وقد يوفق إلى ما يريد فيشاركه الناس فيما يحس ويرى، وقد لا يوفق فلا يشاركه منهم أحد أو لا يشاركه منهم إلا القليل.
ويخدع الأديب نفسه من ناحية أخرى حين يألف الإذاعة والنشر، ويحس من الناس ميلا إليه، ورغبة في آثاره، فيمضي في الإذاعة والنشر معتقدا أنه يكتب للناس، وهو في حقيقة الأمر يكتب لنفسه لأنه أحب رضا الناس عنه، وميلهم إليه وكلفهم به، فهو يستزيد حين يكتب من هذا الرضا والميل والكلف. فإذا زعم الأديب أنه يكتب لنفسه وحدها فهو مخطئ، وإنما الحق أنه حين يكتب يؤدي عملا اجتماعيا فيه له وللناس لذة ومتعة. ومهما يكن إلحاح الملحين عن أخذنا في جمع ما تفرق من آثارنا، ومهما يكن ترددنا في الاستجاية لهذا الإلحاح، فإن الأسباب التي دعتنا إلى نشر فصولنا في الصحف هي بنفسها التي تدعونا إلى أن نؤلف من هذه الفصول أسفارا تذاع مرة أخرى في المكتبات بعد أن أذيعت في الصحف اليومية أو الأسبوعية أو الشهرية.
وبينما كنت أقرأ هذه المقدمة الطريفة التي قدمها منصور بين يدي هذه الخطرات في طورها الجديد، لفتتني حاشية قرأتها مرة ومرة فأنكرتها بعض الشيء؛ ذلك أن صديقنا يزعم فيها أنه لم يغير من فصوله شيئا إلا ما كان من إعراب لفظ أو تصحيح آخر، وأنه قد عهد في ذلك إلى الأستاذ صادق عنبر فتولاه عنه، وهو يشكر للأستاذ هذا الفضل شكرا جميلا.
واشتد إنكاري لهذه الحاشية حين أظهرني صاحبي على فصل لصديقنا هيكل لم يكد يتجاوز فيه هذه الأسطر من كتاب منصور. فقد وقف عندها وقفة طويلة يسجل على نفسه وعلى منصور وعلى الكتاب المعاصرين ضعفا ظاهرا في اللغة العربية وقصورا عن إحسان الانتفاع بها واعترافا بهذه القصور. وأنا أعترف بأني لم أفهم هذه الحاشية، فلو قد كان صديقنا منصور معترفا بضعفه في العربية مكبرا لها، لعرض فصوله على الأستاذ صادق عنبر أو على غيره ليعرب ألفاظه ويصححها قبل أن يدفعها إلى الصحف، ولكنه لم يفعل، فهل أحس هذا الضعف واعترف به حين أراد أن يجمع هذه الفصول في كتاب؟ وأغرب من هذا أن نقرأ الفصول مجموعة فلا نجد فرقا لغويا بينها في هذه السفر، وبينها في الأهرام والسفور: ففيها ما فيها من صواب لغوي كبير وخطأ لغوي قليل يغفر لمنصور؛ لأنه لم يزعم لنفسه في يوم من الأيام تفوقا في اللغة أو عصمة من الخطأ فيها، وإنما عرفته دائما يأسف لأنه لم يظفر من اللغة بما كان يريد.
في هذه الفصول مجموعة أغلاط لغوية كانت فيها متفرقة، ولم يصححها الأستاذ صادق عنبر ولم يعربها؛ لأنه لم يكلف تصحيح اللغة ولا إعرابها، وإنما كلف تصحيح التجارب المطبعية طبقا للأصل الذي دفعه إليه المؤلف، فأحسن الأستاذ صادق عنبر هذا التصحيح، وإلا فكيف ترك الأستاذ صادق عنبر الذراع مذكرة تذكيرا لا يحتمل الشك في صفحة 32؟ وكيف ترك الأستاذ صادق عنبر في صفحة 83 هذا الاستعمال العددي الذي لا يخلو من غرابة، وهو «من نيف وعشر سنين»، وأنا لا أذكر هذين المثلين إلا لأثبت أن الأستاذ صادق عنبر لم يعرب ألفاظا ولم يصحح أخرى، ولم يطلب إليه منصور ذلك، وإنما صحح تجارب المطبعة، فأراد منصور أن يشكر له هذا الجهد، فأسرف في التعبير كما أسرف صديقنا هيكل في استنباط ما استنبط من هذه الحاشية.
