ذهبت إلى الملعب بعد ظهر يوم من أيام الآحاد الباريسية، ولم أكن قد احتطت وكان المطر عنيفا ثقيلا، فلم أجد إلا كراسي فاحشة الغلاء، فاتخذت منها كرسيين، وأعترف بأني لم آسف على ما أنفقت؛ لأني ضحكت بأكثر من ستين فرنكا!
أسرة شريفة كانت غنية ثم أصابها الفقر، تقيم في قصرها المرهون محتملة ألوانا من الضيق، ثم تصبح ذات يوم وإذا القصر قد بيع من أجنبي، وإذا هي مضطرة إلى أن تترك هذا القصر الذي تتوارثه منذ خمسة قرون. ولكن لهذه الأسرة شابا مسرفا في اللعب والعبث قد أدى واجبه الوطني أثناء الحرب، وعرف في الخندق صديقا من الطبقات المنحطة أمه تبيع الفاكهة، وقد انقضت الحرب واغتنى ابن بائعة الفاكهة حتى أصبح ضخم الثروة، فكتب إليه صديقه الشريف يقترض منه مالا لأنه خسر في اللعب، وأقبل هذا الصديق يحمل إلى صديقه ما أراد. فانظر إلى هذه الأسرة النبيلة تأبى أن تقبله في القصر، وأن تضيفه أياما، حتى إذا قبلت ذلك بعد مشقة أخذت تتبرم بالفتى وتزدريه؛ لأنه لا يعرف طرائق الحياة الأرستقراطية. وكانت عمة الشاب النبيل أشد الأسرة بغضا له وتبرما به، لا تكاد تلحظه ولا تكاد تحسب لوجوده حسابا. ولكن الفتى علم ببؤس هذه الأسرة واضطرارها إلى أن تترك القصر، فأسرع فاشتراه سرا، ثم أخذت الأسرة تظهر شيئا فشيئا على هذا السر حتى علمت به، وإذا هي ألعوبة في يد هذا الشاب الذي تزدريه ولا تضيفه إلا كارهة. ولكن هذا الشاب كريم خير؛ فهو يعرض القصر على الأسرة ولا يبتغي له إلا ثمنا ضئيلا، هو أن «يقبل» هذه المرأة التي تزدريه وتغلو في بغضه، فإذا عرض عليهم هذه الصفقة اضطربوا لها اضطرابا شديدا، فأما الأسرة كلها فتقبل، وأما هذه المرأة فتأبى وتنفر، ثم تذكر أنها قد تطرد من القصر، وأن الأسرة قد تصبح مشردة، فتضطر إلى القبول مقتنعة بأنها تقدم نفسها ضحية في سبيل الاحتفاظ بالكرامة والتراث القديم. وقد استعدت لهذه التضحية كما استعدت «إيفيجيني» لتضحي على مذبح أرتميس. ثم خلت إلى الفتى فوقفت موقف الجلال، وقالت له في ازدراء وسخرية وإذعان للقضاء المحتوم: «قبلني.» ولكن الفتى كريم، فهو لا يريد أن يقبل هذه المرأة، وإنما يكفيه أنها قد أذعنت لما يريد، وهو مستعد لأن ينزل للأسرة عن هذا القصر. ولكن المرأة قد دهشت لهذا الانصراف عن تقبيلها، وكأنها تعجب بكرم هذا الفتى، وكأنها في الوقت نفسه تسخط على هذا الكرم، وكأنها كانت تحرص على هذه القبلة دون أن تعلم بهذا الحرص، وكأنها ترى عدول الفتى عن تقبيلها إهانة لها وإصغارا لجمالها. تشعر بهذا كله شعورا واضحا غامضا في وقت واحد.
وكنت ترى الفتى يكره هذه المرأة ويريد أن يذلها. ولكنك تراه الآن لا يكرهها بل يكبرها، ولا يريد أن يذلها بل يريد أن يجلها، وإذا هو يعلن إليها حبه في هذه اللغة الشعبية الغليظة الصريحة، وإذا هي تضطرب لهذا الحب اضطرابا عنيفا، وإذا الحب قد أزال ما كان بينهما من مسافة مادية ومعنوية، وإذا هو يتجاوز القبلة، فإذا كان الصبح فهي آسفة نادمة تنقطع لوعة وندما لأنها اقترفت هذا الإثم مع رجل ليس من طبقتها، وهي تعلم أن نساء من أسرتها قد اقترفن هذه الخطيئة، ولكن إحداهن اقترفتها مع رجل من رجال القصر الملكي والأخرى مع كردينال، أما هي فقد اقترفتها مع رجل أمه كانت تبيع الفاكهة. وهي تريد أن تأخذ نفسها بأشد أنواع العقوبة، تريد أن تزهد في الحياة وأن تذهب إلى الدير، والفتى بين يديها يعتذر ويستغفر، ويعلن إليها في ضراعة ومذلة أنه سيبرح القصر حتى لا ترى وجهه البغيض، فإذا سمعت هذه الجملة غضبت غضبا لا حد له وعنفت الفتى تعنيفا ثقيلا قائلة: أهكذا تريد أن تسليني عن هذه النكبة المنكرة؟! ثم فهمنا أنها تريد نوعا آخر من أنواع التسلية، وفنا آخر من فنون النسيان والعزاء ...!
