De la littérature dramatique occidentale
من أدب التمثيل الغربي
Genres
وإذا هو يحاول أن يغري الفتاة بنفسه، وقد كان يخاف أن تتهالك عليه الفتاة، وإذا هو يرى الفتاة ترده عن نفسها ردا، رفيقا ولكنه حازم، وإذا هو ينهض معتذرا معترفا بضعفه، وفساد سيرته وسوء مستقبله في كل ما يمس السعادة الراقية النقية مستعطفا على صديقه محسنا الدفاع عنه، منتهيا آخر الأمر إلى حمل الفتاة على شيء إن لم يكن هو الرضى فهو قريب من الرضى. وإذا هو يفتح هذا الباب المغلق ويدعو صديقه، فإذا أقبل تلقاه بهذه الجملة: لقد كانت تريد أن تفرغ لابني أختها الصبيين، ولكنها قبلت أن تفرغ لك. فيدنو الفتى منها هائما، ولكنها ترده عن نفسها في رفق وتجلس مفكرة قد أخفت وجهها بين يديها، والفتى يهمس في أذن صديقه: ستعنى أنت بأمر هنرييت. فيجيبه الصديق: ليس من ذلك بد.
مدرسة أبناء الخمسين
أما قصة اليوم فسيرة ضئيلة لا تحتمل نقدا ولا تحليلا، ولا تحتاج من القارئ إلى روية أو تفكير، إنما هي حديث سهل عذب فيه فكاهة حلوة، وفيه حزن شاحب مر، ولكن مرارته لا تبلغ الألم الممض، وإنما تحمل بعض الناس على أن يلتفتوا إلى ما مضى من أيامهم، ثم ينظروا إلى ما يستقبلون من هذه الأيام، وقد أحسوا أسفا خفيفا ولكنه مقيم، فيه إذعان لما لا بد من الإذعان له من هذا السلطان الصارم الحازم؛ سلطان القضاء.
ولم ينظم الشاعر قصته هذه الصغيرة ليعظ ولا يهدي، ولا ليكون صاحب فلسفة وأخلاق، ولا ليقصد إلى شيء من هذه المقاصد التي يتوخاها أصحاب التمثيل حين يريدون الوعظ والإرشاد أو التصوير وتسجيل الحقائق. وإنما قصد إلى دعابة مريحة يتخفف بها من أثقال الحياة ويتيح لغيره من النظارة أن يتخففوا بها من أثقال الحياة ساعة من ليل أو ساعة من نهار. ومن أجمل ما يدخر الأدب للناس أنه يستطيع أن يكون مريحا مسليا، لا يشق عليهم ولا يكلفهم جهدا، ولكنه يمنحهم لذة هادئة لا تكاد تشغلهم عن أنفسهم، ولكنها مع ذلك تصرفهم عن همومهم وتنسيهم أحزانهم بعض الشيء.
وهذه القصة فصل من فصول هذا الأدب الهادئ المريح. والفرنسيون يحسنون هذا الفن من فنون الأدب ويتصرفون فيه تصرفا خصبا كثير التنوع في التمثيل وغير التمثيل من القصص القصيرة، ومن هذه المقطوعات الشعرية التي تمتعك وتسليك دون أن تكلفك مشقة أو جهدا. وقد حدثتك منذ حين عن كاتب فرنسي عظيم خالد برع في هذا النحو من التمثيل المريح، هو كورتلين، والكاتب الذي أحدثك عنه اليوم والذي حدثتك عنه في الأسبوع الماضي هو نظير كورتلين وشريكه في هذا النحو من الأدب. ولست أكره أن ألم بهؤلاء الكتاب بين حين وحين ، فقد يحسن التنويع في هذه الأحاديث، وقد يحسن بنوع خاص أن نفتح لشبابنا أبوابا متفرقة من الأدب لعلهم أن يدخلوا من بعضها في يوم من الأيام.
ونحن حين يرفع الستار عن هذا الفصل الفذ في بهو فندق من الفنادق الكبرى مشرف على البحر، أو على المحيط في مدينة من مدن البحر أو مدن المحيط. ونحن نرى القادمين يصلون إلى الفندق ويطلبون إلى الخادم ما يحتاجون إليه؛ هذا يطلب الثقاب، وهذا يطلب لفافات التبغ، وهذا يطلب الدواة والقرطاس، والخادم مسرع يجيبهم إلى ما يريدون في رشاقة وخفة ونشاط. ولكننا نرى أخوين قد تقدمت بهما السن، أحدهما رجل هو جاك وقد نيف على الخمسين، والأخرى امرأة هي كرستين، وقد تجاوزت طور الشباب. وفي الرجل بقية من نشاط ومرح، وعلى أخته مسحة من جد وتحرج. وقد أرادت الأخت أن تخلو إلى أخيها، فلما بلغت من ذلك ما تريد قالت له لائمة: لقد رآك من رآك في الغابة أمس. فيقول مداعبا: نعم، إني أفر إليها من هواء الساحل أحيانا. فتقول الأخت: ولكنك كنت سعيدا ولم تكن وحيدا، وإنما كانت معك هذه الفتاة التي كنت تأخذ بيدها. فيجيبها ماضيا في الدعابة: لعلي لقيتها في بعض الطريق. فتقول: منذ ثلاثة أعوام؟ فيجيب: بل منذ عامين.
