منهجية التأليف في السيرة عند ابن كثير
منهجية التأليف في السيرة عند ابن كثير
Maison d'édition
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
Genres
مقدمة:
جاء ابن كثير في عصر نشط فيه التأليف في كل فن من فنون الدراسات الدينية والعربية، ومن الطَّبَعي أن يكون التأليف في ميدان السيرة النبوية مواكبًا لهذا النشاط الذي استقى موارده ونصوصه من الثروة الضخمة من الكتب والآراء والروايات التي سجلها العلماء والمحدثون والحفاظ قبل ذلك العصر.
لقد شهد القرن الثامن الهجري في مصر والشام المملوكيتين، ظهور عدة مؤلفين في مجال السيرة النبوية، أخرجوا مؤلفاتهم في هذا الفن على نحوٍ مفرد أو ضمن مؤلف موسوعي كبير.
ومن هؤلاء المؤلفين "عبد المؤمن بن خلف الدمياطي" (ت:٧٠٥هـ) وله كتاب: "المختصر في سيرة سيد البشر"، وكتاب "أسماء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم" (١)، وشيخ ابن كثير كمال الدين بن الزملكاني (ت:٦٢٧هـ) .
_________
(١) صلاح الدين المنجد: معجم ما ألف عن رسول الله ﷺ. بيروت، دار الكتاب الجديد، ط١، ١٤٠٢هـ، ص:١٢٥-١٤٣.
1 / 5
وله كتاب في مولد النبي ﷺ، أشار إليه ابن كثير، وذكر أنه تضمن شيئًا في فضائل النبي ﷺ وأنه عقد فصلًا في هذا الباب فأورد فيه أشياء حسنة، ونبَّه على فوائد مهمة، وترك أشياء أُخر حسنة (١) .
ومن المؤلفين كذلك، ابن سيد الناس: محمد بن محمد بن سيد الناس الأندلسي الإشبيلي، ولد بالقاهرة سنة (٦٧١هـ)، وتفقه على مذهب الشافعي، من شيوخه، والده، وابن دقيق العيد (ت:٧٠٢هـ) (٢) والحافظ المزي، وشيخ الإسلام ابن تيمية (٣) .
ألَّف في السيرة "عيون الأثر في فنون المغازي والسير". ومن ميزات هذا الكتاب تلك الدراسة النقدية التي جاءت في مقدمة الكتاب عن أبرز من ألَّف في السير والمغازي من الرواة الإخباريين، وهما: ابن إسحاق والواقدي (٤)، إضافة إلى شرحه للغريب من الألفاظ وذكره للفوائد والتعليق على بعض المتون (٥) .
_________
(١) البداية والنهاية. تحقيق عبد الله التركي بالتعاون مع مؤسسة البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر. القاهرة، ط١، ١٤٢٠؟، ج٩، ص:٣٠٨.
(٢) ابن كثير: المصدر السابق، ج١٨، ص:٣٧٢-٣٧٣.
(٣) انظر: الصفدي: صلاح الدين خليل بن إيبك (ت:٧٦٤؟): أعيان العصر وأعوان النصر، تحقيق علي أبو زيد، دمشق. دار الفكر، ط١، ١٤١٨؟، ٥/٦٥٣.
(٤) ج١٠، ص: ٨-٢٨.
(٥) انظر على سبيل المثال: ١/١٩١، ١٩٩، ٣٠٢، ٢/٢٠٥.
1 / 6
ومن المؤلفين الشاميين قطب الدين عبد الكريم بن عبد النور الحلبي (ت:٧٣٥هـ) وله "المورد العذب الهني في الكلام على سيرة عبد الغني" (١) .
ومحمد بن أحمد بن عبد الهادي (ت:٧٤٤هـ) وهو من تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية، والمزي، والذهبي، وقد ألف في السيرة جزءًا في مولد النبي ﷺ، وجزءًا في المعجزات والكرامات (٢) .
ليس مهمًا رصد ما ألف في السيرة في عصر ابن كثير بقدر ما يهمنا معرفة مدى التنوع والجدة في العرض ومقدرة أولئك المؤلفين على تنقية الروايات وتمحيصها وتجاوز صناعة الجمع والاقتباس إلى النقد والتقويم.
