل ودياناتهم ونحلهم.
8
والحقيقة أن هذه القسمة جغرافية خالصة، لا تبدأ من الوحي ومن تشعبه وتحوله إلى فرق بتدخل الموقف الإنساني وتكوينه الاجتماعي وصراعاته السياسية. ليس الشعور الإنساني شعورا طبيعيا بمعنى أنه محدد بالمكان؛ فمع أن الشعور محمول في المكان إلا أنه مستقل عنه، ومع أن الشعور موجود في البدن، والبدن يتحرك في العالم، والعالم يتفاوت في المناخ نظرا لبعد أجزائه عن الشمس أو قربها منها، إلا أن الشعور مستقل، وأن المناخ وإن حدد أسلوب الحياة المادي إلا أنه لا يحدد ماهية الشعور المستقلة. (1-2) هل التفرق قومي حضاري؟
فإذا صعدنا درجة أعلى تحول التقسيم من المستوى الجغرافي الطبيعي إلى المستوى القومي الحضاري؛ فلكل قوم خصائص تظهر في حضارته طبقا للجنس والمزاج والتكوين النفسي. فإذا كانت كبار الأمم أربعة، العرب والعجم والروم والهند، فإنها تنقسم إلى طبيعتين رئيسيتين؛ الأولى تقرير خواص الأشياء، والحكم بأحكام الماهيات والحقائق، واستعمال الأمور الروحانية، كما هو الحال عند العرب والهند. وهي الطبيعة الأقرب إلى المثال الذي يظهر في الماهيات في الطبيعة أم في الروح، في العالم أم في الله، في الفلسفة أو الدين. والثانية تقرير طبائع الأشياء، والحكم بأحكام الكيفيات والكميات، واستعمال الأمور الجسمانية، كما هو الحال عند العجم والروم. وهي الطبيعة الأقرب إلى الواقع، والتي يظهر فيها العلم الكمي كما هو الحال في العلم الطبيعي. وهو الاختلاف بين الشرق الفنان، والغرب العالم.
9
وعلى فرض صحة هذا التقسيم، فإن هذا الحصر غير جامع لكل الشعوب؛ فأين شعوب الصين واليابان وباقي أمم آسيا؟ وأين شعوب أفريقيا إن كانت الأمم في أمريكا لاتينية ما زالت مجهولة في العالم القديم؟ وأين شعوب مصر والشام وما بين النهرين والعبرانيون القدماء؟ وهل يشتمل الروم اليونان وباقي شعوب الغرب؟ وهل يمكن تصنيف شعوب الأرض كلها لهاتين الطبيعتين، أم أن هناك طبائع أخرى؟ ألا توجد شعوب كاملة تجمع بين الطبيعتين؟ وهل القسمة إلى الطبيعتين حكم واقع أم حكم قيمة؟ هل يفضل العرب والهند العجم والروم؟ ألا يوجد تمايز بين العرب والهند أو بين العجم والروم على الرغم من اشتراك كل منها في نفس الطبيعة والمزاج؟ وكيف يفسر انتشار الإسلام بين العجم وهم من طبيعة مخالفة للعرب، أكثر من انتشاره بين الروم وهم من طبيعة مشابهة للعجم؟ ولماذا لم ينتشر الإسلام في أرجاء الهند قاطبة وهي تشارك العرب في التكوين والمزاج. هل يعني ذلك أن رسالة الإسلام تتجه شرقا؟ والحقيقة أن الشعور الإنساني غير مرتبط بالجنس أو اللسان أو التاريخ أو الحضارة المشتركة. وإن كان نسبيا مرتبطا بلغته واستعاراته وتشبيهاته ومقولاته ونظرته للعالم، إلا أنه يستطيع أن يفارقها ويصبح شعورا فكريا عاما يتجاوز القوميات ويتعالى على الأجناس. هذا فضلا عما في الأحكام على الحضارات من مخاطر وعدم دقة وتميز. وخصائص الشعوب تنشأ من سلوك حضاري في لحظة معينة من تطورها في التاريخ دون أن تكون أبدية تمس جوهر الشعور أو تحكم على ماهيته. ولا يقتصر قوم أو قومان على طبيعة واحدة، بل توجد الطبيعتان معا عند كل قوم، وينشأ التياران المثالي والواقعي، الروحي والمادي، العقلي والحسي، الصوفي والعلمي. فهذان بعدان للشعور الإنساني والشعور الحضاري على السواء، قد يغلب أحدهما على الآخر في فترة زمنية معينة نتيجة لتطوره في التاريخ، ولكن لا يوجد حكم عام شامل على الحضارة بأنها كذلك، أحادية الطرف إلى الأبد. وقد يتداخل البعدان بطريقة غير سوية، فيتحول العقلي إلى عاطفي وانفعالي وهوائي وذاتي وغيبي وحسي وكمي وجسمي، يعبر عن ضنك وضيق واختناق ولهث؛ وبالتالي تفسد الطبيعة، وتكون في حاجة إلى وحي يعيدها إلى ثورتها ويحقق كمالها. (1-3) التفرق العقائدي المذهبي
والحقيقة أن البشر يختلفون فيما بينهم طبقا للعقائد والمذاهب؛ أي طبقا للديانات والأهواء. الفكر هو سبب التفرد والتنوع والتخصص والتميز. الشعور إذن ليس هو الشعور القومي، بل هو الشعور الفكري الذي يجمع العقائد والمذاهب، الأديان والفلسفات. تحديد ماهية الشعور من فكرة تحديد ماهوي لا مادي، مثالي لا موقفي؛ فالفكر ماهية الشعور. البشر إذن ملل ونحل، أهل ديانات وأهل أهواء.
10
ولكل قسم طبيعة؛ الأول مستفيد مطيع، وقد يكون مقلدا فتضيع الاستفادة؛ والثاني مستبد برأيه مبتدع، وقد يكون مستنبطا برأيه فيضيع الاستبداد. الأول يؤمن بالنبوات والشرائع، والثاني لا يؤمن إلا بالعقل وبأحكامه.
11
وهذا التقسيم قائم في الحقيقة على فكرة موجهة من النصوص الدينية، الاتباع أم الإبداع، التقليد أم التجديد. فالشعور إما آخذ أو معط، قابل أو رافض، مستفيد أو مفيد، متعلم أو معلم. فالنبي والفيلسوف صنوان، والنبوة والفلسفة شقيقتان رضيعتان، والعقل جامع بين الاثنين. وكما لا تنتهي الفلسفة بالضرورة إلى إنكار، كذلك لا ينتهي الدين بالضرورة إلى طاعة. ويمكن للفلسفة أن تكون تقليدا، ويمكن للدين أن يكون ثورة. لا يتعلق الأمر بالدين والفلسفة كميدانين، ولكن يتعلق بمنهجين وموقعين يظهران في الدين والفلسفة والعلم والفن والحياة.
ولما كان لكل دين كتاب، وهو مقياس من داخل الحضارة لأنها قامت على كتاب، فقد تنقسم الديانات إلى أربع فرق؛ الأولى ديانات كتاب منزل محقق، مثل اليهودية والنصرانية والإسلام؛ لذلك دخل النقد التاريخي للكتب المقدسة جزءا من علم أصول الدين للتحقق من الصحة التاريخية للكتاب.
12
والثانية ديانات شبهة كتاب، مثل المجوسية والمانوية؛ مما يدل على اعتبار خاص لهذين الدينين، واعتبار المجوس مثال أهل الكتاب، وأن الذي يجمع بين الوحي المنزل ونبوة أخرى هو الكتاب المقدس في ملة؛ فالكتب إذن كثيرة. والثالثة ديانات حدود وأحكام دون كتاب، مثل الصابئين الأوائل. وتنتقل بطريق شفاهي، ويكون التراث الشفاهي مصدر سلطة مثل التراث المدون. والرابعة ديانات ليس لها كتاب ولا شبهة كتاب ولا حدود وأحكام، مثل المذاهب الفلسفية والوثنية وعبادة الكواكب والبرهمانية. وهنا تدخل الفلسفة كقسم في الدين، ولا يعترف لها بكتاب مقدس؛ لأن الفلسفة لا تقديس فيها. والوثنية وعبادة الكواكب دين الطبيعة، والبرهمانية دين العقل، وكلاهما لا يحتاجان إلى كتاب.
13
ويؤخذ كل دين من مصادره الأولى، أي من الكتاب المقدس عند الملة، فهو أوثق المصادر خاصة إذا كان صحيحا تاريخيا، وأبعدها عن التأويلات والتفريعات والإضافات اللاحقة.
14
ولما كان التفرق العقائدي المنهجي عاما لكل الشعوب، وكان الإسلام أحد الديانات، وله مذاهب وله كتاب، قد تبدأ الفرق غير الإسلامية أولا، ثم تأتي الفرق الإسلامية بعدها تبعا للتطور الزماني لرؤية تطور الوحي واكتمال الوعي البشري. وقد تبدأ الفرق الإسلامية أولا ثم تأتي الفرق غير الإسلامية على أساس أن البناء يظهر التطور، والنهاية تثير البداية. قد يبدأ بالديانات العامة أولا، ثم يتم إحصاء الفرق الإسلامية ثانيا. وقد يبدأ عرض الفرق الإسلامية أولا، ثم يأتي إحصاء الديانات الأخرى ثانيا. الأول ترتيب زماني تاريخي، والثاني ترتيب موضوعي مذهبي. بالطريقة الأولى تذكر الفرق الكلامية في معرض تاريخ الأديان العام، وكأنها فرق أهل الإسلام قبل أن يبدأ عالم الكلام في عرض مادته حسب الموضوعات؛ فالأديان هي الملل، والفرق الإسلامية هي النحل. الملل هي الديانات المختلفة كاليهودية والمسيحية والإسلام، والأهواء كالمذاهب الفلسفية، والنحل كالديانات التاريخية الخالصة.
15
وعندما توضع المادة الكلامية في إطار تاريخ الأديان المقارن، وتظهر الفرق في إطار تاريخ الأديان العام، يقوم التصنيف على نظرية في الحقيقة، وهي أن الحقيقة موجودة يمكن معرفتها، وهي حقيقة واحدة كاملة في مقابل حقائق متعددة ناقصة. ويقوم الإيمان بالوحي من حيث المبدأ على حقيقة واحدة موجودة وكاملة يمكن معرفتها والوصول إليها. وتعادل نظرية الحقيقة هذه نظرية العلم في مصنفات العقائد، فيشار إلى الموقف السوفسطائي، سواء الشك المطلق أو الشك النسبي، وتثبت الحقائق والعلوم.
16
والطريقة الثانية تذكر الفرق غير الإسلامية كإحدى الفرق الإسلامية. وهنا يصبح علم أصول الدين هو الأصل، وتاريخ الأديان هو الفرع.
17
ولا يخلو مصنف كلامي من إشارة إلى الديانات الأخرى وفرقها، حتى في المصنفات المتأخرة التي بوبت حسب موضوعات العلم، والتي تجاوزت تاريخ الفرق المحض؛ ومن ثم أصبح موضوع تاريخ الأديان أو تطور الوحي من موضوعات علم الكلام يدخل في التوحيد.
18
وأحيانا تدخل فرق غير كلامية ضمن الفرق الكلامية. وهنا يبدو علم الكلام وكأنه تاريخ الفكر الديني داخل الحضارة، وليس فقط تاريخا للفرق الكلامية التي تكون مادة علم الكلام.
19
وقد يصنف علماء الكلام في مقالات الديانات الأخرى دون ذكر للفرق الإسلامية. وفي هذه الحالة يكون عالم الكلام عالم تاريخ أديان خالص لحضارات وديانات أخرى.
20
وقد يتعدى تصنيف الفرق الخارجة على الإسلام إلى إخراج فرق إسلامية نشأت داخل الحضارة الإسلامية، مثل بعض النظريات الفلسفية في قدم العالم، وقدم الزمان والمكان، وأزلية النفس ، وتدبير الفلك. فعلم الكلام هنا يشمل كل الفرق الخارجة عن الإسلام، سواء كانت من حضارة أخرى أو من داخل الحضارة خارج علم الكلام في الفلسفة أو التصوف. فهو تاريخ للفكر الديني بوجه عام، وليس تاريخا لعلم الكلام بوجه خاص من ملل وأهواء ونحل. وفي المقابل قد تدخل فرق غير إسلامية تمثل حضارات وافدة ضمن الفرق الإسلامية؛ لأنها أصبحت ممثلة داخل الحضارة الإسلامية ولم تعد وافدة عليها، إما لأن لها ممثلين، أو لأن الاتجاه ظهر تلقائيا في الحضارة الإسلامية بمساعدة الاتجاه المماثل في الحضارات الوافدة أو بدون مساعدتها. ومما يساعد على إدخال هذه الفرق ضمن الفرق الكلامية الرغبة في إكمال عدد الفرق في التاريخ الموجه.
21
وقد يكون التاريخ المذهبي تاريخا داخليا محضا للحضارة دون ذكر أية حضارات مجاورة دخيلة. وفي هذه الحالة يكون التاريخ موجها بحديث الفرقة الناجية.
22 (1-4) تحديد المصطلحات
إذا كان التفرق عقائديا مذهبيا، فالأولى تحديد مصطلحات الدين، والملة، والحنيفية، والشرعة، والمنهاج، والسنة، والجماعة، والإسلام.
23
فالدين هو الامتثال، والامتثال هو التعبير عن الطبيعة بالفكر. ولا يعني ذلك الطاعة والانقياد، فذلك ما تعاني منه الأمة حاليا في علاقتها بالسلطان، بل هو رفض كل ما يعارض الطبيعة والحرية والعقل، هذا الرفض الناشئ من الامتثال للفكر وإدراك الهوة بين الطبيعة والمثال. ليس الدين هو الجزاء؛ لأن فعل الخير، العمل الصالح، مستقل عن الجزاء والعقاب، ولكن في طبيعة الفعل جزاؤه، وجزاؤه أثره وفاعليته؛ فعلى الخير يعطي خيرا، ويحدث في هذا العالم من حياة الفاعل، أو يكون كامنا فيظهر في الأجيال التالية ويظل موجها للحضارة. وإذا كان الدين يعني الحساب، فإن الحساب على الفعل يكون ذاتيا، بمراجعة داخلية. أما الحساب الخارجي فعادة ما يكون مصدرا للخوف والتخفي؛ وبالتالي مصدرا للإرهاب والنفاق، لا فرق في ذلك بين حساب الله وحساب السلطان. والحساب ليس بالضرورة حساب الآخر للذات، أي حساب الدولة للمواطنين، بل حساب الذات للآخر، حساب المواطنين للدولة من خلال الرقابة الشعبية على أجهزة الدولة. وإذا كان الدين يعني التعبد، فإن التعبد ليس الإتيان بحركات رمزية تكشف عن الصلة بين الإنسان والله، بل القيام بأفعال مباشرة في العالم تؤثر في الناس وتحدد مسار العلاقات الاجتماعية. وإذا كان الدين في النهاية وضعا يسبق العقول باختيارها إلى ما هو خير لهم بالذات، فإن هذا الوضع يتفق مع الطبيعة البشرية الحرة العاقلة، ويؤكدها، ويساعدها على الازدهار والكمال.
24
ويتحول الدين إلى ملة لأن الامتثال جماعي. الدين هو الذي يعطي الهوية للجماعة، ويحولها إلى جماعة فكرية. لا يوجد فكر دون جماعة، ولا يوجد دين بلا أمة، ولا يوجد مذهب فكري دون شعب؛ لأنه لا يوجد وحي بلا تاريخ. وصف الدين هو وصف للأمة، وتحليل الدين هو تحليل لحال الأمة.
25
والملة هي ملة إبراهيم، وهي الحنيفية السمحة، ويضادها الخروج على طريق العقل والطبيعة. والأمة جماعة مثالية، حققت وحدة الفكر واستقلال الشعور وتدرك نظام الطبيعة، الأمة فكر نمطي، والفكر جماعة مثالية تمنع من التشتت الفكري والحضاري، وتحرص على الوحدة المثالية بين الفكر والجماعة، بين الوحي والتاريخ. وتتوالى الملل حسب قانون الجمع بين الأضداد وجدل التاريخ، والانتقال من الموضوع إلى نقيض الموضوع إلى مركب الموضوع. عرف آدم الأسماء كلها، وعلم نوح معانيها، ثم تحقق إبراهيم من كليهما. الأمة المثالية إذن هي التي تجمع بين الأسماء المعاني والواقع، بين الألفاظ والدلالات والأشياء دون تبعثر للأسماء، وتحولها إلى شقشقات لفظية وضمور للمعاني، وتحولها إلى ثوابت، وغياب للوقائع والأشياء.
26
وإذا تحول الدين إلى ملة، فإن الملة تتحول إلى منهج للجماعة. وباتحاد الفكر بالجماعة يظهر التشريع، وهو تنظيم الفكر للجماعة، وتوجيهه لسلوكها، وتخطيطه لحياتها. وقد تطورت الشرائع كما تطور الفكر وتطورت الجماعة، واكتملت بظهور الجماعة المثالية. فالتشريعات تنبع من الفكر وتقوم عليه، وتعبر عن واقع دفاعا عن مصالح الجماعة.
27
فإذا تم الاتفاق على المنهاج نشأت الجماعة الفكرية المذهبية. الجماعة هي ممثلة الفكر في التاريخ، وتحوله إلى شريعة ونظم. ولما كانت الشرعة منزلة ففي تطور الوحي في التاريخ جاء التنزيل أولا، ثم التأويل ثانيا، ثم الجمع بين التنزيل والتأويل ثالثا. وهو منهج الأمة المثالية التي جمعت بين الفكر والجماعة . التنزيل بلا تأويل صورية وفراغ، والتأويل بلا تنزيل مضمون عاطفي بلا صورة وروح طاهرة بلا بدن، والجمع بين التنزيل والتأويل هو إيجاد الوحدة بين الصورة والمضمون، بين الروح والبدن، بين المثال والواقع. ويكون ذلك في التاريخ جمعا بين القديم والجديد، بين الماضي والحاضر. التنزيل بلا تأويل جمود، والتأويل بلا تنزيل هوى.
28
والأديان كلها مراحل مختلفة لدين واحد اكتمل في آخر مرحلة. كل مرحلة تثبت المرحلة الأولى وتكملها. فإذا اكتمل الوحي انتهت النبوة، واستقل العقل، وتحررت الإرادة، واكتملت الفطرة، وثبتت الحقيقة، ووضح المثال. أصبح الوحي تاريخا، والفكر واقعا؛ فالواقع دليل الفكر، والفكر دليل الحق. ووقوع الوحي لا يستلزم بالضرورة البحث عن مصدر مشخص للوحي ولا حتى شخص للنبي؛ فالوحي واقع في التاريخ ويتطور معه أفقيا، وليس علاقة رأسية بين شخصين. والبرهان على صدقه متضمن فيه وليس خارجا عنه، طبيعة الفكر نفسها المطابقة للواقع، للفطرة والطبيعة، والشامل لكل التجارب البشرية النمطية. موضوعية الوحي وشموله مقياسان لصدقه. الدليل ملازم له، لا هو سابق له، ولا لاحق عليه. السابق إرهاص على ضرورة ظهور الفكر، واللاحق تحقيق لمسار الفكر وإثبات لواقعيته. لا تستلزم النبوة في آخر مراحلها إثبات صدقها بآية خارجة عنها. آياتها الوحيدة من داخلها كفكر مطابق للواقع، وهذا الواقع هو التجربة الإنسانية الشاملة وماهياتها وقوانين التاريخ. فالتوحيد هو جوهر الدين، وما أتى به الأنبياء منذ آدم حتى محمد. وبمجرد تحقيق غاية الوحي، استقلال الوعي الإنساني، عقلا وإرادة، يقف تطوره وتنتهي النبوة، ويتوقف تطور التاريخ في الأصول، ويبقى تطوره في الفروع، والتي يمكن للاجتهاد أن يجد لها تشريعاتها ويستنبط لها أحكامها. ويكون التاريخ حينئذ دون مراحل، وكأن التاريخ يخضع نفسه للخلود، ويمحي عنه طابع الزمان.
29
وإذا كانت الفرق إسلامية على وجه الخصوص، فماذا يعني الإسلام؟ وهنا تأتي الفكرة الموجهة لتحدد الفرق بين الإسلام والإيمان والإحسان؛ الأول بداية، والثاني وسط، والثالث كمال. الأول عمل باللسان (قول)، والثاني عمل بالقلب (تصديق)، والثالث عمل بالجوارح (فعل). الأول العبادات، والثاني العقائد، والثالث المعاملات. ولكن أليست العبادة أيضا بالقلب وبالجوارح، فتشمل العقائد والمعاملات؟ وفي آخر مرحلة من مراحل الوحي يكون الوحي إمكانية تحقيق من خلال طاقة الإنسان. ولما كانت الطاقة قولا ووجدانا وعملا كان القول هو الإعلان عنه، والوجدان تمثله، والفعل تحقيقه. ليس الإسلام إذن هو مجرد الخضوع والانقياد بالمعنى الشائع دون تمييز بين الله والسلطان، بل هو تعبير عن الطاقة الإنسانية، بالقول باللسان والعمل بالجوارح، بالكلمة والفعل. الإسلام إذن أقرب إلى الشهادة باللسان وباليد. فإذا كان الخارج قيدا وقهرا ورضوخا للأمر الواقع، فإن الإسلام يكون ثورة وتحررا وغضبا ورفضا وتمردا. وتبدأ العقائد المتأخرة من الإيمان، وتعرفه بأنه الاستسلام والانقياد، وتجعل مضمونه إما الغيبيات أو العبادات أو الحدود دون فكر أو فعل، ودون حق أو طلب. ويفرغ الإيمان من أي مضمون اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي يربط المؤمن فردا وجماعة بمصالحه وحياته، ويجعله قادرا على الدفاع عن حقوقه، وليس فقط مطالبته بتحقيق واجباته.
