هنا يظهر الفرق بين الأستاذ وبيني. ولإظهار هذا الفرق في الفهم والفقه والمنهج كتبت هذا الفصل الطويل. يرى الأستاذ وأصحابه أن لكل علم غاية يقف عندها، وتكمل مباحثه إلا الأدب، فهو لا ينتهي عند غاية، وإنما يزداد في كل يوم. ونرى نحن أن ليس لعلم من العلوم غاية ينتهي عندها، وأن لا أمل في أن تكمل مباحث علم من العلوم، وإنما كل شيء في العلم قابل للتغيير، واستئناف البحث عنه، والأدب أشد أنواع العلم قبولا للتغيير والتجديد.
وهنا نقف عند تعريف الأستاذ الشيخ علام للأدب وقفة قصيرة، فهو تعريف قديم يحتاج أيضا إلى التجديد. وأنا أنقل لك هذا التعريف الذي يقول عنه الأستاذ إنه موجز وإنه منطقي، فسترى أنه ليس من الإيجاز ولا المنطق في شيء. قال الأستاذ:
هو علم مأثور الكلام، منثوره ومنظومه، قديمه وحديثه، وما يتصل بذلك من أخبار بارعة، ونوادر رائعة، وملح مستعذبة، وطرف مستغربة، مع الإلمام من كل علم بأمهات مباحثه .
ولست أحفل بهذه السجعات الرائعة البارعة، فأنا أراها أقرب إلى اللغو منها إلى أي شيء آخر. ولكني أبحث عن الإيجاز في هذا التعريف فلا أظفر به. أما المنطق فلنبحث عنه معا، أيهما أديب: من حفظ مأثور الكلام نظما ونثرا ولقنه الطلاب، أم من أنشأ هذا الكلام المأثور؟ وأيهما الأدب: حفظ مأثور الكلام أم إنشاؤه؟ وإذن فما رأي الأستاذ الشيخ علام في نفسه، أأديب هو لأنه يحفظ مأثور الكلام نثرا ونظما، ويلقنه للطلاب، ولكنه ليس شاعرا ولا ناثرا؟ وإذا لم يكن شاعرا ولا ناثرا وكان أديبا، فما رأيه في شوقي أأديب هو أم غير أديب؟ وإذا لم يكن أديبا وكان الأديب هو الشاعر الناثر ليس غير، فما رأيه في نفسه وأمثاله من الذين يدرسون الأدب ويفرغون له، وفي أي طبقة من طبقات العلماء يضعهم؟ وفي أي مكانة ينزلهم؟ ألا يرى الأستاذ أن تعريفه ليس منطقيا لأنه لا يمنع ولا يجمع؟ وما معنى قوله علم مأثور الكلام؟ وهنا أحب أن أكون أزهريا، أيريد العلم بمأثور الكلام فلا يكون هو أديبا لأنه ليس من الذين ينشئون هذا المأثور؟ ونحن نستطيع أن ندور مع الأستاذ في هذه الدائرة إلى غير حد، ولكنا نقف ونلاحظ أن تعريف الأستاذ لم يغن شيئا. •••
وفي الحق أني أميل أن أقسم الأدب إلى قسمين: أدب المنشئين وأدب الناقدين الدارسين، أو قل أدب الكتاب والشعراء وأدب العلماء من المؤرخين والناقدين، فشوقي أديب، وهو الأديب حقا؛ لأنه ينتج الأدب إنتاجا، وهو أديب منشئ، ولكنه ليس عالما بالأدب لا يستطيع درسه ولا تصويره ولا تعليمه ولا تأريخه. والشيخ علام أديب ولكنه ليس أديبا منشئا؛ لأنه ليس شاعرا ولا ناثرا ولا صاحب فن، وإنما هو حافظ لآثار الكتاب والشعراء يرويها ويلقنها وينقدها، يوفق في ذلك حينا ويخطئه التوفيق حينا. والأدباء المنشئون يختلفون: فمنهم النابغة الفذ، ومنهم المتوسط، ومنهم المسف. والأدباء والعلماء يختلفون: فمنهم المجود ذو الرأي، ومنهم الآلة الحاكية أو الببغاء.
وأولئك وهؤلاء تختلف مذاهبهم في إنشاء الأدب ودرسه: فمنهم المقلد ، ومنهم المجتهد المبتكر، ومنهم من يذهب مذهب الحرية، ومنهم من يؤثر مذهب الرق، ومنهم من ينحو نحو الفلسفة، ومنهم من ينحو نحو النقل والرواية. وأين هذا كله من التعريف الذي جاء به الشيخ علام من إيجاز ومنطق كما يقول! ولكني قلت لك منذ حين إن الأستاذ الشيخ علام يمثل أنصار القديم حقا، فتعريفه قديم، ألم يعتمد فيه على ابن خلدون؟ وأسلوبه في هذا التعريف قديم، ألم يسجع كأهل القرن الرابع؟ ألم يصطنع فيه ألفاظ هؤلاء الناس؟
الأستاذ وأمثاله - كما قلت في الشعر الجاهلي - كتب قديمة متحركة أو قطع من كتب وصل بعضها ببعض.
ولنفرغ من مناقشة الأستاذ، ولنجب ماكرنا الظريف وسائله الذي اضطرنا إلى هذا العناء كله، فالأدب عندنا أدبان: أدب إنشاء، هو هذا الذي ينتجه الكتاب والشعراء من أصحاب الفن. وأدب علم ودرس، وهو هذا الذي ينتجه النقاد ومؤرخو الآداب. والأدب الأول فن كله، والأدب الثاني مزاج من الفن والعلم. وقوام الأدبين شخصية الأديب التي يجب أن تظهر في كل ما يصدر عنه ظهورا واضحا.
وقوام الأدبين أيضا اتصال الأديب بعصره اتصالا يمكن من تمثيل ذوقه الفني إن كان منشئا، وحياته العقلية إن كان ناقدا أو مؤرخا. ليس أديبا منشئا هذا الذي ينظم الشعر فلا يتجاوز ما قال القدماء في اللفظ والمعنى والأسلوب. وليس أديبا ناقدا هذا الذي يدرس الأدب فلا يتجاوز ما قال المبرد والجاحظ وأبو الفرج وصاحب العقد الفريد، وإنما الأديب المنشئ من يقرأ معاصروه أدبه فيرون فيه أنفسهم، وإنما الأديب الناقد من يقرأ معاصروه نقده فلا يشعرون بأن بينهم وبينه بعد ما بينهم وبين القدماء.
وهنا تسألني: ماذا تصنع بالقدماء؟ والجواب يسير: أصنع بالقدماء ما صنعوا هم بأنفسهم، فأنا ألتمس عصورهم في هذه المرآة، ولا ألتمس منهم العصر الذي أعيش فيه. ولقد كنت أضرب منذ أيام مثلا للأدباء من أهل مصر: ما رأي أنصار القديم لو طلبنا إليهم أن يهمل ما وصل إليه العلم الحديث في الطبيعة والطب، وأن يعتمد في كليتي العلوم والطب على إشارات ابن سينا وقانونه، أيرضون أم يصيحون ويستغيثون؟ لا أشك في أن الأستاذ الشيخ علام يستغيث بالله والناس يوم يعرف أن طب «باستور» و«كلود برنار» قد أهمل، وأن طبيبه سيعالجه منذ اليوم كما كان يعالج ابن سينا أو الحارث بن كلدة أو داود الأنطاكي.
Page inconnue