لقد شهدت بلاد الشام ظهور مدرسة اجتهادية تأسست على علوم الحديث والسنة وعلى صحيح المنقول وصريح المعقول، مثَّلها الإمام المجتهد ابن تيمية (ت:٧٢٨هـ) وتلاميذه وأبرزهم الذهبي وابن القيم وابن كثير. إضافة إلى الإمام الحافظ المزي (ت:٧٤٢هـ) وغيرهم من الأئمة المجتهدين، وقد جمع رموز هذه المدرسة بين التمسك بالنصوص والعقلية النقدية.
_________
(١) المنجد: معجم ما ألف عن رسول الله ﷺ، ص: ١٢٨، وعبد الغني هو عبد الغني بن عبد الواحد الجماعيلي، الإمام الحافظ (ت:٦٠٠؟)، الذهبي: سير أعلام النبلاء، ج٢١، ص:٤٤٣-٤٤٨.
(٢) ابن رجب: زين الدين بن رجب الحنبلي (٧٩٥؟): الذيل على طبقات الحنابلة، بيروت، دار المعرفة، ج٢، ص:١٣٨.
1 / 7
ومن مصنفات الذهبي وابن القيم، وكذلك ابن كثير تتجلى تأثيرات هذه المدرسة حيث يلمس الدارس العناية بتنقية الأخبار وتمحيصها ونقد متونها، فالذهبي: أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان (ت:٧٤٨هـ)، يُعدُّ من أبرز علماء عصره الذين ألفوا في تاريخ الإسلام على نحوٍ عام، وقد جاء ما دونه في السيرة النبوية مضمنًا في كتابه الشامل "تاريخ الإسلام ووفيات المشاهير والأعلام" موزعة على جزأين: الأول "المغازي"، والثاني "السيرة النبوية"، وهو الترجمة النبوية، وقد قدَّم المغازي؛ لأنَّ من منهجيته تقديم الحوادث التي أسهم فيها صاحب الترجمة على الترجمة ذاتها (١)، وينبه الذهبي على ما ينتاب بعض الأسانيد من ضعف ونكارة، كقوله بعد إيراده رواية البراء في خبر سواد بن قارب، هذا حديث منكر بالمرة، ومحمد بن تراس وزياد مجهولان لا تقبل روايتهما وأخاف أن يكون موضوعًا على أبي بكر بن عياش، ولكن أصل الحديث مشهور (٢) .
ومن نقده الموجه للمتن: نقده لرواية عبد الرحمن بن غزوان (٣) بسنده إلى أبي موسى الأشعري في سفر النبي ﷺ إلى الشام بصحبة أبي طالب،
_________
(١) محمد محمود حمدان، مقدمة تحقيق المغازي من تاريخ الإسلام للحافظ الذهبي، القاهرة، دار الكتاب العربي، ط١، ١٤٠٥؟، ص:٣٥، عبد السلام تدمري، مقدمة تحقيق "السيرة النبوية" من تاريخ الإسلام، بيروت، ١٤٠٧؟، ٢/٥٨١.
(٢) تاريخ الإسلام "السيرة النبوية" تحقيق، عبد السلام تدمري، ص:٢٠٦.
(٣) عبد الرحمن بن غزوان، أبو نوح حدَّث عنه أحمد، له مناكير، توفي سنة (٢٠٧؟) ببغداد، الذهبي: ميزان الاعتدال في نقد الرجال، تحقيق علي البجاوي، بيروت، دار المعرفة، ج٢ ص٥٨١.
1 / 8
وأشياخ من قريش ولقائه بحيرى الراهب (١)، وهو نقد مشهور، استند إلى معايير تاريخية وعقلية وحلل الخبر تحليلًا علميًا من جميع جوانبه في أحداثه وألفاظه ودلالاته، واستخدم عقله والأدلة التاريخية ليثبت بطلانه (٢)، وهي خطوات تنبئ عن تمكن الذهبي العلمي ورسوخ قدمه في ميدان نقد متون الروايات.
وفي كتبه الأخرى ناقش الذهبي العديد من الروايات في ميدان السيرة النبوية، ففي ميزان الاعتدال، ردَّ رواية عمر بن حَكَّام عن شعبة بسنده إلى أبي سعيد الخدري وفيها أن ملك الروم أهدى إلى رسول الله ﷺ هدايا فكان فيها جرة زنجبيل.