30
وبهذا المعنى، الإسلام كاستسلام، يشار إلى الفرقة الناجية، فرقة السلطان.
31 (2) من الوحدة إلى التفرق
تصف الفرقة الناجية تاريخ الفكر البشري، بل وتاريخ الإنسانية ذاتها، كمسار من الوحدة إلى التفرق، من الطاعة إلى العصيان، من الخير إلى الشر؛ وبالتالي تتم إدانة التاريخ والزمان والتطور، وإدانة كل جهد بشري وقضاء على التعددية. ولا سبيل إلى صلاح العالم ونجاة البشرية إلا بالعودة من جديد من التفرق إلى الوحدة، من العصيان إلى الطاعة، ومن الشر إلى الخير. ومرة يتم هذا الوصف بصورة فنية شعرية رمزية عن طريق رفض الشيطان السجود لآدم قياسا للنار على الطين، وهو قياس كمي خاطئ يغفل الكيف؛ ومرة أخرى، وهو الهدف من هذا الوصف، عن طريق وصف مسار علم أصول الدين على أنه انتقال من النقل إلى العقل؛ وبالتالي يضل كما ضل الشيطان من قبل. الأمة إذن لها بدايتان؛ الأولى قياس الشيطان، والثاني إعمال العقل! وكلاهما شر؛ الأول أدى إلى الطرد من الجنة، والثاني أدى إلى الفرق الضالة! (2-1) التاريخ الرمزي
يبدأ التاريخ، عند الفرقة الناجية، بصورة فنية أقرب إلى الشعر منها إلى العلم، وأدنى إلى الخيال منها إلى الواقع، توحي بأن التفرق والتشتت حدثا في البداية لأول مرة منذ الخليقة قبل أن يقع للمرة الثانية في التاريخ الإنساني بعد ظهور الوحي. فالتاريخ له بدايتان؛ الأولى بداية الخليقة، والثانية اكتمال الوحي ووحدة الفكر. البداية الأولى افتراضية خالصة، تعتمد على التاريخ الشعري أو على التفسير الفني للنصوص الدينية للحصول على دلالة مشابهة للبداية الثانية، وكأن التاريخ يعود كما بدأ. ولا يقتصر الأمر على الدلالة الشعرية، بل يفسر النص الفني على أنه يحتوي على وقائع حدثت بالفعل. حدث التشتت الأول في البداية بإعمال الرأي والقياس، وذلك بمقابلة الرأي بالنص، أو مقابلة الهوى بالأمر، إعمالا للعقل وإثباتا للحرية.
32
والتاريخ الشعري القائم على الصور الفنية أفضل استعمالا من التاريخ الأسطوري، إلا إذا فهمت الأسطورة كصورة فنية. فلفظ الأسطورة يعني في التراث وفي أصل الوحي الخرافة بالتعارض مع الواقع، في حين أن لفظ الشعر والتخييل ألفاظ تراثية، وكذلك الحال مع لفظ الصورة الشعرية وانتمائها إلى الثقافة الأدبية المعاصرة.
33
وتعتمد هذه البداية الشعرية مع الكتب المقدسة الأخرى القائمة على عقائد السقوط والطرد والحرمان كوقائع وحوادث تاريخية، وليس فقط كصور شعرية. ونظرا لاعتماد الفرقة الناجية على التفسير بالمأثور، فقد دخلت كثير من الإسرائيليات لتأصيل عقائدها، وهي الصورة الشعرية نفسها الموجودة في حضارات أخرى وتفسر لا على أنها صراع العقل مع النقل، وصراع الموضوعية مع الذاتية، وصراع الحرية مع القدرية، بل على أنها تنقل أخبارا عن وقائع العصيان والحرمان والطرد والخطيئة والسقوط.
34
وتضع الصورة الشعرية شبهات سبعة
35
تفيد بأن الموقف الإنساني شبهة، وأن السؤال عنها يوقع لا محالة في تناقض، وهي الشبهات نفسها التي يقوم عليها علم الكلام. تمثل الفرق الهالكة، وفي مقدمتها المعارضة العلنية من الداخل، اختيار الشيطان نظرا لاعتمادها على العقل. وتمثل الفرقة الناجية، فرقة السلطان، اختيار الله نظرا لاعتمادها على النقل. الشبهة الأولى تشير إلى تعارض العلم المطلق مع الخلق باعتباره مصيرا وتاريخا محددا في العلم، ومع ذلك مرهون بحرية الإرادة الإنسانية. وإذا كانت الفرقة الناجية تأخذ صف العلم الإلهي وتضحي بالخلق الإنساني، فإن الفرق الهالكة خاصة المعارضة العلنية من الداخل تأخذ جانب الحرية الإنسانية وتضحي بالعلم المسبق. فإذا كان القياس هو المزايدة في الإيمان أمام العامة وفي أعين السلطان، كان الاختيار لعقائد الفرقة الناجية! والحقيقة أن العلم المطلق لا يمنع من تقرير مصير الإنسان لذاته؛ لأن العلم المطلق علم حقيقي، أي أنه مطابق للواقع، لا بمعنى أنه يفعل مباشرة، بل بمعنى أنه يفعل من خلال الفعل الإنساني. وهذا لا يعني أن العلم المطلق خامل غير مؤثر، بل بمعنى أن الإنسانية لا تتحقق إلا بالفعل في التاريخ. العلم مسار التاريخ، أو فكر العمل، أو نظرية السلوك، إذا ما بعد العلم عن التشخيص الذاتي كصفة لذات مشخص. والشبهة الثانية تشير إلى التعارض بين خلق الإنسان على إرادة الله وبين تكليفه على إرادة الإنسان الخاصة. فإذا أخذت الفرقة الناجية الاختيار الأول، فإن الهالكة تأخذ الاختيار الثاني. أليس فضل الله على الإنسان عظيما أمام السلطان وفي أعين العامة؟ والحقيقة أن التكليف إثبات لغاية الإنسان ودعوته، وأن الحياة الإنسانية أساسا هي تحقيق الرسالة. ولا يتم هذا التحقيق وفقا لإرادة مسبقة، فالإرادة المطلقة هي إرادة التاريخ وقوانينه ومساره التي تتحقق بالفعل الإنساني الفردي والجماعي على السواء؛ وبالتالي تبتعد الإرادة المطلقة عن التشخيص الذاتي الخارجي، وتعود إلى أصلها كقانون عام لمسار التاريخ، أو كنمط للتحقيق والتكليف ليس مضادا للحرية، وليس مانعا لها، بل هو موجه لها يعطيها أساسها النظري ومسارها المختار. والشبهة الثالثة عن أمر الشيطان بالسجود لآدم وعصيان الشيطان لله، بطبيعة الحال تختار فيها فرقة السلطان الطاعة لله وتنفيذ الأوامر، بينما تختار الفرق الهالكة العصيان ورفض السجود لأحد إلا لله، حتى ولو كان ذلك عصيانا لأوامر الله. واختيار الفرقة الناجية يرضاه السلطان، ويتملق أذواق العامة إيمانهم الاجتماعي بالله. ومن ذا الذي يرفض أوامر الله وأوامر السلطان؟ والحقيقة أن الإنسان هو القيمة الأولى في الحياة على رأس سلم القيم، وله يخضع كل شيء في الطبيعة، وكل فعل في التاريخ يقاس بمدى تحقيقه لهذه القيمة؛ فرفض السجود لآدم هو رفض للاعتراف بالإنسان كقيمة مطلقة. وإن السجود للإنسان وليس السجود لله لهو تنفيذ للأمر الإلهي وتحقيق لإرادته. والشبهة الرابعة تحتوي على الحكم بإدانة كل من لا يعترف بالإنسان كقيمة أولى، حتى ولو كان السبب في عدم الاعتراف التشدق بالإيمان والمزايدة فيه بدعوى عدم السجود إلا لله. الإنسان قيمة في أعلى سلم القيم. وقد تتنازل قيم أخرى أعلى منه حتى الفكر المطلق ليعلن أن الإنسان قيمة أولى. وهو بهذا الإعلان والاعتراف يثبت إطلاقيته، فلا إطلاقية تثبت إلا بإثبات الإنسان كقيمة أولى. والشبهة الخامسة أنه بالرغم من لعن الشيطان وإصدار حكم عليه بالإدانة، فقد دخل الجنة ووسوس للإنسان. ولا يعني ذلك أن كل ما يأتي للإنسان من أفكار فإنها من وسوسة الشيطان كما تقول الفرقة الناجية وكما يريد السلطان، بل تعني أن الاعتراف بالإنسان كقيمة أولى ليس مجرد اعتراف نظري، بل هو جهد عملي يتحقق بالفعل، وكأن الاعتراف النظري يحتاج إلى اعتراف آخر عملي بدفاع الإنسان عن وضعه كقيمة أولى، والدخول في صراع مع كل القوى التي تنكر عليه هذا الحق. فالإنسان ليس إمكانية محدودة ذات اتجاه واحد، بل هو إمكانية تحقق سلبا أم إيجابا. هو إمكانية تحقق في مواقف تتخللها عقبات؛ لأن وجود العقبة ضرورة لتحقق الإمكانية، وحشد الطاقات النظرية والعملية. وقد تكون الموانع ذاتية مثل الأهواء والانفعالات، وقد تكون موضوعية مثل الأوضاع الاجتماعية والسياسية. فالمانع ضرورة لتخطيته، والعقبة شرط لتذليلها. والشبهة السادسة عن وسوسة الشيطان ليس فقط لآدم، بل لأولاده، تتملق أذواق العامة عن براءة الأطفال وعدم مسئوليتهم عن غوايات الآباء. والحقيقة أن الإنسان هو الإنسان في كل زمان ومكان؛ بناؤه واحد، وشعوره واحد، وموقفه من العالم واحد، لا فرق بين أب وابن، أو بين أسلاف وأحفاد. كل إنسان مسئول عن نفسه من حيث هو إنسان، وليس من حيث هو ابن لأب. والشبهة السابعة والأخيرة عن السبب في الاستمهال والنظرة، فإنها تقوم أيضا على المزايدة في الإيمان، وافتراض تدخل الله لهزيمة الشيطان دفاعا عن الإنسان، وحرصا له من الوقوع في الغواية، وإنكار دور الإنسان والزمان وحركة التاريخ. والحقيقة أن الزمان قد أعطي للإنسان ليفعل فيه، كما أعطي له التاريخ ميدانا للعمل؛ فلا نهاية بلا بداية، ولا خاتمة بلا مشروع. الإنسان حياته، وحياته تاريخه، وتاريخه سلوكه، وسلوكه تحقيق لغاية، وغايته رسالته، ورسالته مصيره.
وطبقا لهذا التاريخ المعبر عنه بالصورة الفنية تئول الوقائع الحالية حسب الفكر المسبق على ما هو معروف في تاريخ الأديان باسم تنميط الوقائع؛ فأسئلة الفرق الكلامية كلها لا تخرج عن الأسئلة الأولى التي سألها إبليس، ويكون التاريخ حينئذ عودا على بدء، ومعيدا لنفسه.
36
والحقيقة أنه إذا كان هذا الوصف يعني الانحدار والسقوط والتشتت والتفرق، أي إذا كان وصفا سلبيا، كان جحدا للواقع، وإيقافا لحركة التاريخ، وإلغاء لعمل الفكر البشري، وقضاء على الحضارة. أما إذا كان هذا الوصف يشير إلى حركة إيجابية تظهر فيها أنماط الفكر في كل زمان ومكان، ودون حركة دورية، ودون إدانة للتاريخ، كان وصفا واقعيا يثبت الحركة والزمان والتاريخ. فالتقابل بين العقل والهوى، بين الموضوعية والذاتية، بين الخارج والداخل، بين الأمر والتلقائية، بين التسليم والرفض، تقابل يعبر عن الموقف الإنساني العام في كل زمان ومكان بإضافة بعض النضج في التجربة البشرية أثر تراكم التجارب والاستفادة منها، ثم تتحول البداية الزمانية الافتراضية الأولى في الصورة الفنية في أول العالم إلى بداية زمنية فعلية ساعة ظهور الوحي وإعلان النبوة. ويبدو التفسير النمطي للوقائع أيضا؛ فكل ما وقع من حوادث التاريخ وقعت أنماطه في الجيل الأول. ويصعب تغيير التاريخ دون نمط؛ ولذلك يكون تطور التاريخ في بنائه، ويكون ماضيه في حاضره، وحاضره ماضيه. يتم تفسير الحاضر بالماضي، والماضي بالحاضر؛ فالشعور الإنساني واحد، والموقف من الحياة واحد؛ فلا تاريخ بلا شعور، ولا شعور بلا تاريخ.
37
وفي كلتا الحالتين، البداية الأولى والبداية الثانية، يظهر الدرس المستفاد، وهو أن الانتقال من الوحدة إلى التشتت عمل من أعمال العقل، أو بتعبير أدق نقص في العقل، وتحكم بالهوى، وتأويل للنصوص، وإعمال للجهد. وكأن السؤال عن العلة جريمة تستحق العقاب، وكأن عقل الإنسان قاصر عن فهم الأسباب، بل ولا يجوز للإنسان أن يتساءل وأن يستدرك.
38
تعني البداية الأولى أن الإيمان بالتوحيد يقتضي التسليم، وأن أي استفهام بعد الإيمان يدل على عدم صدق الإيمان، مع أن إبراهيم سأل حتى يطمئن قلبه واستجيب لسؤاله؛ فالسؤال والاستفسار والاستدراك نزوع إنساني لا يجحد.
39
كما نشأت الشبهات في أول الزمان من إعمال العقل، فإنها نشأت أيضا في أول ظهور الوحي وإعلان النبوة من إعمال العقل، والسؤال والرغبة في المعرفة، والقياس والبحث عن العلة. فكل إعمال للعقل خروج على النبوة، وكل سؤال انحراف عنها. فالخوارج هم العقلاء، والعقلاء هم الخوارج! إن السؤال ليس شبهة، بل هو خلق حضاري، وبداية لتحدي الواقع وتنظيره بالفكر. والاستدراك ليس هدما، بل هو عثور على تصور متناسق للعالم حتى يشعر الإنسان بوئام معرفي مع الطبيعة يستطيع بعده من السيطرة على قوانينها وتسخيرها لصالحه. وما دام التفسير خلقا إنسانيا يعبر عن وجود الإنسان في موقف، فإنه يكون معبرا بالضرورة عن هذا الموقف الذي يتدخل فيه الهوى والانفعال والمصلحة. ويكون السؤال: هل هذا الهوى ذاتي أم موضوعي؟ هل هذه المصلحة فردية أم جماعية؟ وبالإجابة على ذلك يتحول الوحي إلى حضارة، والنبوة إلى تاريخ. وهذا كله ليس سلبا بل إيجاب، وليس نقصا بل كمال، وليس سقوطا بل رفع، وليس طردا أو حرمانا بل تكليف وحرية.
40
إن تحويل العالم الطبيعي إلى عالم مدرك ليس نفيا للوحي، بل هو تمثل للوحي كمعرفة قبل استعماله كموجه للسلوك، وتأصيله كبناء نظري مثالي للعالم. فالوحي لا يتحدث بنفسه، بل يعطيه الإنسان اتساقه العقلي، ويكتشف أساسه النظري. والإنسان ليس آلة تؤمر فتطيع، بل هو إمكانيات للفهم والتمثل، وقدرات السلوك القائم على البواعث، وإمكانية حركة تلقائية تعبر عن طبيعته المثالية. أوامر الوحي ليست قواهر وزواجر وموانع وروادع، بل موجهات للسلوك، وبواعث للفعل، تثبيت لغاية، وتأسيس لنظر، وازدهار لطبيعة، واكتمال لموقف.
ويعيد التاريخ نفسه، ويدور الشعور في التاريخ، ويخرج علم الكلام في بداية ثالثة ناشئا عن إعمال العقل في النص. ولما كان العقل صورة للجهد الإنساني ، فقد يكون أقرب إلى الهوى أو الرأي أو المصلحة أو سوء النية أو النفاق. ولما كان العقل أعور، أي لا يرى إلا من جانب واحد نشأت الفرق، كل منها يعبر عن جانب، وكلها نتيجة إعمال العقل! فهل هذه صورة العقل؟ ألا يوجد عقل بديهي لا دخل فيه للهوى؟ هل العقل سبب للسقوط والانحدار أم سبب للتطور والازدهار؟ ويقوم حكم العقل على القياس، ويعني القياس بالضرورة التماثل بين شبيهين، وهو قياس الشبه؛ ومن ثم يؤدي القياس إلى قياس الغائب على الشاهد؛ مما يؤدي بدوره إلى التقصير في حق الغائب، والغلو في حق الشاهد؛ أي إنزال الغائب إلى مستوى الشاهد، ورفع الشاهد إلى مستوى الغائب. فالقياس يقلل المسافة بين المثالي والواقعي حتى يتم إلغاؤها كلية في النهاية. وهي حقيقة معرفية تعبر عن الموقف الإنساني في إدراكه لنفسه وللعالم، فهو يعبر عن الغائب بالشاهد إن كان يريد الواقع والعمل والتاريخ، ويعبر عن الشاهد بالغائب إن كان الشاهد متأزما يريد دفعه إلى المثال ولو التعبير عنه بالتمني. وقياس العلة كقياس الشبه محاولة للسيطرة على العالم وإخضاعه بعد فهمه وتنظيره. هو قياس يبحث عن سبب الوجود ومن أجل اكتشاف قوانين الطبيعة حتى يسير الإنسان معها، يستمد منها قوته ويوحدها مع قواها. قامت المعارضة السرية في الداخل بالحكم على الخالق في الخلق وانتهت إلى الغلو، وقامت المعارضة العلنية في الداخل بالحكم على الخلق في الخالق وانتهت إلى التقصير. الأولى حلولية الصفات، والثانية مشبهة الأفعال. الأولى تشبه الخالق بالخلق، والثانية تشبه الخلق بالخالق.
41
وترد بعض الحركات الإصلاحية الحديثة الاعتبار لهذا المسار الطبيعي من الوحدة إلى التعدد، باعتبار أنه من صنع العقل والتفسير والتأويل لفهم النص وتعقيل العقيدة؛ فانفصام الوحدة وتحولها إلى فرق وشعب ليس ظاهرة سلبية تدل على عصيان، بل هي بداية الفكرة ونشأة الحضارة.
42
وقد ساهمت في ذلك عوامل عدة، منها عامل حضاري، وهو فعل الحضارات القديمة الدخيلة، وضرورة الرد عليها. ومنها عامل اجتماعي فقهي؛ أي فعل الأحداث الجديدة، وضرورة فهمها، واستنباط أحكام لها. ومنها عامل سياسي، أي التعبير عن الصراع بين السلطة والمعارضة. كما يتطلب ذلك معرفة الظروف القديمة التي أدت إلى نشأة الحضارة وكيفية نشأتها، ثم معرفة الظروف الحالية التي يمكن أن تساعد على نشأة حضارة جديدة، ثم مقارنة بين المرحلتين. فإذا تشابهت الظروف تشابهت الحلول والمواقف الحضارية، وإذا اختلفت الظروف اختلفت أيضا الحلول والمواقف، وتحتم إعادة الاختيار من جديد. وهنا تبدأ عملية تنقية التراث ونقد التراث، وإعادة الاختيار بين البدائل.
43
وبناء على ذلك حاولت الحركات الإصلاحية الحديثة إعادة وصف نشأة علم الكلام وتطوره لتصفيته من شوائبه التاريخية، والتوقف في مسائله العقائدية التي لا ينتج عنها أثر عملي لتغيير الواقع الحالي، بل والتي قد ينتج عنها أثر مضاد.
44
كما تهدف بعض الحركات الإصلاحية إلى العودة إلى الوحدة الأولى بطريق صحي تقضي على هذا التشتت والتفرق، وتعيد الوحدة الوطنية. فإذا كان الغرض من ذلك التوحيد بين المذاهب، فلا يعني ذلك التوحيد بين الجماعات، وتحقيق نوع من المصالحة الوطنية بين عدة قوى اجتماعية، بل يعني توحيد الفكر ذاته، والرجوع إلى الأصول الأولى وإعادة تفسيرها بناء على متطلبات الواقع، وتخليص المذاهب الفكرية من الوقائع التاريخية القديمة التي سببت نشأتها.
45
لذلك لا يعتبر ظهور الحركات الفكرية داخل الحضارة الإسلامية بدعا وأهواء، فذلك حكم قيمة وليس حكم واقع، بل هي حركات طبيعية عبرت عن البيئة الثقافية التي انتشر فيها الدين الجديد بأسلوب هذا الدين، وهي عملية حضارية طبيعية.
46
فقد نشأ علم الكلام كنظرية في العقل، ومحاولة لتنظير الأحداث، وإيجاد الأدلة والبراهين، وهو ما يسمح به الوحي ذاته، بخلاف مراحل الوحي السابقة التي لم يستطع العقل تنظيرها، وكان السبيل إليها العاطفة والقلب والانفعالات، أو الإرادة المطلقة التي لا تبرير لها.
47
وقد كان الاعتماد على العقل من طبيعة الوحي وبواعثه، وليس من خارجه من حضارة أخرى أو من ضرورة الحوار معها. ولم تكن الباطنية فرقة كلامية بقدر ما كانت فرقة فلسفية أو صوفية أو فقهية كرد فعل على مسألة العقل والنقل، وإيجاد بعد ثالث هو القلب أو الباطن؛ فهي تشارك العقل ضد النقل في التأويل، ثم تفترق عن العقل في وسيلة التأويل.
