شيء آخر وجدته في السفينة فأذكرني أول يوم قضيته في فرنسا، بل أول ساعة قضيتها في باريس سنة 1914، هذا الشيء، أو بعبارة أصح: هذا الشخص، هو حلاق السفينة. اضطررت إلى غرفة هذا الحلاق، واضطررت طبعا أيضا إلى أن أسمع لحديث هذا الحلاق، وأحاديث الحلاقين مشهورة من قديم الزمان وفي جميع البيئات، في بغداد والقاهرة، في آسيا وأوروبا، في العصر القديم والعصر الحديث، بالثقل والسخف، وبأنها مصدر الملل والأذي، ولكني أؤكد لك أن حديث حلاق «الإسفنكس» لم يكن ثقيلا ولا سخيفا ولا مملا، بل أؤكد لك أن حديثه كان لذيذا ممتعا، بل أوصيك بأن تتحدث إلى حلاق «الإسفنكس» إذا ركبت «الإسفنكس».
تحدث إلي حلاق «الإسفنكس» في سياسة فرنسا وفي ساسة فرنسا من جميع وجوهها: مع ألمانيا ومع إنجلترا، في سوريا وفي الجزائر، وقارن لي حلاق «الإسفنكس» بين المذهبين الإنجليزي والفرنسي في الاستعمار، وألم لي حلاق «الإسفنكس» بطرف من سياسة الأحزاب البرلمانية في بلده، وكان حلاق «الإسفنكس» اشتراكيا من الوجهة النظرية، ولكنه يائس من مذهبه الاشتراكي، فهو كغيره من الناس في الحياة العملية، وأؤكد لك أني وجدت لذة جديدة عظيمة في الاستماع إلى حلاق «الإسفنكس»، وذكرت أول خادم فرنسية لقيتها في مرسيليا سنة 1914، فتحدثت إلي بما يشبه هذا الحديث، وتمنيت لو كنا جميعا في مصر كحلاق «الإسفنكس»! وأحسب أنا سنقطع زمنا طويلا جدا قبل أن تصل كثرتنا المطلقة من التعليم والتهذيب إلى حيث وصل حلاق «الإسفنكس».
قرأت في السفينة قصة تمثيلية صغيرة عنوانها «الملك»، وضعها الكاتبان الفرنسيان «روبير دي فلير» و«كيافيه» فضحكت لها كثيرا، وأعجبت بها كثيرا، ودعوت بالحياة للحرية كثيرا، وكنت أحب أن أحدثك عن هذه القصة، ولكن أخلاقنا السياسية والاجتماعية لا تسمح بذلك، ومع هذا فليس في القصة شيء غريب، وإنما يصف الكاتبان زيارة ملك خيالي لمدينة باريس، ويتخذان هذا الوصف سبيلا إلى تناول النظم السياسية والاجتماعية كلها بأشد النقد شناعة وأكثره مرارة، يذمان نظام الملكية، ويذمان نظام الجمهورية، ويسخران من الديمقراطية كما يسخران من الأرستقراطية، وكما يسخران من الاشتراكية. القصة هجاء شنيع للجماعة الإنسانية في كل مكان وفي كل زمان، وقد اختار الكاتبان باريس موضعا لهذه القصة؛ لأن باريس تكاد تختصر العالم الإنساني على اختلاف أزمنته وأمكنته.
لا أستطيع أن أحدثك عن هذه القصة، ولكني أستطيع أن أوصيك بقراءتها، فستجد فيها نفعا وستجد فيها لذة. ثم وصلت إلى باريس صباح أمس، فإذا الناس جميعا يلهجون بشيء واحد ، تنطق به أفواههم، وتكتب فيه صحفهم، لا يلقى أحدهم الآخر إلا سأله عنه وتحدث إليه فيه أسفا مرة أشد الأسف، معجبا مرة أخرى أشد الإعجاب، جامعا في أكثر الأحيان بين ذلك الأسف وهذا الإعجاب، وهو موت الممثلة الفرنسية «سارة برنار»، ولكنني قد أطلت، فسأحدثك عن «سارة برنار» في غير هذا المقال.