قال الذهبي: هذا منكر من وجوه:
أحدها: أنه لا يعرف أن ملك الروم أهدى شيئًا إلى رسول الله ﷺ.
ثانيها: أن هدية الزنجبيل من الروم إلى الحجاز شيء ينكره العقل فهو نظير هدية التمر من الروم إلى المدينة النبوية (٣) .
ورد قول من قال: إن سلمان الفارسي صاحب رسول الله ﷺ عُمِّر ثلاثمائة سنة، يقول معقبًا على هذا القول: "ومجموع أمره وأحواله وغزوه وهمته وتصرفه وغرسه للجريد وأشياء مما تقدم تبيِّن بأنه ليس بمعمر ولا
_________
(١) تاريخ الإسلام، السيرة النبوية، تحقيق عمر عبد السلام تدمري، بيروت، ١٤٠٧هـ، ص:٥٧.
(٢) راجع: بشار عواد معروف: الذهبي ومنهجه في كتابه "تاريخ الإسلام"، القاهرة، مطبعة عيسى البابي الحلبي، ط١، القاهرة، ص:٤٥٦-٤٥٧.
(٣) ٣/٢٥٤.
1 / 9
هرم فقد فارق وطنه وهو حَدَث ولعله قدم الحجاز وله أربعون سنة أو أقل. فلعله عاش بضعًا وسبعين وما أراه بلغ المائة" (١) .
وقد نظر الذهبي إلى الموضوعات على أنها عبء كبير على السيرة، وأخذ على القاضي عياض (ت:٥٤٤هـ) مؤلف كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" ما في كتابه من أحاديث مفتعلة واهية، حيث قال عنه: "حشاه بالأحاديث المفتعلة، عمل لا نقد له في الحديث ولا ذوق، والله يثيبه على حسن قصده، وينفع بشفائه، وقد فعل، وكذا فيه من التأويلات البعيدة ألوان، ونبينا ﷺ غني بمدحه التنزيل عن الأحاديث، وبما تواتر من الأخبار عن الآحاد، وبالآحاد النظيفة الأسانيد عن الواهيات، فلماذا يا قوم التشبع بالموضوعات فيتطرَّق إلينا مقال ذوي الغل والحسد ولكن من لا يعلم معذور" (٢) . ويرى الذهبي أن الموضوعات والأخبار الواهية لا يلتفت إليها بل تروى للتحذير منها: "فمن دلَّسها أو غطى تبيانها فهو جانٍ على السُنَّة خائن لله ورسوله، فإن كان يجهل ذلك، فقد يعذر بالجهل ولكن سلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون" (٣) .
وقد عاصر ابن كثير كذلك، ابن القيم: محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي (٦٩١-٧٥١هـ) .
_________
(١) سير أعلام النبلاء، ج١، تحقيق شعيب الأرنؤوط، بيروت، ١٤١٤هـ، ص:٥٥٦.
(٢) سير أعلام النبلاء، ج٢٠، تحقيق شعيب الأرنؤوط ومحمد نعيم عرقوسي، ص:٢١٦، بيروت، ١٤١٧هـ.
(٣) سير أعلام النبلاء، ج٨، تحقيق شعيب الأرنؤوط ونذير حمدان، بيروت، ١٤١٧هـ، ص:٥٢٠.
1 / 10
ويعد ابن كثير من أقرانه وأصحابه، يقول عنه: "كنت من أصحب الناس له وأحب الناس إليه" (١)، وهذا القول يبين أن الشيخين إنما كانا صاحبين يلازمان أمثال ابن تيمية والمزي، لكن بعض المعاصرين يرى أن ابن كثير من تلاميذ ابن القيم (٢)، وعلى كلٍ فثمة عناصر جمعت بين الرجلين، ثقافة ومنهجًا، بالإضافة إلى التلمذة، على شيخ الإسلام ابن تيمية وقد كان الشيخان ضمن بعثة العلماء إلى الحج سنة ٧٣١هـ (٣) .