48
ونظرا لأهمية القضاء على وحدة الأمة جعلت الحركات الإصلاحية موضوع الفرق في مقدمة الرسالة، ليس في مؤخرتها كما هو الحال في المصنفات التقليدية عندما ضمت موضوع الفرق كملحق للإمامة. (2-2) التاريخ الموجه
ويصاغ مسار التاريخ من الوحدة إلى التفرق لا على نحو شعري، صورة العصيان، بل على نحو تاريخي خالص بناء على توجيه خاص من حديث الفرقة الناجية الذي يحكم من قبل بأن النجاة في الوحدة، والهلاك في التفرق، ويحدد عدد التشعب والتفرق، ويحصيها في اثنين وسبعين. وبالرغم من محاولة المؤرخ ضبط كل فرقة وحصرها، وتبني نظرة موضوعية محايدة، إلا أن حديث الفرقة الناجية يظل موجها له. ويختلف مؤرخ عن آخر في نسبة التاريخ الموضوعي إلى التاريخ الموجه؛ فقد يعرض المؤلف للفرق أولا عرضا موضوعيا، ثم يعود فينقدها فاصلا بين العرض والنقد، وهو يقوم في ذلك على التاريخ الموجه.
49
وقد يعرض المؤلف عرضا موضوعيا للفرق داخل الحضارة وخارجها دون نقد، ولكنه يقوم أيضا على التاريخ الموجه دون استعماله صراحة في العد والإحصاء.
50
وقد يعرض المؤلف عرضا موضوعيا للفرق داخل الحضارة مبينا الانتقال من الوحدة إلى التفرق.
51
وقد يعرض المؤلف منذ البداية للفرق بالتاريخ الموجه.
52
وفي كل الحالات ينتقل الشعور من التاريخ الفكري النمطي إلى التاريخ الموجه، وترفض الفرق كلها إلا واحدة.
ويستعمل التاريخ الموجه إما في تاريخ الفرق أو في نسق العقائد. ففي تاريخ الفرق يقوم التاريخ الموجه بتتبع نشأة الفرق طبقا لتوجيه فكري مسبق من النص الديني، فلا يكون البحث التاريخي بحثا خالصا، بل تحقيقا لفكرة مسبقة، والبحث عنها في الوقائع الدالة عليها، بل وتنظيم الوقائع طبقا لها، واختيار ما دل عليها منها.
53
وفي نسق العقائد القائم على التاريخ الموجه يكتفى بذكر العقائد النمطية، لا تلك التي خرجت عليها.
54
ومن مصنفات العقائد ما يضع التاريخ الموجه في البداية وليس في النهاية، فتصير العقائد موجهة وليس التاريخ. وهناك مقدمات أخرى لمصنفات العقائد الغرض منها بيان اعتقاد الفرقة، وهي في الغالب الفرقة الناجية، وتفنيد آراء الفرق الأخرى. ومعظمها مقدمات لمصنفات عقائدية خالصة مهمة العقل فيها تبريرها، وأصحابها من الفقهاء الأشاعرة، وهي المؤلفات التي تعتبر نواة المصنفات العقائدية الكاملة التي تعرض لبناء العلم ذاته، والغالب عليها إثبات آراء أهل السنة والجماعة وتفنيد آراء المعتزلة.
55
يستعمل التاريخ الموجه إذن في المؤلفات العقائدية كمقدمة لها لتوجيه العقائد دون ذكر للفرق.
56
وهناك بعض المؤلفات العقائدية لا يهمها إلا أن تعلم اعتقادات الفرقة التي ينتسب إليها المؤلف، وهي أيضا في الغالب الفرقة الناجية دون أية محاولة للإقناع النظري بها، وهي التي أصبحت فيما بعد موضوع الشروح على المتون.
57
وبعض المؤلفات الكلامية الأخرى موضوعة للعبرة والاستبصار والحفاظ على العقيدة، مهمتها تربوية خالصة للمحافظة على العقائد، وإقامتها على أسس راسخة، والتنبيه إلى مواطن الخطر في الديانات والنحل الأخرى؛ فهي أيضا دفاع تربوي ديني لترسيخ الإيمان، أو دفاع تأسيسي ليس المقصود به الرد على الخصوم، بل تأسيس العقيدة، وإيجاد أصول عقلية في الإيمان حتى يتحول إلى تصديق، أو حتى يطمئن القلب كما حدث ذلك لإبراهيم. ويكون ذلك في معرض تأسيس العقيدة الإسلامية ضمن تاريخ الأديان.
58
وقد يكون الكتاب جدليا من أوله إلى آخره ردا على كتاب آخر، ردا من مذهب على مذهب بتفنيد النصوص، والدفاع ضد الهجوم، ودحض الافتراءات والادعاءات، وتصحيح التشويهات والتحريفات.
59
وتعتبر كل كتب الفقهاء الكلامية أيضا من هذا النوع.
60
وفي العقائد المتأخرة قد يكون التاريخ الموجه أيضا مقدمة للعقائد، وفي هذه الحالة يكون بديلا عن المقدمات النظرية، ويكون التاريخ التفصيلي العددي الذي يصدر حكما بهلاك الفرق كلها وبنجاة فرقة واحدة وتسميتها.
61
كما يذكر حديث الفرق في الحواشي والشروح المتأخرة؛ أي إن التاريخ الموجه ظل ساريا في تاريخ العلم كله، يعاد ويكرر دون توقف، وما زال موجها شعوريا للحضارة.
62
وقد يذكر حديث الفرق في آخر المؤلفات الكلامية عندما يتحول التاريخ إلى جزء من بناء العلم.
63
حتى علم الكلام المتأخر الذي يسوده الطابع العقلي الخالص لم يسلم من الانفعالات، وتكفير الفرق، والطعن في إيمان الأشخاص.
64
ولكن هل يمكن كتابة تاريخ موضوعي للفرق دون أن يكون موجها، خاصة ولو كانت الفرق هي فرق المعارضة؟ هل يمكن كتابة تاريخ لتراث المعارضة من وجهة نظر تراث السلطة؟ إن ذلك يقتضي اتباع منهج تاريخي محايد يقوم على تقصي الحقائق، وعلى ابتغاء الموضوعية المطلقة دون تحريف أو تشنيع، أو زيادة أو نقصان، بالتحقق من صدق الروايات، وقد حاول ذلك بعض المؤلفين الذين اتبعوا هذا المنهج بدقة تامة في التحقيق التاريخي لصحة الروايات والمصادر. لا تعارض في هذه الحالة بين التاريخ الموجه والتاريخ الموضوعي، بل إن الموضوعية التاريخية قد لا تدرك إلا بالتوجيه الفكري لها؛ فالتوجيه الفكري هو الذي يحدد رؤية التاريخ. تقتضي الموضوعية عدة أمور، منها: عدم النقصان في رواية آراء المخالفين، التوثق من مصادر المعلومات، عدم أخذ العقائد من روايات الخصوم، الفصل بين المصادر الأولى والمصادر الثانية التي قد تشوه آراء المنقول، عدم الخلط بين المذاهب، عدم التشويه لها وتعمد تحريفها، أخذ أقوال الخصوم بألفاظها وليس فقط بمعانيها، الحياد في النقل
65 ... إلخ. ومع ذلك يصعب كتابة مثل هذا التاريخ لعدة أمور أيضا، منها أنه لا يمكن للشعور الموجه مهما كان موضوعيا توجيهيا أن يكتب تاريخا موضوعيا للفرق؛ إذ لا يمكن كتابة تاريخ نظري في مواقع صراع عملي، ولا يمكن كتابة تاريخ محايد دون نقد، دفاع وهجوم، مهما بلغ المؤرخ من حياد؛ فالمؤرخ جزء من عملية الصراع ذاتها، وطرف فيها بطريقة أو بأخرى، بتعاطف أو ميل أو هوى؛ لذلك لا يمكن كتابة عرض محايد دون تشويه للخصوم، ورسم صورة «كاريكاتيرية» له. لا يمكن كتابة تاريخ المعارضة مع الدقة المتناهية في الروايات، بل قد يعتمد المؤرخ على رواية ضعيفة ما دام فيها صورة مشوهة للمعارضة، أو رأي يسهل نقده، وموقف يمكن تجريحه، فينقل التراث المشوه دون الصحيح مع تلمس الأخطاء. وحتى مع النقل الصحيح لا تسلم الرواية من تأويل.
وهذا ما حدث بالفعل في كتابة تاريخ الفرق؛ فقد حدث خلط بين القيمة والتاريخ؛ إذ توضع الفرقة الناجية أولا في البداية كنمط تقاس عليه الفرق الضالة، وتعرض عقائدها كنموذج يحتذى لعقائد الفرق الضالة، وكأن عقائد الفرقة الناجية هي الحق، وما سواها انحرافات عنه. والحقيقة أنه تاريخيا لم تظهر عقائد الفرقة الناجية إلا في النهاية عندما حددتها الأشعرية في مذهب متسق، كرد فعل على سائر الفرق الأولى التي كانت تقوم بدور أهل السنة في الدفاع عن التنزيه ضد التأليه والتجسيم.
66
فلما انقلبت الأشعرية عليهم استحوذت على اسم أهل السنة، وتحولت الفرقة الأولى التي كانت تقوم بدور أهل السنة إلى فرق المعارضة. كانت المعارضة الأولى، معارضة الفرق قبل انشقاق الأشعرية عليها، عقائدية فعلية، في حين كانت المعارضة الثانية بعد انشقاق الأشعري تهمة سياسية. وقد توضع الفرقة الناجية في النهاية كأوصاف، وكأنها جماعة أو حزب أو قوة وليس فقط كعقائد، وتكون بشخصها سلوكا يحتذى به. وكما بدأت الأمة بوحدة الوحي الأولى ثم تشعبت إلى أهل الأهواء وإلى الفرق المنتسبة إلى الإسلام، وهي ليست منه، فإنها ترجع كلها إلى الفرقة الناجية؛ فهي المفسرة الصحيحة للوحي الأولى، والمتحدث الرسمي باسمه.
67
بل إن تصنيف الفرق والفصل بين أهل الأهواء الذين ينتسبون إلى الإسلام، وبين فرق تنتسب إلى الإسلام وهي ليست منه، حكم قيمة على فرق تاريخية من الصعب إصداره، بل ولا يحق للمتكلم إصداره لأنه يحتاج إلى مقياس للحكم، ومقياس حكمه آراؤه ومذاهبه حتى ولو كانت اعتقادات الفرقة الناجية، خاصة وأن ما يطلق عليه اسم الفرق الخارجة على الإسلام هي نفسها الفرق التي أطلق عليها أهل الأهواء، ولكن أكثر غلوا وتطرفا.
68
وهل يجوز إصدار حكم شرعي مثل الخروج على الأمة من منظور عقائدي؟ أليست الأمة وحدة عمل قبل أن تكون وحدة نظر؟ إن الحكم على باقي الفرق بالانحراف عن النمط حكم صوري خالص يغفل الوظيفة الاجتماعية التي أدتها هذه الفرق كرد فعل على الأوضاع الاجتماعية، كما هو الحال في رد الفعل الاعتزالي لإثبات التنزيه ضد التأليه والتجسيم، وفي إثبات خلق الأفعال ضد الجبرية، وكرد فعل الخوارج ضد التوسط بين الحق والباطل، والفصل بين الإيمان والعمل، بل إن رد الفعل هذا هو الذي حفظ لوحدة الفكر مسارها وشواهدها، وإن كانت معلنة من فرق مختلفة، وهو الذي حفظ التوازن بين تعدد المذاهب. هو شاهد تاريخي على استحالة ضياع الوحدة الفكرية للأمة وتوازنها، وعدم إسقاطها على جانب دون جانب حتى لا تكون أمة عوراء.
69
إن توجيه الوقائع بأفكار مسبقة مناف للبحث التاريخي الموضوعي، خاصة لو كانت أفكارا خاطئة وليست أوليات بديهية أو أفكارا صحيحة، وهي في هذه الحالة حالة في الشعور يتجه بها الشعور نحو موضوعه دون توجيه زائد فكري أو عملي. وحتى لو كان التوجيه الأيديولوجي ممكنا فإنه يحتاج إلى منطق لضبطه واستعماله، والاطمئنان أولا إلى أن الأيديولوجية علمية مطابقة للواقع وليست منافية له. والوحي الصحيح تاريخيا أيديولوجية علمية توجه الشعور طبقا لطبيعته؛ فالحياة موقف، والتاريخ رؤية ولو لا شعورية؛ وبالتالي يحمي الوحي الشعور من مخاطر ثلاث؛ الحياد الأقرب إلى التعايش والتكسب بالعلم والكتب المقررة، وهو ما يفيد تراث السلطة ما دام الفكر قد تحول إلى كسب، والعمل إلى مصلحة. الحياد الذي يخفي هوى صاحبه، والذي يكون إما مع تراث السلطة أو تراث المعارضة، الانتصار إما لتراث السلطة أو لتراث المعارضة، وهو ما حدث في تدوين تاريخ الفرق. لا بد إذن من إثبات أن عقائد الفرقة الناجية أولا هي معيار الفكر ومثاله، وأنها تمثل لوحدة الفكر، وأن فكرها مطابق للواقع، وأنها أكثر صدقا من أفكار الفرق. وما العمل لو ادعت كل فرقة أنها الفرقة الناجية، وتنتهي الأمة إلى التشتت وإلى التكفير المتبادل، ويقضى على وحدة الأمة ووحدة فكرها إلى الأبد؟ وقد حدث ذلك بالفعل في تاريخ الفرق، وترسب في وعينا القومي، وكانت له آثار سلبية على وحدة الأمة. وما الضامن لصحة الفكرة الموجهة تاريخيا؟ ماذا يحدث لو كانت الفكرة الموجهة غير صحيحة تاريخيا؟ عندئذ يتحول التاريخ كله إلى خطأ؛ لأن البحث يقوم على افتراض خاطئ؛ فالتاريخ الموجه قائم أساسا على افتراض نظري مصدره الخبر؛ أي التاريخ. فالتاريخ يحكم نفسه، ويؤرخ ذاته. وماذا يحدث لو اختارت كل فرقة مذهبها كموجه للتاريخ، وأصبح لدينا عديد من التواريخ الموجهة، فيضيع النمط الفكري المعياري ويحل الهوى؟
والأخطر من ذلك كله في التاريخ الموجه هو إدانة التاريخ والتطور والزمان كميدان خلق وإبداع، واتهام الفكر وزعزعة الثقة بالعقل، واعتبار قوى الشر في العالم أكثر حسما من قوى الخير؛ ومن ثم لا يقاومها إلا الإيمان بالله والإذعان للسلطان، نظرة تشاؤمية تؤدي في النهاية إلى التخدير التام. يقوم التاريخ الموجه على أن هذا المسار من الوحدة إلى الكثرة مسار مرضي، وليس مسارا طبيعيا؛ وبالتالي لا بد من تصحيحه في أية حركة إصلاحية. فبعد أن وجدت الجماعة الأولى ممثلة لوحدة الفكر ووحدة الفهم، تنشأ ظروف جديدة ومواقف إنسانية متعددة تحدث منها تفسيرات جديدة تعبر إما عن حق وعلم، أو هوى وظن، حتى يبعد العهد بالوحدة الأولى، ثم تتفتت هذه الوحدة إلى اتجاهات تنتهي إما إلى العلمانية الخالصة ممثلة هذا التعدد الجديد، أو إلى السلفية الخالصة ممثلة هذه الوحدة الأولى؛ ثم تنشأ دعوتان؛ الأولى تريد الابتعاد عن الوحدة الأولى، وتتكيف حسب تطور الزمان والتاريخ؛ وأخرى سلفية تود العودة إلى الوحدة الأولى متفادية الكثرة ولاغية للتشعب؛ ثم تصبح الجماعة حيرى بين هاتين الحركتين، ماضيها ومستقبلها، روحها وبدنها، تاريخها وحاضرها. وكلاهما مستحيل عملا وواقعا؛ لأن الوحدة الأولى في صورتها القديمة أصبحت أقل اتساعا من تشعب الواقع، وأضعف من قواه المتضاربة. ومع ذلك تستطيع أن تحوي تشعب الواقع لو استطاعت أن تتجدد، وأن تحتوي على هذا التشعب في باطنها. وإذا تم ذلك باسم التشعب وباسم الجديد على حساب الوحدة الأولى، فإنه سرعان ما يتم حصاره بأخطبوط هذه الوحدة حتى يتم ابتلاعه كلية داخلها. هذا العصر الأول الذي كانت فيه الوحدة قبل التشتت هو العصر الذهبي، وما تلاه انحراف وسقوط، سقوط تاريخي وليس سقوطا شخصيا. وليس هذا في الحقيقة وصفا لتعدد الفكر، بل هو حكم على التاريخ وإدانة له باسم العصر الذهبي؛ مما يؤدي إلى الخروج على الواقع بعد الحكم عليه بالمروق. وهو يدل على يأس من التقدم إحساسا بأن الأمة لا يمكنها الوصول إلى ما كانت عليه أولا.
70
وكيف تكون الفرق كلها هالكة مخطئة؟ كيف يمكن إدانة التاريخ كله؟ كيف يكون تاريخ البشرية كله تاريخ ضلال وخطأ وبهتان؟ إن الفرق كلها عمل حضاري، كل منها تعبر بموقفها الإنساني عن الوحي في لحظة تاريخية معينة، وفي وضع إنساني خاص، ولمصلحة اجتماعية لطبقة أو سلطة. وكلها اجتهادات، والاجتهاد ليس خطأ. والاجتهاد المؤدي إلى خطأ هو أيضا اجتهاد صائب لتوافر نية البحث عن الصواب. أليس للمخطئ أجر، وللمصيب أجران؟ والفرقة الناجية واحدة، هي البداية والنهاية. تضم الفرق الأخرى وكأنها قوس حضاري فتح ثم أغلق إلى غير رجعة. دعواها تكرار النصوص وتقنين العقائد حتى تنتهي قصة الضلال، وتعود الإنسانية إلى الهداية، فتلحق بالوحدة الأولى التي فيها بدأت. وهي نظرة صوفية خالصة، العودة إلى عالم الذر وإلى الوعي المطلق تجريدا للنفس وتخليصا لها. فيتم فك الارتباط بين الإنسان والعالم، ويقضى على المعارضة من أساسها، ويتم الاستسلام نهائيا للسلطان. ومع ذلك فالعودة إلى الوحدة الأولى عملية مستحيلة ميئوس منها، لا يمكن تحقيقها من جديد أو اللحاق بها قديما. تبدأ النظرية متفائلة بالدخول إلى الواقع، وتنتهي متشائمة بالخروج على الواقع، وتصبح الأمة كاليهود في عصر الشتات، ويكون ذلك إعلانا ليوم القيامة، وينتهي حتى تفاؤل الأخرويات وقتل المسيح ابن مريم المسيح الدجال.
71
إذا كان التاريخ إملاء من الفكر على التاريخ، وثناء على قمته في الوحدة الأولى التي سارت في خط منحدر دون إمكانية الرجوع إليها بعد أن فسدت العقول، وساءت النيات، وعم التأويل، وضعف الإيمان، وتشعبت المصالح، وسادت الأهواء، وتشتت الجمع، وإذا كان أيضا رفضا لهذا التشتت باعتباره مسارا طبيعيا تنشأ منه الحضارة، وتظهر فيه العلمانية التي هي التطور الطبيعي للظواهر الدينية، حيث يفرض الواقع تشريعاته ويصبح هو المشرع الأول والأخير، إذا كان التاريخ الموجه هو كذلك، فإن الرجوع إلى الوحدة يعبر عن موقف نفسي يكشف عن بنية محددة. فهو عاطفة تطهر وليس تصورا علميا للتاريخ، يأنف من الموقف الإنساني، ومما قد يحرك التاريخ من حيلة وخداع وسوء نية ومصلحة وهوى، ولا يرضى إلا بالعامل الخلقي كمحرك أول وأوحد للتاريخ. كما يكشف عن ثنائية متعارضة بين الكمال والنقص تدل على حرب نفسية داخلية تظهر في التعارض بين الطرفين، وما ينتج عن ذلك من تعصب وحمية، أو نفاق وازدواجية. كما يدل هذا التعارض على نقص في الوعي بالموقف، وعلى عجز في تغيير الواقع. وهو إدانة للواقع كله لدرجة سوء المعاملة والسب، واتهام الواقع كله بالعجز والكفر والعصيان والخروج؛ أي إنه حكم بالكلمة وليس تغييرا بالفعل. وهو ادعاء وإعلان عن الذات أكثر منه رغبة في تغيير الواقع، إعلان الذات عن تمثلها للوحدة الأولى الضائعة من أجل سلطة أو صدارة أو تسلط. وهو عجز عن الدخول في الواقع والعيش معه، والتعرف على بنائه على نحو علمي، وتحليله تحليلا عقليا هادئا. وهو عود على بدء يصيغ قواعد للعقائد
Credo
هي نفسها موضوع الخلاف، عود إلى الصفر، إلى نقطة الخلاف الأولى. والخلاف ضروري لا مهرب منه؛ لأنه عمل العقل في النص. وأخيرا يؤيده فقهاء السلطان باسم الله وبمباركة السلطان، ما دام يجمع الأمة على العودة إلى الماضي تاركين الحاضر لأهله.
