فأرسل الشيطان ضحكة خبيثة ساخرة، وسأل: وكيف تحقق هذه الأعجوبة أيها الصغير العمي؟ - بالحب، وبالحب وحده، بالحب الذي يجب أن يظل عماد العقل ورائده، فنحن هنا في لبنان، على الرغم من سخريتك، في بلاد الرسل والأنبياء والآلهة، نحن في بلاد الحب، وستكون رسالتنا أبدا أن نغذي البشرية من معينه، ونذكرها بكرامتها، ونسير أمامها في طريق الخير.
فإذا قرون طويلة تنبت في رأس الشيطان، وأظافر فولاذية تمتد من أطراف أصابعه، وإذا لهب يتدفق من فيه وأنفه، وإذا به يهجم على الشاعر فيغرز فيه قرونه وأظافره ويغمره باللهب، وإذا أغنية تشيع في الأجواء: ما بدا لك أيها الشيطان، فلن تقضي على سلالة حملة المشاعل في لبنان ولا على رسالة الحب.
ملكرت
بين الآثار التي اكتشفها العلماء أخيرا في رأس شمرا مذكرات شاعر نقتطف منها هذه الصفحة، قال:
أشهد أني ما حلمت قبل حلما كهذا، فقد كنت أسير على الشاطئ ميمما صور، وإذا أمامي فتى مديد القامة، أسمر الوجه، رقيق العينين، أسود الشعر مسترسله، عريض الجبين، مفتول العضلات، متناسق التركيب، دقيق المفاصل، صغير القدمين، طويل الأنامل، متمنطق برداء أرجواني، تشع القوة والأناقة والعزم منه، فبهت لمرآه وأخذت أحدق إليه بشيء من الإعجاب والتساؤل: من عساه يكون هذا البطل؟ ألعله ملك من ملوك الساحل أو قائد من قواد مصر العظام، أو لعلني أحلم ...؟ وتقدم الفتى نحوي مبتسما، وقال: أنا ملكرت. - ملكرت إله البحر؟ رب الموج؟ ... ملكرت أسطورة جميلة، خلقتها مخيلة أجدادي، ملكرت طيف حلو رائع، لا شيء إلا طيف، فكيف تكون أنت ملكرت؟ - أنا ملكرت معبود أجدادك، أفلا ترى أنهم كانوا على حق في ما يعبدون؟
أنا أسطورة، وأنا جميل ورائع وقوي؛ لأني أسطورة.
أنا حلو أزلي أبدي؛ لأني طيف.
تتراكم الحوادث على مخيلة البشر في هذا الشاطئ الجميل، فتعصف الأيام وتكر فتمحوها، وأبقى أنا طافيا معتصما بشراعي أملأ ذكرياتهم وأترنح في صدورهم وأتردد على أفواههم كلما نظروا إلى هذا البحر، وكلما خفق شراع أو تهادى مركب. - أنت ملكرت ... أنت إذن ملكرت.
وأحسست أن إيمانا قديما يستيقظ في داخلي بعد أن رقد آلاف السنين: وأين أنت اليوم؟ أين أنت؟ ... لا يراك أحد ولا يسمع صوتك أحد، لقد تناساك بنو قومي كأنك ما كنت، وكأنك مت مع من مات وفنيت مع من فني، وكأن لم يخفق لك شراع ولم يزحف لك مركب على ماء.
فضحك الفتى حتى هاج البحر وماج واقتحم الرمال وتكسرت أمواجه عند قدميه وقدمي.
Page inconnue