ألف ابن القيم في السيرة كتابه المتميز "زاد المعاد في هدي خير العباد" ويعدُّ موسوعة جمعت بين علوم شتى من السيرة والفقه والتوحيد واللطائف في التفسير والحديث والفقه وغير ذلك.
ويرى بعض الباحثين أنه أول كتاب في فقه السيرة، تميز هذا الكتاب بالموضوعات التي طرقها والآفاق التي نقل قارئه إليها من خلال كتابه، والجوانب الجديدة التي تناولها (٤)، وقد تميز كذلك بنقده لمتون كثيرة يرويها كُتَّابُ السيرة ورواتها.
فمن ذلك رواية يونس بن بكير عن سلمة بن عبد يسوع، أن رسول الله ﷺ كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس ﴿إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ
_________
(١) البداية والنهاية، ج١٨، ص:٥٢٣، ويلاحظ أنه (ابن كثير) وصفه في الترجمة له بـ (صاحبنا الإمام) .
(٢) بكر عبد الله أبو زيد: ابن قيم الجوزية حياته وآثاره، ص:١٠٨، وانظر الندوي، الإمام ابن كثير سيرته ومؤلفاته ومنهجه في كتابة التاريخ، دمشق، دار ابن كثير، ط١، ١٤٢٠هـ، ص:٥٧.
(٣) ابن كثير: البداية والنهاية، ص:٣٥٤.
(٤) فاروق حمادة: مصادر السيرة النبوية وتقويمها، الدار البيضاء، دار الثقافة، ط١، ١٤٠١هـ، ص:١٠٨.
1 / 11
وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [النمل:٣٠] يعني النمل، باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب.
قال ابن القيم: ذلك غلط على غلط فإن هذه السورة مكية باتفاق وكتابه إلى نجران بعد مرجعه من تبوك (١) .
ورَدَّ رواية الترمذي أن رسول الله ﷺ دخل مكة يوم الفتح وعبد الله ابن رواحة بين يديه ينشد (خلوا بني الكفار عن سبيله.. الأبيات..) .
قال ابن القيم: هذا وهم، فإن ابن رواحة قتل في هذه الغزوة (مؤتة) وهي قبل الفتح بأربعة أشهر (٢) .
ويرد ابن القيم على رواية عرض أبي سفيان على رسول الله ﷺ الزواج من ابنته أم حبيبة ﵂ قائلًا: "إن أهل التاريخ أجمعوا على أن رسول الله ﷺ تزوج أم حبيبة قبل إسلام والدها بزمن طويل"، ويرد على من ذهب إلى أن النبي ﷺ تزوج أم حبيبة بعد الفتح، فيقول: "هذا باطل عند من له أدنى علم بالسيرة وتواريخ ما قد كان" (٣) .
وثمة روايات أخرى حاكمها ابن القيم محاكمة نقدية كاشفًا ما فيها من تناقضات وأوهام كرواية البيهقي التي أسندها إلى محمد بن إسحاق، وفيها أن رسول الله ﷺ أبلغ حذيفة بالمنافقين الذين حاولوا المكر بالنبي
_________
(١) زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق شعيب الأرنؤوط وعبد القادر الأرنؤوط، ٣/٦٤٢.
(٢) زاد المعاد، ٣/٣٨٥.
(٣) زاد المعاد، ١/١١٠.
1 / 12
ﷺ وهو عائد من تبوك، وفي الخبر قال: ادع عبد الله بن أبي وسعد أبي السرح، والروايات التي ذهبت إلى القول بأنَّ سَرِيَّة الخبط وأميرها أبو عبيدة بن الجراح إنما وقعت في رجب سنة ثمان للهجرة (١) .
_________
(١) المصدر نفسه، ٣/٣٩٠.
1 / 13
تمهيد:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:
فقد مر جمع السيرة النبوية وتدوينها بمراحل، في كل مرحلة برز مجموعة من الرواة والكتاب والمصنفين الذين تصدوا للتأليف في هذا الفن ذي الصلة بذات المصطفى ﷺ وتاريخ حياته.