ولا يعني نقد التاريخ الموجه أي قضاء على النمطية والمعيارية والأفكار الموجهة، بل يعني توحيد الجهود وإفساح المجال للاجتهاد النظري ضد القطيعة والمذهبية؛ فالاجتهاد الفكري القائم على تحليل الواقع، لا الدفاع عن المصالح الشخصية لأصحاب السلطة، أو لأوضاع طبقية، هو السبيل لتصور تاريخ معياري، وفي الوقت نفسه عريض يجمع الاتجاهات المتعددة، ويعيد إليها وحدتها الفكرية الأولى مستقراة هذه المرة من واقع الأمة ومن وحدتها الوطنية؛ ومن ثم تنتهي الوصاية من الفرقة الناجية على الفرق الضالة، وينتهي تكفير مذهب واحد لباقي المذاهب. فوحدة الفكر لا تعني القضاء على تعدده، وتعدد الفكر لا يعني القضاء على وحدته. وإذا كان تاريخ الفرق هو تاريخ الصراع السياسي، فما أسهل تكفير الحزب الحاكم لأحزاب المعارضة، ثم تكفير أحزاب المعارضة بعضها للبعض حتى يتم القضاء نهائيا على الوحدة الوطنية. ويزداد الأمر صعوبة إذا كان التشتت النظري والعملي مصدره من الخارج نقلا من مذاهب وافدة من حضارات أخرى وبيئات ثقافية مجاورة، حينئذ تكون العودة إلى الوحدة الأولى حركة رافضة لهذا التشتت الوافد من أجل بعث تعددية من داخل الوحدة وليس من خارجها. فوحدة الفكر لا تمنع من تعدد النظر، وتعدد النظر لا يمنع من وحدة العمل. ليس المهم هو صك براءة لنجاة فرقة أو جماعة، أو حتى صدق الفكر الذي تمثله، والعقائد التي تصوغها، إنما نجاة الواقع وتحقيق متطلباته، وفي مقدمتها الاستقلال ضد الاحتلال، والتحرر ضد القهر والتسلط، والمساواة ضد الظلم الاجتماعي، والوحدة ضد التجزئة، والتنمية في مواجهة التخلف، والهوية في مقابل التغريب، وتجنيد الجماهير في مواجهة السلبية واللامبالاة. وكيف تكتب النجاة لجماعة واقعها مثل واقعنا الحالي؟ وماذا تكسب الجماعة لو كتبت لها النجاة والسلامة وهي محتلة مقهورة يأكل فيها الغني أموال الفقير، مجزأة مغتربة متخلفة، ويعيبها الفتور؟ لا تعني الفرقة الناجية جماعة معينة من الناس دون غيرهم، بل تعني التيار الأساسي في الفكر الذي يجمع بين الفكر والواقع، بين الثابت والمتحول، بين القديم والجديد. ولا يعني ذلك أن الوسط ضد الأطراف، بل يعني أنه هو العملية الأكثر علمية في النظر إلى الواقع، والجمع بين كل مكوناته، واستخدام كل طاقاته. ولا تعني الفرق الضالة أنها هالكة خاطئة مدانة، بل قد تكشف عن الوجه الآخر الذي حاولت الفرقة الناجية تغطيته. وإن فكر المعارضة لأكثر دلالة من فكر السلطة؛ فثورة الفكر على العقائد والمؤسسات لها ما يبررها في التاريخ، وأكثر إثراء للفكر وإبقاء على حيويته وخصوبته؛ إذ إنه فكر منتج خلاق مبدع، حتى ولو كان بخلق المقابل والضد. لا توجد فرقة ناجية وأخرى هالكة، بل كل فرقة إنما تعبر عن موقف سياسي، وتتسلح بسلاح العقيدة وتصوغها طبقا لأهدافها. التكفير خروج على الدين والعلم معا. كل نظرية اجتهاد، وكل اجتهاد شرعي، وكل فهم مقبول ما دام مؤيدا بالدليل، ومن قال لأخيه «أنت كفر» فقد باء بها.
72
وإذا كان من الهجوم والدفاع بد فلم تعد المادة الكلامية القديمة وحدها مصدر الخطر إلا بقدر ما ترسب منها في الوعي القومي، ولكن أصبحت أيضا المادة الكلامية الجديدة الواردة من الحضارة الغربية وتترسب في أذهان المثقفين؛ لذلك يقوم علم الكلام في الحركات الإصلاحية الحديثة بمهمتين؛ الأولى تصفية القديم، والثانية الرد على الشبهات الجديدة الواردة من الحضارات المعاصرة.
73 (2-3) الإحصاء العددي
هل يمكن الاعتماد على التاريخ الموجه لإحصاء الفرق؟ وإلى أي حد يتفق هذا الإحصاء الموجه مع الموضوعية التاريخية؟ تتسم الفكرة الموجهة أحيانا بعدم الاطراد؛ فهي مرة تعدد الفرق وتحدد الفرقة الناجية على وجه العموم؛ مما يتيح لكل فرقة اعتبار نفسها الفرقة الناجية، وتصنيف الفرق المعارضة على أنها الفرق الضالة.
74
ومرة أخرى تحدد الفكرة الموجهة الفرقة الناجية وتبين أوصافها، بل وتعين طريقها، وتذكر اسمها؛ مما يوحي بأن الفكرة الموجهة على هذا النحو هي من وضع الفرقة الناجية. فإذا صعب ضبط العدد والإحصاء تاريخيا فإنه يلجأ إلى العقل الخالص؛ فالعقل هو وسيلة وضع الحقائق وإثباتها. وإجماع العقول على قوانين ثابتة مثل مبادئ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع، مبادئ عقلية خالصة أقر بها السمع! والفكر الموجه هو الفكر النمطي الذي لا يمكن تصالحه أو تواطؤه مع أي فكر آخر، وهو في الوقت نفسه المقياس والمعيار والمحك.
75
تتحدد الفرقة الناجية إذن ويتعين الصواب عقلا؛ وبالتالي ترجع الفرقة إلى وحدة يصدقها العقل. فإذا كانت الوحدة الأولى التي قدمها الوحي قد تشعبت بفعل المواقف الإنسانية المتشعبة والاتجاهات المتعارضة، فإن ذلك كله يرجع إلى وحدة ثانية يصنعها العقل.
فإذا كان علم الكلام هو تاريخا للفرق من أول الخلق حتى الآن، فكيف يمكن حسابها وإحصاؤها وعدها؟
76
هنا يتدخل رمز العدد كما تدخل من قبل رمز العصيان في تصنيف المادة الكلامية، سواء من حيث الفرق أو الموضوعات. وغالبا ما يكون العدد سبعة، وهو العدد الرمزي المعروف في الديانات الشرقية القديمة؛ فالنظرية الرياضية تحكم المادة الكلامية وتضبطها، وتعطيها نوعا من العقلانية والإدراك، والحصر الحسابي طريق للحصر الكلامي، وفلسفة الحساب قادرة على أن تكون أساس فلسفة الإحصاء؛ وبالتالي يجتمع العقل والخيال لضبط مسار التاريخ.
77
وباللجوء إلى الحساب، وهو الأمر الصوري الخالص، يأمن الكاتب ظهور أجنبيته وأعجميته في العلوم الدينية العقلية. كما أن ميزته ضبط الأفكار وعدها، وعدم الوقوع في الحشو والاستطراد، وترك الحواشي على الرسم المعهود، وهو تاريخ وتوجيه، يعطي القسمة ويحدد مسار الفكر. وقد يجتمع علم الحساب وعلم الكتابة في وضع خطة البحث.
78
وتكون النظرية العقلية منتجة إذا استطاعت إيجاد الدلالة لمضمونها، وهي المادة الكلامية. أما إذا كانت مجرد تحصيل حاصل تجعل من صورتها مضمونها، فإنها لا تنتج شيئا. حينئذ يحال إلى علم العدد كعلم مستقل. وأحيانا يتدخل العدد للتحديد الكمي للأبواب والفصول.
79
والفكرة الموجهة ليست مضبوطة دائما؛ فقد تشير إلى فرق الديانات الأخرى. المجوس ستفترق إلى سبعين، واليهود إلى إحدى وسبعين، والنصارى إلى اثنتين وسبعين، والمسلمون إلى ثلاث وسبعين، حتى تكتمل صورة الوحي في كل مراحله. وقد تشير إلى المسلمين فقط اكتفاء بالوحي في آخر مرحلة. فإذا أشارت إلى الديانات السابقة، فهل هذا العدد واقع بالفعل أم أنه مجرد افتراض عقلي أو محض خيال؟ إن إظهار الترتيب على هذا النحو التصاعدي يوحي بالارتقاء والتطور والزيادة المفتعلة حسابيا.
80
وهي في الحقيقة ليست زيادة؛ لأن الفرقة الزائدة هي الدين الجديد. فاليهود هم المجوس السبعون بالإضافة إلى اليهود، والنصارى هم المجوس السبعون بالإضافة إلى اليهود والنصارى، والمسلمون هم المجوس السبعون بالإضافة إلى اليهود والنصارى والمسلمين. فالأساس هو العدد سبعون، ولماذا يكون الارتقاء بزيادة فرقة واحدة؟ وهل الفترة الزمانية بين المجوس واليهود أو بين اليهود والنصارى أو بين النصارى والمسلمين لا تسمح إلا بزيادة فرقة واحدة، وهي في النهاية الجديد، أي لا زيادة بالمرة؟ وهل خلاف المسلمين مثل خلاف الأمم السابقة، المجوس واليهود والنصارى، وقد أتى الإسلام لحسم الخلاف بين الملل، والتركيز على وحدة الأمة الشبيهة بوحدانية الله؟ أليس المسلمون أولى بقلة الخلاف؟ وكيف يوضع المجوس مع ديانات إبراهيم الثلاث، خاصة وأنها لا تعيش في الوجدان القومي مثل اليهودية والنصرانية؟ هل يكون ذلك أسوة بالفقه، وبأنهم مثل أهل الكتاب؟ وإذا كانت هناك صيغ بها المسلمون وحدهم، فإن إدخال المقارنة مع الأمم السابقة على هذا النحو التصاعدي الذي يوحي بالتقدم، وإن كان في الخلاف، يلهب الخيال، ويجعل الحديث أكثر إغراء من حيث التنبؤ والترتيب والإيقاع والموسيقى. وهناك أحاديث نمطية أخرى تضع المراحل السابقة للنبوة في رؤية واحدة؛ اليهود إلى منتصف النهار، والنصارى حتى العصر، والمسلمون حتى العشاء.
وتزداد الصعوبة عندما يتم الانتقال من مستوى الخيال العددي إلى مستوى الواقع الإحصائي. هل حدث إحصاء تاريخي، وانتهى إلى هذه الأعداد الدقيقة، سبعون، وواحد وسبعون، واثنان وسبعون، وثلاثة وسبعون، كأفضل ما يكون عليه القانون الطبيعي من حيث الدقة والرتابة والانتظام، أم أنه مجرد تحقيق الخيال العددي في الواقع عن طريق الانتقاء والاختيار؟ وبلغة المنطق، هل الإحصاء استقرائي أم استنباطي؟ هل هو إحصاء للفرق الماضية أم الحاضرة أم المستقبلة؟ وكيف يكون الاستقراء لفترة معينة في التاريخ؟ ومن الذي قام به، واحد أم مجموعة للأمم الأربعة في كل العصور؟ وماذا عن تاريخ الفرق اللاحق على الفكرة الموجهة؟ هل هو استقراء علمي للماضي أو الحاضر أم نبوءة للمستقبل؟ صحيح أنه يمكن القول بأن الفرق السابقة على الفكرة الموجهة أنماط مثالية تتكرر في كل عصر، وأن العدد المعطى حوى هذه الأنماط كلها سابقا ولاحقا. ولكن هذا القول يقتضي أولا حصر هذه الأنماط وجعلها ميسورة؛ فالأنماط التي تبلغ السبعين لا يمكن وعيها، كما تقتضي ثانيا إرجاع كل الفرق اللاحقة إلى الأنماط السابقة. وهذه خطورة كبرى؛ فقد لا يحدث اتفاق بين الفرق اللاحقة ونمطها السابق، وقد يغفل أحد أوجه الاختلاف ويظن أنه تشابه.
81
وكيف يظل العدد كما هو لا يزيد ولا ينقص في كل زمان؟ وكيف يمكن توجيه التاريخ في المستقبل بأفكار موجهة أخرى تشير إلى المستقبل وتحدد مساره، كما هو الحال في أحاديث المهدي المنتظر وفي حديث المجددين؟ والأفكار الخاصة بالمهدي تظهر عادة في المجتمع المضطهد، كما هو الحال في المجتمع الشيعي، تساعد على ظهوره خاصة إذا عينت الفكرة المهدي بالوصف أو بالرسم أو بالاسم.
82
وشتان ما بين الرؤيتين؛ الفكرة الموجهة تشاؤمية تقول بحتمية الاختلاف والشقاق، بينما الفكرة المهدوية تفاؤلية تقول بحتمية الخلاص والنجاة.
83
وهربا من عدم تطابق العدد المحدد نظريا مع الإحصاء التاريخي، يكون التمييز بين الأصول الثابتة التي تطابق العدد والفروع المتغيرة التي لا حصر لها، وهي قسمة من أصول الفقه في التمييز في الاجتهاد بين الأصول والفروع. ولكن حتى في هذه الحال، هل تظل الأصول كما هي؟ ألا تتغير بتغير التاريخ؟ هل يظل عدد الفرق كما هو ماضيا وحاضرا ومستقبلا؟ قد يستطيع الفكر في زمن معين أن يصل إلى كل الأنماط الممكنة، وكل الاختيارات البشرية، وكل ما يأتي بعد ذلك يدخل تحت هذه الأنماط؛ وبالتالي لن يأتي التاريخ بنمط جديد، وكل ما سيقع في المستقبل سيجد له نمطا في الماضي؛ فالتطور يدخل في البناء، والواقع يحكمه الفكر. ومع ذلك يمكن الرجوع إلى وحدة الفكر دون إدانة للتعدد وتكفير للفرق، وهي قوى اجتماعية وتيارات سياسية لا يمكن ضربها والقضاء عليها بإخراجها من الجماعة. وماذا عن الحضارات المجاورة التي دخلت الحضارة الأصلية وأصبحت جزءا منها؟ هل تدخل ضمن الفرق المحصاة؟ إن معظم المذاهب الوافدة كان لها ممثلوها داخل الحضارة الجديدة باعتبارها وارثة للحضارات السابقة. وأحيانا يتم إحصاء الفرق ليس فقط عند البشر، بل أيضا عند الجن؛ أي عند أمم أخرى؛ أي في مظاهر حياة في كواكب أخرى؛ فالإنس شامل للجن! وإذا استحال حصر فرق الأنس، فالأولى استحالة حصر كل تفرق وتشتت في الكائنات الحية. وهل يوجد مكلفون عاقلون خارج الإنس؟ ولماذا لم تحص فرق المجوس واليهود والنصارى؟ قد يكون الدافع إلى ذلك عدم وجود صراع على السلطة في هذه الفرق بعكس المسلمين؛ مما يوحي بأن إحصاء الفرق والحكم بهلاكها إلا واحدة إنما هو في جوهره صراع سياسي بين السلطة والمعارضة. أما إحصاء الفرق في سبعين، فهو أحد مشتقات العدد سبعة، وهو عدد رمزي في تاريخ أديان الشرق، سبعون شيخا ترجموا التوراة السبعينية، سبعون تلميذا للمسيح، السبع فواتح في كتاب الإعلان في العهد الجديد، سبعون مرة للاستغفار، الحروف السبع للقرآن، الأئمة السبعة. بل يشير العدد أيضا إلى ظواهر طبيعية تتفق مع الظواهر الروحية، مثل الأيام السبعة والسموات السبع والأرضين السبعة ... إلخ. وقد لا يعني العدد الضبط الإحصائي بقدر ما يعني التعدد.
84
وفي النهاية يرفض بعض المتكلمين الأفكار الموجهة لحوادث التاريخ، وآثروا القيام بتاريخ فكري خالص دون التنكر لوحدة الفكر كوحدة نمطية يتم الانحراف عنها والتشتت فيها.
85
وبالرغم من التعسف النظري في اختيار عدد الفرق، فقد جاءت كل المحاولات
لإحصائها تتفق مع هذا العدد السبعيني بطريقة أو بأخرى. وحتى يكتمل العدد تدخل الفرق غير الإسلامية أحيانا مع الفرق الإسلامية، أو للتمويه على أن إحصاء الفرق أمر تاريخي خالص، وليس لتكفير المعارضة باسم فرقة السلطان.
86
وأحيانا توضع فرق أخرى غير كلامية مثل الحكماء والصوفية، إما مع الفرق غير الإسلامية أو مع الفرق الإسلامية. وكيف يمكن لعلم أصول الدين أن يرصد جميع المذاهب والفرق خارج الحضارة الإسلامية، وأن يقوم بمهمة تاريخ علم للأديان؟ يمكن ذلك بالاقتصار على الأصول دون الفروع، وعلى أمهات المذاهب لا المقالات، وتصنيف الفرق غير الإسلامية حسب الأهمية دون مراعاة لترتيب زماني أو موضوعي.
87
ولما استحال عرض ثلاث وسبعين فرقة، فكان لا بد من تجميعها في فرق كبرى وفرق صغرى، أو أمهات الفرق وصغار الفرق، أو أصول الفرق ثم فروع الفرق. ويقل التجميع والتصنيف ابتداء من عشر فرق؛ العشرة فالثمانية فالسبعة فالخمسة فالأربعة، وهو الحد الأدنى لتصنيف أمهات الفرق أو الفرق الكبرى أو أصول الفرق. والحقيقة أنه يمكن رد الفرق كلها ابتداء من الثلاث وسبعين فرقة حتى الأربع الكبرى إلى أربع فرق رئيسية؛ ثلاثة منها تمثل المعارضة؛ المعارضة السرية في الداخل (الشيعة)، والمعارضة العلنية في الخارج (الخوارج)، والمعارضة العلنية في الداخل (المعتزلة)، والرابعة هي فرقة السلطان. تضم فرق المعارضة الثلاث إذن الاثنتين وسبعين فرقة الهالكة، بينما تضم فرقة السلطان فرقة واحدة هي الفرقة الناجية.
88
فهل يعقل أن تكون فرق المعارضة بمثل هذه الكثرة وكلها هالكة، وتكون فرقة السلطان بهذه القلة وهي الوحيدة الناجية؟ وأين الصراع على السلطة داخل فرقة السلطان؟ وأين الخلاف في الرأي بين الفرق الصغرى في الفرقة الناجية؟ وأين الاتفاق في الرأي بين الفرق الضالة ؟ ومعروف أن المعارضة العلنية في الداخل (المعتزلة) هي التي وضعت الأصول العامة في التوحيد والعدل، والتي اعتمدت عليها باقي فرق المعارضة الأخرى؛ السرية في الداخل (الشيعة)، والعلنية في الخارج (الخوارج). فرق الأمة إذن أربع على المستوى نفسه دون هلاك أو نجاة.
89
وهي أمهات الفرق التي تنتظم بعد ذلك الفرق الثلاث وسبعين جمعا وطرحا وضربا وقسمة.
90
والحقيقة أن كل هذه الفرق الصغيرة لا تهم تاريخيا بقدر ما تهم لإكمال العدد. حتى ولو وجدت تاريخيا، فما الفائدة من ذكر فرق انقضى عهدها وانقرض أنصارها؟ وكلها أسماء أعلام أكثر منها موضوعات؛ مما يدل على ربط الفرق بأشخاص أصحابها، وكأنها خلافات شخصية. ولا يمكن حفظها أو استرجاعها أو حتى استعمالها. وهل القصد تشويه وحدة الأمة وبيان خلافاتها حتى يهرع الناس إلى الفرقة الناجية طلبا للوحدة والأمان؟ والعقائد مجرد سلاح في يد الخصوم تكشف عما تحتها، وهو الصراع السياسي بين القوى السياسية المختلفة بين المعارضة والسلطة. معركة الصراع في الحقيقة هي معركة اجتماعية سياسية، خصومات أهواء وصراع مصالح. للعقائد ظهر وبطن؛ ظهرها الدين، وباطنها السياسة؛ ظاهرها الله، وباطنها العالم.
91 (3) من التفرق إلى الوحدة
إذا كان المسار الأول للتاريخ الفكري من الوحدة إلى التفرق عند القدماء، فإن المسار الثاني له يمكن أن يكون من التفرق إلى الوحدة عند جيلنا. فالفرق الثلاث وسبعون يمكن ردها إلى ما هو أقل منها إلى فرق كبرى أربع هي فرق المعارضة الثلاث وفرقة السلطان؛ أي الصراع بين المعارضة والسلطة في مجتمع واحد. فالوحدة قائمة، وحدة الصراع بين القوى الاجتماعية، يرتكز كل منها على أصول عقائدية يمكن أن تكون بؤرة توحيد جديدة تختلف عليها الفرق. فبدلا من أن تكون الوحدة علة فاعلة في البداية، والتفرق علة غائية في النهاية كما هو الحال عند القدماء، يكون التفرق هو العلة الفاعلة، والوحدة هي العلة الغائية في عصرنا. (3-1) الشعور البنائي (المذهبي)
تكشف الفرق الأربع، ثلاث للمعارضة وواحدة للسلطة، عن وجود موضوعات للخلاف أو عقائد يتم عليها التفرق، كل فرقة حسب موقفها السياسي. فالمعارضة السرية في الداخل تقول بالحلول، ويتم تكفيرها دينيا كستار للإبعاد السياسي. والمعارضة العلنية في الخارج يصعب تكفيرها دينيا لقولها بأصلي التوحيد والعدل، وهما اليقين في الإلهيات، فلا مفر من تكفيرها سياسيا بدعوى الخروج على السلطان. والمعارضة العلنية في الداخل يصعب تكفيرها دينيا لقولها بالأصول الخمسة كفكر للمعارضة؛ لذلك يتم تكفيرها دينيا وسياسيا، ويظل التكفير السياسي أقوى. وتظل المعارضة العلنية في الخارج والداخل عن طريق أصلي التوحيد والعدل أقوى من المعارضة السرية في الداخل عن طريق الإمامة. وفرقة السلطان أيضا يسهل تكفيرها من الفقهاء لفصلها الإيمان عن العمل.
92
وكثير من فرق المعارضة الفرعية تقرب من فرقة السلطان؛ مما يدل على أن جذور الفرقة الناجية عند الفرق الضالة، وأن جذور الفرقة الضالة في الفرقة الناجية. إذا هلكت المعارضة هلكت السلطة معها، وإن نجت السلطة نجت المعارضة معها.
93
فكل فرقة تمثل عقيدة ومذهبا وفكرا، سواء كانت المعارضة سرية، أم علنية في الداخل أم في الخارج، أو كانت للسلطة. وتمثل الفرق بصرف النظر عن كونها فرقا تاريخية خالصة، تيارات فكرية واتجاهات نظرية يمكن تحديد أصولها وتحويلها إلى تصورات مختلفة للعالم، أو مناهج حياة، أو نظم اجتماعية وسياسية. كل فرقة حولت الوحي إلى مذهب نتيجة لظروفها التاريخية والاجتماعية والسياسية.