باريس في 28 مارس سنة 1923 (2) سارة برنار
تركت القاهرة يوم الأربعاء ووصلت إلى باريس يوم الثلاثاء، فإذا الناس يتحدثون بموت «سارة برنار» أو لا يتحدثون إلا بموت «سارة برنار»، وإذا كثير منهم لا يكتفي بالحزن الصامت أو الإعجاب المقتصد، بل يتحدث ويشرح ويفصل، ويروي ما سمع وما رأى، ويصف ما أحس وما شعر به حين شهد «سارة برنار» تلعب في «ذات الكاميليا» أو في «النسير» أو في «المجد» أو في غيرها من القصص، وربما تحدث عما رأى وسمع من أبهة «سارة برنار» ومجدها وافتتان الناس بها وافتتانها هي بالناس، وعما كانت تكسب من مال لا يحصى فتنفقه وتستدين، ثم تكسب فتؤدي الدين ثم تستدين من جديد، وعما كان بينها وبين كبار الناس وزعمائهم في العالمين من صلات قوية أو ضعيفة، متينة أو رثة، وعما قدم إليها الملوك من تجلة، وأهدى إليها العظماء من تكرمة، وعن جمالها الباهر، وصوتها الساحر، وأعاجيبها وألاعيبها وافتنانها في كل شيء: في الهزل والجد، في التمثيل والتصوير والنقش والكتابة والعبث، وعن هذا الضعف الشديد الذي كان يلازم جسمها فيجعل حياتها في أكثر الأحيان معلقة بين اليأس والرجاء، أقرب إلى اليأس منها إلى الرجاء، وهذه القوة المدهشة التي كانت تلازم نفسها في كل وقت من أوقاتها، وفي كل طور من أطوار حياتها؛ فتجشمها الأهوال، وتكلفها الأعاجيب، وتثب بها من أوروبا إلى أمريكا وإلى أستراليا ثم إلى مصر، ثم إلى فرنسا، ثم إلى السويد والنرويج وغيرها من بلاد الله، وتقف الناس منها موقف الحائرين الدهشين الذين يعجبون ويعجبون إلى غير حد، وهم لا يدرون بم يعجبون؟ بالذكاء النادر؟ بالجمال الباهر؟ بالصوت الساحر؟ بالقوة التي لا حد لها ؟ بالأمل الذي لا يخشى اليأس ولا يحسب له حسابا؟ بالنفس التي ليس لها مثيل ...؟ بهذا كله كان الناس يعجبون؛ سواء منهم من أحبها، وسواء منهم من أبغضها. كل بها معجب، وكل لها مكبر في كل وقت وفي كل طور.
بهذا كله كان الناس يتحدثون يوم نعيت إليهم «سارة برنار»، ومن قبل ذلك أنبأتهم الصحف بأن «سارة برنار» مشرفة على الموت؛ فجزعوا وهلعوا، وأسرعت جماعاتهم المختلفة إلى بيت المريضة فازدحمت حوله وامتلأ بها الشارع، وكان من هذه الجماعات من يتاح له الدخول إلى بيت المريضة فيسأل ويستعلم ويكتب اسمه ثم ينصرف، وكان من هذه الجماعات من لا يتاح له هذا الحظ فيرابط في الشارع يتنسم الأنباء ويتصيد الأخبار، يرى الصحفي فيسأله، ويلمح الطبيب فيستنبئه، كذلك قضى جمهور ضخم من أهل باريس يوم احتضار «سارة برنار»، فلما كان الموت لم يخل الشارع ولا البيت من هذا الجمهور، وإنما ازداد به امتلاء وازدحاما، وما هي إلا أن جهزت الميتة بجهازها الأخير حتى أذن للناس فأقبلوا على البيت أفواجا، وأخذوا يمرون أمام هذه الجثة الهامدة التي طالما بعثت فيهم الحياة يوما كاملا ثم تشييع الجنازة، فتقول الصحف: إن 600 ألف من أهل باريس اشتركوا فيه، وإن ألفين من الشرطة اشتركوا في حفظ النظام، وإن أرصفة الشوارع التي مرت بها الجثة كانت مكتظة بالناس على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم وأسنانهم، وإن الزهر كان ينثر على التابوت من أولئك الذين ثقلت بهم سطوح الدور والحوانيت وامتلأت بهم نوافذها. ولم يكن الشعب وحده المحتفل بتشييع هذه الممثلة، وإنما احتفلت به الجمهورية وبلدية باريس، وتنافستا أيهما تقوم بنفقات الجنازة، ولم تكن فرنسا وحدها المحتفلة بتشييع هذه الممثلة، وإنما اشتركت فيه أوروبا وأمريكا، ومن الملوك والملكات من أرسل إلى أسرة الممثلة يعزيها ويعطف عليها.