لقد كانت السيرة النبوية محط أنظار المسلمين في القرن الأول، وجاء تدوين أخبارها بصورة أولية على يد مجموعة من علماء التابعين، كعروة ابن الزبير (ت:٩٤هـ) والزهري (ت:١٢٤هـ) ثم جاء ابن إسحاق (ت:١٥١هـ) ليُخْرِج عملًا تاريخيًا يشمل السِّيَرْ والمغازي، ويعني ذلك فترة الرسالة بأكملها. وجاء من بعد ابن إسحاق من عني بالمغازي كالواقدي (ت:٢٠٧هـ) .
وشهدت المراحل التي تلت التدوين الأَوَّلي وعَمَلَي ابن إسحاق والواقدي تنوعًا في مجالات التأليف في السيرة واتجاهًا نحو الكتابة في موضوعات جديدة في محيط السيرة أبرزها دلائل النبوة وأعلامها. ولعل من أبرز المصنفين في تلك الموضوعات الحافظ المشرقي أبا بكر البيهقي (٤٥٨هـ) صاحب كتاب "دلائل النبوة ومعرفة أحوال الشريعة" وهو
1 / 1
كتاب جامع لا يقتصر على الدلائل كما قد يوحي بذلك العنوان حيث شمل المبعث والمغازي واستوعب مراحل السيرة كافة.
وإلى جانب البيهقي برز مجموعة من العلماء في القرنين الخامس والسادس تناولوا جوانب من السيرة بإفراد كأبي نعيم الأصبهاني والبغوي والتيمي الأصبهاني ثم ابن الجوزي، وفي الأندلس ظهرت مؤلفات لعدد من العلماء في السيرة النبوية بمراحلها التاريخية أو في جوانب منها كجوامع السيرة لابن حزم، والدرر لابن عبد البر، والشفا "وهو في الشمائل" للقاضي عياض (ت:٥٤٤هـ) .
وإن قراءة سريعة لما أُلِّف عن السيرة النبوية في القرنين الخامس والسادس الهجريين عصر البيهقي والبغوي وابن الجوزي في المشرق والقاضي عياض وابن المقري الغرناطي في المغرب والأندلس، لتقودنا إلى مجموعة من الملحوظات منها: أن معظم مَنْ ألَّف فيها هم من كبار علماء عصرهم وممن عرفوا بجمع الآثار والسنن، كما نلحظ ذلك التنوع في مجالات التأليف في السيرة حيث نجد المؤلف الشامل إلى جانب المؤلف المتخصص في أحد الموضوعات، كما نجد المؤلف المختصر الموجز، إلى جانب المؤلف المتبسط، كما اتسم معظم تلك المؤلفات بالجمع بين مرويات أهل المغازي والسير وبين الروايات والأخبار المنتشرة في دواوين السنة وغيرها من المجامع والأجزاء الحديثية.
وقد تلا أولئك العلماء الحُفَّاظ مجموعة من العلماء المحققين الموسوعيين في القرن الثامن الهجري، كالذهبي وابن القيم وابن كثير،
1 / 2
وقد تميزوا بقدرتهم العلمية القوية وعنايتهم بالحديث والأثر، وامتلاك الأدوات المنهجية والوعي النقدي مما هيأهم للقيام بجهد يتجاوز مجرد الجمع والتدوين إلى غربلة ما جمع من روايات وأخبار ومراجعتها وبناء فقه مستنبط من وقائع السيرة العطرة، وغير ذلك من سمات الإسهام النوعي المتميز في مجال كتابة السيرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
ويلفت نظر الباحث في هذا الواقع الجهد الذي قام به ابن كثير في كتابه "السيرة النبوية"، حيث نرى عناية بجمع الروايات من مصادرها وعناية بالأسانيد ونقدها، واستيعابًا لجهد من سبقه من العلماء، هذا الجهد الجمعي اللافت للنظر في مراجعة ونقد متون المرويات التي يوردها في السيرة، هذا ما سوف تحاول هذه الدراسة الإجابة عنه.
ومن الله نستمد العون والتوفيق.
1 / 3
ابن كثير والسيرة النبوية:
ليس ابن كثير فقيهًا مغمورًا خامل الذكر، ولا هو ذاك المؤرخ غير المشهور الذي تجهل مكانته ولا تعرف مؤلفاته، ولا هو ممن يحيط به طوق الإهمال والنسيان، فنحن أمام عالم موسوعي جمع بين العديد من العلوم والفنون وذاعت بعض كتبه خاصة التفسير وكتاب "البداية والنهاية" بين المسلمين قديمًا وحديثًا. كما كتب عنه عدد من الباحثين (٢)، مما يجعلنا نقتصدُ في الترجمة لهذا العلَم الموسوعي، والإمام المفسر المؤرخ.