فالفرقتان الكبيرتان اليوم، السنة والشيعة، كل منهما يمثل اتجاها فكريا من التوحيد حتى الإمامة، في الله وفي الطبيعة، في الإنسان وفي المجتمع. فبينما تقول الشيعة في التوحيد بالتأليه أو التجسيم، تقول السنة بالتشبيه أو التنزيه. وبينما تقول الشيعة بالفيض، وبأن الفرق بين الروح والمادة هو فرق في الدرجة لا في النوع، تقول أهل السنة بالخلق، وأن الفرق بين الروح والمادة فرق في النوع لا فرق في الدرجة. وفي الإنسان بينما تقول الشيعة بوجود حقائق الوحي في القلب، ويمكن العثور عليها بالتأويل، فإن استعصى التأويل فتقليد الإمام، يثبت السنة بديهيات العقول، ووضوح النصوص، واجتهادا في فهمها. وبينما ترى الشيعة أن نموذج السلوك الأمثل هو الطاعة والانقياد وتنفيذ تعاليم الإمام، ترى السنة أن نموذج السلوك الأمثل هو الفعل الحر والعمل المسئول. وبينما ترى الشيعة أن الإيمان مكتف بذاته، وأنه إيمان بحب آل البيت، ترى السنة أن الإيمان قول وعمل، وأن لا وجود للإيمان إلا بالعمل. وبينما تقول الشيعة بوحدة الأديان، ولا ترى ضيرا في الاستعانة بمراحل الوحي السابقة، أو الإلهام اللاحق الذي يكشف عنه الأئمة، يقول السنة باكتمال الوحي وانتهائه بانقطاع الرسل. وبينما تقول الشيعة بتعيين الإمام، تقول السنة بالشورى وبالبيعة العامة. وبصرف النظر عن الفروق في الدرجة في هذا التقابل عند كل فريق، وعلى فرض صحة هذا التقابل كاختيار فكري، فإنه نظرا لتغير الظروف الاجتماعية لكل منهما عبر التاريخ، فقد انقلب الاختيار. فقد لا يقل السنة تجسيما وتشبيها بل وتأليها من الشيعة، ولا يقل الشيعة تنزيها عن السنة. وقد لا يقل أهل السنة تأويلا من الشيعة، ولا يقل الشيعة حرفية من السنة. وليس السنة أقل طاعة من الشيعة، في حين أن الشيعة قادرون على المعارضة والثورة. كما أصبح الإيمان عند السنة مكتفيا بذاته، في حين أصبح عند الشيعة عملا تاريخيا. وقد وقع السنة في الروحانية، وضاع لديها الفصل بين الروح والمادة، وأصبح الشيعة أكثر فصلا بينهما من السنة. كما أصبحت السنة أكثر موالاة للنصارى واليهود من الشيعة، يقومون بتعيين الإمام وراثة من العسكر، بينما تثور الشيعة على ملك الملوك. فالشعور المذهبي هو اختيار عقائدي يكشف عن موقف سياسي متغير من عصر إلى عصر؛ وبالتالي يكون أحد أبعاد الشعور التاريخي.
وفي داخل السنة هناك اختياران آخران؛ المعتزلة والأشاعرة، على طرفي نقيض، المعارضة العقلية المستنيرة والسلطة النصية القاهرة. وكل فرقة تمثل مذهبا متكاملا، ابتداء من التوحيد والخلق والبعث ونهاية العالم.
94
ففي التوحيد تنكر المعتزلة الصفات حرصا على التنزيه، وتنكر كل صور التشبيه والتجسيم حتى ولو اضطرت إلى تأويل النصوص لإثبات معانيها العقلية. ولما أنكرت الصفات أثبتت حرية الإنسان؛ فالإنسان خالق أفعاله، ومسئول عن الخير والشر في العالم، وقادر على الأعمال. وفي النهاية يكون له ما قدم من خير أو شر دون وساطة أو شفاعة، ويكون الحكم بعد البعث وهو على وعي به وليس قبله. وكما رفض التجسيم في البداية يرفض في النهاية؛ فالثواب والعقاب خلقيان أكثر منهما ماديين؛ فالرضا عن الذات أفرح للنفس من الجزاء المادي، وتأنيب الضمير أوقع على النفس من العذاب الجسماني. أما الأشاعرة فتمثل المذهب المقابل؛ تثبت الصفات ولا ترى حرجا في القول بالتشبيه، بل وبالتجسيم، حرصا على حرفية النصوص. وما دامت الصفات مثبتة فهي أيضا فاعلة في العالم؛ فهي مسئولة عن كل ما يقع من الإنسان ومن الطبيعة من خير أو شر. وفي النهاية يبدأ الحساب الجسماني، والحكم على أفعال الإنسان، وتوقيع الجزاء المادي عليه ثوابا أم عقابا.
ونظرا لغلبة المذهب على الفرقة، والموضوع على التاريخ، فقد عرفت كل فرقة بالموضوع الذي اشتهرت به، وأصبحت الموضوعات عناوين لفرق؛ فغلاة الشيعة يقولون جميعا بالتأليه وبالتجسيم وبالتشبيه، وهو أحد الحلول لموضوع التوحيد، فإذا ذكر التأليه أو التجسيم ذكر غلاة الشيعة. وتقول المعتزلة بالتنزيه المطلق ونفي الصفات، فإذا قيل التنزيه أو نفي الصفات ذكر المعتزلة. ويغلب على الخوارج والمرجئة موضوع الإيمان والعمل، فإذا ذكر الموضوعان ذكرت الفرقتان.
95
ويغلب على كل فرقة موضوع أو أكثر؛ فمثلا يغلب على الخوارج موضوعا الإمامة والإيمان والعمل؛ مما يدل على الطابع العملي لفكر الفرقة، وليس الطابع النظري كما هو الحال في الذات والصفات أو الجبر والاختيار؛ لذلك أسست الفرقة فقها ونظمت تشريعا. والأهم من ذلك كله هو انتظام الفرق كلها في أصول بصرف النظر عن عددها. فإذا كانت الأصول أربعة؛ التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والإيمان والعمل؛ وكانت أمهات الفرق أربعا؛ الشيعة والخوارج والمعتزلة ومرجئة (أشاعرة)، ثلاثة للمعارضة وواحدة للسلطة؛ اختلفت الشيعة والمعتزلة في التوحيد، والمرجئة والخوارج في الإيمان والعمل، والمرجئة والمعتزلة في الوعد والوعيد، والشيعة والخوارج في الإمامة.
96
كل حل لمشكلة ليس قائما بذاته، بل يؤدي إلى حل المشكلة الأخرى بالطريقة نفسها؛ فإنكار الصفات يؤدي بالضرورة إلى ترك العالم مفتوحا إلى فعل الإنسان وحرية اختياره، كما يؤدي بالضرورة إلى إعمال العقل وإثبات قوانين مطردة للطبيعة. أما إثبات الصفات فإنه يؤدي إلى إثبات فاعليتها في الطبيعة ، ومزاحمة الفعل الإنساني ومشاركته، وإلى تصور الطبيعة ميدانا للصفات المطلقة، والعقل واقفا وراء النقل؛ أي نافيا لاستقلال العقل والطبيعة. (3-2) الشعور الجدلي (التاريخي)
يكشف الشعور المذهبي البنائي على أن الفرق موضوعات، وأن الموضوعات أصول، وأن أمهات الفرق تدخل في جدل بينها حول هذه الأصول؛ فالمعتزلة والشيعة على طرفي نقيض في التوحيد، والشيعة والخوارج على طرفي نقيض في الإمامة، والخوارج والمرجئة على طرفي نقيض في الإيمان والعمل، والمعتزلة والمرجئة على طرفي نقيض في الوعد والوعيد. ويستطيع الشعور الجدلي أن يصف التاريخ، وفي الوقت نفسه يدرك دلالة المذهب، ويبرز النسق العقائدي للفرقة، وذلك من خلال نشأة الفرق وتوالدها بعضها عن البعض الآخر طبقا لقانون الفعل ورد الفعل؛ أي طبقا للمنهج الجدلي القائم على التعارض والأضداد.
97
ولا يوجد منهج محكم في معظم المصنفات الكلامية لعرض تاريخ الفرق. ويتأرجح معظمها بين تتبع النشأة الزمانية وبين عرض الموضوعات العقائدية، وإن كانت أقرب إلى المنهج الثاني؛ أي عرض الفرق من خلال الموضوعات. ويختلف الترتيب الزماني والموضوعي حسب الموضوع؛ ففي الإمامة مثلا تظهر الرافضة أولا ثم يناقضهم فيها الخوارج، في حين أنه في التوحيد تقول الرافضة أولا بالتأليه أو التجسيم ثم يظهر المعتزلة ويقولون بالتنزيه.
98
وقد ينشأ رد الفعل على الفور إذا كانت عملية خالصة مثل الإمامة، أو متأخرة إذا كانت نظرية تحتاج إلى تفكير وتدبر مثل التوحيد. فبعد أن ظهر التأليه مبكرا للغاية في حياة علي لم يظهر توحيد المعتزلة ونفي الصفات إلا متأخرا. وقد ظهرت الروافض بدعوى التأليه، فظهورهم هنا سابق على الخوارج فيما يتعلق بالتأليه، وقد حدث ذلك في حياة علي.
99
وفي هذا الجو العام من التوتر النفسي وجهل العرب، وشدة انتسابهم إلى الدعوات في عصر الدعوات، يمكن أن يكون عبد الله بن سبأ منشئ التأليه من خلفياته الدينية القديمة. لم يكن العرب يعرفونه؛ إذ كانت الوثنية لديهم سطحية، بالإضافة إلى أنه يقوم على الإعجاب بالبطل في عصر البطولة وبين الأبطال. فالخوارج والشيعة نقيضان، وإن لم يخرج النقيض من النقيض زمانيا. نشأ الخوارج أولا برفضهم إمامة علي، ثم نشأ الشيعة ثانيا بعد مقتل علي وبنيه. فمن حيث موقعهم من علي هما نقيضان، وإن تولد أحدهما عن الآخر زمانيا.
100
وينطبق قانون الفعل ورد الفعل أو قانون الجدل من الموضوع إلى نقيض الموضوع إلى مركب الموضوع، ليس فقط على تاريخ الفرق وتوالد بعضها من البعض الآخر، بل أيضا على موضوعات العلم الرئيسية؛ إذ تحل المشكلة أولا باختيار أحد النقيضين، ثم يأتي الحل الثاني بالنقيض، وأخيرا يأتي الحل الثالث يحاول الجمع بين النقيضين في وسط متناسب متفاديا الغلو والتطرف. يأتي الحل الأول في ظروف نفسية واجتماعية معينة، ثم يأتي نقيضه لإعادة التوازن، وإبراز ما خفي، إذ لا يقف أمام التطرف إلا تطرف مضاد، ثم يأتي الحل الثالث لإلغاء الطرفين ومحاولة استعادة التوازن الفكري. فمثلا في نظرية الوجود (الطبيعيات) يقضي فريق على استقلال الطبيعة وعلى فعلها، ويجعل حركتها ومسارها من خارجها؛ فينشأ رد فعل عند أصحاب الطبائع القائلين بالطباع، وأن فعل الطبيعة وحركتها من داخلها بفعل طبائع الأشياء؛ ثم يأتي فريق ثالث يجمع بين النقيضين ويقول بالطبائع، ولكنه يجعلها مخلوقة.
101
وفي التوحيد يعرض التأليه أو التجسيم أو التشبيه من الشيعة، فينشأ رد الفعل من المعتزلة فيقترحون التنزيه لدرجة نفي الصفات، فالتعطيل أكبر رد فعل على التجسيم والتشبيه، ثم يأتي الحل الثالث الذي اقترحه الأشاعرة لإعادة التوازن الفكري، ويقترحون إثبات الصفات بلا تشبيه ولا تعطيل تفاديا لتطرف النقيضين.
102
وفي خلق الأفعال (الجبر والاختيار) يعرض الجبر المطلق أولا، وتثبت الإرادة الإلهية المطلقة، وتنكر حرية الاختيار؛ ثم ينشأ رد الفعل ويوضع النقيض، فتتأكد حرية الاختيار ومسئولية الإنسان المطلقة عن أفعاله؛ ثم يأتي الحل الثالث للجمع بين النقيضين، ويقال بالكسب وبخلق القدرة في زمان الاستطاعة.
103
وأحيانا تظهر القدرية وكأنها إثبات لدعوى نفي القدر وإثبات الاستطاعة.
104
وقد تضم المسألتان، مرتكب الكبيرة والاختيار، في مسألة واحدة هي الفعل أو السلوك. فإذا كانت المسألة هي الاختيار يكون إثبات الاختيار رد فعل على الجبر لا العكس.
105
وفي العقل والنقل يقال أولا إن النقل مكتف بذاته ولا يحتاج إلى عمل عقلي يخرج النص من مكانه، وتقدم الحشوية الاقتراح؛ فينشأ رد الفعل ليجعل العقل أساس النقل، فإذا تعارض النقل مع العقل أول النقل لحساب العقل، ويقدم المعتزلة هذا الرأي؛ ثم يأتي حل ثالث يجمع بين العقل والنقل، ويعرض اتفاق صحيح المنقول مع صريح المعقول ابتداء.
106
وفي الحسن والقبح العقليين يقول فريق بأن حسن الأشياء وقبحها من خارج الأشياء، وأن الأشياء لا تحتوي على صفات موضوعية كالحسن والقبح؛ ثم ينشأ رد الفعل بقول فريق آخر بأن حسن الأشياء أو قبحها من داخل الأشياء، وصفات موضوعية يدركها العقل؛ ثم يأتي فريق ثالث ليحاول الجمع بين النقيضين، فيجعل حسن الأشياء وقبحها في الأشياء إلا الشرائع التي يكون حسنها أو قبحها من خارجها.
107
وفي الوعد والوعيد يثبت المعتزلة وجوب الثواب والعقاب طبقا للأعمال، وينفي أهل السنة هذا الوجوب، ويجعلون كل شيء مرهونا بمشيئة الإرادة المطلقة، ويأتي فريق ثالث ليقول بالوجوب الشرعي.
108
وفي الإيمان والعمل يبدأ الخوارج والمرجئة على طرفي نقيض. يثبت الأولون العمل كمعبر وحيد عن الإيمان، وإلا فلا إيمان ويكون الكفر. ويثبت الآخرون الإيمان مكتفيا بذاته دون عمل، ويكون الإيمان في غياب العمل. ثم تقترح المعتزلة المنزلة بين المنزلتين للجمع بين الحلين المتعارضين، والإبقاء على جزء من الإيمان وجزء من العمل.
109
نشأت المرجئة بدعوى الإرجاء في الإيمان؛ أي تأخير العمل على الإيمان كرد فعل على الأحكام القاطعة التي صدرت وقت الفتنة على الناس بالإيمان والكفر والفسق، حيث تقطعت الرقاب من جراء الحكم على أعمال الناس وجعل العمل مقياس الإيمان والمعبر عنه. فإذا كان الخوارج يثبتون صلة الإيمان بالعمل، فإن المرجئة يثبتون الإيمان دون العمل، ويجعلونه نظرا ومعرفة. وإذا كانت الخوارج تحكم على الناس بالكفر والإيمان، فإن المرجئة ترجئ الحكم. وإذا كانت الخوارج ترى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، فإن المرجئة ترى أن الإيمان يزيد وينقص. وإذا كانت الخوارج ترى أن الدار دار كفر وحرب، فإن المرجئة ترى أن الدار دار إيمان وسلام.
110
كما تظهر المعتزلة إثباتا لدعوى المنزلة بين المنزلتين كدعوى مناقضة للكفر أو للإيمان؛ ومن ثم تشارك الخوارج في الصلة بين الإيمان والعمل.
111
وفي الإمامة يقول فريق بالتعيين وهم الشيعة، ثم يظهر رد الفعل عند فريق آخر في القول بالاختيار المطلق وهم المعتزلة والخوارج، ثم يأتي فريق ثالث يجمع بين التعيين والاختيار، ويجعل الأئمة من قريش، وهم أهل السنة والأشاعرة.
وكثيرا ما يكون الجمع بين النقيضين أقرب إلى طرف منه إلى الطرف الآخر؛ فالطبائع المخلوقة أقرب إلى إنكار الطبائع منه إلى إثباتها، وإثبات الصفات أقرب إلى التشبيه منه إلى التنزيه، والكسب أقرب إلى الجبر منه إلى الاختيار، واتفاق النقل مع العقل أقرب إلى القول بأولوية النقل على العقل، والمنزلة بين المنزلتين أقرب إلى إيمان الأشاعرة منه إلى إيمان الخوارج، وجعل الأئمة من قريش أقرب إلى التعيين منه إلى الاختيار. وقد لا يبدو الوسط على الإطلاق نظرا لأنه لا يمثل شيئا، وأن التعارض الفعلي هو بين الموضوع ونقيضه، فهما طرفا الفكر، وهما الاتجاهان ولا ثالث لهما، ولا يذكر الوسط على الإطلاق، وهما في الغالب المعتزلة والأشاعرة؛ ففي التوحيد هناك إثبات الصفات وإنكارها ... إلخ.
112
ويظهر التعارض بين النقيضين دون وجود حل ثالث بينهما خاصة في المسائل الصغرى؛ فالتعارض بين الطرفين أقوى من الجمع بينهما في طرف ثالث، فتغيب المقولة الثالثة بتاتا. ففي الحسن والقبح يظهر الطرفان المتناقضان: الحسن والقبح صفتان من خارج الأشياء، فالأشياء ذاتها ليست حسنة ولا قبيحة. والحسن والقبح صفتان من داخل الأشياء، صفتان موضوعيتان في الأشياء يدركها العقل. ولكن الطرف الثالث، وهو أن الحسن والقبح بناءان اجتماعيان، غائب تماما. وفي العقل والنقل أيضا يبدو الطرفان المتقابلان على أنهما النقل أساس العقل أو العقل أساس النقل، وإذا تم التوحيد بينهما فإنه يتم عن طريق التخصيص والاستثناء وإخراج ميدان الشرائع من العقليات. أما المقولة الثالثة، وهي الواقع، فهي غائبة بتاتا. فالواقع هو أساس النقل والعقل على السواء؛ أي التطابق مع الواقع. وقد تظهر الحلول الثلاثة، النقيضان والجمع بينهما في لا زمان، تظهر جميعا في وقت واحد؛ مما يدل على أن الحلول الثلاثة نماذج دائمة للفكر، وأنه لا يعني ظهورها بالضرورة ظهور فرقة تاريخية متزامنة أو متتالية في الزمان لتمثيلها والتعبير عنها؛ فالقول بأن الإنسان بدن فقط أو روح فقط أو بدن وروح يظهر في الوقت نفسه وعند كل فرقة. وقد يظهر قانون الجدل داخل الفرقة الواحدة بين الغلاة والمعتدلين؛ مما يجعل الحد بين الفرق صعبا؛ فمعتدلو الروافض مثلا الزيدية مثلا لا يبتعدون عن المعتزلة، وغلاة أهل السنة لا يبتعدون عن التجسيم والتشبيه عند الروافض.
113
ولا يكون فريق بعينه باستمرار هو الممثل للفعل أو لرد الفعل أو للجمع بينهما، قد يكون فريق هو صاحب الفعل مرة، وهو القائم برد الفعل مرة ثانية، وهو الذي يجمع بين النقيضين مرة ثالثة. ففي التوحيد الشيعة هم أصحاب الفعل بقولهم بالتأليه والتجسيم، وأصحاب الفعل أيضا في الإمامة في قولهم بالتعيين، ولكنهم في العقل والنقل أصحاب رد الفعل في ممارستهم للتأويل كرد فعل على الالتزام الحرفي بالنصوص، وفي كشفهم لميدان الشعور والعواطف والانفعالات ضد عالم العقل المجرد، وفي تركيزهم على الحلول كرد فعل على المفارقة. والمعتزلة باستمرار هم أصحاب رد الفعل؛ فهم القائلون بالتنزيه ضد التشبيه، والمثبتون للحرية ضد الجبر، والمثبتون للعقل ضد الحشوية، والقائلون بالشورى ضد التعيين، والقائلون بالطبائع ضد أهل السنة. ولكنهم يحاولون أيضا الجمع بين النقيضين في المنزلة بين المنزلتين. ولكن الغالب بأن الأشاعرة هم القائلون باستمرار بالجمع بين النقيضين؛ فهم يمثلون أهل الوسط والاتزان. ففي الطبيعة يقولون بطبائع مخلوقة، وفي التوحيد يثبتون الصفات بلا تشبيه ولا تعطيل، وفي الحرية يثبتون الكسب وسطا بين الجبر والاختيار، وفي العقل والنقل يوفقون بينهما دون إعطاء الأولوية لأحدهما على الآخر، وفي الإيمان والعمل يحاولون الجمع بينهما دون الحكم بأحدهما على الآخر. وفي الإمامة يحاولون الجمع بين التعيين بالنص والبيعة بالشورى بجعل الإمامة في قريش.