وبعد، فمن الحق أن نقف عند ما يمكن أن يوجد في كتاب منصور من انحراف قليل عن طريق العرب في التعبير، فليس منصور صاحب ألفاظ ولا هو يزعم لنفسه ذلك، وإنما هو صاحب معان غزيرة غنية، وخطرات قيمة خصبة. وأنا أريد في هذا الفصل أن أقف عند هذه الخطرات وقفة قصيرة، لأحقق إلى حد ما هذه الشخصية الأدبية التي تمثلها، وهي شخصية صديقنا منصور.
ليست هذه الشخصية قوية إلى حد الطغيان، وليست ضعيفة إلى حد الفتور، وليست هادئة إلى حد الاطمئنان، ولكنها شخصية ثائرة جامحة، دون أن يكون في ثورتها أو جموحها هذا العنف الذي لا يذر شيئا أتى عليه إلا دمره تدميرا، فصديقنا منصور ثائر ولكنه لا يحطم شيئا، جامح ولكنه لا يلبث أن يعود ويطمئن إلى ما يطمئن إليه الناس. هو ثائر ماهر يستطيع أن يخترق الزجاج وينفذ منه إلى ما وراءه دون أن يحطم أو يحدث فيه صدعا؛ ذلك لأنه ينفذ منه ببصره لا بجسمه. وإذا شئت التعبير الدقيق فقل إنه يرى التجديد ويحبه دون أن يقدم عليه؛ لأنه يؤثر العافية ويفضل الانتظار. وليس في ذلك شيء من الغرابة، فصديقنا منصور شديد التأثر بفريقين من الفلاسفة؛ أحدهما فلاسفة القرن الثامن عشر في فرنسا، والآخر فلاسفة الاجتماع في آخر القرن الماضي وأول هذا القرن الذي نحن فيه. فأما الفريق الأول فأنت تعلم أنهم أعدوا الثورة الفرنسية ولم يشهدوها، ولو شهدوها لنفروا منها نفورا شديدا. وأنت تعلم مقدار ما كان من الفرق بين الحياة العقلية والشعورية والحياة العملية لروسو وفولتير. وأما الفريق الثاني فأصحاب علم وملاحظة، لا يعنون إلا بأن يلاحظوا ويستنبطوا ويتركوا للحوادث طريقها إلى إنشاء التاريخ.
والغريب من أمر صديقنا منصور أنه تأثر بفيلسوفين مختلفين اختلافا شديدا؛ أحدهما روسو، وهو صاحب الشعور الدقيق والعواطف الحادة والمزاج المضطرب والخيال الخصب، والآخر دوركيم، وهو صاحب العقل المستقيم والمنهج العلمي الدقيق، وأبعد الناس عن التأثر بالعاطفة والخضوع للشعور، فهو يدرس الجماعة كما يدرس صاحب الحيوان والنبات في معمله.
وأثر روسو في الخطرات أشد وأظهر من أثر دوركيم؛ فالخطرات حديث العواطف، وهو حديث وجه إلى الكثرة من الناس، فلا ينبغي أن يكون حديثا علميا يخاطب العقل الخالص؛ لأن هذا العقل الخالص لا يوجد في الشوارع، وإنما يوجد في المكاتب المغلقة، ولم يتحدث منصور إلى أهل المكاتب المغلقة، وإنما يتحدث إلى الناس الذين يغدون ويروحون ويمشون في الأسواق، ويختلفون إلى الأندية والملاهي.
ولو أني أردت أن أحدد تأثير روسو في خطرات منصور لأشرت إلى هذا الطموح الظاهر إلى مثل أعلى من الخير يلتمسه منصور، كما كان يلتمسه روسو في الطبيعة الحرة الساذجة التي لم تفسدها الحضارة، ولم يمسخها التكلف، والتي يجدها في الريف، وفي بعض الطبقات من الناس، ثم لأشرت إلى العاطفة الدينية في خطرات منصور، فهي قوية جدا تبلغ التصوف أحيانا، ولكنها غريبة جدا لا تكاد توفق إلى تحديدها: فيها من الإسلام وفيها من الروح اليوناني، وفيها من الروح المصري القديم، وفيها من مذهب وحدة الوجود.
Page inconnue