_________
(٢) ومنهم: إسماعيل سالم عبد العال: ابن كثير ومنهجه في التفسير، القاهرة.. ط٤، ١٩٨٤م، ص:٣٩-٨٤، مسعود الرحمن خان الندوي: الإمام ابن كثير سيرته ومؤلفاته ومنهجه في كتابة التاريخ، ص:١٣-٣٨، مصطفى عبد الواحد: مقدمة تحقيق السيرة النبوية لابن كثير، بيروت، دار المعرفة، ١٣٩٦هـ، ١/٣-١٢.
1 / 13
ولد إسماعيل بن عمر بن كثير سنة سبعمائة أو بعدها بيسير، وقد عانى من اليتم منذ صغره حيث توفي والده سنة (٧٠٣هـ)، نشأ بدمشق (١)، وتتلمذ على يد مجموعة من علمائها من أبرزهم:
ـ كمال الدين بن الزملكاني شيخ الشافعية بالشام (ت:٧٢٧هـ) (٢) .
ـ إبراهيم بن عبد الرحمن الفزاري (ت:٧٢٩هـ) (٣) .
ـ جمال الدين أبو الحجاج المزي (ت:٧٤٢هـ) (٤) .
ـ ابن تيمية تقي الدين أحمد بن عبد الحليم (ت:٧٢٨هـ) (٥) .
ورغم أن الغالب على الحياة العلمية والدراسات الدينية في بلاد الشام طابع التقليد ومحاكاة السابقين والعكوف على الشروح والمختصرات إلا أن تلك البلاد حظيت بوجود مدرسة حديثية جمعت بين الاتباع السلفي والعلم الراسخ والعقلية النقدية، مثلها شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام المزي العالم المحدث ثم الذهبي وابن القيم وابن كثير نفسه، فتكوَّن ﵀ في ظل هذه المدرسة التي أثرت في تكوينه العلمي واتجاهات البحث عنده.
_________
(١) البداية والنهاية، ١٨/٤٢، ابن حجر، أحمد بن علي العسقلاني، الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، تحقيق محمد سيد جاد الحق، القاهرة، دار الكتب الحديثة، ١/٣٩٩-٤٠٠.
(٢) ابن كثير: البداية والنهاية ٩/٣٠٨.
(٣) ابن كثير: البداية والنهاية ٨/٣١٦.
(٤) ابن كثير: المصدر نفسه، ١٨/٤٢٧، وشمس الدين الداودي: طبقات المفسرين، بيروت، دار الكتب العلمية، ط١، ١٤٠٣هـ ١/١١٢.
(٥) ابن حجر: الدرر الكامنة ١/٣٩٩-٤٠٠.
1 / 14
لازم ابن كثير والد زوجته الحافظ المزي (١) صاحب ابن تيمية والمحدث المشهور.
كما أخذ عن شيخه ابن تيمية وكانت له به خصوصية ومناضلة عنه واتباع له في كثير من آرائه (٢)، وفي كتابه "البداية والنهاية" يبدو ابن كثير معجبًا بشيخه مسجلًا لكثير من مواقفه السياسية في حرب المغول، وكذلك مواقفه في المسائل الدينية وخصوماته الحادة بين المخالفين (٣)، ويذكر ابن قاضي شهبة (٨٥٤هـ) أن ابن كثير كان يفتي برأي ابن تيمية في مسائل الطلاق وامتحن بسبب ذلك وأوذي (٤) .
يُعَدُّ ابن كثير من فقهاء المذهب الشافعي، وكذلك شيخاه المزي والذهبي بخلاف صاحبه ابن القيم (كما يصفه بذلك) (٥) .
وقد التفوا حول علاَّمة السنة في وقته (ابن تيمية ٦٦١-٧٢٨هـ) مما أزعج المذهبيين المتمسكين بالمذهب على حساب السنة والأثر، يتجلى
_________
(١) ابن حجر العسقلاني: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، ١/٣٩٩-٤٠٠، ابن كثير: البداية والنهاية ١٨/٤٢٨.