وبالرغم مما يقال عن مميزات الجمع بين النقيضين من فضائل الاتزان والاعتدال، والتعبير عن الأصول وعدم الانحراف عنها، واتباع الحق دون الهوى، والتعبير عن مصلحة الجماعة العامة دون ترجيح حق فئة على أخرى ، فإن العيوب والمثالب أوضح وأكثر خطورة وأشد ضررا؛ فكثيرا ما يتحدد الجمع بين النقيضين عن طريق النفي، مثل إثبات الصفات بلا تشبيه أو تعطيل، أو إثباتها بلا كيف. وهذا مستحيل؛ لأن إثبات الصفات يقتضي وصف هذا الشيء المثبت، والقول بأن الصفة لا توصف تهرب من الإشكال الأول. الاكتفاء بتحديد الفكر عن طريق النفي اتجاه سلبي خالص وهروب من أخذ المواقف. وفي هذه الحالة يكون التوقف عن الحكم وإلغاء المشكلة أفضل وأكثر صراحة. فإذا حاول التوفيق بين النقيضين قول شيء إيجابي فإنه لا يتجاوز تحصيل الحاصل، مثل صفة بلا وصف، أو شيء لا ككل الأشياء؛ فمثل هذه الأحكام لا تتجاوز «محلك سر»، خطوة إلى الإمام وخطوة إلى الخلف. فإذا حاول الجمع بين النقيضين قول شيء أكثر إيجابية، فإنه في العادة يمكن نقضه بالعقل؛ لأنه لا يقوم أساسا على نظرية في العقل، بل يلحق العقل بالنقل، ويجعل عمله الفهم والتفسير، وليس الوضع والتأصيل وتأسيس بداهات العقول. وفي الغالب يكون تنظيم العقل على هذا النحو غامضا صعبا على الجمهور، كما يمكن للعقلاء نقضه. وقد كان هذا الموقف هو العدو الألد لموقف الفلاسفة، خاصة آخر الحكماء الذين شنوا باسم العقل أشنع هجوم على الجمع بين النقيضين والمواقف المتوسطة باسم العقل. وأخيرا فإن التوسط بين الطرفين نهاية للحضارة وقضاء على الفكر؛ فهو يعبر عن نقص في الشجاعة وعدم التزام بالمواقف، ومحاولة تجاوز المتناقضات لا عن طريق صراعها، بل بالتعالي عنها وتفادي حركتها المتناقضة. وهذا ما حدث بالفعل؛ فقد انتهى الفكر، وتوقفت الحضارة، وهدأ الانفعال، ورجع الناس إلى العقائد الأولى دون أي عمل عقلي أو حضاري، ثم أصبحت العقائد المذهب الرسمي للدولة، فأصبح المتوسط هو فكر السلطة، واستحال بعد ذلك قول شيء أو تأسيس دعوى كفعل أو كرد فعل.
وأصحاب ردود الأفعال هم في الغالب أصحاب المواقف الجذرية، أي المعارضة بأنواعها الثلاثة، وعلى رأسهم الشيعة والخوارج والمعتزلة. فالتأليه والتنزيه موقفان جذريان لا وسط بينهما، الجبر والاختيار، التعيين والبيعة، النقل والعقل، الإيمان والعمل، الطبيعة والخلق؛ كل ذلك مواقف جذرية لا تقبل الوسط أو التوسط. ويمتاز الفعل كموقف جذري، بأنه دعوة تقول شيئا، وتضع موضوعا وتقيم مذهبا، وتؤسس فكرا، وتبدأ تيارا. كما أن الفعل موقف جذري، العامل المحرك للفكر، وهو المثير الذهني، شوكة في البدن، مهمته ضرب المائدة بقبضة اليد، وإثارة المشاعر، وتفتيح الأذهان. ويعبر عن ظروف العصر وبنائه النفسي والاجتماعي. هو المحول للوحي إلى موقف، والمعبر عن الدوام في الزمان. وباختصار إن هذا المثير هو البادئ للحضارة؛ إذ تؤرخ الحضارات ببداية الدعاوى الفكرية الأولى التي أثارت الانتباه. والدعوات الأصيلة تظل باعثا على ردود الأفعال باستمرار مع توالي العصور وتعاقب الأجيال.
وقد يعاب على الفعل كموقف جذري التطرف والمغالاة، وإيقاف الوحي على ساق واحدة، ورؤية الحقيقة بعين واحدة، وإحالتها إلى جانب واحد. وهذا العيب هو طبيعة تكوين الحضارة، فما دام الوحي قد تحول إلى وضع، وتمثلته جماعة في ظروف نفسية واجتماعية معينة، يبدو الوحي في هذا السياق معبرا عن الطرف الآخر من الواقع. فإذا كان الواقع اضطهادا خرج الوحي تحررا، وإذا كان الواقع استئصالا خرج الوحي في صورة دعوة سرية، وإذا كانت الأغلبية منحازة خرج الوحي دعوة إلى أخذ الحق من النص غير المنحاز. وقد يعاب على الفعل كموقف جذري أنه عاطفي انفعالي خالص. والحقيقة أن الحضارة كلها موقف انفعالي، وأن الأفكار في نشأتها تجارب حية عند الجماعة، وأن الفكر ذاته انفعال وصل إلى حد التنظير في موقف نفسي واجتماعي متزن. وإذا كان الواقع منحازا فلا يمكن التعبير عنه فعلا أو كرد فعل إلا انفعالا. لا يظهر العقل إلا في المرحلة الثالثة، وهي الجمع بين النقيضين، ولكن الفعل ورد الفعل هما مرحلتان انفعاليتان. وقد يعاب على الفعل ثالثا أنه يعبر عن هوى أو مصلحة، ولا يعبر عن حقيقة مستقلة أو عن مصلحة الجماعة. ولكن هذا العيب أيضا يعبر عن طبيعة الجماعة ومسارها في التاريخ، وتفرقها إلى جماعات أصغر كل منها تحاول تمثيل الجماعة الكبرى، وتجعل تصورها تصور الوحي. وما دام الوحي قد أعلن عن الجماعة، وما دام التفسير قد بدأ، فإنه من الصعب التمييز بين الحقيقة والمصلحة، أو بين الوحي والهوى. كل جماعة تثبت ذاتها من خلال الوحي، ويحدث الصراع. وتبقى أبعد الجماعات عن الهوى وأقربها للوحي إذا ما ضمت الجماهير إليها وجذبتهم لها. وقد يعاب على الفعل رابعا أنه يتحول في نهاية الأمر إلى مذهب مغلق، وإلى عقيدة محكمة تكون مماثلة للوحي أو بديلا عنه، وأحيانا مناوئة له. وهذا أيضا طبيعي؛ فإذا ما تقدمت الجماعة في العمل خرج نظارها إلى عرض الاتجاه عرضا عقليا خالصا، فيتحول الموقف النفسي الاجتماعي تدريجيا إلى مذهب. وبتعاقب الأجيال يتكاثر العمل العقلي المذهبي، وتتحدد جوانب المذهب، ويتضح اتساقه العقلي إلى أن يقضى عليه بفعل الزمان، أو تظهر دعوات جديدة أكثر شبابا وحيوية تكون بداية مذهب جديد. وقد تحاول الأجيال الشابة للمذهب القديم تجديد حياته بالرجوع إلى الأصول الأولى ومحاولة إيجاد الاعتدال، خاصة بعد تغير الموقف النفسي الاجتماعي الأول.
أما ردود الأفعال فإنها تتميز أيضا بأنها هي الممارسة للفكر والملتزمة به، والقائمة على المحافظة على الطرف الآخر الذي غاب في الفعل. رد الفعل هو الجانب الآخر، الطرف المقابل. ومن التوتر بين الفعل ورد الفعل تنشأ الحياة الفكرية، وتظهر الأفكار الثانوية حتى بداية محاولات الجمع بينهما. ردود الفعل هي التي تبين حدود الفعل، وتعطي البديل، وتعبر عن التكامل الفكري أكثر مما تعبر عن الظروف النفسية والاجتماعية. يوضع العقل في مقابل الانفعال، والحق في مقابل الهوى. رد الفعل هو التحدي المستمر للفعل، المحدد لسلطته، والواقف له بالمرصاد، والمعبر عن حق المعارضة الفكرية وعن حرية الفكر. ومع ذلك قد ينتاب رد الفعل بعض العيوب، وفي مقدمتها تمثل السلطة والاعتماد عليها، وتحويلها إلى فكر رسمي للدولة، فتصبح بعد ذلك مقياسا للحق، وما عداها كفر وضلال. تنقلب حرية الفكر إلى قهر، ويضيع حق المعارضة الذي نشأ رد الفعل تعبيرا عنه.
وسواء عرضت المادة الكلامية كموضوعات أو كفرق، كشعور بنائي أو كشعور جدلي، فكلا الطريقين يؤديان إلى الفكر وإلى الموضوعات الفكرية؛ فالفرق الكلامية اتجاهات فكرية، والتاريخ ليس تاريخ حوادث خالصة أو وقائع مادية، بل هو ميدان لتحقق الأفكار وظهور الأينية الفكرية للوحي. فقد تطور موضوع التوحيد مثلا في مراحل ثلاث؛ التأليه والتجسيم عند الشيعة، غلاتها ومعتدليها، والتنزيه وإنكار الصفات عند المعتزلة، ثم التشبيه وإثبات الصفات عند الأشاعرة. هذا التطور التاريخي نفسه هو بناء الموضوع الفكري؛ فالتأليه والتجسيم هما الموضوع، والتنزيه بإنكار الصفات هو نقيض الموضوع، والتشبيه بإثبات الصفات هو مركب الموضوع. المراحل التاريخية هي نفسها الجوانب المختلفة للموضوع، لا فرق بين تطور الشيء وظهوره في التاريخ وبين بنائه وتحليله في الشعور. وما يقال عن التوحيد يقال أيضا في خلق الأفعال، وفي العقل والنقل، وفي الإيمان والعمل، وفي الإمامة، ويقال أيضا في الطبيعيات، وفي الوحي، وفي الإنسان.
114
وهنا تبرز أسئلة ثلاثة؛ الأول: إذا كانت الفرق الكلامية اتجاهات فكرية، وكانت الاتجاهات الفكرية أنماطا مثالية للفكر البشري، وكانت هذه الأنماط تكون جوانب مختلفة للموضوع، فالسؤال هو: هل أعطى التاريخ كل هذه الأنماط؟ هل كشفت الحضارة جوانب الموضوع؟ هل باستطاعة الباحث اكتشاف أنماط جديدة وكشف جوانب أخرى للموضوع؟ فمثلا في التوحيد ظهر التأليه والتجسيم والتشبيه كفرق واتجاهات وأنماط وجوانب للموضوع، ولم يظهر بعد التوحيد كوظيفة. وفي خلق الأفعال ظهر الجبر والكسب وحرية الاختيار، ولكن لم يظهر بعد التحرر. وفي العقل والنقل ظهرت أولوية العقل كما ظهرت أولوية النقل، ولكن لم تظهر بعد أولوية الواقع ... إلخ. والسؤال الثاني: إذا كانت الاتجاهات الفكرية أنماطا مثالية للفكر البشري، فهل هذه الأنماط حلول متزامنة أو متتالية في الزمان، أم أنها جوانب مختلفة لموضوع واحد؟ فالتوحيد كموضوع تأليه في أحد جوانبه، وتجسيم أو تشبيه من جانب آخر، وتنزيه من جانب ثالث. وخلق الأفعال هو جبر من جانب، وكسب من جانب، وحرية اختيار من جانب ثالث. مهمة الباحث الآن عرض الاتجاهات الفكرية التي تمثلها الفرق كجوانب مختلفة لموضوع واحد. وكأن الباحث ينظر إلى الموضوع من عل كمشاهد محايد. والسؤال الثالث: إذا كانت الفرق الكلامية تمثل اتجاهات فكرية، فالسؤال هو: هل هذه الاتجاهات الفكرية أنماط دائمة للفكر الديني تتكرر في كل زمان ومكان؟ ففي التوحيد مثلا لا تمثل الشيعة التأليه والتجسيم فقط، ولا تمثل السنة التشبيه فقط، ولا تمثل المعتزلة التنزيه فقط، بل إن التأليه والتجسيم والتشبيه والتنزيه أنماط مثالية للفكر الديني أو الفكر البشري العام فيما يتعلق بالألوهية. وكذلك الأمر في خلق الأفعال؛ فلا تمثل الجبرية الجبر، ولا تمثل الأشعرية الكسب، ولا تمثل المعتزلة حرية الاختيار؛ بل إن هذه الحلول الثلاثة، الجبر والكسب والاختيار، تمثل أنماطا مثالية لمشكلة الحرية تتعدى حدود الزمان والمكان. ويمكن أن يقال الشيء نفسه في العقل والنقل، وفي التعيين والبيعة، والكمون والخلق، والإيمان والعمل، فيصبح علم أصول الدين علما بنيويا لكل حضارة وللفكر البشري العام.
والتعدد في جوانب الموضوع وتطوره إنما هو مقدمة للاختيار البشري طبقا لظرف كل عصر. وقد لا يكون اختيار العصور الماضية هو اختيار كل عصر؛ فما يكون فعلا عند القدماء قد يكون رد فعل عند المعاصرين، وما قد يكون وسطا عند القدماء قد يكون فعلا أو رد فعل عند المعاصرين، وما قد يكون فعلا أو رد فعل عند القدماء، فلا يكون وسطا عند المعاصرين. فالمعاصرون جيل الفعل ورد الفعل إيقافا للانهيار وبعثا للنهضة. قد تحتم الظروف النفسية والاجتماعية المعاصرة مرة اختيار الموضوع، ومرة أخرى اختيار نقيض الموضوع، ومرة ثالثة مركب الموضوع، ومرة رابعة إلغاء المشكلة كلية والعودة إلى الواقع الملموس أو النص الخام مصوبا نحوه. فمن الطبيعيات مثلا يحتم واقعنا المعاصر اختيار استقلال قوانين الطبيعة واطرادها ردا على تكويننا النفسي الذي يرجع الأفعال إلى خوارق العادات. وفي التوحيد يكون التعطيل موقفنا النفسي المعاصر أكثر مساهمة في حل عقدنا العقلية، وذلك بالقضاء على التشخيص في الفكر المعياري، وإفساح المجال للإنسان لأن يفعل دون أن يوضع في بوتقة عامة تحيط بها الأغلاف. وفي خلق الأفعال تحتم ظروفنا النفسية المعاصرة نقيض الموضوع، وهو إثبات حرية الأفعال تقليلا من وطأة الجبرية وحتمية الأفعال التي نرزح تحتها، إما جبرية الدين أو جبرية الدنيا وخضوع الجماهير للإرادة المطلقة المشخصة، إرادة الله أو إرادة السلطان، أو خضوعها لحتمية الرغيف والقهر المادي. كما يحتم واقعنا المعاصر اختيار العقل أساسا للنقل ردا على حشوية العصر، واعتماده على النقل كحجة دون اتساق عقلي أو استشهاد واقعي. كما أن الظروف النفسية لواقعنا المعاصر، إن كنا صادقي النية في التغيير، تتطلب اختيار وجوب الثواب والعقاب، تصور العالم يحكمه قانون، ولا يخضع لإرادة مشخصة وأهوائها. كما يحتم واقعنا المعاصر اختيار الموضوع، وهو وحدة النظر والعمل، ردا على الفصل بينهما في حياتنا، أو تأخير العمل على النظر أو الحكم على العمل كما تفعل مرجئة العصر. وقد يعاني واقعنا المعاصر من التوسط قدر ما يعاني من التطرف، ولكن توسط السلطة أخطر على الأمة من تطرف المعارضة، والأجدى تطرف السلطة وتوسط المعارضة. والتطرف العاقل من أجل تغيير الوضع القائم خير من التوسط المبرر للأوضاع القائمة. كما يحتم واقعنا المعاصر اختيار رد الفعل القديم، وهو البيعة، ردا على ظروفنا الحالية التي يغلب عليها التعيين، وأن «الإمامة في العسكر» حتى ولو كانت في صيغة بيعة صورية معروفة نتائجها مسبقا. وقد تحتم ظروفنا خلق فرقة رابعة أو وضع حل رابع، فيلغي المشكلة تماما ويعتبرها متاهة عقلية، ويفضل حلها بإلغائها والرجوع إلى الأصول الأولى العامة التي حددت الموضوعات بلا تفريعات أو انحرافات، أو طرح مسائل نظرية لا ينتج عنها قيمة عملية، بل ينتج منها التشتت والتفرق والضياع. وقد تمثل الفقهاء القدماء والمصلحون المحدثون هذا الاتجاه، الله وظيفة، والحرية تحرر، والنص واقع، والحياة هدف، والوعي مستقل، والمعاد مستقبل، والحكم ثورة.
115 (3-3) الشعور الاجتماعي (السياسي)
إن الشعور (المذهبي) البنائي الذي يكشف عن بنية العقائد والمذاهب والشعور الجدلي (التاريخي) الذي يكشف عن تطور الفرق وتاريخها، إنما هما في الحقيقة داخلان في الشعور الاجتماعي (السياسي) الذي يفسر نشأة العلم وتكوينه، تطوره وبناءه. قد يكون علم الكلام هو أول العلوم العقلية النقلية من حيث الزمان، تظهر فيه المحاولات الأولى لفهم النصوص فهما عقليا وتحويلها إلى معان، ثم تحويل المعاني إلى نظريات ومذاهب حول الإيمان والكفر والفسق والعصيان والنفاق. وقد نشأ نشأة داخلية محضة لإيجاد أساس نظري للسلوك ، ولتنظير الأحداث التي وقعت وتكاثرت في الفتنة وما بعدها. وقد أدى البحث عن النظرية إلى تفسير النصوص؛ فالنص الديني هو المرجع الأول للنظرية، ثم أدى اختلاف المصالح وتضارب الأهواء إلى اختلاف في تفسير النصوص التي تؤديها كل فرقة لصالحها، ولإثبات آرائها والدفاع عن مواقفها ومواقعها. نشأ علم الكلام نشأة داخلية محضة دون أن يتأثر بمؤثرات أجنبية في نشأته؛ مما حدا بالبعض إلى اعتباره الفلسفة الإسلامية الحقة، وأنه الممثل الوحيد للفكر الإسلامي، وهو الذي ظهرت فيه أصالة المسلمين فكان تصويرا لأحداث الواقع وتطوره. أما التقاء الحضارة الناشئة بحضارات أخرى وافدة بعد ترجمة أعمالها، فهو عامل متأخر ساعد على تطوير العلم، وقوى من تحليلاته العقلية، وخفف من وطأته كعلم للعقائد، كما وضح ذلك في المؤلفات الكلامية المتأخرة، بل إن هذا العامل لم يأت مباشرة من الحضارات الوافدة، بل أتى من الفلسفة التي تشبعت بها ثم حذا علم الكلام حذوها. ومع ذلك استطاع العلم ضمها ووضعها في إطاره وضع الفرع في الأصل، وأصبح علم الكلام ممثلا لعلم تاريخ الأديان ووارثا له.
علم الكلام إذن ليس تاريخا مقدسا. ويخطئ البعض عندما يوحد بينه وبين العقيدة الدينية، خاصة بعد أن وحد البعض بين علم الكلام والعقائد، وجعل علم الكلام أصول الدين. وهناك فرق شاسع بين علم الكلام والعقائد الدينية؛ فعلم الكلام محاولات اجتهادية لفهم العقيدة أو للعثور على أساس نظري لها، وتخضع كل هذه المحاولات للظروف التاريخية التي نشأت فيها، وللأحداث السياسية التي سببتها، وللغة العصر التي عبرت بها، وللمستوى الثقافي الذي ظهرت من خلاله. لا يمكن إذن التوحيد بين العقيدة كحقيقة مطلقة، وبين الصياغات التاريخية لها التي تحدث في زمان معين، ومكان معين، وبلغة معينة، وعلى مستوى ثقافي معين.
116
ويظل السؤال قائما: هل العقائد المطلقة أو العقائد في ذاتها موجودة بالفعل، أم أن الوحي نزل في فترة معينة بلغة معينة، وعلى مستوى ثقافي معين، وفي حضارة معينة، وفي مرحلة تاريخية معينة من تطور الوعي البشري؟ الوحي ذاته صياغات تاريخية ظهر على مراحل إنسانية متتالية ، وبلغات إنسانية متعددة، وفي سياقات حضارية مختلفة.
117
ويظل السؤال أيضا: هل يمكن للعقيدة المطلقة أن تتحدث عن نفسها؟ هل يقرأ الوحي الوحي ويفهم ذاته، أم أنه في اللحظة التي يقرأ فيها الوحي ويعبر عنه في فكرة، أو في وصفه تجربة، أو في تحليله لواقع، فإن العقيدة تتحول إلى فهم معين في عصر معين، وزمان معين، ولجماعة معينة، بل ولشخص معين؟
118
علم الكلام علم تاريخي محض، وليس علما مقدسا أو علما للعقائد الدينية نشأ مواكبا للأحداث التي وقعت للجماعة منذ الجيل الأول. ولو تغيرت الأحداث لتغير العلم. علم الكلام ما هو إلا غطاء نظري لأحداث الساعة في بيئة توجه الوقائع توجيها نظريا، ويحتاج كل سلوك فيها إلى أساس نظري من الوحي.
والمنهج الاجتماعي في تفسير نشأة الأفكار وتطورها ليس فقط مطلبا علميا للعصر، وبديهية من بديهيات العقول، وواقعا ملموسا مشاهدا عند كل فرد أبرزته إحدى الحضارات المجاورة، وأطلقت عليه «علم اجتماع المعرفة»، بل إنه كان يستعمل في التراث القديم لتفسير نشأة الأفكار. فتذكر الفكرة ثم تذكر الواقعة سببها، أو تذكر الواقعة ثم الأفكار التي نشأت منها.
119
هو إذن ليس منهجا مستحدثا من حضارة أخرى، أو يدل على تبني أيديولوجية خاصة، بل هو المنهج السائد أحيانا في مؤلفات القدماء عن وعي أو عن غير وعي. والمؤلفات الكلامية في النهاية هي تاريخ الجماعة لفكرها تاريخا فكريا واجتماعيا معا؛ فكثيرا ما ينتقل المؤلف من الفكر إلى الواقع، ومن التوحيد إلى الإمامة، ومن الصفات إلى الشرعيات، دون إحساس بتغير الموضوع. وإذا كنا نحن نفصل أحيانا بين الفكر والتاريخ، فإننا نفعل ذلك لسببين؛ الأول تعارض المنهجين في البيئات الثقافية المحيطة بنا، ووصول هذا التعارض في ثقافتنا وأثره علينا. فعلم اجتماع المعرفة يعارض النظرية المثالية في المعرفة، ولا سبيل إلى الجمع بينهما.