وهنا تمضي أخته في لومه لأن هذا العبث لا يليق بسنه ولا بمكانه في المدينة. أما هو فلا يرى بذلك بأسا لأنه لم يبلغ الشيخوخة بعد، ولكنه في طريقه إليها ومن حقه أن يلهو ما دام قادرا على اللهو. فإذا زعمت له أخته أنه لا يليق أن يلقى هذه الفتاة ولا مصادفة، قال لها مداعبا: إذن فينبغي أن تنصرفي لأنها ستأتي بعد حين.
وقد انصرفت أخته مغضبة وخلا هو إلى نفسه، فهو يتحدث إليها في صوت عال لأنه يريد أن تسمعه، وهو يتحدث عن أخته التي يحبها ولكنه يضيق بها؛ يحبها لأنها أخته ولأنها طيبة القلب، ولأنها تحسن تدبير البيت وتهيئة المائدة، وتكفل له حياة مريحة يملؤها النعيم، ويضيق بها لأنها تراقبه وتثقل عليه وتدخل فيما لا يعنيها من أمره. ثم هو يحدثنا عن نفسه، فهو في السادسة والخمسين من عمره لم يشخ قلبه بعد، ولم يفتر جسمه عن المرح واللهو، ولكن آيات ظاهرة تدل الناس على سنه وتحملهم على أن يراقبوا ويسخروا منه ويلوموه إن تجاوز الوقار. وقد ماتت امرأته وتزوجت ابنته، وهو غني لا عمل له، وإذن فماذا يصنع بالحياة، وبم يستعين على الحياة؟ بشيء من اللهو. وهو يلهو، ولكن الناس ينغصون عليه لهوه بهذا اللوم الذي يلقونه به حينا، ويسرونه من دونه حينا آخر. وهو يحدثنا عن صاحبته، فهي فتاة في العشرين من عمرها جميلة رائعة الجمال ذكية حادة الذكاء، قد اختلفت إلى المدرسة، ثم إلى معهد التمثيل، وهي متقنة للتاريخ، وهي من هذه الطبقات الذكية القوية الفقيرة، التي تنبت في أحياء الفقراء من باريس. وهو يحدثنا بهذا كله في شعر سهل حلو، لا يتكلف له لفظا مختارا، وإنما يرسل لسانه على سجيته فيأتي باللفظ المنتقى وباللفظ المبتذل الشائع، وفي صوته حنان حزين كأنه يتغنى غناء هادئا مريحا. ثم هو ينهض إلى النافذة فينظر إلى البحر ويطيل النظر. ثم هو يلاحظ أن صاحبته قد أبطأت عليه، وأن سنها تبيح لها التأخر عما تضرب من المواعيد، وأن سنه تفرض عليه الانتظار والانتظار دائما. ولكن صاحبته كلارا قد أقبلت، فهو يلقاها باسما، وهو يدعوها إليه في لفظ ظريف رقيق تملؤه الدعابة ذات المعنى، فهو يذكر لها أن قلبها وفي دقيق في الوفاء، ولكن ساعتها لا تأمن الاضطراب والاختلاط.
فإذا سألته الفتاة عما يصنع؛ أنبأها في شعر جميل بأنه ينظر إلى نفسه في مرآة البحر، ثم مضى يصف البحر وصفا ظريفا حقا، ويشبهه ألوانا من التشبيه؛ منها الرائع، ومنها الذي يضحك أو يثير الابتسام. وانظر إليه يشبه انتظام المد والجزر بانتظام الموظفين حين يذهبون إلى الوزارات وينصرفون عنها.
وهو يمضي في هذا الشعر، ولكن الفتاة معرضة عنه لا تسمع له، فإذا سألها عن رأيها فيما يقول طلبت إليه في سخرية أن ينبئها إذا فرغ من حديثه؛ فإن لديها شيئا ذا بال تريد أن تعرضه عليه، وهو يستمهلها لحظة لأنه مفتون بهذا الموقف الشعري، يرى جمال البحر الرائع أمامه، ويرى جمال صاحبته إلى جانبه، ويرى نفسه تواقة إلى أن تمتلئ بهذين الفنين من فنون الجمال، ثم يفرغ للفتاة بعد حين، وإذا هي تنبئه بأن ابنته قد أقبلت إلى المدينة، وبأنها هي تخشى الفضيحة وحديث الناس، وتريد أن تسافر مع الظهر. وهي تقدر شعور الأسرة وما يفرضه هذا الشعور على صاحبها من التزام الحشمة والاحتفاظ بالوقار، وهي لا تحب لصاحبها أن يعق أسرته، أو يزدري الواجب أو يخرج على التقاليد. ولكنه هو ثائر لا يقبل أن تكلفه الأسرة وتقاليدها ما لا يحب، وهو مصر على أن يحتفظ بحب الفتاة ولقائها جهرة في هذه المدينة إن أقامت، وفي غير هذه المدينة إن سافرت.
Page inconnue