(٢) أبو بكر بن شهبة (٨٥١هـ): طبقات الشافعية، بيروت، مؤسسة الرسالة، ١٤٠٨هـ، ٢/٢٣٨.
(٣) البداية والنهاية، ١٨/٢٣-٢٦/٥١-٥٣-٦٤-٩٥- مثلًا.
(٤) ابن شهبة: طبقات الشافعية، ٢/١٣٨.
(٥) البداية والنهاية، ١٨-٥٢٣.
1 / 15
ذلك في قول الشيخ عبد الوهاب السبكي (ت:٦٨٣هـ) صاحب طبقات الشافعية: إن المزي والذهبي وكثيرًا من أتباعهم أضرَّ بهم ابن تيمية (١) .
إن الخيط الذي جمع بين ابن تيمية وابن القيم الحنبليين والمزي والذهبي وابن كثير الشافعيين، ليس العامل الإقليمي، بل ارتباطهم بمدرسة الحديث والأثر التي ترى أن مصدر العقائد والأحكام هو الكتاب والسنة، وهذه المدرسة هي التي منحت الذهبي وابن كثير تلك المنزلة والمكانة بين المؤلفين في السيرة والتاريخ، فرأينا تميزًا نوعيًا في التأليف ومعالجات نقدية للروايات والآراء.
مارس ابن كثير التدريس في الجامع الأموي بدمشق وفي المدرسة النورية وفي عدة مساجد في دمشق وتولى مشيخة دار الحديث الأشرفية كما مارس الإفتاء والخطابة (٢)، هذا إلى جانب النشاط التأليفي الذي يعدُّ الظاهرة الأهم في حياة ابن كثير، حيث ألف وجمع العديد من المصنفات التي يذكر بعض الباحثين أنها تربو على (٦٠) كتابًا (٣) . ومع كثرة مصنفاته إلا أن ما ناله من شهرة ومكانة إنما يرجع إلى كتابيه: "تفسير
_________
(١) طبقات الشافعية الكبرى، تحقيق عبد الفتاح الحلو ومحمود محمد الطناحي، القاهرة، ١٣٨٥هـ، ١٠/٤٠٠.
(٢) البداية والنهاية، ١٨/٦٩٩،٧١٩، ٧٥٩ الداودي: طبقات المفسرين، ١/١١٢.
(٣) إسماعيل سالم عبد العال: ابن كثير ومنهجه في التفسير، ص:١٢٣.
1 / 16
القرآن العظيم" و"البداية والنهاية". وبعد حياة حافلة بالعطاء والإنتاج توفي ابن كثير في موطنه دمشق عام (٧٧٤هـ) (١) .
_________
(١) ابن حجر: أحمد بن علي العسقلاني: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة، تحقيق محمد سيد جاد الحق، القاهرة، ج١، ص:٣٩٩-٤٠٠.
1 / 17
السيرة النبوية عند ابن كثير:
تعد السيرة النبوية من الفنون الأساسية التي لا يستغني عن دراستها عالم أو فقيه، وفي نظر ابن كثير فإن الأيام النبوية مشتملة على علوم جمة، وفائدة مهمة، لا يستغني عنها عالم (١) .
وما ذاك إلا لأن موضوع السيرة الجوهري هو تاريخ حياة النبي ﷺ ومعرفة مراحل دعوته وجهاده، وتعاليمه وهديه، ومعلوم أن الفقيه أو العالم يتعامل مع النصوص والأحكام التشريعية التي جاء بها محمد بن عبد الله ﷺ، ومن مهامه ووظائفه، فهم الشريعة، وشرحها للناس، وإنزال الأحكام الشرعية على الوقائع المتجددة والمتغيرة، ومن الوسائل والأدوات المعينة على ذلك، فهم السيرة وواقعها التاريخي ومراحلها التي تزامنت مع نزول الأحكام والتشريعات.
فإذن لا غرابة أن يؤلف ابن كثير في السيرة النبوية، السيرة المطولة في "البداية والنهاية" والسيرة الموجزة وهي كتاب "الفصول في سيرة الرسول ﷺ".