120
والثاني نقص في وعينا الاجتماعي، وفي علمنا بتاريخ نشأة الأفكار لانشغال طبقتنا المتوسطة بالأفكار مستنكفة من الوقائع الاجتماعية ذاتها. وكيف تنشأ ميزتنا، وهي الثقافة، من قاع الدست؟ وبالرغم من أهمية الأفراد في التاريخ إلا أنه لا يمكن تفسير حوادث التاريخ بمجرد ظهور الأفراد، إما عن حسن نية أو عن سوء نية، وتكون الحضارة قد نشأت لمجرد ظهور أفراد حسني النية أو سيئي النية. والحقيقة أنه لو لم يظهر الأفراد لظهرت الأفكار من الحوادث التي كانت ستفرضها، وما الأفراد إلا المعبرون عنها، أو من التقاء الثقافات وظهور الثقافات الوافدة بعد تمثلها في لغة الثقافة الناشئة، وإدخالها في تصوراتها للعالم.
121
وقد يوضع الأفراد داخل إطارهم الحضاري، ويتم تحديد سلوكهم الاجتماعي. وهنا يظهر سوء النية والتحايل والكيد والخداع والمكر والدسيسة والخديعة كعوامل محركة للتاريخ.
122
وكان الواقع النفسي للجماعة مهيئا لقبول هذه الأفكار التي تعبر عن هذا الواقع، ومن قام بها أهل خبرة بالأديان والشعوب، بتاريخ الأديان وبحكم الشعوب.
ليس هناك إذن ما يسمى بعلم الكلام، بل هناك تاريخ للفرق الإسلامية؛ فنحن لا نجد حديثا عن علم الكلام قبل القرن الخامس، ولا نجد في كتب الفرق حديثا عن علم الكلام أو حتى تعريفا له إلا في المؤلفات المتأخرة؛ مما يدل على أن ما اصطلح بتسميته علم الكلام هو في الحقيقة تاريخ الفرق الإسلامية. ولما كانت معظم الفرق قد نشأت نشأة سياسية، أو أن لعقائدها مدلولا سياسيا صراحة أو بباعث سياسي متستر وراء اختلاف الآراء في فهم النصوص وصياغة النظريات، فإن ما يسمى علم الكلام إن هو إلا تاريخ الفرق الإسلامية، وأن تاريخ الفرق الكلامية ما هو إلا تاريخ اجتماعي وسياسي للمجتمع الإسلامي في عصوره الأولى.
123
ويرفض كثير من علماء الكلام التاريخ الموجه، ويؤثرون تاريخا موضوعيا خالصا يكون في جوهره تاريخا سياسيا، ويدل على نشأة الفرق الكلامية نشأة سياسية، وأن أول مشكلة تعرض لها علم الكلام كانت مشكلة سياسية وهي الإمامة، وأن طابع الأحداث في الجيل الأول كان طابعا سياسيا، ثم عبر الخلاف السياسي عن نفسه في تفسير النصوص للحصول منها على نظرية. والسياسة لا تعني شيئا منفصلا عن الدين، فالدين ينظم كافة شئون الحياة؛ لذلك قد يصعب القول بأن علم الكلام نشأ نشأة سياسية بالمعنى الحديث؛ لأن الأحداث التي هزت وجدان المسلمين في العصر الأول وعلى رأسها الفتنة، لم تكن أحداثا سياسية بالمعنى الحديث، بل كانت وقائع أثارت الفكر. لم يكن في ذلك الوقت ولا في هذه البيئة ولا في هذا الفكر تمييز بين العامل السياسي والعامل الديني. كان الفكر، وهو الوحي، الموجه لسلوك الجماعة والمنظم لحياتها، وكان الواقع الذي تعيشه واقعا متكاملا، موجها بالفكر؛ لذلك لا يمكن اتهام الخوارج بأنهم خلطوا شئون الدين بشئون الدولة؛ لأن الدين والدولة كانا شيئا واحدا.
124
تبدأ الحوادث بالفتنة التي رجت شعور الجماعة، وجعلت الخلاف أساسا خلافا سياسيا حول موضوع الإمامة.
125
فإذا كانت الإمامة هي أولى المشاكل التي أثارها المسلمون، فإن ذلك يدل على أن علم الكلام نشأ نشأة سياسية. وإذا ما تمت إعادة بناء العلم من جديد على أنه علم إنساني، فإن هذه المحاولة تقوم أيضا على واقع سياسي خالص، تحرير الأرض، والقضاء على التخلف، وإعادة بناء المجتمع، وإرساء قواعد الديمقراطية، وتأسيس المجتمع اللاطبقي.
126
وقد ظهرت الإمامة كمشكلة عملية لا كمشكلة نظرية، ولم تنشأ منها فرقة؛ فقد كان يكفي إلقاء الفكرة الموجهة حتى تحل المشكلة، ويطيع الناس، وتتوحد الجماعة. وقد تساءل الناس: هل الخلاف السياسي من الفروع أم من الأصول؟ هل هو من المسائل الاجتهادية أم من المسائل النصية؟ هل هو من المسائل الفقهية أم من المسائل العقائدية؟
127
والقول بإمامة المفضول مع وجود الأفضل إثبات للأمر الواقع، وبيعة فكرية للحكم الأموي، وتخل عن صاحب الحق الشرعي، وقبول للمساومة، والرضا برغد العيش. والقول بأن الإمامة تكون من خارج قريش رفض للحكم الأموي الذي يعتمد على النسب لقريش، ورفض للحكم القومي الذي يجعل من الحاكم عربيا بالضرورة، وإعطاء الحق لكل الرعايا عربا كانوا أم موالي في أن يصبحوا أئمة للأمة وحكاما لها.
128
والقول بأن الإمامة لا تكون إلا بالإجماع رفض لأي حكم لم تجمع عليه الأمة كالحكم الأموي مثلا. وبالرغم مما قد يوحي به التشيع بأنه أقل معارضة من حيث إن الإمام بالتعيين وليس بالاختيار، وإنه مصدر الحق والتشريع حتى يرجع ويأخذ بنواصيهم بدل الثورة الفعلية في الحاضر، وأن في خلوده قد يجد أنصاره عزاء ونصرا نفسيا واطمئنانا إلى الحق الضائع دون أن يأخذوه بالفعل، بالرغم من كل ذلك إلا أنه أيضا قاوم الحكم القائم بالقوة نفسها التي قاوم بها بعض علماء الكلام السنيين. ولم تخل سنة من خروج إمام على الحكم الأموي. فمن الناحية النظرية القول بخلود الإمام والقول بالرجعة يعبر عن الأمل في الانتصار، ويثبت ضرورة انتصار الحق على الظلم مهما طال انتظار المظلومين والمضطهدين.
ولم يكن التوحيد أول المسائل الخلافية، بل نشأ نتيجة إعمال العقل في النصوص. أما المشكلة السياسية فقد كانت تابعة للمسائل العقائدية حتى تحولت هي نفسها إلى مسألة اعتقادية.
129
وكانت للنظريات والآراء مدلولات سياسية؛ فإنكار القدر وإثبات الإنسان حرا مختارا في أفعاله، مسئولا عن الخير والشر، يجعل حكم الولاة أصحاب السلطة مسئولين عن أفعالهم ولا يمثلون قدر الله، كما يجعل كل المواطنين مسئولين عن أعمالهم، ويبعثهم على الثورة ضد السلطة المغتصبة الخارجة على إرادة الجماعة.
130
وكل موضوعات علم الكلام ونظرياته لها مدلولات سياسية خالصة؛ ففي التوحيد مثلا تهدف فكرة الله المخلص أو الإمام المؤله إلى تحريك الجماهير، وإعطائها أملا بالنجاة والخلاص من الظلم، وانتصار الحق ضرورة في النهاية، بينما تهدف فكرة الله القوة إلى تثبيت الوضع القائم، وإلى الطاعة للسلطة القائمة الممثلة لله القوة. وإعطاء الأولوية للنقل على العقل يثبت الوضع القائم، ويجعل الأمر موكولا للتفسير، والتفسير تقوم به السلطة الدينية التي تعتمد عليها السلطة السياسية. وإعطاء الأولوية للعقل على النقل رفض للوضع القائم ولتعاون السلطتين الدينية والسياسية، ووضع مقياس عام للناس جميعا حاكمين محكومين، وهو مقياس العقل وطريق البرهان. وإخراج العمل عن الإيمان أو إرجاؤه إثبات للوضع القائم، وجعل الإيمان خاويا لا يتطلب حركة وفعلا، ولا يتحول إلى رفض أو ثورة. وجعل العمل جزءا من الإيمان وتعبيرا عنه رفض للوضع القائم، وجعل الإيمان أساس حركة وفعل وتغيير وثورة. أما مسألة خلق القرآن فقد ظهرت متأخرة للغاية.
131
وكان لعلماء الكلام الأوائل أثر بعيد في توجيه مجرى الحوادث؛ فقد كانوا من أوائل المعارضين للحكم الأموي. وكثيرا ما استعملت السلطة الآراء الدينية كحجج للقضاء على قوى المعارضة التي قامت أساسا تطبيقا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
132
لا تمثل الفرقة إذن اتجاها فكريا فحسب، بل تمثل قوة اجتماعية تعبر عن وضع اجتماعي. وقد تتحالف مع السلطة القائمة، وقد تتعارض معها.
133
وقد نشأت الخوارج من سلوك عملي أثناء التحكيم،
134
واستمروا في المعارضة والرفض للحكم الأموي كما استمر الشيعة وآل البيت، كل لحسابه. وهكذا تشتتت المعارضة إلى فريقين متنازعين، وبقي الخصم قويا.
135
وقد شارك المعتزلة في ثورات بعض آل البيت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
136
والمعتزلة هم أول من ردوا البدع قبل الأشاعرة، فكانوا هم أهل السنة والجماعة قبل أن يظهر الاسم ويتبلور؛ فهم الذين ردوا على القدرية مع أنهما فيما بعد أصبحوا قدريين؛
137
لذلك ظهر المعتزلة مبكرين للغاية، وانتهوا أيضا مبكرين، على حين ظهر الأشاعرة متأخرين، وانتهوا متأخرين. وقد بلغ المد الاعتزالي أوجه في القرن الثالث، في حين لم يخل قرن واحد من ممثل للأشاعرة. وإذا ظهر الأشاعرة مبكرين فإنما يرجع ذلك إلى أنهم قد نسبوا أنفسهم إلى الفقهاء والمحدثين الذين كانوا يشتغلون بمسائل عملية خالصة لا بمسائل نظرية، فضمهم الأشاعرة إليهم وكأنهم يكملون لهم الجانب النظري فيما يتعلق بالعقائد. وكان المعتزلة الأوائل من الدرجة الأولى في العلم والبيان، كانوا هم حملة العلم الأوائل، وهم الذين أعملوا العقل في النظر والاستدلال. نشأت الحضارة على أيديهم أولا. كما استطاع المعتزلة أن يقوموا بعمل جماعي بعد تعرفهم على بعضهم البعض، فما دام العقل هو الحكم فهناك موضوعات وحقائق مستقلة يمكن للجميع الوصول إليها، ولا مكان للعبقرية الفردية التي قد تعبر عن هوى أو ادعاء. ولا يوجد الاتجاه الاعتزالي باعتباره اتجاها عقليا عند المعتزلة فقط، بل يوجد أيضا ممثلا لدى كل فرقة، وكأن التنزيه والعقل والحرية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مبادئ عامة تتعدى حدود الفرق، وأصبحت قاسما مشتركا بينهم. ففريق من الشيعة مثلا يقول بالإمامة والاعتزال (الزيدية)، وفريق من الخوارج يقولون بالقدر ويثبتون الاستطاعة للإنسان (الميمونية). وكان الاعتزال ثورة على التقليد والتعصب واللجاج، ويعتز بالعقل والبرهان ضد التقليد والهوى والمحاجة. وكان المعتزلة أول من استعان بثقافة الغير، الفلسفة اليونانية. لم يكن ذلك رغبة منهم في تبعيتها، بل لأنها راجت في البيئة الثقافية بعد عصر الترجمة، وأصبحت جزءا من الثقافة المعاصرة آنذاك. فاستعملتها المعتزلة كعلوم للوسائل لا كعلوم للغايات، خاصة من متأخريهم في القرن الثالث.
138
وكان معظم الفلاسفة معتزلة نظرا لاعتماد كلا الفريقين على العقل.
139
وقد خرجت الأشاعرة من جب المعتزلة وكرد فعل عليها،
140
واستعملوا المنهج نفسه الذي استعمله المعتزلة، وهو العقل والثقافة العقلية المعاصرة (اليونانية)، ولكنهم خلطوا بين العقل والنقل، فلا هم انتهوا إلى شيء معقول في النقل أو في العقل. فهم في الوقت نفسه يرجعون إلى أهل السلف، ويلتزمون بخط الفقهاء وأهل السنة والحديث، ويحاولون إعطاء الأساس النظري للاتجاه الفقهي. وظلت هذه المحاولة مشبوهة عند الفقهاء، المحاولة التي تريد الجمع بين أهل السنة والعقل. وظل الأشعري مشبوها بشبهة الاعتزال؛ إما لأنه ظل متأثرا بطريق الاعتزال، أو لأنهم كانوا يرفضون أي عمل عقلي في النص. وظل الحنابلة يرفضون الأشاعرة وقتا طويلا لا يقبلون محاولاتهم العقلية في النصوص.
141
ويظهر الأشاعرة كحل وسط بين الاتجاهات المتعارضة بكل ما في هذا الموقف المتوسط من مميزات وعيوب.
142
فإذا كان المعتزلة قد روجوا الفلسفة في أول الأمر طلبا للدليل العقلي والبرهان النظري، فقد فرضت الفلسفة نفسها في النهاية على الأشاعرة في القرون المتأخرة بعد أن خمد العقل وركد العلم. فسادت المباحث الفلسفية المباحث الكلامية، واعتمد الأشاعرة كلية على تحليلات الفلاسفة يجدون فيها الأساس العقلي الضائع منهم. فما يتهم به الأشاعرة المعتزلة وقعوا هم أنفسهم فيه، وشتان ما بين الموقعين؛ أخذ المعتزلة الفلسفة كوسيلة، وظلت الغاية هي التوحيد، في حين أن الأشاعرة أخذوا الفلسفة كغاية، وتوارى التوحيد.
143
وبالرغم من أن الأشاعرة متأخرة في الظهور إلا أن شيخها لا يعتبر واضع أصول العلم؛ فعلم الكلام ظاهرة حضارية أكثر منها اكتسابا عبقريا، على عكس علم أصول الفقه الذي وضع قواعده الشافعي. ولما كان الأشاعرة هم أصحاب التأليف، فقد اعتبروا واضعي علم أصول الدين دون غيرهم.
144
ثم جمد المذهب الأشعري، ولم يعد الدليل هو الوسيلة الوحيدة إلى اليقين.
145
وبعد جمود الفكر واتباع التقليد، ظهرت الشروح والملخصات تعبر عن الفكر الشارح أكثر مما تعبر عن الفكر المشروح،
146
ثم خمد الشرح وساد الجهل على العلم لدرجة أن منع بعض المصلحين شرح مؤلفاته.
147
فإذا كان علم الكلام كغيره من العلوم الإسلامية، بل وكالحضارة ذاتها، فقد نشأ من النص ثم عمل العقل فيه، فإنه يعود إلى النص من جديد بعد أن تجمد العقل، وساد التقليد، وحل الجهل محل العلم.
148
وفي العقائد المتأخرة اختلط التوحيد بالتصوف خاصة في الشروح، ولم توجد مادة يشرح بها
149
إلا من التصوف، وأحيانا من الفقه والأصول، وابتعد عن الفلسفة لأنها لم تعد خطرا على التوحيد. ومعظم الصوفية أشاعرة؛ لأن التصوف موقف أشعري قلبي، والأشاعرة موقف صوفي عقلي، ومن السهل تحويل التوحيد كما يتصوره الأشاعرة إلى توحيد كما يعبر عنه الصوفية بمجرد تغيير المنهج من العقل إلى القلب.
150
وفي المؤلفات المتأخرة يسود التصوف، ويقتبس من أقواله ومن أشعار الصوفية وأناشيدهم.
151
كما يظهر في المؤلفات المتأخرة الفقه والأصول، وتسود المادة الكلامية، وكأن اللجوء إلى الفقه والتشريع فيه اليقين.
152
والفقهاء غالبا أشاعرة بلا استثناء؛ لأن الفقهاء هم المدافعون عن أهل السلف، وهم الممثلون لأهل السنة والجماعة، والأشاعرة يعتبرون أنفسهم أهل السنة والجماعة.
153
ثم جاء الإصلاح الديني محييا مذهب الأشاعرة.
154
ولكن غزو الثقافات الأجنبية الوافدة ما زال يدعو إلى إعادة بناء علم أصول الدين من جديد.
155 (3-4) خاتمة الخاتمة
وكما تبدأ المصنفات القديمة بمقدمات إيمانية تنتهي أيضا بنهايات إيمانية، وليس بالضرورة بتذييل في الفرق. تعترف بالجهل التام، وكأن تأسيس العلم لم يؤد إلى أي علم. تصف الله بأوصاف أزلية، وفي الوقت نفسه يعلن عن حيرة العقل، وكأن أداة العلم لم تؤد إلى أي علم. ويختفي العلم، وتبدأ مناجاة صوفية؛ مما يدل على سيادة علوم التصوف على باقي العلوم. وينقلب التصوف ضد عقائد الفرقة الناجية، فلا يمكن وصف الله أو رؤيته. وكلما ازدادت المناجاة تعظيما لله زاد الإنسان تحقيرا لنفسه. وكيف يعاد بناء علم أصول الدين دون اكتشاف للذاتية؟
156
وقد تكشف خواتيم أخرى عن أن هدف العلم هو تبرير الدين والدفاع عنه وتثبيته، مع دعوات للحفظ ضد الغواية، وطلب للمغفرة والعفو، وكأن العلم غواية تؤدي إلى الخطأ بالضرورة وتجب التوبة منه. ويبرز منهج الاقتداء بسنة الرسول وتقليد صحابته والتابعين، مع أن التقليد ليس مصدرا للعلم. وقد تحتوي الخواتيم على اعتذار عن التطويل والحشو، أو ما يقع فيه المصنف من أخطاء، يرجو عملا صالحا يوضع في حسابه يوم القيامة، مع ذكر الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
157
وقد تكون الخواتيم آيات قرآنية صرفة توحي بقوة العقيدة والاستخلاف في الأرض، وكأننا هنا بصدد فعل وعمل لا قول ونظر، مع التمسك بطريقة السلف والإصرار عليها بعيدا عن الخلف.
158
ونحن إنما نقدم «من العقيدة إلى الثورة» اجتهادا منا، واستئنافا لعلم أصول الدين بعد أن توقف منذ سبعة قرون، وتطويرا له بعد «المواقف» و«رسالة التوحيد» في عصر التحرر من الاستعمار في الخارج والقهر في الداخل، وفي فترة الردة من قلب مصر المحمية.
159
المصادر والمراجع
بعد استبعاد الدراسات الثانوية في علم أصول الدين نظرا لأنها في حاجة إلى مراجعة، فهي موضوعات دراسة وليست دراسة موضوعات، اقتصرنا على المصادر والمراجع الأصلية التي تحتوي على نصوص العلم؛ نظرا لأننا نؤسس نصا جديدا. ونقسمها في مجموعات أربع؛ مصنفات العقائد الأشعرية، مصنفات العقائد الاعتزالية، كتب الفرق الأشعرية، وأخيرا المصادر المطبوعة والمخطوطة التي لم نرجع إليها إلا لماما. وقد رتبناها ترتيبا زمانيا وليس أبجديا لمعرفة تطور العلم، وبدأنا باسم المصنف وتاريخ وفاته بين قوسين ثم باسم مؤلفه، ولم نعتمد على عقائد الشيعة ونصوصها لأنها لا توجد في وعينا القومي كجزء من التراث الحي، ولغلبة الاتجاهات الصوفية والفلسفية عليها.