ولست أتم لك تلخيص القصة ، وإنما يكفي أن تعلم أنها تنتهي بالزواج بين هذين المحبين؛ لأن شريفا إنجليزيا تبنى الفتى ومنحه ألقاب شرفه، فأصبح كفئا لعشيقته.
ولم تبنى الشريف الإنجليزي هذا الفتي؟ لا تسل عن ذلك؛ فقد يكون في الجواب على هذا السؤال ما يفضح أم هذا الفتى وقد ماتت؛ ولا ينبغي أن يذكر الموتى إلا بخير.
على أني قد زرت ملاعب أخرى وشهدت فيها قصصا أخرى، وسأتحدث عنها في فصل آخر. (6) زوج ألين
كنت أريد أن أضحك حين ذهبت إلى ملعب ميشيل لأشهد تمثيل هذه القصة «زوج ألين»، وكنت واثقا بأنني سأضحك وسأضحك كثيرا؛ لأن العنوان في نفسه مضحك، ولأن القصة كانت تمثل لأول مرة، فلم يكن النقاد قد كتبوا عنها بعد، ولأن أسماء الممثلين الذين اشتركوا في تمثيلها كانت تدل على طائفة من الذين مهروا في الفن المضحك. فأسرعت إلى الملعب مبتهجا، وكأني كنت أضحك مقدما، وكذلك شأن الناس في باريس يذوقون مقدما ما يبتغون من لذة؛ لأنهم يعلمون أن هذه اللذة ستكون قوية حادة، وأنهم سيظفرون منها بأكثر مما يبتغون.
ذهبنا إلى الملعب ضاحكين، ولم يكد يرفع الستار حتى أغرقنا في الضحك، ولكن ما هي إلا دقائق حتى استحال هذا الضحك إلى حزن وعبوس، وحتى أحسسنا في أنفسنا شعورا غريبا ليس من اليسير تفسيره؛ لأنه شيء ليس بالسرور الخالص ولا بالحزن الخالص، أو قل إنه شيء أبلغ أثرا في النفس من الحزن الخالص، ولكنه يكرهك مع ذلك على الابتسام، وربما أكرهك على الضحك والإغراق فيه. تبسم وأنت عابس، وتضحك وأنت محزون.
ذلك لأن الممثل يعرض عليك من خصال الإنسان ما يضحكك مظهره أردت أم لم ترد، وما يحزنك مخبره رضيت أم لم ترض.
لا يكاد يرفع الستار حتى ترى امرأة متقدمة في السن، أقرب إلى الشيخوخة منها إلى التوسط في العمر، لباسها ملائم لسنها وملائم لمصدرها ولطبقتها الاجتماعية، فلا تكاد تسمع حديثها حتى تحس أنها ليست من باريس، وإنما وفدت من الأقاليم، وحتى تفهم أنها من هذه الطبقة الغامضة التي لا تبلغ أوساط الناس ، ولا تريد أن تنحط إلى سفلتهم. قد مات عنها زوجها وترك لها ابنة هي «ألين»، وهي بارعة الجمال، رشيقة القد، عذبة الصوت، وقد ضاقت الحياة بها وبابنتها، فلجأتا إلى باريس، وآواهما رجل موسيقي بارع في فنه، ولكنه سيئ الحظ بهذا الفن، لا يكسب حياته إلا بمشقة، أحب الفتاة فآواها وآوى أمها، وأصبح أستاذها وعشيقها والقيم على حياتها. وقد مهرت الفتاة في الغناء كما مهرت في الرقص، وتقدمت إلى أحد الملاعب الباريسية، فقبلت فيه مغنية راقصة، وهي تبدأ عملها هذه الليلة وأمها تنتظرها متأثرة، مضطربة فرحة، مشفقة تقدر الفوز وتريد أن تحتفل به، فهي تعد مائدة عليها من الطعام والشراب هذه الألوان التي لا يرضاها الموسرون، ولا يظفر بها المعسرون إلا بعد الجهد والعناء، وهي تتحدث بكل ما في نفسها إلى خادم لها حديثة السن، خفيفة الحركة، مسرفة في القول، فلا تكاد تسمع حوارهما حتى يأخذك الضحك فتغرق فيه حين ترى هذه المرأة التي تكاد تكون شيخة تتحدث في لهجة الجد إلى هذه الفتاة التي تكاد تكون طفلة! وهما في هذا الحديث الذي تريانه جدا ونضحك نحن منه، إذ يدخل الموسيقي فرحا، قد ملأه الفرح اضطرابا، فهو يبكي ولكن بكاءه نفسه مضحك، وهو يعلن إلى الأم فوز ابنتها ويحاول أن يمثل لها هذا الفوز، فيجتهد في تقليد الفتاة حين غنت بعض المقطوعات التي أعجب بها الجمهور، والأم سعيدة مغتبطة، ولكنها مع ذلك ليست راضية؛ لأنها تكره الملاهي، وكانت تود لو استطاعت أن تجد عنها منصرفا لابنتها. أما الموسيقي فسعيد بهذا الفوز ولكنه مشفق منه؛ مشفق لأنه يخشى أن تنصرف الفتاة عنه إلى هؤلاء النظارة الأغنياء الذي سيرونها في الملهى وسيتملقونها.
Page inconnue