كان هذا كله في الأسبوع الماضي، وكنت في باريس أسمع الناس يتحدثون به، وأقرأ ما كانت الصحف وما لا تزال تكتب فيه، فكنت أسأل نفسي إلى أي حد يبلغ إعجاب الناس بالنبوغ وإكبارهم للنابغين، إذا كان هؤلاء الناس من الرقي العلمي والخلقي بحيث يفهمون النبوغ والنابغين ...؟ وكنت أذكر مصر في هذا كله، وكيف يستطيع مصري ألا يذكر مصر وأهل مصر كلما رأى أو سمع ما يبهره ويسحره! كنت أذكر مصر وأسأل نفسي: متى يتاح لمصر نابغة «كسارة برنار»؟ أو على أقل تقدير متى يبلغ أهل مصر من الرقي العلمي والخلقي ما يمكنهم من أن يقدروا نابغة «كسارة برنار»؟ لم تنبغ في السياسة، ولا في الدين، ولا في العلم، وإنما نبغت في الفن، وفي فن هو سيء الحظ جدا عند المصريين، نبغت في التمثيل الذي يزدريه أكثر المصريين، ويفهمه قليل من المصريين على غير وجهه، ولا يفهمه حقا بين المصريين إلا نفر يكادون يحصون.
لم أسمع «سارة برنار» ولم يتح لي على طول ما أقمت في باريس أن أحضرها في ملعب من ملاعب التمثيل، فلست أستطيع أن أحدثك برأيي فيها، ولست أستطيع أن أكون لي فيها رأيا، ولكني أستطيع أن أحدثك برأي الناس فيها، وبرأي الناس الذين لا يتهمون، ولا تستطيع أنت ولا أنا أن نضع آراءهم وأحكامهم موضع الشك، ولكن من «سارة برنار»؟ لا يعرف أبوها، وإنما يقولون إنها ولدت سنة 1844 في باريس أو في برلين، ولا يتفق الذين يقولون إنها ولدت في باريس على موضع ميلادها، بل إن «سارة برنار» نفسها ذكرت لهذا الميلاد موضعين مختلفين، وتحدثت أن تذكرة ميلادها قد مزقت أو ضاعت، ويقول الناس إن أباها كان هولانديا إسرائيليا تنصر، ويقول آخرون إن أباها كان فرنسيا عظيما مشتغلا بالسياسة الدولية، ويتفقون جميعا على أن أمها «جولي برنار» لم تكن تنتسب إلى أسرة مستقرة، وإنما كانت من هؤلاء الناس الرحل الذين ينتقلون من مكان إلى مكان لا يستقرون في وطن ولا يطمئنون إلى دار، كانت أمها يهودية وكان أبوها مسيحيا أو يهوديا تنصر، كان اسمها الأول «روزين برنار»، ويقال إن أباها النصراني أو المتنصر ألح في أن تكون تربيتها دينية، فنشأت في الدير، وتأثرت بحياته تأثرا شديدا حتى أظهرت الرغبة في أن تكون راهبة، ولكنها اشتركت في تمثيل قصة دينية مدرسية؛ فأعجب بها أحد من رآها «الدوق دي مورني» ونصح بأن تتخصص للتمثيل، وشملها منذ ذلك الوقت بحمايته، فذهبت إلى الكونسرڤتوار
Conservatoire (مدرسة التمثيل) ونالت فيه إعجاب أساتذتها، ولكن فوزها في المسابقة لم يكن باهرا ولا متصلا، ثم اتصلت بملاعب كثيرة مختلفة فلم تنل من الفوز ما كانت ترجو، فيئست أو كادت تيأس من التمثيل ومن فرنسا.
Page inconnue