أولا: العقائد الأشعرية
(1) الفقه الأكبر (الفقه)
كتاب «الفقه الأكبر» للإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، رضي الله عنه (150ه)، وشرحه للإمام الهمام ناصر السنة، وقامع البدعة، شيخ عصره ، ملا علي القاري الحنفي (1001)، تغمده الله برحمته. طبع بمطبعة دار الكتب العربية الكبرى على نفقة صاحبها مصطفى البابي الحلبي وأخويه بكري وعيسى بمصر، (بدون تاريخ). (2) كتاب اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع (اللمع)
للإمام أبي الحسن الأشعري (330ه)، صححه وقدم له وعلق عليه الدكتور حمودة غرابة، مدير المركز الثقافي الإسلامي بلندن، مكتبة الخانجي بالقاهرة ومكتبة المثنى ببغداد (جماعة الأزهر للتأليف والترجمة والنشر)، مصر، 1955م. (3) الإبانة عن أصول الديانة (الإبانة)
لإمام المتكلمين، ناصر سنة سيد المرسلين، الذاب عن الدين، الشيخ أبي الحسن علي بن إسماعيل بن إسحاق بن سالم بن إسماعيل بن عبد الله بن موسى بن بلال بن أبي بردة بن موسى الأشعري، صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، المتوفى سنة بضع وعشرين وثلاثمائة (والأصح 330ه). عنيت بنشره ومراجعة أصوله والتعليق عليه إدارة الطباعة المتيرية، مصر، (بدون تاريخ). (4) الإنصاف فيما يجب اعتقاده ولا يجوز الجهل به (الإنصاف)
لإمام المتكلمين، سيف الإسلام، القاضي أبي بكر الطيب الباقلاني البصري (403ه)، تحقيق وتعليق وتقديم محمد زاهد بن الحسن الكوثري، وكيل المشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية سابقا (1296-1371ه)، الطبعة الثانية، مؤسسة الخانجي للطباعة والنشر والتوزيع، 1382ه/1963م. (5) التمهيد في الرد على الملحدة والمعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة (التمهيد)
تأليف الإمام أبي بكر محمد بن الطيب بن الباقلاني (403ه)، ضبطه وقدم له وعلق عليه محمود محمد الخضيري، المدير المساعد للبحوث والثقافة الإسلامية بالأزهر الشريف؛ محمد عبد الهادي أبو ريدة، مدرس الفلسفة بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول، دار الفكر العربي، لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1366ه/1947م. (6) أصول الدين (الأصول)
تأليف الإمام الأستاذ أبي منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي البغدادي (429ه)، المجلد الأول، وهو كتاب أصول الدين. التزم بنشره وطبعه مدرسة الإلهيات بدار الفنون التركية بإستانبول، الطبعة الأولى، إستانبول، مطبعة الدولة، 1346ه/1928م. (7) الفصل في الملل والأهواء والنحل (الفصل)
للإمام ابن حزم الظاهري الأندلسي (456ه)، خمسة أجزاء في مجلدين، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة، (بدون تاريخ). (8) لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة والجماعة (لمع الأدلة)
لعبد الملك الجويني (إمام الحرمين أبو المعالي) (419-478ه)، تقديم وتحقيق الدكتورة فوقية حسين محمود، مدرسة الفلسفة بكلية البنات بجامعة عين شمس، راجع التحقيق المرحوم الدكتور محمود الخضيري، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، الدار المصرية للتأليف والترجمة، الطبعة الأولى، 1385ه/1965م. (9) كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد (الإرشاد)
لإمام الحرمين الجويني (419-478ه)، حققه وعلق عليه وقدم له وفهرسه الدكتور محمد يوسف موسى، أستاذ في كلية أصول الدين بالأزهر؛ علي عبد المنعم عبد الحميد المدرس في الأزهر الشريف، معهد القاهرة، مكتبة الخانجي، مصر، 1369ه/1950م. (10) العقيدة النظامية (النظامية)
لإمام الحرمين الجويني، مطبعة الأنوار، القاهرة، 1367ه. (11) الشامل في أصول الدين (الشامل)
لإمام الحرمين الجويني (478ه)، حققه وقدم له علي سامي النشار، فيصل بدير عون، سهير محمد مختار، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1969م. (12) الاقتصاد في الاعتقاد (الاقتصاد)
تأليف حجة الإسلام محمد أبي حامد الغزالي الطوسي، مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة، 1382ه/1962م. (13) بحر الكلام في علم التوحيد (البحر)
تأليف الإمام الأجل، رئيس أهل السنة والجماعة، سيف الحق والدين، أبي المعين النسفي (508ه)، القاهرة، 1340ه/1922م. (14) نهاية الإقدام في علم الكلام (النهاية)
تصنيف الشيخ الإمام العالم عبد الكريم الشهرستاني (548ه)، حرره وصححه الفردجيوم، (بدون تاريخ). (15) محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين، من العلماء والحكماء المتكلمين (المحصل)
تأليف الإمام الحجة، ناصر الحق، فخر الدين، محمد بن عمر الرازي (606ه)، طبع بمعرفة السادات أحمد ناجي المجالي ومحمد أمين الخانجي وأخيه، الطبعة الأولى، المطبعة الحسينية المصرية، (بدون تاريخ). (أ)
تلخيص المحصل للعلامة نصر الدين الطوسي (887ه) (في الذيل). (16) معالم أصول الدين (معالم)
للإمام فخر الدين المذكور. (17) المسائل الخمسون في أصول الكلام (المسائل)
للإمام فخر الدين، حجة الإسلام، محمد بن عمر الرازي، طبعت على نفقة الشيخ محيي الدين صبري الكردي، بمطبعة كردستان العلمية، لصاحبها فرج الله زكي الكردي، بمصر المحمية، 1328ه. (18) أساس التقديس في علم الكلام (الأساس)
تأليف الإمام فخر الدين أبي عبد الله محمد بن عمر بن الحسين الرازي (606ه)، مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، 1354ه/1935م. (19) غاية المرام في علم الكلام (الغاية)
سيف الدين الآمدي (551-631ه)، تحقيق حسن محمود عبد اللطيف، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، لجنة إحياء التراث الإسلامي، القاهرة، 1391ه/1971م. (20) العقائد النسفية (النسفية) (أ)
شرح العلامة المحقق، الحبر الفهامة المدقق، سعد الدين التفتازاني (791ه)، على العقائد النسفية للإمام الهمام، قدوة علماء الإسلام، نجم الدين عمر النسفي (642ه). (ب)
حاشية الخلخالي (862ه). (ج)
حاشية الإسفراييني (943ه).
دار إحياء الكتب العربية لأصحابها عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر، (بدون تاريخ). (21) طوالع الأنوار (الطوالع)
للقاضي عضد الدين عبد الرحمن بن أحمد الإيجي (756ه). (أ)
شرح الدواني (908ه). (ب)
حاشية السيالكوتي، المطبعة الخيرية، مصر، 1322ه. (ج)
حاشية المرجاني. (د)
حاشية الخلخالي (1014ه). (ه)
حاشية الكلنبوي (1205ه) (الشيخ إسماعيل). (و)
حاشية محمد عبده (1323ه).
إستانبول دار سعادت (1316ه). (22) المواقف في علم الكلام (المواقف)
عضد الله والدين، القاضي عبد الرحمن بن أحمد الإيجي (756ه)، عالم الكتب، بيروت، مكتبة المثنى، القاهرة، مكتبة سعد الدين، دمشق، (بدون تاريخ). (أ)
شرح الجرجاني. (23) المقاصد
سعد الدين التفتازاني (791ه). (أ)
شرح المقاصد لسعد الدين التفتازاني. (ب)
أشرف المقاصد لأحمد بن محمد بن يعقوب الولالي المكناسي، الطبعة الأولى، المطبعة الخيرية، 1325ه، مصر. (24) السنوسية
الإمام محمد بن يوسف السنوسي الحسني (895ه)، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي وشركاه، (بدون تاريخ). (أ)
شرح أم البراهين على السنوسية للعلامة الشيخ أحمد بن عيسى الأنصاري، محمد علي صبيح وأولاده، مصر، (بدون تاريخ). (ب)
الخلاصة السنية لأبي حجاب. (ج)
شرح الهدهدي. (د)
حاشية الشرقاوي (1194ه)، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، مصر، (بدون تاريخ). (ه)
حاشية الدسوقي (1214ه) على أم البراهين، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي وشركاه، مصر، (بدون تاريخ). (و)
حاشية البيجوري (1227ه) على السنوسية. (ز)
حاشية الإنبابي على الباجوري، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، مصر، (بدون تاريخ). (25) الدر النضيد من مجموعة الحفيد (الدر)
الشيخ الإمام الأجل، شيخ الإسلام، أحمد بن يحيى محمد الحفيد الهروي الشافعي (906ه)، الطبعة الأولى، مصر، 1322ه. (26) كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد (الكتاب)
للإمام المجدد، شيخ الإسلام، محمد بن عبد الوهاب (1206ه)، محمد علي صبيح، القاهرة، (بدون تاريخ). (27) كفاية العوام في علم الكلام (الكفاية)
محمد الفضالي (1223ه). (أ) تحقيق المقام للشيخ إبراهيم البيجوري (1227ه)، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر، (بدون تاريخ). (28) عقيدة العوام (شعر)
الشيخ العالم اللوذعي، السيد أحمد المرزوقي المالكي (1258ه). (أ) نور الظلام للعلامة الشيخ محمد نووي الشافعي (1277ه)، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر، (بدون تاريخ). (29) رسالة الباجوري (الباجوري)
العالم العلامة، البحر الفهامة، الشيخ إبراهيم الباجوري (1297ه). (أ) تيجان الدراري للإمام المحقق، والفهامة المدقق، الشيخ محمد نووي الجاوي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، مصر، (بدون تاريخ). (30) رسالة التوحيد (الرسالة)
الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1323ه)، طبعها السيد محمد رشيد رضا منشئ المنار، الطبعة السادسة عشرة، دار المنار، مصر، 1373ه. (31) جوهرة التوحيد (الجوهرة) (شعر)
تأليف اللقاني الأب. (أ)
إرشاد المريد. (ب)
تحفة المريد على جوهرة التوحيد للبيجوري (1223ه)، تصحيح وتعليق حسين عبد الرحيم مكي المدرس بالأزهر الشريف، محمد صبيح وأولاده، القاهرة، 1384ه/1964م. (ج)
حاشية الأمير على شرح عبد السلام اللقاني الابن على جوهرة التوحيد، محمد علي صبيح، القاهرة، 1373ه/1953م. (32) العقيدة التوحيدية
الشيخ أحمد الدردير. (أ)
شرح العقباوي. (ب)
حاشية العقباوي، محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة، بدون تاريخ. (33) الخريدة البهية (الخريدة) (شعر)
الشيخ أحمد الدردير. (أ)
شرح الخريدة للإمام أبي البركات سيدي أحمد الدردير، تصحيح وتعليق حسين عبد الرحيم مكي المدرس بالأزهر الشريف، الطبعة الأولى، محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة، 1374ه/1954م. (34) جامع زبد العقائد التوحيدية، في معرفة الذات الموصوف بالصفات العلية (الجامع)
العالم العلامة المسمى ولد عدلان من الأقطار السودانية، السيد مضوي الحاج، واد مدني، سودان، بدون تاريخ. (35) وسيلة العبيد في علم التوحيد (الوسيلة)
محمد الإمام الطاهري. (أ)
القول المفيد لوحيد زمانه، ونادرة عصره وأوانه، عمدة المحققين، مولانا الشيخ محمد بخيت، قاضي ثغر الإسكندرية، المطبعة الخيرية، الطبعة الأولى، القاهرة، 1326ه. (36) الحصون الحميدية لمحافظة العقائد الإسلامية (الحصون)
الأستاذ صاحب الفضيلة الشيخ حسين أفندي الجسر (1327ه)، الطبعة الأولى، محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة، (بدون تاريخ). (37) التحقيق التام في علم الكلام (التحقيق)
محمد الحسيني الظواهري من علماء الأزهر الشريف، ومدرس بكلية أصول الدين، الطبعة الأولى، النهضة المصرية، القاهرة، 1358ه/1939م. (38) مسائل أبي الليث (أ)
قطر الغيث للشيخ محمد نووي الجاوي، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي، القاهرة، (بدون تاريخ).
ثانيا: العقائد الاعتزالية
(1) الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد ما قصد به من الكذب على المسلمين والطعن عليهم (الانتصار)
أبو الحسين عبد الرحيم بن عثمان الخياط المعتزلي (حوالي 300ه)، مع مقدمة وتحقيق وتعليقات الدكتور نيبرج، الأستاذ بجامعة أبسالة مملكة السويد، دار الكتب المصرية، القاهرة، 1344ه/1925م. (2) شرح الأصول الخمسة (الشرح)
لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد (415ه)، تعليق الإمام أحمد بن الحسين بن أبي هاشم، حققه وقدم له الدكتور عبد الكريم عثمان، مكتبة وهبة، القاهرة، الطبعة الأولى، 1384ه/1965م. (3) المحيط بالتكليف (المحيط)
القاضي عبد الجبار (415ه)، جمع الحسن بن أحمد بن متوية، تحقيق عمر السيد عزمي، مراجعة الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، المؤسسة المصرية للتأليف والأنباء والنشر، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1965م. (4) المغني في أبواب التوحيد والعدل (المغني) (عشرون جزءا)
إملاء القاضي أبي الحسن عبد الجبار الأسدابادي (415ه).
الجزء الرابع:
رؤية الباري، تحقيق الدكتور محمد مصطفى حلمي، الدكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاني، القاهرة، 1965م.
الجزء الخامس:
الفرق غير الإسلامية، تحقيق محمد محمد الخضيري، القاهرة، 1965م، وكلاهما مراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، وبإشراف الدكتور طه حسين، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، الدار المصرية للتأليف والترجمة.
الجزء السادس: (1) التعديل والتجوير، تحقيق الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، ومراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، بإشراف الدكتور طه حسين، الطبعة الأولى، القاهرة، 1962م. (2) الإرادة، تحقيق الأب ج. ش. قنواتي، مراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، إشراف الدكتور طه حسين، القاهرة، (بدون تاريخ)، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر.
الجزء السابع:
خلق القرآن، قوم نصه إبراهيم الأبياري، بإشراف الدكتور طه حسين ، الجمهورية العربية المتحدة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، الإدارة العامة للثقافة، الطبعة الأولى، 1380ه/1961م.
الجزء الثامن:
المخلوق، تحقيق الدكتور توفيق الطويل، سعيد زايد، راجعه الدكتور إبراهيم مدكور، بإشراف الدكتور طه حسين، الدار المصرية للتأليف والترجمة، (بدون تاريخ).
الجزء التاسع:
التوليد، تحقيق الدكتور توفيق الطويل وسعيد زايد، راجعه الدكتور إبراهيم مدكور، بإشراف الدكتور طه حسين، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، (بدون تاريخ).
الجزء الحادي عشر:
التكليف، تحقيق الأستاذ محمد علي النجار، الدكتور عبد الحليم النجار، مراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، إشراف الدكتور طه حسين، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1385ه/1965م.
الجزء الثاني عشر:
النظر والمعارف، تحقيق الدكتور إبراهيم مدكور، بإشراف الدكتور طه حسين، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، (بدون تاريخ).
الجزء الثالث عشر:
اللطف، حققه الدكتور أبو العلا عفيفي، وراجعه الدكتور إبراهيم مدكور، بإشراف الدكتور طه حسين، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، 1382ه/1962م.
الجزء الرابع عشر:
الأصلح، استحقاق الذم، التوبة، تحقيق الأستاذ مصطفى السقا، راجعه الدكتور إبراهيم مدكور، إشراف الدكتور طه حسين، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1385ه/1965م.
الجزء الخامس عشر:
النبوات والمعجزات، تحقيق الدكتور محمود الخضيري، الدكتور محمود قاسم، مراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، وإشراف الدكتور طه حسين، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1385ه/1965م.
الجزء السادس عشر:
إعجاز القرآن، قدم نصه على نسختين خطيتين أمين الخولي، بإشراف الدكتور طه حسين، الجمهورية العربية المتحدة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، الإدارة العامة للثقافة، القاهرة، 1380ه/1960م.
الجزء السابع عشر: (الموجود منه) الشرعيات، حرر نصه من مصورة واحدة أمين الخولي، وأشرف على إحيائه الدكتور طه حسين، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر، القاهرة، 1963م.
الجزء المتمم العشرين:
القسم الأول، في الإمامة، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود، الدكتور سليمان دنيا، مراجعة الدكتور إبراهيم مدكور، بإشراف الدكتور طه حسين، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، (بدون تاريخ).
ثالثا: تاريخ الفرق
(1) مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين (مقالات)
شيخ أهل السنة والجماعة، الإمام ابن الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (330ه)، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، جزءان، النهضة المصرية، الطبعة الأولى، القاهرة، 1369ه/1950م. (2) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع (التنبيه)
الإمام الفقيه المحدث الثقة، أبو الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي (377ه). قدم له وعلق عليه محمد زاهد بن الحسن الكوثري، وكيل المشيخة الإسلامية في الخلافة العثمانية سابقا، مكتبة المثنى، بغداد، مكتبة المعارف، بيروت، 1388ه/1968م. (3) الفرق بين الفرق (الفرق)
صدر الإسلام الأصولي، العالم المتفنن، عبد القاهر بن طاهر بن محمد البغدادي الإسفراييني التميمي (429ه/1037م)، حقق أصوله وفصله وضبط شكله وعلق على حواشيه محمد محيي الدين عبد الحميد، محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة، (بدون تاريخ). (4) الملل والنحل (الملل)
الشهرستاني (548ه)، خمسة أجزاء، محمد علي صبيح وأولاده، القاهرة، (بدون تاريخ).
رابعا: بعض المصادر الأخرى
هناك بعض النصوص والمصادر العامة الأصلية التي تم الاطلاع عليها دون الاقتباس منها؛ فالمادة مكررة وليس بها جديد. وهناك بعض المصادر الأخرى التي لم نطلع عليها إلا لماما؛ إما لأنها مطبوعة ويصعب العثور عليها، أو مخطوطة. (1) بعض المصادر الأخرى في العقائد الأشعرية (1-1) كتاب التوحيد
للشيخ الإمام علم الهدى، أبي منصور بن محمود الماتريدي السمرقندي (333ه)، حققه وقدم له الدكتور فتح الله خليف، دار المشرق، بيروت، 1970م. (1-2) كتاب البداية من الكفاية في الهداية في أصول الدين
للشيخ الإمام نور الدين الصابوني (580ه)، حققه وقدم له الدكتور فتح الله خليف، دار المعارف، مصر، 1969م. (1-3) الأصول والفروع
لابن حزم الأندلسي (456ه)، تحقق وتقديم وتعليق الدكتور محمد عاطف العراقي، الدكتورة سهير فضل الله أبو وافية، الدكتور إبراهيم إبراهيم هلال، الطبعة الأولى، النهضة العربية، القاهرة، 1978م. (1-4) العقيدة الطحاوية
شرح وتعليق محمد ناصر الدين الألباني، 1394ه. (1-5) الاعتقاد على مذهب السلف أهل السنة والجماعة
للإمام الحافظ الكبير أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي (458ه)، صححه ونشره لأول مرة العلامة السلفي الشيخ أحمد محمد مرسي، القاهرة، 1380ه/1961م. (1-6) عقائد السلف
للأئمة أحمد ابن حنبل (241ه)، البخاري (276ه)، ابن قتيبة (276ه)، عثمان الدارمي (280ه)، القاسمي (1332ه)، علي سامي النشار، عمار جمعي الطالبي، منشأة المعارف، الإسكندرية، 1971م. (1-7) عقيدة الفرقة الناجية
للصابوني (580ه)، الصنعاني (840ه)، المقريزي (845ه)، محمد بن عبد الوهاب (1206ه)، الشوكاني (1225ه)، إعداد وتقديم عبد الله حجاج، دار الوحي، القاهرة، (بدون تاريخ). (1-8) مجموعة التوحيد
لشيخ الإسلام أحمد ابن تيمية، وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، دار الفكر، القاهرة، 1978م. (1-9) قلائد الخرائد في أصول العقائد
العلامة الكبير، معز الدين، السيد محمد المهدي الحسيني الشهير بالقزويني (1300ه)، حققها وعلق عليها جودت كاملي القزويني، بغداد، 1972م. (1-10) الجواهر الكلامية في إيضاح العقيدة الإسلامية
الأستاذ العلامة، شيخ المحققين، الشيخ طاهر بن صالح الجزائري (1338ه)، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، القاهرة، 1380ه/1960م. (2) بعض المصادر الأخرى في العقائد الاعتزالية (2-1) رسائل العدل والتوحيد
الإمام الحسن البصري (110ه)، الإمام القاسم الرسي (246ه)، القاضي عبد الجبار بن أحمد (415ه)، الشريف المرتضى (840ه)، دراسة وتحقيق محمد عمارة، دار الهلال، القاهرة، 1971م. (2-2) رسائل العدل والتوحيد
الإمام يحيى بن الحسين (298ه)، دراسة وتحقيق محمد عمارة، دار الهلال، القاهرة، 1971م. (2-3) المسائل في الخلاف بين البصريين والبغداديين
لأبي رشيد النيسابوري المعتزلي سعيد بن محمد بن سعيد (400ه)، تحقيق وتقديم د. معن زيادة، د. رضوان السيد، معهد الإنماء العربي، الطبعة الأولى، بيروت، 1979م. (2-4) في التوحيد
ديوان الأصول لأبي رشيد سعيد بن محمد النيسابوري (400ه)، تحقيق د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، مطبعة دار الكتب، القاهرة، 1969م. (2-5) التذكرة في أحكام الجواهر والأعراض
الحسن بن متوية النجراني المعتزلي (469ه)، تحقيق وتقديم وتعليق د. سامي نصر لطف، د. فيصل بدير عون، دار الثقافة، القاهرة، 1975م. (2-6) باب ذكر المعتزلة
من كتاب المنية والأصل في شرح كتاب الملل والنحل لأحمد بن يحيى بن المرتضى (840ه)، اعتنى بتصحيحه توما أرنلد، دار صادر بيروت، حيدراباد الدكن، 1316ه. (2-7) فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة
أبو القاسم البلخي (319ه)، القاضي عبد الجبار (415ه)، الحاكم الجشمي (494ه )، اكتشفها وحققها فؤاد السيد، الدار التونسية للنشر، تونس، 1974م. (3) بعض المراجع المطبوعة والمخطوطات التي لم نطلع عليها (3-1) تهذيب الكلام
سعد الدين التفتازاني (791ه). (3-2) المعتمد في أصول الدين
للقاضي أبي يعلى الحنبلي الفراء، حقق له د. وديع زيدان حداد، بيروت. (3-3) كتاب الدر النضيد في إخلاص كلمة التوحيد
للإمام العلامة ابن علي الشوكاني، مطبعة المنار، مصر، 1340ه. (3-4) الروضة البهية فيما بين الأشعرية والماتريدية
تأليف أبي عذبة، حيدراباد، 1322ه. (3-5) خلافيات الحكماء مع المتكلمين وخلافيات الأشاعرة مع الماتريدية
عبد الله بن عثمان بن موسى، دار الكتب المصرية، رقم 3441ج. (3-6) تأويلات أهل السنة للماتريدي
دار الكتب المصرية، 873 تفسير.
Page inconnue