ومسألة أخرى حدت بابن كثير إلى الاهتمام بالسيرة والتوسع فيها وتقصي رواياتها في كتابه الضخم "البداية والنهاية" فالمؤلف يرى في
_________
(١) الفصول في سيرة الرسول ﷺ، تحقيق محمد الخطراوي، ومحيي الدين مستو، دمشق، دار الكلم الطيب، ط٩، ١٤٢٠هـ، ص:٧٩.
1 / 19
تاريخ السيرة واسطة عقد تاريخ الأمة المؤمنة التي يبدأ تاريخها منذ عهد آدم ﵇.
يضم كتاب ابن كثير "البداية والنهاية" سيرة مطولة، تضم السيرة بسياقها التاريخي المعروف ثم الشمائل والدلائل والفضائل والخصائص.
وقبل أن نبدأ في استعراض أهم عناصر هذه السيرة لا بد من الإشارة إلى أن "البداية والنهاية" هو عبارة عن موسوعة تاريخية شاملة تؤرخ لبدايات الخلق، ثم الأنبياء، ثم السيرة التي استغرقت نحوًا من ستة أجزاء من الكتاب حسب طبعة مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر (١)، التي تضم (٢١) جزءًا بما فيها جزء الفهارس والجزآن (١٩،٢٠) وقد خُصِّصَا "للفتن والملاحم وأشراط الساعة".
وقد جاء الكتاب ثمرة عوامل أثرت في مكوناته واتجاهه الموسوعي وطابعه العام ومنهجه التاريخي والنقدي. ومن تلك العوامل:
_________
(١) وهذه الطبعة هي التي سوف نعتمد عليها في دراستنا هذه وقد حققها عبد الله بن عبد المحسن التركي، بالتعاون مع مركز البحوث والدراسات العربية والإسلامية بدار هجر، القاهرة، ط١، ١٤١٧هـ، وفي تقدير الباحث فإن هذه الطبعة قد عنيت بالكتاب خاصة قسم السيرة تحقيقًا وتخريجًا على نحو لم يتوافر في سابقاتها، ومن طبعات الكتاب السابقة طبعة دار السعادة بالقاهرة، ١٣٤٨هـ، في (١٤) جزءًا، كما ظهرت طبعات أخرى للكتاب في بيروت، ومنها طبعة دار المعرفة بتحقيق، عبد الرحمن اللاذقي ومحمد غازي بيضون، ط١، ١٤١٦هـ، وطبعة المكتبة العصرية، بتحقيق عبد الحميد هنداوي، ط١، ١٤٢١هـ، للمزيد انظر: طبعات كتاب البداية والنهاية، في مقدمة تحقيق البداية والنهاية بدار هجر، ص:٣٤-٣٩.
1 / 20
ـ سعة اطلاع مؤلفه (ابن كثير) على كثير من المصادر، ومنها دواوين السنة وكتب السير والمغازي وكتب الدلائل وكتب التاريخ العام.
ـ تأثر ابن كثير بمنهج مؤرخي الإسلام الذين كتبوا في التاريخ العام كابن جرير وابن الأثير وابن الجوزي.
ـ انتماؤه إلى عصر ساد فيه النمط الموسوعي في التأليف.
ـ إيمان ابن كثير بوحدة الأمة الإسلامية وإدراكه لأثر الرسالة المحمدية في الحركة التاريخية لهذه الأمة.
ـ انتماء المؤلف إلى مدرسة الحديث والأثر، حيث يتضح أثر خلفية المؤلف في الحديث وعلومه في جانب من أقسام الكتاب ومنها السيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين، وتراجم العلماء والأئمة وآرائه في الرجال والآراء والمذاهب.
افتتح ابن كثير، قسم السيرة في البداية والنهاية بهذا العنوان: "كتاب سيرة الرسول ﷺ وذكر أيامه وغزواته وسراياه والوفود إليه، وشمائله وفضائله ودلائله الدالة عليه" (١) .
فبدأ بالنسب النبوي، وقد سرد ابن كثير مروياته ومقتبساته من مصادره المختلفة وفق نظام عرض تاريخي متدرج فانتقل من المولد ومتعلقاته إلى المبعث الذي عنون له هكذا:
_________
(١) ٣/٣٥٣.
1 / 21